Insight Image

السياسة الخارجية للرئيس برابوو: الاستمرارية والتغير

24 يناير 2025

السياسة الخارجية للرئيس برابوو: الاستمرارية والتغير

24 يناير 2025

في 20 أكتوبر 2024، أدى برابوو سوبيانتو (73 عامًا) اليمين الدستورية رئيسًا جديدًا لإندونيسيا أمام البرلمان، خلفًا للرئيس جوكو ويدودو (جوكوي)، بعد فوزه في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، التي جرت في فبراير 2024، بحصوله على نحو 60% من الأصوات.

فعلى صعيد السياسة الداخلية، تعهد الرئيس برابوو باستمرار سياسة سلفه، ولكنه دعا إلى إعادة التوازن لسياسة إندونيسيا الخارجية. ولعل ذلك يثير تساؤلًا يتصل بالاستمرارية والتغير في السياسة الخارجية الإندونيسية في ظل الرئيس برابوو. وتهدف هذه الورقة إلى الإجابة عن هذا التساؤل. ولكن قبل ذلك، لابد من إعطاء لمحة عن السمات الشخصية والخبرات العملية والسياسية للرئيس الإندونيسي الثامن منذ الاستقلال.

أولًا- السمات الشخصية والخبرات العملية للرئيس برابوو

ينتمي برابوو، المولود عام 1951، إلى عائلة ثرية ومتنفّذة سياسيًّا، ومن أقوى العائلات في إندونيسيا. فقد شغل والده مناصب سياسية ووزارية عدة في إدارتي الرئيس أحمد سوكارنو (1945-1967) ومحمد سوهارتو (1967-1998). فيما ترأس جدّه المجلس الاستشاري الأعلى، الذي تم حلّه عام 2003. ويتمتع برابوو وعائلته بعلاقات تجارية مع صناعات زيت النخيل والفحم والغاز والتعدين والزراعة ومصايد الأسماك في إندونيسيا.[1]

تلقّى برابوو معظم تعليمه العام خارج إندونيسيا بسبب نفي والده، وحصل على شهادة الثانوية من إنجلترا. ولعل ذلك وراء إتقان برابوو اللغات الإنجليزية والهولندية والألمانية والفرنسية، ثم تخرج من أكاديمية ماغيلانغ العسكرية في جزيرة جاوة عام 1974.[2]

التحق برابوو بالقوات المسلحة عام 1974، وتدرج في مناصبها إلى أنْ أصبح القائد العام للقوات الخاصة (كوباسوس) في عام 1996. وفي مارس 1998، تم تعيينه قائدًا للجيش الاحتياطي الاستراتيجي للقوات البرية (كوستراد). بيْد أنه سرعان ما أُقيل من الجيش بعد بضعة أشهر، في العام ذاته الذي شهد تداعي “النظام الجديد” للرئيس السابق “سوهارتو” الذي دام نحو ثلاثة عقود. وواجه برابوو اتهامات غير مثبتة بانتهاك حقوق الإنسان في بابوا وتيمور الشرقية ترتبط باحتجاجات أطاحت الرئيس سوهارتو في الثمانينيات والتسعينيات. وبرغم ذهابه إلى المنفى الاختياري في الأردن عقِب تسريحه من القوات المسلحة، لم يعلّق برابوو أبدًا على هذه الاتهامات، ولكنه، فيما بعد، وخلال حملته الانتخابية في يناير 2024، اعتذر علنًا عنها. [3]

ولج برابوو في عالم السياسة عام 2004، بانضمامه إلى حزب العمال (غولكار)، وهو الحزب الذي أسسه صهره الرئيس السابق سوهارتو. ومنذ ذلك الوقت، أصبح برابوو شخصية بارزة في المشهد السياسي الإندونيسي. وتنافس في الانتخابات التمهيدية لحزب غولكار لاختيار المرشح الرئاسي في انتخابات 2004، ولكنه لم يُوفق. وفي عام 2008، شارك في تأسيس حزب غيريندرا، ويرأسه منذ 2014. ومن ثم، واتت برابوو الفرصة للترشح في الانتخابات الرئاسية مرتين عامي 2014 و2019 ضد الرئيس جوكوي، وفشل في المحاولتين، ورفض الاعتراف بهزيمته.[4]

وبعد انتخابات 2019، عيّنه الرئيس جوكوي وزيرًا للدفاع. واضطلع برابوو بدورٍ أساسي في تحديث الجيش وزيادة القدرات العسكرية، وأعطى الأولوية لتعزيز الشراكات الدفاعية الإندونيسية مع الولايات المتحدة وفرنسا وكوريا الجنوبية. وبالتوافق مع الرئيس جوكوي هذه المرة، ترشح برابوو للمرة الثالثة للانتخابات الرئاسية 2024، وحظيَ بدعم قوي من الرئيس السابق على حساب مرشح حزبه (حزب النضال الديمقراطي الإندونيسي). وكان المرشح لمنصب نائب الرئيس (جبران راكابومينج راكا- 37 عامًا) هو النجل الأكبر للرئيس المنتهية ولايته؛ ما سيسمح للأخير بالاحتفاظ بنفوذه بعد الخروج من منصبه. ولعل ذلك يذكّرنا بتجربة الفلبين في انتخابات 2022؛ حيث تم ترشيح فرديناند ماركوس جونيور للرئاسة والدفع بابنة الرئيس السابق، رودريغو دوتيرتي، كزميلته في السباق على منصب نائب الرئيس. كما أنّ برابوو تعهد باستمرار سياسات سلفه، ولاسيّما المتعلقة بالنمو الاقتصادي القوي (سجلت البلاد نموًا سنويًّا منتظمًا بلغ نحو 5%) وتطوير البنية التحتية. وخلال حملته الانتخابية، قدّم برابوو نفسه للناخبين باعتباره وريث الرئيس جوكوي، الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة، وكان أول رئيس من خارج النخبة السياسية والعسكرية.[5]

وبرغم فوز برابوو الذي فاق التوقعات من الجولة الأولى، لم يحظَ حزبه (غيريندرا) سوى على 13% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية المصاحبة (86 مقعدًا من مقاعد مجلس النواب البالغة 580 مقعدًا). وهذا يعني أن الرئيس برابوو سوف يعتمد على الأحزاب المنافسة للحصول على تأييد برلماني لسياساته. ولذلك أنفق برابوو الأشهر التسعة الفاصلة بين فوزه في الانتخابات وتنصيبه رسميًّا في بناء ائتلاف برلماني هائل كان سلفه يؤيده، ويتكون من ثمانية أحزاب من أصل تسعة ممثلة في البرلمان. بل إنّ برابوو أبّان عن حرصه على جذب الحزب التاسع إلى ائتلافه، ومن ثم ممارسة الحكم من دون معارضة برلمانية، التي لا يرتاح إليها، على أي حال، حيث يصفها بأنها سمة من سمات الديمقراطيات الغربية التي تتعارض مع مَيل الإندونيسيين إلى “التعاون.[6]

وعلى المنوال نفسه، شكّل برابوو “حكومة سمينة”، بتعبيره، هي الأضخم منذ عام 1960، تتكون من 48 وزيرًا و58 نائب وزير. كما تم زيادة عدد الهيئات الحكومية؛ ما يوفر لمعظم الأحزاب المؤتلفة قطعة من الكعكة. وضمّت الحكومة الجديدة سبعة عشر وزيرًا ومسؤولًا من عهد جوكوي، بما في ذلك الشرطة ومكتب المدعي العام؛ ما يشير إلى أن برابوو يرغب في الوفاء بالوعود التي قطعها للرئيس المنتهية ولايته باستمرارية سياسته، فضلًا عن مكافأته وفريقه على دعمه.[7] بيْد أنّ “الحكومة المتضخمة” مكلِفة من حيث الموارد والطاقة، ويمكن أن تؤدي إلى زيادة تعقيد البيروقراطية، وإطالة عملية صنع السياسات.[8]

وعن طريق استقراء سيرته الذاتية، يمكن الزعم بأنّ شخصية برابوو تتسم بمزيجٍ من الحماسة القومية والبراجماتية، وتجمع بين متناقضات، لعل أهمها إعلانه تأييده الديمقراطية وتفضيله نمطًا محددًا منها يسميه “الديمقراطية المهذبة” وعدم ارتياحه بشكلٍ عام للمعارضة. وحتى بعد فوزه بالرئاسة، اعترف بأنه يجد العملية الديمقراطية متعبة وفوضوية ومكلفة. كما أنّ خبرته السياسية طويلة الأمد تبرز أيضًا بعض التناقضات؛ فهو يرتبط بسلفه الذي كان يتمتع بالشعبية وبالماضي السلطوي للبلاد الذي يمثله صهره سوهارتو. ولكن من المتوقع أن يكون أسلوب قيادته أكثر نفوذًا من أسلوب سلفه، وهو ما قد يجلب استقرارًا سياسيًّا أكبر.[9]

ثانيًا- مظاهر الاستمرارية في السياسة الخارجية الإندونيسية في ظل حكم برابوو:

خلال حملته الانتخابية، قدّم برابوو نفسه للناخبين باعتباره “مرشح الاستمرارية”، ولكنه كان يقصد غالبًا السياسة الداخلية؛ حيث تعهد بمواصلة أجندة التحديث التي جلبت النمو الاقتصادي السريع، ووضعت إندونيسيا في مصافّ الدول متوسطة الدخل، وبزيادة معدل النمو ليصل إلى 8% في غضون العامين إلى الثلاثة أعوام المقبلة، ومراكمة تطوير البنية التحتية، ومكافحة الفساد، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج المواد الغذائية الأساسية.[10]

وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، أبانت حملته الانتخابية وسلوكه كرئيس منتخب، وتصريحاته وتحركاته خلال منذ توليه منصبه، عن مؤشرات عدة للاستمرارية.

بادئ ذي بدء، أكد برابوو مواصلة سياسة إندونيسيا طويلة الأمد المتمثلة في عدم الانحياز. ففي خطاب تنصيبه، قرر أنّ إندونيسيا غير منحازة على الساحة العالمية[11]، متعهدًا بالوقوف “ضد كل استعمار، والدفاع “عن مصالح الشعوب المضطهدة في جميع أنحاء العالم”.[12] وفي زيارته للصين في أوائل نوفمبر 2024، صرّح برابوو بأن إندونيسيا تتبع سياسة خارجية مستقلة وغير منحازة، ولن تنضم إلى أي تحالف عسكري أو “كتلة حصرية” ضد طرف ثالث.[13] وقبل تسلمه منصبه، وبعيد توقيع إندونيسيا وأستراليا معاهدة جديدة للتعاون الدفاعي، في أغسطس 2024، أكد برابوو أنّ المعاهدة لن تؤثر على سياسة إندونيسيا التقليدية المتعلقة بالحيادية وعدم الانضمام إلى تحالفاتٍ عسكرية. بعبارةٍ أخرى، تنظر إندونيسيا للاتفاقية كوسيلةٍ لتعزيز العلاقات الإقليمية دون الالتزام الكامل بتحالفٍ عسكري. ويعكس هذا النهج الحذِر، كما سنرى لاحقًا، رغبة إندونيسيا في موازنة علاقاتها مع كلٍّ من الدول الغربية والصين[14].

وتلتزم إندونيسيا تقليديًّا بعدم الانحياز، ولا تنحاز إلى أي طرفٍ في أي منافسة بين القوى الكبرى؛ ما يستلزم الانخراط مع الأطراف كافة لتعظيم الفوائد وتقليل المخاطر المحتملة.[15] وهذا النمط من السياسة الخارجية يعرف بـ”عدم الانحياز بالتنوع”، بمعنى تنويع الشركاء الخارجيين في المجالات الاقتصادية والاستراتيجية، وتفادي الدخول في تحالفات عسكرية مع قوى كبرى.

وفي هذا الخصوص، يتعدد شركاء إندونيسيا بدايةً من دول آسيان والصين والولايات المتحدة، مرورًا باليابان والهند وأستراليا وكوريا الجنوبية وروسيا، وصولًا إلى الشرق الأوسط وأوروبا، خصوصًا فرنسا وإيطاليا.

وقد أجرى الرئيس برابوو جولتين خارجيتين في الشهر الأول بعد تنصيبه، أخذته أحدها كرئيس منتخب إلى الصين وتركيا والشرق الأوسط وفيتنام وروسيا، وشملت الثانية الصين والولايات المتحدة وبيرو (لحضور قمة القمة السنوية لمنتدى التعاون الاقتصادي لمنطقة آسيا-الباسيفيك/أبيك) والبرازيل (لحضور قمة مجموعة العشرين) والمملكة المتحدة ودولة الإمارات.[16]

ثانيًا- سوف تواصل إندونيسيا بقيادة برابوو متابعة استراتيجية التحوّط “الشديد” تجاه كلٍّ من الصين والولايات المتحدة؛ من أجل تجنب الوقوع في الوسط بين هاتين القوتين الكبريين، ولتعزيز أمنها وتنميتها وضمان استقلالها الاستراتيجي. وهذا الاقتراب التحوّطي في سياسة إندونيسيا الخارجية ليس جديدًا؛ فمنذ استقلالها، تحاول جاكرتا تجنب التدخلات الخارجية في الوقت نفسه الذي تسعى فيه إلى الدعم الخارجي.[17]

وتهدف استراتيجية التحوّط الإندونيسية إلى الحد من الآثار السلبية للصعود الإقليمي الصيني، وتجنُّب الآثار السلبية للتنافس الصيني-الأمريكي على الاستقرار والأمن الإقليميين. ومن وجهة النظر الإندونيسية، فإنه بينما يعمل الصعود الصيني على تقليل الدور المحوري للولايات المتحدة في شرقي آسيا، فإنّ الوجود العسكري الأمريكي حيوي لحفظ التوازن الإقليمي. وتقوم سياسة التحوّط الإندونيسية على الحفاظ على علاقات دفاعية قوية مع الولايات المتحدة وحلفائها، والانخراط بشكل متزايد مع الصين كونها الشريك الاقتصادي الرئيسي. [18]

كانت التفاعلات الإندونيسية-الأمريكية في عهد الرئيس جوكوي (2014-2024) محدودة، وذلك أنّ الأخير كان له تركيز محلي قوي على تطوير البنية التحتية والتنمية الاقتصادية. فبين عامي 2014 و2023، كان هناك نحو ست لقاءات مباشرة بين الرئيس الإندونيسي ورؤساء الولايات المتحدة، هيمنت عليها الأجندة الاقتصادية المحلية للرئيس جوكوي، مثل تأمين الاستثمارات الاقتصادية وزيادة صادرات زيت النخيل وإنتاج النيكل. ومن جهتها، كانت واشنطن تؤكد، خلال هذه المحادثات، على أجندتها الأمنية الإقليمية، خصوصًا قضية الاستقرار الأمني في منطقة الإندوباسيفيك. وفي السنوات الأخيرة لحكم جوكوي، أبدت إندونيسيا اهتمامًا متزايدًا بالانضمام إلى المبادرات الاقتصادية التي تقودها الولايات المتحدة، مثل الإطار الاقتصادي لمنطقة الإندوباسيفيك وشراكة التحول العادل للطاقة؛ بهدف تعزيز أجندته الاقتصادية. [19] وفي عام 2023، تم توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة بين الدولتين، وهي أعلى مستوى للتعاون بين الحلفاء غير المعاهدين.

ولكن التعاون الدفاعي بين جاكرتا وواشنطن أكثر تطورًا؛ لأن إندونيسيا ترى أن الولايات المتحدة شريك أساسي في تحديث جيشها، خصوصًا قواتها الجوية. وفي مكالمته الهاتفية للرئيس الأمريكي المنتخب ترامب لتهنئته، في نوفمبر 2024، كشف الرئيس برابوو أن كل تدريبه العسكري تلقّاه في الولايات المتحدة.[20] وقد أظهرت مناورات سوبر جارودا شِيلد Super Garuda Shield العسكرية في أغسطس عام 2024 العلاقات الدفاعية الجيدة بين الطرفين. وتنظر الولايات المتحدة إلى المناورات كمنصة لتعزيز التعاون الأمني الإقليمي وإظهار الالتزام باستقرار وأمن منطقة الإندوباسيفيك. وقد شاركت في التدريبات أستراليا واليابان وبريطانيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية وكندا ونيوزيلندا وفرنسا وغيرها.[21]

ويعتزم البلدان تعميق تعاونهما الدفاعي، فضلًا عن تعزيز آفاق التعاون الاقتصادي والمناخي الإقليمي. وكان هذا خلاصة المحادثات الثنائية التي أُجريت للمرة الأولى بين مسؤولي الدفاع والخارجية في الدولتين، في أكتوبر 2023 بواشنطن.[22]

وبالنسبة للعلاقة مع الصين، فقد عمقت إدارة الرئيس جوكوي التعاون الاقتصادي معها. وكانت أولى زياراته الخارجية بعد توليه منصبه عام 2014 إلى الصين لحضور القمة السنوية لمنتدى أبيك، أتبعها بست زيارات خلال فترة رئاسته، التي شهدت ما لا يقل عن 18 اجتماعًا مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، هيمن التعاون الاقتصادي عليها.[1]

وقد سيطر مشروع المحور البحري العالمي، الذي يهدف إلى تحويل إندونيسيا إلى منصة بحرية عالمية، على تركيز جوكوي في أولى سنوات حكمه، وإن تخلى إلى حد ما عن هذا المشروع في منتصف فترة رئاسته. ومع ذلك، لعب المشروع دورًا مهمًّا في سياسته تجاه الصين بسبب توافقه مع مبادرة الحزام والطريق الصينية، التي انضمت إليها إندونيسيا عام 2015؛ ما أدى إلى تحسين العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والشعبية بين البلدين. وقد أنجزت مشاريع عديدة في إطار التعاون الثنائي، منها خط سكك حديدية فائق السرعة– وهو الأول من نوعه في إندونيسيا – بين جاكرتا وباندونج كجزء من مبادرة الحزام والطريق العالمية للبنية التحتية التي تبلغ قيمتها تريليون دولار.[23] كما تدعم الصين تطوير منطقة صناعية في شمالي جزيرة كالمينتان الإندونيسية.[1]

وبالإضافة إلى ذلك، كانت إندونيسيا من الداعمين لمبادرة التنمية العالمية (GDI) الصينية، وهي منصة لإشراك الجنوب العالمي، ومصدر بديل للتمويل لوكالات التنمية التي تقودها الولايات المتحدة. وتعززت العلاقات الاقتصادية بين جاكرتا وبكين بشكل أكبر بعد تصديق إندونيسيا على اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP)، وهي اتفاقية تجارة حرة بين دول الآسيان وأستراليا والصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا.

ومنذ 2012، تُعدّ الصين الشريك التجاري الأكبر لإندونيسيا، حيث بلغ التبادل التجاري بين البلدين عام 2023 أكثر من 139 مليار دولار، وهو أكبر من إجمالي قيمة التبادل التجاري بين إندونيسيا وكلٍّ من اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة مجتمعة.[24] وظلت الصين منذ عام 2019 إحدى الدول الخمس الأكثر استثمارًا في إندونيسيا. وفي عام 2023، كانت الصين ثاني أكبر مصدر للاستثمارات الأجنبية المباشرة في إندونيسيا (بعد سنغافورة) بقيمة بلغت أكثر من 7 مليارات دولار. وتُركز الاستثمارات الصينية بكثافة على قطاعات المناجم والتعدين والبنية التحتية.[25]

ومع ذلك، أثارت العلاقات الاقتصادية الإندونيسية-الصينية بعض الذعر بين الجمهور الإندونيسي، الذي لدى غالبيته (نحو 61%) توجهات سلبية تجاه التأثير الاقتصادي لبكين.[26] وذلك أنّ الزيادة في التجارة الثنائية كانت مدفوعة في المقام الأول باستيراد إندونيسيا المزيد من السلع من الصين، وبالتالي توسيع عجزها التجاري مع الصين، الذّي بلغ نحو 635.7 مليون دولار عام 2023. كما أنّ تدفق الواردات الصينية الرخيصة أضعفت الصناعات المحلية.[27] ويُنظر إلى الاستثمارات والديون الصينية كونها تهديدًا يستنزف موارد إندونيسيا، ويوقعها في فخ الديون؛ بل إن التقارب الاقتصادي يثير المخاوف بشأن إمكانية تضرر الاقتصاد الإندونيسي من الوقوع في الحروب التجارية الغربية، حصوصًا في ظل الدور الإندونيسي في صناعة السيارات الكهربائية الصينية عبر توفير النيكل لبكين.[28]

وتشير المؤشرات إلى أنّ الرئيس برابوو سوف يحافظ على سياسة التحوّط الاستراتيجي التقليدية تجاه كل من الصين والولايات المتحدة. فقد كانت الصين واجهة أولى زياراته الخارجية بعيد انتخابه في إبريل 2024، ثم بعيد تنصيبه رسميًّا في أكتوبر 2024. ولكن تضمنت جولته الخارجية الأولى كرئيسٍ قائم الولايات المتحدة أيضًا. وفي بكين، أكد الرئيس برابوو أنّ الصين شريكًا رئيسيًّا، وأنّه يهدف إلى تعزيز العلاقات الدفاعية معها، ولكنه يهدف إلى الحفاظ على روابط جيدة مع كلٍّ من الصين والولايات المتحدة.[29] وأمام منتدى الأعمال في بكين قبل التوجه إلى الولايات المتحدة، قال الرئيس برابوو إن بلاده تريد أن تكون جزءًا من صعود الصين ليس فقط كقوة اقتصادية ولكن أيضًا كـ “قوة حضارية”. واتفق مع الرئيس الصيني شي على تعميق العلاقات ومواصلة تعاون الحزام والطريق مع الصين. كما تمت الموافقة على لقاء وزاري رباعي سيعقد لأول مرة عام 2025، يجمع وزيري الخارجية والدفاع من الدولتين، لتعزيز التواصل الاستراتيجي بينهما في قضايا التعاون السياسي والأمني والاقتصادي.[30]

وبالنسبة للتعاون الدفاعي بين إندونيسيا والصين، فهو محدود للغاية مقارنة بمستوى التعاون الدفاعي الإندونيسي-الأمريكي. فالتفاعلات الدفاعية المنتظمة بين جاكرتا والفلبين لم تحدث إلا عبر قواتهما البحرية في صورة تدريبات مشتركة متعددة الأطراف (تدريبات كومودو نصف السنوية منذ عام 2014).[31] وخلال الفترة (2003-2022)، أجرت إندونيسيا 4 مناورات عسكرية مشتركة بين الطرفين، في مقابل أكثر من 100 مناورة مع الولايات المتحدة خلال الفترة ذاتها. ولا تحصل إندونيسيا سوى على الأسلحة والمعدات الثانوية من الصين.[32] ولذلك نفهم اتفاق الرئيسين برابوو وشي، في نوفمبر 2024، على جعل الأمن “ركيزة” خامسة للتعاون الإندونيسي-الصيني، بالإضافة إلى التبادل السياسي والاقتصادي والبحري والشعبي. ومن ثم، تعزيز التعاون العسكري والأمني، وتبادل الزيارة بين جيشي البلدين.[33]

والواقع أنّ الانخراط مع القوى الكبرى لا يعني التسليم لها من جانب الدول المتوسطة. ففي سبتمبر 2021، عندما تم الإعلان عن تحالف أوكوس AUKUS، تحدّت إندونيسيا القوى الغربية؛ خشية أن يؤدي التحالف إلى تفاقم التوترات الإقليمية. وللسبب ذاته أعربت جاكرتا عن عدم ارتياحها من إعادة تنشيط التحالف الأمني الرباعي (كواد). وانتقدت جاكرتا، بصفة محددة، تزويد أستراليا بغواصات نووية بموجب الأوكوس؛ لأنه قد يؤدي إلى حشد عسكري في المنطقة وخرق الالتزامات الخاصة بعدم الانتشار النووي. ومع ذلك، خفّفت إندونيسيا من توجهها السلبي هذا عن طريق وصف أوكوس وكواد بأنهما “شريكين، وليسا متنافسين”. وعندما طُرحت في طوكيو فكرة إنشاء تحالف في آسيا يشبه الناتو، وجد ذلك رفضًا واضحًا في جاكرتا، لأنها تريد علاقة متوازنة مع الولايات المتحدة والصين واليابان وروسيا وغيرها، تنويعًا لشركائها التجاريين والاقتصاديين.[34] وقد حاولت بكين جذب إندونيسيا للاشتراك في مبادرة للأمن العالمي (GSI)، وهي مشروع تلعب فيه الصين دورًا مركزيًّا في النظام الإقليمي ما بعد الهيمنة الغربية، ولكن جاكرتا حافظت على مبدأ عدم الانحياز واستمرت على حذرها[35].

ومن الواضح أنّ المعادلة التحوّطية الإندونيسية ذاتها سوف تستمر في عهد برابوو، والمتمثلة في تكثيف التعاون الاقتصادي مع الصين كونها محورًا رئيسيًّا لتحقيق طموحاته الاقتصادية، ولأنه كان بحاجة إلى موارد الصين لتطوير مشاريعه التنموية المختلفة. ويلعب الرئيس برابوو بنفسه دورًا حاسمًا في تعزيز العلاقة الوثيقة بين جاكرتا وبكين. ومن ناحيةٍ أخرى، سوف تُحافظ إندونيسيا على وتيرة انخراطها الاقتصادي مع الولايات المتحدة، مع مواصلة تطوير التعاون الدفاعي معها.

ثالثًا- سوف تظل رابطة الآسيان محور التحرك الخارجي الإندونيسي. وذلك أنّ دول الرابطة مجتمعة تُعدّ الشريك الاقتصادي الأكبر لإندونيسيا، التي تُعدّ أكبر دول الرابطة سكانًا (282.5 مليون نسمة) واقتصادًا (1.371 تريليون دولار لعام 2023[36]). وقد انخرط المسؤولون الإندونيسيون مع دول الآسيان في تفاعلات متعددة الأطراف؛ من أجل الإسهام في مأسسة معايير السلوك الإقليمي، بما في ذلك بناء الثقة، وعدم التدخل والأمن التعاوني والتسوية السلمية للصراعات. وتتابع إندونيسيا دورًا قياديًّا في تعزيز التعددية والتعاون في شرق آسيا التي تتمحور حول آسيان، والمساعدة في تشكيل الركائز المؤسسية والمعيارية للنظام الدولي في منطقة الإندوباسيفيك.

ولكن برابوو في حاجة إلى تفعيل دور جاكرتا في رابطة آسيان. فبرغم ترؤسه وفود إندونيسيا في قمم آسيان على مدى فترة حكمه، لم يحضر الرئيس السابق قمة الرابطة في لاوس في أكتوبر 2024؛ ما أثار انتقاد الصحافة الإندونيسية. ومن ثم، يُتوقع أن يعطي الرئيس برابوو اهتمامًا أكبر باجتماعات آسيان، ولاسيّما أنّ هذه الاجتماعات يحضرها قادة الدول الكبرى فيما يُعرف بقمم شركاء آسيان وقمة شرق آسيا.

رابعًا- برغم الديناميكية التي سوف تسِم السياسة الخارجية الإندونيسية في عهد برابوو، إلا أنّه يتفق مع سلفه في توظيف السياسة الخارجية لخدمة الاقتصاد. ومن ثم، سوف يستثمر برابوو علاقات بلاده بالصين والدول الغربية لدعم طموحاته الاقتصادية في الوصول بمعدل النمو الاقتصادي إلى 8% خلال بضع سنوات، وتطوير البنية التحتية، وجذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية لمعالجة المعادن الخام، وفي مقدمتها النيكل، قبل تصديرها. وقد كان ذلك واضحًا في جولته الخارجية الأولى التي أثمرت تعهدات استثمارية بقيمة 18.5 مليار دولار، تقاسمتها كل من الصين (10 مليارات دولار) والمملكة المتحدة (8.5 مليارات دولار).[37]

ثالثًا- مؤشرات التغير في السياسة الخارجية لإندونيسيا:

أول مؤشر للتغير في السياسة الخارجية الإندونيسية هو زيادة درجة اهتمام الرئيس برابوو، عكس سلفه، بالشؤون الخارجية، بل وميله إلى السيطرة على إدارتها. فقد كانت سياسات الرئيس جوكوي ذات توجه محلي غالب، بل وكان للاعتبارات المحلية المتعلقة بالتنمية الاقتصادية، وتطوير البنية التحتية، تأثير كبير على سياسته الخارجية.

ولكن توضح المؤشرات أن إندونيسيا في عهد برابوو سوف تلعب دورًا أكثر نشاطًا وجرأةً في الشؤون الدولية؛ ما سينعكس على زيادة تأثيرها في القضايا الإقليمية والعالمية مما كان عليه الحال في عهد جوكوي.[38] ويُعدّ هذا تغيرًا محدودًا في السياسة الخارجية الإندونيسية، أو تغيرًا تكيفيًّا، بتعبير تشارلز هيرمان.[39]

وقد أبان برابوو، عندما كان وزيرًا للدفاع، عن ديناميكية خارجية؛ فقد اقترح عام 2023 إقامة منطقة منزوعة السلاح وإجراء استفتاء برعاية الأمم المتحدة لإنهاء الصراع بين أوكرانيا وروسيا، وهي خطة رفضتها كييف. وبعيد اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2024، أعلن برابوو عن رغبة إندونيسيا في إرسال قوات لحفظ السلام إلى غزة. [40] وبعد تنصيبه مباشرةً، اتخذ الرئيس برابوو قرارًا مفاجئًا بالانضمام لمجموعة بريكس. ففي قمة المجموعة في قازان بروسيا (22-24 أكتوبر 2024)، والتي حضرها وزير الخارجية الإندونيسي الجديد سوجيونو، عبّرت جاكرتا عن رغبتها بالانضمام إلى هذه المجموعة. ويُعدّ ذلك تحولًا عن موقف الرئيس السابق جوكوي الذي لم يحسم في عهده قرار الانضمام لها. يُذكر أن قمة قازان تبنت قرارًا بمنح إندونيسيا وضع “الشريك” للمجموعة مع 13 دولة أخرى.[41] وقد تم قبول إندونيسيا عضواً كامل العضوية في المجموعة في يناير 2025. ويعد انضمام جاكرتا إلى البريكس أول خطوة دبلوماسية كبرى يقوم بها برابوو، حيث كانت إندونيسيا مترددة للغاية بشأن الانضمام إلى المجموعة في عهد حكومة جوكو ويدودو السابقة. وسوف يضيف انضمام إندونيسيا وزناً كبيراً لمجموعة بريكس بالنظر إلى عدد سكانها البالغ 277 مليون نسمة واقتصادها الأكبر في آسيا، حيث سيتسع حجم السوق في المجموعة ليشمل 45% من سكان العالم، كما سيزيد إسهام المجموعة في الناتج المحلي العالمي. كما أنّ انضمام إندونيسيا أيضاً يمكن أن يساعد المجموعة على تعزيز نفوذها في جنوب شرق آسيا، وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية واقتصادية متزايدة.[1]

ويشير تعيين سكرتيره الشخصي السابق، سوجيونو، في منصب وزير الخارجية، والذي عادة ما يكون مخصصًا للدبلوماسيين المحترفين، إلى رغبة برابوو في لعب دور مباشر في إدارة ارتباطات إندونيسيا الدولية.[42]

وبرغم أنّ الرئيس برابوو سوف يحافظ على مبدأ تنوع الشركاء في السياسة الخارجية الإندونيسية، إلا أنّ فترة حكمه قد تشهد تغيرًا في نطاق الوحدات الدولية التي تتعامل معها إندونيسيا باتجاه توسيع هذا النطاق، من دون المساس بالأدوات والأهداف والتوجهات.

النزاع في بحر الصين الجنوبي:

يُوصف النزاع في بحر الصين الجنوبي بأنّه “أخطر صراع لا يتحدث عنه أحد”.[43] وبرغم أنّ إندونيسيا ظلت على هامش هذا النزاع، فإنّ هناك إرهاصات بتغير في سياستها تجاه النزاع؛ الأمر الذي سوف يكون له تداعيات داخلية وإقليمية.

لا ترى إندونيسيا نفسها طرفًا رسميًّا في النزاع في بحر الصين الجنوبي، ولكنّ مصدر قلقها الأساسي هو أن خط النقاط التسع الذّي رسمته الصين، ويتيح لها السيطرة على معظم مساحة البحر، يضم مياه محيطة بجزر ناتونا Natuna، التي تقع في المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري لإندونيسيا.[44] وكما هو الحال بالنسبة للفلبين، تكررت انتهاكات السفن الصينية للمياه حول الجزيرة وللمنطقة الاقتصادية الخالصة الإندونيسية عامة، وبمساعدة خفر السواحل الصيني في بعض الأحيان؛ ما أفضى إلى توترات بين البلدين،[45] ودفع إندونيسيا لتقديم احتجاجات دبلوماسية لبكين، وزيادة وجودها العسكري في المنطقة. فمثلًا، في أكتوبر 2024، اضطرت سفن الدوريّة الإندونيسية مرارًا إلى دفع خفر السواحل الصينية بعيدًا عن سفينة شركة الطاقة الإندونيسية التي كانت تُجري مسحًا زلزاليًّا.[46] وعلى الجانب الآخر، أرسلت بكين احتجاجًا دبلوماسيًّا لجاكرتا، في عام 2021، يطالبها بوقف التنقيب عن النفط والغاز في بحر ناتونا الشمالي لأنه كان يتم في منطقة صينية.[47] علاوة على ذلك، هناك مخاوف إندونيسية من تهديد الصين لحرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي بالإصرار على مطالبتها الإقليمية طبقًا لخط النقاط التسع، الذي عدّته محكمة التحكيم الدولي عام 2016 غير قانوني.[48]

ومع ذلك، وفي محاولة للحفاظ على علاقات جيدة مع الصين، أبقت إدارة جوكوي العديد من الحوادث في المنطقة الاقتصادية الإندونيسية بعيدًا عن الأضواء والرأي العام، وفضلت إدارة أي خلاف مع الصين خلف الأبواب المغلقة قدر المستطاع بخلاف دول أخرى بالإقليم.[49]

ولكن في زيارته للصين في نوفمبر 2024، تم الاتفاق بين الرئيس برابوو ونظيره الصيني شي، كما جاء في البيان المشترك لنتائج الزيارة، على التطوير المشترك لمصايد الأسماك والتنقيب عن النفط والغاز في المياه المحيطة بجزر ناتونا الإندونيسية. وتم توقيع مذكرة تفاهم بخصوص التعاون في مجال الموارد المائية؛ من أجل “التنمية البحرية المشتركة” في منطقة “المطالبات المتداخلة” للبلدين بالقرب من جزر ناتونا. كما تضمن البيان المشترك استئناف التعاون بين البلدين في مجال صناعة وصيد الأسماك، وأن يستفيد الجانبان من اللجنة الصينية-الإندونيسية المشتركة في مجال التعاون البحري، وصندوق التعاون البحري الصيني-الإندونيسي في مجال الأبحاث البحرية والحماية البيئية ومشاريع التنمية المختلفة. كما اتفق الجانبان على تأسيس تعاون مؤسساتي بين خفر سواحل البلدين، مؤكدين على التنفيذ الكامل لـ”إعلان سلوك الأطراف في بحر الصين الجنوبي” الموقّع في يوليو 2021، وسرعة إبرام مدونة قواعد السلوك بين الدول المطلة على البحر.[50]

وبرغم أن حصيلة زيارة برابوو للصين قد تعني استمرارية السلوك الإندونيسي منخفض المستوى الجانح للمهادنة تجاه النزاع في بحر الصين الجنوبي، إلا أنّ البيان المشترك ومذكرة التفاهم المذكورة قد تتضمن اعترافًا ضمنيًّا بـ”خط النقاط التسع” الصيني. والأهم من ذلك أنّ اقتراح التنمية المشتركة قد يؤدي إلى تنازل إندونيسيا عن حقوقها السيادية في المنطقة الاقتصادية الخالصة، والجرف القاري، إلى لجنة توجيهية حكومية دولية مشتركة؛ ما يُعدّ خروجًا عن سياسة إندونيسيا طويلة الأمد بشأن بحر الصين الجنوبي. والواقع أنّ هذا الموقف من الرئيس برابوو لم يكن متوقعًا؛ حيث كان يُتوقع أنْ يتخذ موقفًا أكثر قوة. كما حذّر بعض المراقبين أنّ إعطاء مصداقية إندونيسية “ولو متضمنة” للمطالب الإقليمية الصينية قد يثير غضب جيران إندونيسيا داخل رابطة آسيان، ولاسيّما الفلبين وماليزيا وبروناي وفيتنام.[51] فضلًا عن ذلك، فإنّ أي اعتراف إندونيسي بمطالب الصين في المناطق المتداخلة يتناقض مع اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة بين إندونيسيا وفيتنام لعام 2022.[52]

ولذلك، اضطرت وزارة الخارجية الإندونيسية لإصدار بيان، في هذا الخصوص، يوضح أنّ إندونيسيا لا تعترف بخط النقاط التسع الصيني؛ وأنّ ما جاء في البيان المشترك ومذكرة التفاهم المذكورة “ليس له تأثير” على سيادة إندونيسيا أو حقوقها السيادية أو ولايتها القضائية في بحر ناتونا الشمالي.[53] وفيما يبدو أنه تدارك لما تضمنته مذكرة التفاهم، وتفسيرها من منظور السلوك الإندونيسي التقليدي تجاه الصين، أكدت الخارجية الإندونيسية أن البيان المشترك ومذكرة التفاهم يتوافقان مع إعلان سلوك الأطراف في بحر الصين الجنوبي، وما يتضمناه هو اتفاق بين إندونيسيا والصين “على تشكيل تعاون بحري” يؤمَل له أن يصبح “نموذجًا لجهود الحفاظ على السلام والصداقة في المنطقة”، ويشجع على استكمال مدونة قواعد السلوك التي طال انتظارها لبحر الصين الجنوبي، والتي يمكن أن تخلق الاستقرار في المنطقة.[54]

خاتمة:

سعت هذه الورقة إلى اختبار مسألة الاستمرارية والتغير في السياسة الخارجية الإندونيسية في ظل الرئيس الجديد برابوو سوبيانتو، وخلصت إلى وجود مظاهر للاستمرارية، ومؤشرات وإرهاصات للتغير في هذا الخصوص.

فالسياسة الخارجية الإندونيسية سوف تحافظ على مبادئها التقليدية المتمثلة في عدم الانحياز، وتجنب الاصطفاف أو الانخراط في أحلاف دول كبرى، وتنوع الشركاء. وستظل رابطة آسيان المحور الرئيسي للسياسة الإندونيسية، التي ستواصل متابعة التحوّط الاستراتيجي تجاه الولايات المتحدة والصين. وسوف يوظف برابوو السياسة الخارجية، مثل سلفه، في دعم أجندته الاقتصادية الداخلية.

بيْد أن الرئيس برابوو أبان عن اهتمامٍ أكبر من سلفه بالسياسة الخارجية، وبرغبته في السيطرة على إدارتها؛ من أجل قيادة سياسة خارجية أكثر ديناميكية لزيادة الدور الخارجي لبلاده. وسوف يعمد الرئيس الجديد إلى تفعيل دور بلاده “القائد” في رابطة آسيان. غير أنّ إحدى إرهاصات التغير المثيرة للقلق الداخلي والإقليمي جميعًا هو ما يتعلق منها بموقف إندونيسيا من النزاع في بحر الصين الجنوبي. فأي اعترافٍ إندونيسي “ضمني” أو “واقعي” بمطالب الصين “المتداخلة” في بحر ناتونا الشمالي سوف يكون له تداعيات داخلية وإقليمية سلبية.

وبالجملة، تشهد السياسة الخارجية الإندونيسية، في ظل الرئيس برابوو، تغيرًا تكيفيًّا متقدمًا؛ حيث يتم بمبادرة من جانب صانع القرار الرئيسي.


[1] “Indonesia joins BRICS bloc as full member,” Jakarta Post, January 7, 2025, https://www.thejakartapost.com/world/2025/01/07/indonesia-joins-brics-bloc-as-full-member.html.

[1] Victoria Milko and Niniek Karmini, “Who is Prabowo Subianto, the former general who becomes Indonesia’s new president?,” AP, October 18, 2024, https://shorturl.at/16FTk.

[2] “برابوو سوبيانتو.. الرئيس الثامن لإندونيسيا،” الجزيرة، 16 نوفمبر 2024، https://shorturl.at/nCo7c.

[3] Milko and Karmini, “Who is Prabowo Subianto”.

[4] Sana Jaffrey and Eve Warburton, “Prabowo’s Indonesia: Inheriting Democracy at Dusk,” Carnegie Endowment for International Peace, October 22, 2024, https://shorturl.at/bwLDm.

[5] Milko and Karmini, “Who is Prabowo Subianto”.

[6] Jaffrey and Warburton, “Prabowo’s Indonesia”.

[7] Jaffrey and Warburton, “Prabowo’s Indonesia”.

[8] Kelly Ng and Nicky Widadio, “Indonesia leader sworn in with largest cabinet in decades,” BBC News, October 21, 2024, https://shorturl.at/pLaqt.

[9] Jaffrey and Warburton, “Prabowo’s Indonesia”.

[10] رويترز، “برابوو يتولى رئاسة إندونيسيا ويتعهد مكافحة الفساد،” إندبندنت عربية، 20 أكتوبر 2024، https://shorturl.at/ldfyd.

[11] رويترز، “برابوو يتولى رئاسة إندونيسيا”.

[12] Ng and Widadio, “Indonesia leader sworn”.

[13] Xinhua, “Chinese, Indonesian presidents pledge joint efforts to build community with shared future,” Nov. 11, 2024, https://shorturl.at/2fcLg.

[14] Joseph Rachman, “Indonesia-Australia set to become brothers in arms,” Asia Times, August 21, 2024, https://shorturl.at/81Mvy.

[15] أيمن الدسوقي ونورة الحبسي، “التحوّط الاستراتيجي في سياسات جنوب شرقي آسيا”، مركز تريندز للبحوث والاستشارات، 26 يناير 2024، https://shorturl.at/agTs5.

[16] Daniel A. Fajri, “Prabowo Extends Foreign Visit to United Arab Emirates,” TEMPO.CO, November 22, 2024, https://shorturl.at/iGm3A.

[17] Adhi Priamarizki, “Understanding the Domestic Determinants of Indonesia’s Hedging Policy towards the United States and China,” Contemporary Southeast Asia: A Journal of International and Strategic Affairs 46, No.2 (2024), 22.

[18] Denny Indra Sukmawan and Rodon Pedrason, “Assertively Hedging? Indonesia’s Motives and Practices in the South China Sea,” Intermestic: Journal of International Studies 7, no. 2 (2023), 701.

[19] Priamarizki, “Understanding the Domestic Determinants,” 29.

[20] Helen Regan, “Indonesia’s new leader posted video of his congratulatory call with Trump. Both lavished each other with praise,” CNN, November 12, 2024, https://shorturl.at/nsgU2.

[21]“مناورات عسكرية في إندونيسيا بين الولايات المتحدة ودول حليفة،” الشرق الأوسط، 26 أغسطس 2024، https://shorturl.at/zIm9z.

[22] مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، “تحالفات مرنة: كيف يؤثر التقارب الصيني الإندونيسي في المشهد بالإندوباسيفيك؟”، تقديرات المستقبل، 20 أغسطس، 2024، https://shorturl.at/M3dyg.

[23] A. Anantha Lakshmi and Diana Mariska, “Indonesia’s president seeks closer ties to Xi Jinping and China,” Financial Times, November 7, 2024, https://shorturl.at/8rQip.

[24] Bloomberg News, “China, Indonesia Firms to Ink $10 Billion of Deals, Prabowo Says,” November 9, 2024, https://shorturl.at/oGWMc.

[25] Lakshmi and Mariska, “Indonesia’s president seeks”.

[26] Sukmawan and Pedrason, “Assertively Hedging?”, 708-710.

[27] The Associated Press, “Indonesia’s new leader calls for collaboration with China before heading to the U.S.,” NBC News, November 11, 2024, https://shorturl.at/O7V3T.

[28] مركز المستقبل للأبحاث والدراسات، “تحالفات مرنة”.

[29] Reuters, “New Indonesia leader visits China, promises close ties,” April 2024, https://2u.pw/CflBXJUN.

[30] The Associated Press, “Indonesia’s new leader”.

[31] Priamarizki, “Understanding the Domestic Determinants,” 31-34.

[32] [32] مركز المستقبل للأبحاث والدراسات، “تحالفات مرنة”.

[33] صهيب جاسم، “حصيلة أول زيارة خارجية للرئيس الإندونيسي الجديد إلى الصين”، الجزيرة، https://shorturl.at/hgzWH.

[34] صهيب جاسم، “إلى أين تتجه السياسة الخارجية لجاكرتا في عهد الرئيس الجديد؟،” الجزيرة، 20 أكتوبر 2024، https://shorturl.at/OLSzS.

[35] Priamarizki, “Understanding the Domestic Determinants,” 31-34.

[36] “World Economic Outlook Database, October 2024”. IMF.org. International Monetary Fund. Retrieved 29 October 2024.

[37] Xinhua, “Chinese, Indonesian presidents”.

[38] Lakshmi and Mariska, “Indonesia’s president seeks”.

[39] Charles Hermann, Changing Course: When Governments choose to Redirect Foreign Policy (International Studies, 1990), 9.

[40] Lakshmi and Mariska, “Indonesia’s president seeks”.

[41] Lakshmi and Mariska, “Indonesia’s president seeks”.

[42] Jaffrey and Warburton, “Prabowo’s Indonesia”.

[43] Cecilia Vega, “Conflict between China, Philippines could involve U.S. and lead to a clash of superpowers,” 60 minutes, CBS News, September 15, 2024, https://shorturl.at/AMHqj.

[44] The Associated Press, “Indonesia’s new leader calls”.

[45]Sukmawan and Pedrason, “Assertively Hedging?”, 710; Ajeng Rizqi Rahmanillah, Tiara Putih Bastian, and Rizky Ihsan, “Indonesia’s South China Sea Policy: The Limits of Hedging,” Edunity Kajian Ilmu Sosial dan Pendidikan 2, no. 11 (2023):1279-1280. DOI:10.57096/edunity.v2i11.177.

[46] The Associated Press, “Indonesia’s new leader calls”.

[47] مركز المستقبل للأبحاث والدراسات، “تحالفات مرنة”.

[48] Permanent Court of Arbitration (PCA), “The South China Sea Arbitration: The Republic of the Philippines v. The People’s Republic of China,” July 12, 2016.

[49] مركز المستقبل للأبحاث والدراسات، “تحالفات مرنة”.

[50] جاسم، “حصيلة أول زيارة خارجية”.

[51] Devianti Faridz, “Experts: Indonesia’s $10 billion deal with China could undermine sovereignty, increase political tensions,” VOA, November 16, 2024, https://shorturl.at/bChhF.

[52] Faridz, “Experts: Indonesia’s $10 billion deal”.

[53] Patsy Widakuswara, “Indonesia’s Prabowo meets Biden after signing maritime deal with Beijing,” VOA, November 12, 2024, https://shorturl.at/YsqXF.

[54] Widakuswara, “Indonesia’s Prabowo meets”.

المواضيع ذات الصلة