مقدمة:
لم يحدِّد الدستور العراقي توزيع الرئاسات الثلاث على أساس المكونات الأساسية الثلاثة، لكن مجمل العملية السياسية في العراق بعد عام 2003، احتكمت إلى ما يمكن تسميتها “الديمقراطية التوافقية”، أي توافق رؤساء الكتل والأحزاب السياسية الرئيسية على أن تكون رئاسة الجمهورية من حصة المكوِّن الكردي، ورئاسة مجلس النواب للعرب السُّنة، بينما اتُفَق على أن تكون رئاسة الوزراء وهي السلطة الأهم من حصة المكوِّن الشيعي.
وتعتمد العملية السياسية على نظام “التوافق” في توزيع الرئاسات الثلاث، الجمهورية والوزراء ومجلس النواب، وتوزيع الوزارات والمناصب السيادية وفق المحاصصة السياسية على أساس التمثيل السكاني للمكونات الأساسية للمجتمع العراقي، الشيعة العرب، والعرب السُّنة، والأكراد.
وبحكم الأغلبية السكانية، تكون رئاسة السلطة التنفيذية، وهي الرئاسة الأهم، من حصة الشيعة، ورئاسة الجمهورية وهو منصب “شرفي” محدود الصلاحيات للأكراد، ورئاسة السلطة التشريعية للعرب السُّنة في مجلس النواب الذي شكَّل الشيعة أغلبية عدد الأعضاء فيه، خلال الدورات الأربع السابقة، ما يحدُّ من قدرة المكونات الأخرى على تمرير قرارات لا تتوافق مع مصالح الأغلبية الشيعية.
المحور الأول التنافس على رئاسة الوزراء:
ستتجه الأحزاب والحركات السياسية بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات باتجاه تشكيل تحالفات من قائمتين انتخابيتين أو أكثر وصولاً إلى تشكيل “الكتلة النيابية الأكثر عدداً” المخولة دستورياً بتسمية مرشحها لرئاسة الوزراء.
وبحسب تفسير المحكمة الاتحادية العليا؛ فإن “الكتلة النيابية الأكثر عدداً” وفق الدستور تعني الكتلة النيابية التي تشكلت بعد الانتخابات من قائمتين أو أكثر، وأصبحت مقاعدها بعد أداء اليمين الدستورية هي “الكتلة الأكثر عدداً” من بقية الكتل الأخرى.
ووفقاً للمادة (76) من الدستور العراقي، يُكلِّف رئيس الجمهورية، مرشح “الكتلة النيابية الأكثر عدداً”، بتشكيل مجلس الوزراء.
ولنيل ثقة مجلس النواب، يحتاج المرشح لرئاسة الوزراء إلى تصويت الأغلبية المطلقة على أسماء الوزراء بشكل منفرد، أي نصف العدد الكلي لأعضاء مجلس النواب زائد واحد (165 +1).
كما في كل عملية انتخابية، يسبق موعد الانتخابات جدل واسع بين الكتل الشيعية التي تروِّج كل منها، لأغراض التنافس الانتخابي وكسب الجمهور، على أنها الكتلة التي ستشكل الحكومة الجديدة.
وحتى الآن، فإن كتلة الفتح تروِّج بأن رئيسها هادي العامري هو من سيشكل الحكومة القادمة، وكذلك يتبنى هذا الخطاب الإعلامي ائتلاف دولة القانون برئاسة نوري المالكي.
أما الكتلة الصدرية فهي وإن كانت تروِّج إلى أنها هي من ستفوز بأكبر عدد من المقاعد يؤهلها لتسمية مرشحها لرئاسة الحكومة الجديدة، لكنها تدفع أيضاً باتجاه تسمية “مرشح مستقل” من خارج الكتل النيابية؛ لعجزها عن تشكيل “الكتلة النيابية الأكثر عدداً”، أو تمرير حكومة مرشحها في المرحلة التالية.
ولأسباب تتعلق بالخلافات “الحقيقية” بين القوائم الانتخابية الشيعية الرئيسية الأربع، (الكتلة الصدرية وتحالف الفتح وائتلاف دولة القانون وتحالف قوى الدولة الوطنية)، فسيصار إلى تشكيل الكتلة النيابية الأكثر عدداً من تحالف أو أكثر من تحالف وتسمية مرشحها لرئاسة الوزراء في المرحلة الأولى، ولكن في مرحلة لاحقة يبدو الحصول على النصاب القانوني مُتعذراً، أي “الأغلبية المطلقة” من عدد أعضاء المجلس الجديد لمنح الثقة لحكومة رئيس الوزراء الجديد.
ولكل مرشح عوامل قوة تقرِّبه من التسمية للمنصب، وعوامل أخرى تشكل عقبة أمام تحقيق ذلك، ومن خلال متابعة تصريحات قادة الأحزاب والكتل السياسية، فإن الذين أعلنوا عن رغبتهم في التنافس على منصب رئيس الوزراء:
- نوري المالكي رئيس ائتلاف دولة القانون:
يرأس المالكي ائتلاف دولة القانون، وهو رئيس الوزراء الأسبق لدورتين متتاليتين (2006-2014)، وحصل ائتلافه على 25 مقعداً في الدورة الانتخابية السابقة عام 2018. وسيخوض هذه الانتخابات بـ72 مرشحاً.
رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي الذي يعتقد أن ائتلافه “سيكون الفائز الأول في الانتخابات”، ربط تسميته لرئاسة الوزراء بعيداً عن استحقاقات “الكتلة النيابية الأكثر عدداً”، بالتكليف “وفق سياقات مُتعارف عليها تفرضها المصلحة الوطنية”.
يعتقد ائتلاف دولة القانون أن العراق بحاجة إلى “رجل قوي”، وهذا الاعتقاد هو في حقيقته انعكاس لرؤية العراقيين بحاجتهم إلى رئيس وزراء يستخدم صلاحياته بصفته قائداً عاماً للقوات المسلحة، في تطهير القوات الأمنية من القيادات الفاسدة أو القيادات المرتبطة بالمجموعات المسلحة، تمهيداً لاستعادة قرار الدولة الذي تسيطر على جزء مهم منه قيادات تلك المجموعات، واتخاذ خطوات لحصر السلاح خارج سلطة الدولة؛ ما يدفع نسبة من العراقيين للعودة بالذاكرة إلى عام 2008، وقرار المواجهة الذي اتخذه المالكي ضد مجموعات مسلحة، مثل جيش المهدي في عملية “صولة الفرسان”.
إلى جانب مكافحة الفساد، تأتي قضية حصر السلاح بيد الدولة على قائمة أولويات العراقيين عموماً، والكتل والأحزاب السياسية التي لا تمتلك أجنحة عسكرية، وهما عاملا القوة لدى المالكي.
ومن عوامل القوة الأخرى ولاء معظم كبار قادة الجيش والقوات الأمنية في وزارتي الدفاع والداخلية من أولئك القادة الذين اختارهم المالكي خلال فترتي رئاسته للوزراء بين عامي 2006 و2014، مع تغييرات لا تمس جوهر بنية الهياكل الأمنية والعسكرية في المستويات القيادية لرؤساء الوزراء؛ حيدر العبادي، وعادل عبدالمهدي، ومصطفى الكاظمي.
ومن المتوقع أن يكون لهؤلاء القادة العسكريين والأمنيين تأثيراً واضحاً على خيارات الأفراد في التصويت لمصلحة ائتلاف دولة القانون نظراً إلى طبيعة البيئة العسكرية وتقاليدها في ولاء الأفراد لقادتهم.
ووفقاً لأرقام المفوضية العليا المستقلة للانتخابات فإن 1.07.727 ناخباً من القوات العراقية والأجهزة الأمنية مسجلون في سجل “الناخبين للتصويت الخاص”، ومتوقع أن يدلي العدد الأكبر منهم بصوته.
ستواجه تسمية المالكي لرئاسة الوزراء اعتراضات واسعة من الشارع العراقي وبعض الكتل السياسية التي تحمِّله مسؤولية انهيار القوات الأمنية، وسقوط مدينة الموصل في 10 يونيو 2014 بيد تنظيم الدولة.
إضافة إلى أن التيار الصدري وقوى سياسية أخرى شيعية وسُنيَّة وكردية، لديها خلافات حادة مع ائتلاف دولة القانون، ورئيسه المالكي بشكل أكبر.
- هادي العامري رئيس تحالف الفتح:
تشكل هذا التحالف عام 2018 برئاسة القيادي في الحشد الشعبي الأمين العام لمنظمة بدر هادي العامري الحليف الأوثق لإيران، وهو حالياً يرأس كتلة “الفتح” في مجلس النواب التي حققت المرتبة الثانية في الانتخابات الماضية بواقع 47 مقعداً.
ويخوض 73 مرشحاً عن كتلة الفتح هذه الانتخابات، لكنه من غير المحتمل أن يحافظ تحالف “الفتح” على النتائج التي حققها في الدورة الانتخابية السابقة.
يطمح قادة المجموعات الشيعية المسلحة في تحالف “الفتح” الذي يضم أجنحة سياسية لعدد من تلك المجموعات إلى تشكيل كتلة نيابية تكون مؤهلة بصفتها “الكتلة النيابية الأكثر عدداً” لتسمية مرشحها لرئاسة الوزراء.
ويؤيد “تحالف الفتح” ترشيح رئيسها هادي العامري أحد أهم حلفاء طهران بالعراق “لرئاسة الحكومة المقبلة المخصصة للشيعة وفق المحاصصة الطائفية التي شرِّعت بعد احتلال العراق عام 2003”.
إلى جانب ذلك، فإن مجلس النواب الحالي يضم أعداداً كبيرة من الأجنحة السياسية للفصائل المسلحة الحليفة لإيران، التي حافظت على تماسكها داخل كتلة الفتح في هذه الانتخابات، وخارجها ممن دخلوا في هذه الانتخابات.
ومن المحتمل أن يُشكَّل تحالف جديد يقوده العامري يمكِّنه من الحصول على عدد من مقاعد العرب السُّنة في تحالف “عزم”، أو الكردية في “تحالف كردستان” الذي يضم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني المعروف بعلاقاته الجيدة مع الحكومة الاتحادية وكتلة “الفتح”، وقربهما من إيران أيضاً.
لكن التحالف الذي يضم أجنحة سياسية لعدد من المجموعات الشيعية المسلحة الحليفة لإيران، فقد الكثير من جمهوره خارج تنظيماته وفصائله، بعد اندلاع الحركة الاحتجاجية في أكتوبر 2019، في بغداد ومحافظات وسط وجنوب العراق ذات الكثافة السكانية الشيعية الغالبة، والشعارات التي رفعتها الحركة ضد إيران، ورفض التدخل الإيراني في العراق الذي يُنظر إليه على أنه يتم عبر القوى الحليفة مثل تحالف “الفتح”، إضافةً إلى اتهام بعض فصائل التحالف بمسؤولية قمع المحتجين واغتيال الناشطين.
في جانب آخر، فإن واقع العملية الانتخابية الذي لاشك في أنه لن يكون خالياً تماماً من تأثيرات السلاح والمال، يعطي مساحة أوسع لتحالف “الفتح” في توظيف موارده المالية والتسليحية ونفوذه في مؤسسات الدولة للتأثير في نتائج الانتخابات، أو على الأقل التأثير في خيارات الناخبين إلى جانب الأصوات التي سيحصل عليها مرشحو التحالف من منتسبي الحشد البالغ عددهم أكثر من 160 ألفاً، وكذلك أصوات عوائلهم في الغالب.
- رجل الأعمال حسين الرماحي رئيس قائمة “قادمون للتغيير”:
لم تسجل قائمة “قادمون للتغيير” التي يرأسها رجل الأعمال حسين الرماحي حضوراً إعلامياً واسعاً، كما أنها لم تتحالف مع أي قائمة انتخابية أخرى.
وتطمح القائمة للحصول على “الكتلة النيابية الأكثر عدداً” وتخطي عتبة الأغلبية المطلقة في مجلس النواب القادم لتشكيل حكومة، مهمتها التغيير الشامل، ومكافحة الفساد، وإعطاء أدوار أكبر لفئة الشباب في إدارة الدولة العراقية، وفق ما يصدر من تصريحات عن رئيس القائمة.
وتتميز قائمة “قادمون للتغيير” بأنها تكاد تكون الوحيدة العابرة للانتماءات العرقية والطائفية، وأنها الأكثر من حيث عدد المرشحين بواقع 182 مرشحاً من جميع محافظات العراق، بما فيها إقليم كردستان، وتضم كفاءات اقتصادية ونُخب وأكاديميين يشتركون جميعاً في أنه لم تسبق لهم المشاركة في العملية السياسية.
وبسبب حداثتها، ستواجه القائمة تحديات الافتقار إلى تأييد شعبي واسع، وقلَّة الخبرة في إدارة العملية الانتخابية قياساً إلى الأحزاب التقليدية، بدءاً من الترشيح إلى الحملة الدعائية، إلى كل ما يتعلق بمرحلتي التصويت وفرز الأصوات سواء ما له صلة بتوظيف المال والسلاح بشكل غير مشروع، أو التزوير أو التلاعب بنتائج الانتخابات أو بالضغط على مؤسسات الدولة، مثل المحكمة الاتحادية العليا المختصة بتفسير نصوص الدستور لوضع تفسيرات لبعض نصوص الدستور بما يتوافق مع مصالح هذه الكتلة السياسية أو تلك.
- مرشح الكتلة الصدرية:
تشكل الكتلة الصدرية التي ستخوض الانتخابات بـ95 مرشحاً، جزءاً مهماً من المشهد الانتخابي دون أن تدخل في أي تحالف مع قوائم انتخابية، أو أحزاب سياسية وحصر تسمية مرشحيها من أعضاء التيار الصدري القوة الشيعية الأكثر شعبية التي تتميز بقيادة مركزية قادرة على توجيه الناخبين من جمهورها بالاتجاه الذي يخدم استحقاقاتها الانتخابية المتوقعة بالحصول على المرتبة الأولى بعدد المقاعد في مجلس النواب دون تخطي عتبة الـ54 مقعداً الذي حققته في الانتخابات السابقة.
ومن المعطيات التي تقود إلى احتمالات تراجع الأداء الانتخابي للكتلة الصدرية عن الدورة السابقة ومستوى الإقبال الشعبي من خارج التيار الصدري للتصويت لمصلحة مرشحيه، سوء إدارة الوزارات والهيئات المستقلة التي هي من حصة التيار الصدري، والاتهامات التي وُجِّهت إلى سرايا السلام التابعة للتيار الصدري بقتل المحتجين في ساحة الحبوبي بالناصرية جنوب العراق في فبراير 2020، واتهامات مماثلة بتخريب ساحات اعتصام أخرى في بغداد ومحافظات وسط وجنوب العراق.
سيكون من الصعب على هذه الكتلة تشكيل تحالف يؤهلها لتشكيل “الكتلة النيابية الأكثر عدداً”، لأسباب أهمها الخلافات مع الكتل الأخرى، وثبوت فشل وزراء التيار في إدارة شؤون وزاراتهم، خاصة البنك المركزي ووزارات الصحة والموارد المائية والكهرباء، وهي الوزارات الأسوأ أداءً.
- مصطفى الكاظمي رئيس وزراء الفترة الانتقالية (مايو 2020-أكتوبر 2021):
لا يشترط الدستور العراقي أو قانون الانتخابات أن يكون رئيس الوزراء عضواً في مجلس النواب، أو رئيساً لحزب أو حركة أو تيار سياسي. ولا يمتلك الكاظمي جمهوراً منظماً في حزب أو كتلة سياسية يمكن أن تهيئ له الأرضية للفوز بتسميته مرشحاً لرئاسة الوزراء بعد انتخابات أكتوبر.
يمكن القول، أن الكاظمي تحول من ممثل “مقبول” للحركة الاحتجاجية إلى رئيس حكومة يبدو مستقلاً عن الكتل السياسية، وهو على خلاف حقيقة الدعم الذي يتلقاه من التيار الصدري وتيار الحكمة، ومن قيادات في الحشد الشعبي بعد أن ساعد على تعزيز نفوذهم في مؤسسات الدولة العراقية، واستجاب لأغلب مطالبهم.
متوقع أن يمارس التيار الصدري أدواراً متعددة في عملية اختيار المرشح القادم لرئاسة الوزراء، وتسمية مرشح “مستقل” من خارج التحالفات بين القوائم الانتخابية والأعضاء المستقلين لتشكيل “الكتلة النيابية الأكثر عدداً”، الوارد ذكرها بالمادة 76 من الدستور العراقي.
لذلك من المتوقع أن يواصل التيار الصدري دعمه تسمية مصطفى الكاظمي مرشحاً لرئاسة الوزراء، لكن هذا يعتمد في الأساس على قدرة الكتلة الصدرية في إفشال تشكيل “الكتلة النيابية الأكثر عدداً” التي سيُعلن عنها في أول جلسة لمجلس النواب وتسمية مرشحها، أو فشل هذا المرشح في الحصول على الأغلبية المطلقة من أصوات أعضاء المجلس لمنح الثقة لحكومته الجديدة.
سيؤدي الفشل “المتوقع” إلى اللجوء إلى خيار مرشح “توافقي” من خارج الكتل السياسية مع احتمال أكبر لإعادة تسمية مصطفى الكاظمي.
المحور الثاني، آفاق التغيير بعد الانتخابات:
يسود اعتقاد واسع بفشل النظام النيابي المعمول به في العراق، الذي هو جزء من فشل أكبر في مجمل العملية السياسية التي بُنيت على أسس الانتماء المكوناتي وما تبع ذلك من تنامي الولاء والعمل لمصلحة الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية العراقية الجامعة، والفشل في تشريع قرارات لتجاوز الأزمات التي يعاني منها العراقيون؛ لأسباب تعود في مجملها إلى التنافس على المكاسب والخلافات العميقة بين الكتل السياسية، والأحزاب والمكونات داخل مجلس النواب.
المهم في نتائج الانتخابات الراهنة، أنها لن تُحدث متغيرات على بنية العملية السياسية سواء مغادرة المحاصصة السياسية، أو إضعاف الأحزاب التقليدية أو الكتل السياسية الضالعة بالفساد ونهب موارد الدولة، أو الحد من تفشي ظاهرة السلاح خارج سلطة الدولة، الذي من المتوقع أن يزداد تأثيره في مرحلة ما بعد الانتخابات.
ولا توجد أي احتمالات لتغيير جذري، أو إصلاح شامل للعملية السياسية المعمول بها منذ عام 2003، أو خلق نظام ديمقراطي حقيقي بعيداً عن نظام المحاصصة السياسية القائم على أسس التوزيع السكاني العرقي والطائفي للمكونات الأساسية؛ ما يدفع باتجاه تكرار عملية اختيار المسؤولين عن إدارة الدولة في الوزارات والهيئات المستقلة وفق ذات المحاصصة دون اعتبار للكفاءة والخبرة، وبالتالي ليس ثمّة فرص لتحسين قطاع الاقتصاد والخدمات الأساسية وإيجاد حلول للأزمات المستعصية في قطاع الكهرباء ومكافحة الفساد المالي والإداري، والتخفيف من نسبة البطالة.
لذلك، ستواصل الأحزاب التقليدية سعيها إلى الخروج من هذه الانتخابات بنتائج تمنحها فرصة أكبر لتعزيز مكاسبها، أو على الأقل الحفاظ على المكاسب التي حققتها خلال سنوات مشاركتها في السلطتين التنفيذية والتشريعية.
ليس هناك بدائل عملية في العراق، للتغيير والإصلاح السياسي الجذري إلا عبر العملية الانتخابية، لكن هذا لن يتحقق بنسبة مهمة، لقلة حجم مشاركة القوى الشبابية، والأخرى المستقلة من خارج العملية السياسية بشكل مكثف في الانتخابات لتغيير التوازنات السياسية القائمة منذ 18 عاماً.
خاتمة:
يمكن أن نعقد ثلاث مقارنات للحكم على نجاح العملية الانتخابية في التغيير.
أولاً: هل سيتحول النظام السياسي القائم على المحاصصة العرقية والطائفية إلى نظام ديمقراطي حقيقي قائم على الحرية والمساواة بين جميع العراقيين على أساس المواطنة والانتماء للعراق؟
لا توجد أي احتمالات لمثل هذا التحول بعد الانتخابات، لذلك ستحافظ الكتل السياسية على “التوافق” السائد بتوزيع الوزارات والمناصب السيادية، والرئاسات الثلاث على المكونات الأساسية، رئاسة الجمهورية للأكراد، ومجلس النواب للعرب السُّنة، ورئاسة الوزراء للشيعة، على الرغم من أن الدستور العراقي لا ينص على هذا التوزيع.
ثانياً: مع زيادة نفوذ المجموعات الشيعية المسلحة الحليفة لإيران واستحواذها على جزء مهم من قرار الدولة العراقية الأمني والسياسي والعسكري والاقتصادي، هل ستنجح الانتخابات في إفراز حكومة قادة على نزع أسلحة هذه المجموعات وإعادة هيكلة القوات الأمنية لبناء قوة وطنية قادرة على حماية العراقيين والتصدي للتهديدات الخارجية وحفظ أمن وسيادة العراق؟
بعد أن باتت هيئة الحشد الشعبي مؤسسة أمنية رسمية، أصبحت غطاءً لنشاطات المجموعات الشيعية المسلحة الحليفة لإيران التي تمتلك مقدرات “دولة موازية” لمقدرات الدولة العراقية، بامتلاكها قدرات مالية ضخمة عبر مكاتبها الاقتصادية ومنافذ التهريب، وتخصيصات موازنة الدولة، وقدرات قتالية كبيرة بعشرات الآلاف من المقاتلين، وصواريخ وطائرات مسيَّرة، ونفوذ أمني وعسكري واسع في مؤسسات الدولة، وسيطرة أمنية على الأرض في معظم المحافظات، فإن أي حكومة قادمة ستتجنب الصدام معها أو التفكير في حلها، أو إدماجها في مؤسسات الدولة الأمنية أو المدنية.
ثالثاً: هل ستنجح حكومة ما بعد الانتخابات في إحداث تغيير جوهري يفضي إلى استعادة هيبة مؤسسات الدولة وسيادة العراق؟ وانتقال العراق إلى دولة كاملة السيادة قادرة على منع التدخلات الخارجية، أو تحويل العراق إلى ساحة لصراعات الدول أو منطلقاً للاعتداء على دول أخرى؟
تحتاج عملية استعادة هيبة الدولة وقرارها السيادي والحفاظ على سيادة العراق من النفوذ والتدخلات الخارجية إلى إعادة هيكلة شاملة للقوات الأمنية وتطهيرها من القيادات القريبة، أو المحسوبة على المجموعات المسلحة، ونزع أي سلاح خارج سلطة الدولة، وتشريع قوانين لمحاسبة الجهات أو القوى التي ترتبط بعلاقات خارجية دون التنسيق مع مؤسسات الدولة، وغير ذلك من الإجراءات التي من الصعوبة بمكان على أي حكومة قادمة اتخاذها.
ولإخراج العراق من أزماته المتراكمة، هناك حاجة لاستعادة الثقة المفقودة من غالبية العراقيين بالعملية السياسية من خلال التأسيس لعقد “اجتماعي سياسي” يذهب باتجاه المصالحة الشاملة بين المكونات الأساسية، وهذا لن يتحقق دون إلغاء نظام المحاصصة السياسية وإحلال مبدأ المواطنة بديلًا عن الانتماء للعرق أو الطائفة، وهذا لن يتحقق دون إجراء تغييرات جذرية في بنية العملية السياسية، وهو ما لا يمكن أن تقبل به الأحزاب التقليدية طالما أنه يتعارض مع مصالحها المتحققة من هذه العملية السياسية.