ما زالت الذاكرة الجمعية في العراق وخارجه حافلة بكثير من التصريحات التي أعقبت الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003 بخصوص القضاء على دكتاتورية نظام صدام وبناء نظام ديمقراطي يؤمن بالحرية والمساواة؛ لا بل أن الرئيس السابق (بوش الابن) وأركان إدارته مثل مستشارة الأمن القومي كوندليزا رايس بشروا كل المنطقة العربية بحقبة جديدة من الديمقراطية والحرية، فقد قالت في مقالها المنشور في الـواشنطن بوست: “إن مهمتنا هي العمل مع أولئك الذين يريدون التقدم في الشرق الأوسط لبناء ديمقراطية أقوى وحرية ورفاه أكبر”[1] .
وبحسب كبير مراسلين الواشنطن بوست في بغداد فإن أحد أسباب اختيار بريمر كحاكم أميركي للعراق عام 2003 من قبل نائب الرئيس (تشيني) وفريقه، آنذاك، مرده إلى كون بريمر هو الرجل المناسب لتحويل العراق إلى بلد ديمقراطي حقيقي[2]. أما السياسيون العراقيون الذين تسيدوا المشهد في العراق بعد 2003 فقد أصروا (في تصريحاتهم العلنية، على الأقل) على تبشير العراقيين بالديمقراطية؛ لا بل وجعلوا المادة الأولى من دستور العراق تنص على أن نظام الحكم في العراق هو نظام ديمقراطي[3].
لم تقتصر التوقعات العالية بخصوص ازدهار الديمقراطية في العراق على الأمريكان فحسب، بل امتدت للخيال الجمعي العراقي حتى أن أكثر من 80% من العراقيين كانوا يفضلون الديمقراطية كنظام حكم على أي نظام آخر[4]. وبعد عقود من نظم الحكم الشمولية، أعقبتها سنين من الحكم (الديمقراطي) في العراق بعد 2003؛ يبدو أن العراقيين قد ملوا انتظار قطار الديمقراطية فغادروا محطتها باحثين عن وسيلة نقل أخرى تضمن لهم حياة أفضل من تلك التي عاشوها طوال السنوات الثمانية عشر الماضية.
فطبقاً لاستطلاع مسح القيم العالمي world values survey الذي يجرى كل 4 أو 6 سنوات في كثير من دول العالم ومنها العراق فإن خيار الديمقراطية لم يعد هو المفضل لديهم[5]. يوضح الشكل 1 أدناه كيف تغير المزاج العراقي نحو الديمقراطية بعد 2003؛ فبعد أن كان 71% من العراقيين يعدون الديمقراطية شيئاً جيداً عام 2004 واستمروا بالتأييد نفس لها عام 2009 حتى بلغوا ذروة التأييد للنظام الديمقراطي عام 2014 وقبل احتلال “داعش” لجزء من الأراضي العراقية، فإن الحال تغير بشدة بعد ذلك لتنخفض نسبة من قالوا أنها جيدة إلى 57% فقط عام 2019 [6].
إن هذا التآكل الملحوظ في الثقة في الديمقراطية لا يعود في رأيي إلى عدم تفضيلها كنظام حكم أو لعدم إعجاب العراقيين بالديمقراطية كأسلوب للحكم، بل بسبب عدم الثقة في قدرة الطبقة السياسية الحالية على تطبيقها وما نجم من مشاكل للعراقيين باسم الديمقراطية؛ فبحسب كل استطلاعات الرأي التي أجريت خلال العقد الماضي، كانت هناك نسبة تتراوح بين 75 و80% من العراقيين ممَّن يفضلون الديمقراطية كنظام حكم على كل الخيارات الأخرى التي كانت تعرض عليهم[7].
إن الفشل الذريع للنظام السياسي في العراق وإنتاجه، من خلال آلية الانتخاب، لحكومات فاشلة متعاقبة، هو الذي أدى إلى فقدان الثقة في الديمقراطية؛ فالفساد في العراق، والذي يَعده العراقيون في مقدمة الموضوعات التي تقلقهم[8] بات متفشياً في كل مفاصل الحياة والدولة في العراق حتى صار العراق أحد القابعين الدائمين على رأس في قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم خلال الخمسة عشرة سنة الماضية بحسب تصنيف منظمة الشفافية الدولية[9].
في الوقت الذي قدر فيه رئيس جمهورية العراق مؤخرا مقدار ما خسره العراق نتيجة الفساد بـ 150 مليار دولار[10]، قدرت لجنة النزاهة في البرلمان العراقي المبلغ بـ 320 مليار دولار[11]. كما ارتفعت نسبة الفقر في العراق لتناهز 40%، في الوقت الذي تقلص فيه حجم الطبقة المتوسطة من 61% عام 2007 إلى 30% فقط عام 2020[12].
لقد صاحب هذا الوضع قفزة كبيرة في معدل البطالة لتناهز 25% بين الشباب وحوالي 50% بين النساء، مع قفزة كبيرة في نسبة الأمية التي ناهزت 24%، وتدهور مُريع في كثير من المؤشرات الصحية[13]؛ ومع ارتفاع حدة الشعور بعدم الأمن في السنوات الماضية بين العراقيين حيث بلغت نسبة من يخشون من فقدان وظائفهم 73%، ومن يخشون من حرب أهلية 76%[14]،
ومن الواضح أن معظم العراقيين لم يعودوا يثقون في نظامهم (الديمقراطي) لتحسين أوضاعهم. وينطبق هذا على تجربة الانتخابات المبكرة المقبلة في شهر أكتوبر 2021، إذ تظهر آخر الأرقام المأخوذة من محرار الرأي العام العراقي IOT، أن الإقبال سيكون منخفضاً جداً على صناديق الانتخاب، وأن معدل المشاركة لن يكون أفضل من انتخابات 2018[15].
وتظهر الأرقام أن حوالي ثلثي العراقيين يوافقون على أن الانتخابات لا تمنحهم صوتاً في سياسة بلدهم! وأن الخطورة تكمن في أن العراقيين باتوا مقتنعين بشكل أكبر بأن الطرق العادية والمؤسسية لمحاولة التأثير على السياسة في العراق لا تعمل لصالحهم. فمن بين العراقيين الذين يعتقدون أن بإمكانهم التأثير في القرارات السياسية، هناك 14% من السنّة، 35 % من الكرد، وفقط 11% من الشيعة يؤمنون بأن الانتخابات هي وسيلتهم لتحقيق ذلك التأثير!
ويمكن أن تشير هذه اللامبالاة بالتصويت إلى مشكلة أكبر بكثير، إذ يبدو أن العديد من العراقيين قد ينقلبون ضد نظامهم السياسي، مما يجعلهم عرضة للحلول الراديكالية والعنيفة لمشاكل العراق السياسية[16]. ويبدو هذا الخطر واضحاً في نمو الاتجاه نحو الاستبداد والديكتاتورية بين العراقيين؛ فطبقاً للشكل 2، فإن نسبة العراقيين الذين يفضلون حكم العسكر (الجيش) نمت من 12% فقط عام 2004 لتصل بحدود 50% عام 2020[17].
من جانب آخر، فقد نمت نسبة العراقيين الذين يبحثون عن قائد قوي لا يأتي من خلال الانتخابات أو البرلمان، ليحكمهم من 17% فقط عام 2004 إلى 76% عام 2020 كما يوضح ذلك الشكل 3[18].
الاستنتاجات
يبدو واضحا أن التجربة الديمقراطية في العراق تعاني من فشلاً ذريعاً من وجهة نظر العراقيين؛ وقد تجسد هذا الفشل في عدم قدرة نظام ما بعد 2003 على تحقيق الوعود التي وُعد بها العراقيون. كما أن جميع مؤشرات الرأي العام العراقي التي استندت لها هذه الورقة تُظهر ميلاً واضحاً لمغادرة محطة الديمقراطية واستقلال قطار آخر يمكن أن يكون المخلص.
ويتجسد هذا المخلص الذي يبحث عنه العراقيون في الميل نحو اتجاهات الحكم اللاديمقراطي، ليس كرهاً للديمقراطية كنظام حكم وإنما في نتائج تطبيقها في العراق؛ وفي ظل عدم استقرار الأوضاع في العراق حالياً وسيادة شعور عدم الأمان والخوف من المستقبل فإن التجربة العالمية تنبئنا بأن احتمالات العنف أو الديكتاتورية هي الأكثر ترجيحاً في قادم الأيام. وبما أن احتمالات حصول انقلاب عسكري تبدو شبه منعدمة في ضوء موازين القوى على أرض العراق حالياً، فإن السيناريوهات الأكثر توقعاً هي:
- حصول انقلابٍ على السلطة تقوده الجماعات الأكثر تسلُحاً وقوة، وهنا فإن النموذج اليمني هو الأكثر ترجيحاً.
- اندلاع ثورة شعبية عارمة تطيح بالنظام السياسي، وعندها لا يمكن التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور بعد ذلك، وستكون احتمالات ظهور نظام مستقر محفوفة بالمخاطر.
- مزيج من الاحتمالين أعلاه؛ فالجماعات المسلحة ستشدد قبضتها على الحكم بطريقة مشابهة للنموذج اللبناني حيث دولة ضعيفة وميليشيا قوية. وإذا حصل هذا الاحتمال فأن سَوْرَنَة (من سوريا) العراق تبدو محتملة جداً، حيث تسيطر الدولة (ولو شكليا) على بغداد وبعض المناطق القليلة الأخرى، مع ظهور مناطق وكانتونات في الجنوب الشيعي والشمال السنّي خارج نطاق تغطية بغداد. أما كردستان فتبدو احتمالات انفصالها واردة جداً.
- يبقى هناك احتمال ضعيف لكي تنتبه الطبقة السياسية، وبضغوط خارجية وأممية، للاتجاه الخطير في العراق فتحاول استدراك ما يمكن استدراكه قبل فوات الأوان.
المراجع
[1] Rice, Condoleezza, Transforming the Middle East, The Washington Post, August 7, 2003, https://www.washingtonpost.com/archive/opinions/2003/08/07/transforming-the-middle-east/2a267aac-4136-45ad-972f-106ac91e5acd/
[2] Rajiv Chandrasekaran, what did it feel like in those days right after the fall of Saddam Hussein and before the ORHA? Pbs, https://www.pbs.org/wgbh/pages/frontline/yeariniraq/interviews/rajiv.html
. [3]دستور جمهورية العراق، 2005
[4]. داغر، منقذ، العراق من الاحتلال الى الاعتلال- دراسة توثيقية للرأي العام العراقي 2003 الى 2020، دار الذاكرة، بغدد،2020، ص 38
5. https://www.worldvaluessurvey.org/WVSOnline.jsp المصدر يحلنا إلى الصفحة الرئيسية
تصميم المصدر لا يسمح بأكثر من الولوج لهذه الصفحة. من يريد المتابعة فعليه ان يختار (العراق) ثم سلسلة خطوات للحصول على الداتا
[7]. داغر، منقذ، مصدر سابق، ص38.
[8]. المصدر السابق نفسه، ص 274
[9]. Transparency International, CORRUPTION PERCEPTIONS INDEX, https://www.transparency.org/
[10]. صالح، برهم، رئيس العراق بتصريح صادم: الفساد كبدنا مليارات الدولارات، https://www.alarabiya.net/arab-and-world/iraq/2021/05/23/
[11] . داغر، منقذ، مصدر سابق، ص 271
[12]. Dagher, Munqith, Iraqi Stability and Its Free-Falling Middle Class, Center of Strategic and International Studies, October 2020, https://www.csis.org/analysis/iraqi-stability-and-its-free-falling-middle-class
[13]. داغر، مصدر سابق، ص 253-267
14 https://www.worldvaluessurvey.org/WVSOnline.jsp المصدر يحيلنا إلى الصفحة الرئيسية – الرد السابق نفسه
[16]. داغر، منقذ وكانتاثيلر، كارل في حين تُظهر استطلاعات الرأي تزايداً في عدم الرضا، هل سيتمكن الشباب الشيعة من قلب الطاولة على النظام السياسي، معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى، منتدى فكرة، https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/fy-hyn-tuzhr-asttlaat-alray-tzaydaan-fy-dm-alrda-hl-sytmkn-alshbab-alshyt-mn-qlb
[17]. المصدر السابق نفسه
[18] . المصدر السابق نفسه