- في إطار تفاقم حدة النزاع بين المجلس العسكري والجماعات العرقية المسلحة المناوئة في ميانمار، وافق المجلس العسكري على المقترح المقدم من الجانب الصيني، أكبر المستثمرين في البلاد، بتأسيس “شركة أمنية مشتركة”، بحيث تتولى تأمين مواقع العمل الخاصة بالموارد والبنية الأساسية للمشاريع الصينية، على أن يتولى الجانبان إدارة الأسلحة ومعدات الاتصالات.
- تناقش هذه الورقة دوافع ودلالات تحرك بكين نحو إنشاء شركة أمنية مشتركة مع جمهورية ميانمار، وتداعياتها على مسار علاقات الصين مع دول منطقة جنوب شرق آسيا، كما تناقش انعكاسات تركيز بكين على استكشاف شركات الأمن الخاصة كحل قابل للتطبيق لمواجهة تزايد التحديات التي تواجه مشروع الحزام والطريق.
دوافع التحركات الصينية ودلالاتها
تهديدات المصالح الاقتصادية لبكين:
- منذ إطاحة الجيش بالحكومة المدنية المنتخبة في ميانمار، في فبراير 2021، ظهرت احتجاجات واسعة النطاق في البلاد، تحولت إلى تمرد مسلح ضد المجلس العسكري[1]، الذي أسهم بدوره في ظهور هواجس الصين من تضرر مصالحها، وأصولها الاقتصادية في البلاد. وقد عزز من ذلك الهجوم الذي تعرضت له العديد من مصانع بكين في منطقة “يانجون” في ميانمار، في الشهر التالي من الانقلاب العسكري.
- أيضًا، أسهم استمرار تعرض المجلس العسكري، بعد أعوام من الانقلاب، للهزائم الفادحة، على أيدي الجماعات المسلحة المعارضة، وأبرزها جماعة “جيش أراكان المسلحة”، وخسارته قواعدَ عسكرية ومساحاتٍ شاسعة من الأراضي، في التصور الصيني بعدم قدرة المجلس العسكري على حماية أصول بكين واستثماراتها الضخمة في البلاد، خاصة في ظل وجود مشاريع البنية الأساسية الكبرى الصينية في مناطق الصراع النشطة. ففي يوليو 2024 وحده، سيطرت إحدى الجماعات المسلحة المناهضة للمجلس العسكري، والمعروفة بقوات الدفاع الشعبية، على مصنع “ألفا سيمنت” في منطقة “ماندالاي”، وآخر لمعالجة النيكل في منطقة “ساجاينج”[2] مدعومَين من الصين. وحتى ديسمبر 2024، وقع ما يقرب من 23 من أصل 34 مشروعًا صينيًا تحت سيطرة القوات المناوئة للمجلس العسكري، خاصة في ولاية راخين وولاية شان الشمالية[3]. وبالتالي، دفعت تلك التهديدات بكين إلى طرح مقترح إنشاء شركة أمنية مشتركة، تحمي الأصول والاستثمارات الصينية في ميانمار.
- يشكل إعلان تأسيس الشركة الأمنية المشتركة نقطة تحول حاسمة في سياسة الصين تجاه ميانمار. ففي حين توجد بالفعل نحو 4 شركات أمنية خاصة صينية أخرى في ميانمار، فإن الشركة المقترحة ستكون مشروعًا مشتركًا مع المجلس العسكري، ما سيقدم ديناميكية جديدة لديها القدرة على إعادة تشكيل المعادلة العسكرية، باعتبارها شركة متحالفة مع المجلس العسكري. فقد تعمل الشركة الأمنية المشتركة بقيود أقل، وقد تنطوي على أفراد مسلحين بشكل كبير، وهو ما يبتعد عن القيود التقليدية المفروضة على شركات الأمن الخاصة الصينية.
- بالتوازي مع ذلك، كثّفت بكين من تحركاتها الدبلوماسية الداعمة لإجراء انتخابات وطنية اقترحها المجلس العسكري لإنهاء النزاع المسلح في البلاد. وما يعكس استمرارية النزاع المسلح هو رفض الجماعات المعارضة للمجلس العسكري إجراء الانتخابات الوطنية، تحت مزاعم التشكيك في شرعيتها، والقدرة على إجراء انتخابات حرة ونزيهة[4]. وتزداد الهواجس الأمنية لدى بكين من وصول المعارضة للسلطة، فهي مقربة من الغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة الأمريكية؛ ما يهدد النفوذ الصيني في البلاد.
الأهمية الحيوية لميانمار بالنسبة لطموحات الصين العالمية
“معضلة مضيق ملقا”:
- تشكل العلاقات مع ميانمار أهمية حيوية واستراتيجية بالنسبة للصين؛ لضمان أمنها الاقتصادي، وتعزيز طموحاتها الجيوسياسية. فمشروع الممر الاقتصادي بين الصين وميانمار (China-Myanmar Economic Corridor) في مبادرة الحزام والطريق يتيح لبكين كسر التطويق، الذي قد توظفه الولايات المتحدة وحلفاؤها، وتحديدًا في حالة نشوب أي نزاع محتمل حول تايوان، وسعي واشنطن نحو إغلاق مضيق ملقا، وهو الشريان الاقتصادي والاستراتيجي للصين، الذي تحيط به دول إما حليفة أو محايدة للولايات المتحدة، مثل ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة. وبالتالي، ومن خلال ضمان العلاقات الاستراتيجية مع ميانمار، ستشكل موانئ ميانمار طريقًا ملاحيًا بديلًا يتيح وصول بكين إلى المحيط الهندي، ويضمن استمرارية تدفق صادراتها ووارداتها من المواد الخام والنفط في سيناريوهات تفاقِم التوترات مع القوى الكبرى.
- يأتي ذلك ليعزز من احتمالات تحول الشركة الأمنية المشتركة لأداة جيوسياسية لبكين، وتزايد احتمالات عملها بقيود أقل من تلك المفروضة على سائر الشركات الأمنية الصينية في الدول الأخرى. ولا يستبعد توسيع صلاحياتها بهدف ضمان الأمن الاقتصادي للصين وأهدافها الاستراتيجية والجيوسياسية، ما يشير إلى دور موسع لشركات الأمن الخاصة في حماية المصالح الخارجية والتأثير في السياسة العالمية.
انعكاسات العلاقات الأمنية بين الصين وميانمار على المنطقة
الجهود الصينية لحل “معضلة مضيق ملقا”:
- لتجاوز معضلة مضيق ملقا، وضمان عدم قدرة الولايات المتحدة على توظيف شراكاتها الاستراتيجية مع الدول المحيطة للمضيق لتطويق الصين، كثفت بكين من مساعيها لتعزز من شراكاتها الأمنية مع تلك الدول مقابل إضعاف شراكات واشنطن. وفي عام 2022، طرحت “مبادرة الأمن العالمي”، حيث أعربت الصين، من خلالها، عن استعدادها لتعاون أمني ثنائي ومتعدد الأطراف مع جميع الدول والمنظمات الدولية والإقليمية، وتعزيز التنسيق الفعال للمفاهيم الأمنية وتقارب المصالح[5].
- غير أن طموحات الصين في تفعيل تلك المبادرة تصطدم بواقع مغاير، يتمثل في ضعف الثقة لدى دول المنطقة بالشراكات الأمنية مع بكين، وتحديدًا في ضوء النزاعات الحدودية المتفاقمة بين الصين ودول الجوار، مثل فيتنام وماليزيا وإندونيسيا وبروناي وتايوان، وتزايد السلوك العدواني في الآونة الأخيرة مع الفلبين حول الحدود البرية والبحرية[6].
- لا شك في أن عدم قدرة بكين على تأمين تلك الشراكات شكّل عاملًا مضاعفًا نحو توجهها إلى تعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع دول منطقة المحيطين الهندي والهادئ “الإندوبيسيفك”، ومع الدول التي لا ترتبط بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة، خاصة في ضوء مساعي واشنطن لإنشاء تكتل أمني واقتصادي مناوئ للصين في “الإندوبيسيفك”. فقد وقّعت بكين، بعد طرحها تلك المبادرة، اتفاقية أمنية مع جزر سليمان، التي تبعد حول 10 آلاف كيلومتر فقط عن الولايات المتحدة، وكذلك عززت من علاقاتها السياسية والاقتصادية مع جزر المحيط الهادئ. ويبدو، من خلال تلك التحركات، أن الصين تسعى للحصول على ورقة ضغط أخرى يمكن استخدامها لمواجهة الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وبالتالي تقليل تهديدات معضلة مضيق ملقا.
التوسع الهادئ للشركات الأمنية الصينية وحدود عملها:
- إن توظيف الشركات العسكرية الخاصة وشركات الأمن الخاصة أصبح إلى حد كبير أداة استراتيجية للقوى الكبرى، تسمح لها بتوسيع نفوذَيها الإقليمي والعالمي، وتقلل من انتقادات واحتجاجات تورطها في مناطق وبلدان الصراع، أو حتى إخفائه أو إنكاره، في بعض الحالات، حيث تسمح تلك الشركات للقوى الكبرى بإظهار قوتها دون استخدام فعلي للقوات العسكرية النظامية لها. من جانب آخر، توفر بعض الشركات العسكرية الخاصة وشركات الأمن الخاصة الإمكانية لتحسين الأمن المحلي للدولة التي تعمل بها، ودعم حكومة معينة دون إجراء حكومي رسمي، وذلك من خلال دعم وتدريب قوات الشرطة والأمن[7]. وقد تستخدم الحكومات، في بعض الأحيان، الشركات الأمنية أو الشركات العسكرية الخاصة؛ لتجاوز القيود القانونية الدولية أو المحلية. على سبيل المثال، تسمح تلك الشركات بتجنب استخدام القوات العسكرية الرسمية لدولة معينة في مناطق النزاع، التي قد يؤدي نشرها إلى انتهاك القانوني الدولي، مثل حظر الأسلحة الأممي في ليبيا.
- شكل صعود الصين كقوة اقتصادية كبرى، خاصة في إطار مشروع الحزام والطريق، حجر الزاوية لتحول السياسة الخارجية الصينية، حيث أدركت بكين أن السياسة الخارجية وحدها لم تعد كافية لحماية المواطنين الصينيين في الخارج والأصول الاستثمارية. ولذلك، دخلت التغييرات التشريعية في الصين عام 2009 لتستهدف توسيع قطاع الأمن الخاص، حيث يقدر في الوقت الراهن وجود آلاف من الشركات الأمنية المحلية التي تسهم في حماية الأصول الخاصة في الصين، وعشرات منها تعمل في الخارج من آسيا الوسطى إلى أفريقيا[8]. ولا شك في أن العرض المحتمل لتلك الشركات، وتحديدًا على طول مبادرة الحزام والطريق وفي المجال البحري، يضعها في موقع يسمح لها بالتوسع في المستقبل.
- وقد يعود نموذج مجموعة فاغنر إلى الواجهة عند الحديث عن الشركات الأمنية الخاصة الصينية. غير أنه على النقيض من “فاغنر”، لم تنخرط الشركات الصينية في أدوار قتالية مباشرة حتى الآن، بل تتخصص في أمن المواقع، وإدارة المخاطر والدعم اللوجيستي لحماية المشاريع والاستثمارات المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق.
الخاتمة:
- إن الحسابات الاستراتيجية لبكين في جمهورية ميانمار تستدعي توازنًا دقيقًا؛ فقد تؤدي هذه الخطوة الصينية، التي تُعد دعمًا صريحًا للمجلس العسكري، إلى تصعيد النزاع الدائر في البلاد. ولا يُستبعد أن تستهدف الجماعاتُ المسلحة المناوئة للمجلس العسكري في ميانمار الأفرادَ الصينيين في عمليات انتقامية، الأمر الذي من شأنه أن يقوض طموحات بكين الاستراتيجية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
- لا يتوقع، في المدى المنظور، تحول الشركة الأمنية الخاصة المشتركة بين الصين والمجلس العسكري لميانمار إلى نموذج آخر من “فاغنر” الروسية، أو “بلاك ووتر” الأمريكية، إلا أن الأهمية الحيوية لميانمار بالنسبة لبكين تطرح تساؤلات حول الديناميكيات الجديدة، التي قد تسهم بشكل كبير في تحول المعادلة العسكرية لمصلحة المجلس العسكري، بعد هزائم متواترة تعرض لها خلال السنوات الماضية.
- لا يستبعد أن تطرح الصين مبادرات مماثلة لدول مشروع الحزام والطريق، على سبيل المثال في باكستان؛ بهدف تأمين الممر الاقتصادي بين البلدين، ولاسيما بعد تعرض عمال صينيين لسلسلة من الهجمات من جانب انفصاليين، ما عكس ضعف جاهزية إسلام أباد في حماية المشروعات التنموية الصينية، وتحديدًا في إقليم بلوشستان.
[1]متمردون في ميانمار يسيطرون على القيادة الغربية للمجلس العسكري، موقع الجزيرة للأخبار، 21 ديسمبر 2024، https://shorturl.at/8iHdo
[2]China, Myanmar to Establish Joint Security Company, Reports Say, The Diplomat Magazine, November 18,2024, https://shorturl.at/vJT1f
[3] Private forces pose public risks for China–Myanmar stability, East Asia Form website, 07 January 2025, https://shorturl.at/5IGU0
[4] China, Myanmar to Establish Joint Security Company, Reports Say, The Diplomat Magazine, November 18,2024, https://shorturl.at/vJT1f
[5] الصين تطرح مبادرة الأمن العالمي وتتعهّد “تعزيز حوار السلام”، صحيفة الشرق، 21 فبراير 2023، https://shorturl.at/7cIrD
[6]خريطة صراعات الصين مع جيرانها.. من البحر الجنوبي إلى الهيمالايا، صحيفة الحرة، 27 سبتمبر 2020، https://shorturl.at/36WP9
[7] A Stealth Industry: The Quiet Expansion of Chinese Private Security Companies, CSIS, January 12, 2022, https://shorturl.at/P61AE
[8] Chinese security companies are putting boots on the ground in Myanmar. It could go disastrously wrong, The conversation journal, December 11, 2024, https://shorturl.at/hQ9kl