تظل العلاقات الأمريكية – الإيرانية محكومة منذ عقود بهاجس الشك وسيطرة التوتر على تفاعلاتها، فمهما تعددت دعوات الحوار أو محاولات التقارب لإنهاء القضايا الخلافية بينهما، فإنها لا تسفر عن أي تقدم؛ ومع انتشار وباء كورونا المستجد، كانت هناك توقعات لدى كثيرين بأن تشهد هذه العلاقات فترة من الهدوء النسبي، ليس فقط استجابة للدعوات الأممية التي طالبت دول العالم بإنهاء الصراعات والخلافات السياسية في ما بينها من أجل التفرغ لمواجهة جائحة “كوفيد-19″، وإنما أيضاً لأن الدولتين كانتا من ضمن أكثر الدول معاناة من هذا الوباء، وواجهتها صعوبات في السيطرة عليه واحتواء تداعياته المختلفة.
السمات المشتركة لإدارة الولايات المتحدة و إيران لوباء “كوفيد-19”
لا شك في أن كل من إيران والولايات المتحدة تعدان من أكثر دول العالم التي تضررت بشكل واضح من وباء كورونا المستجد، وثمة قواسم مشتركة في تعاملهما مع هذه الجائحة، لعل أبرزها:
- ضعف الاستجابة الأولية في مواجهة الوباء: فرغم تحذيرات منظمة الصحة العالمية حول خطورة هذا الوباء وسرعة انتشاره، فإن الدولتين استخفتا به وتأخرتا في اتخاذ الإجراءات اللازمة لاحتوائه؛ فإيران تقاعست في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمواجهته، حتى تحولت إلى بؤرة لانتشاره في دول الجوار[1]. الأمر نفسه حصل مع الولايات المتحدة الأمريكية التي قللت في البداية من خطورة هذا الفيروس؛ ففي 27 فبراير 2020 ادعى الرئيس ترامب أن عدد المصابين بأعراض فيروس “كوفيد-19” لا يتعدى 15، وقال أنه: “خلال يومين سينحسر ويقترب من الصفر، وهذا يبين أننا قمنا بعمل جيد جدا”. لكن بعد شهر تضاعفت أعداد الإصابات والوفيات، مما جعل الولايات المتحدة تتصدر قائمة الدول المتضررة. كما جَرَّ هذا الوضع انتقادات على إدارة ترامب التي عِيب عليها سوء التعاطي مع المعلومات المتاحة من أجهزة الاستخبارات المختلفة حول الوباء وانتشاره السريع من الصين[2].
- تسييس الوباء وتوظيفه في أغراض انتخابية: ففي إيران، وبدلاً من اتخاذ إجراءات سريعة لتطويق مناطق انتشار الفيروس وتحذير المواطنين، ألقى المرشد الأعلى السيد علي خامنئي باللوم على ما أسماه “أعداء إيران” بالمبالغة في خطر الجائحة في محاولة لإفشال الانتخابات البرلمانية التي شهدتها البلاد في فبراير 2020 من خلال تخويف الناس من التصويت خشية الإصابة. وفي الولايات المتحدة، شكل الوباء أحد القضايا الرئيسية لحملات الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر 2020؛ فجون بايدن – مرشح الحزب الديمقراطي – صعد من انتقاداته لما وصفه بـ “الأخطاء الكارثية” التي ارتكبها ترامب في إدارة الأزمة منذ بدايتها، وامتد ذلك إلى تقييم الأزمة والتعامل مع هذا الخطر الذي هدد الأمريكيين، وهو ما قاد إلى نتائج كارثية”. كما وجهت رئيسة مجلس النواب الأمريكي، الديمقراطية نانسي بيلوسي، انتقادات حادة للرئيس بعد إعلانه العزم على رفع بعض القيود المفروضة للتصدي لتفشي هذا الفيروس، قائلة: إن تعامل ترامب مع تفشي وباء كورونا “لا يحترم العلم والحقائق”[3]؛ بينما سعى ترامب إلى نفي هذه الانتقادات، وصرح مراراً بأن الديموقراطيين يستخدمون الفيروس الجديد “كخدعة” انتخابية[4]. كما حمَل مسؤولية انهيار المنظومة الصحية في البلد إلى إدارة الرئيس السابق أوباما التي لم تتخذ أية إجراءات للنهوض بالرعاية الصحية للشعب الأمريكي.
- توظيف الوباء كأحد أوراق الصراع بين الجانبين: رغم إعلان الولايات المتحدة في بداية انتشار الوباء بأنها على استعداد لتقديم المساعدات الإنسانية لإيران في مواجهة انتشار هذا فيروس، إلا أن الأخيرة رفضت ذلك معتبرة على لسان المرشد الأعلى السيد على خامنئي، أن هذا الوباء “مؤامرة أمريكية” في محاولة لتبرير إغلاق طهران الباب في وجه مبادرات واشنطن العديدة لإرسال أدوية ومستلزمات طبية، وتبنت فرضية “الحرب البيولوجية” التي رددها مسؤولون كبار من الأجهزة الأمنية والعسكرية، عبر “استهداف إيران بفيروس كوفيد-19”.وأشار خامنئي في هذا السياق إلى إنه رفض مساعدات الولايات المتحدة لمكافحة فيروس كورونا المستجد بسبب الاتهامات التي تواجه واشنطن بإنتاج الفيروس، مخاطباً المسؤولين الأمريكيين بقوله: “أنتم متهمون بإنتاج فيروس كورونا المستجد، وأن جزءاً من الفيروس مصمم خصيصاً لإيران باستخدام البيانات الجينية للإيرانيين التي حصلوا عليها من خلال وسائل مختلفة”؛ دون أن يقدم أدلة[5].ومثل هذه التصريحات تشير بوضوح إلى سيطرة الشك والتوجس على العلاقات بين الجانبين؛ فحتى في ظل هذه النوعية من الأزمات الصحية والإنسانية التي يفترض أن تسمو فيها الدول على أية خلافات في ما بينها والتوحد في مواجهتها، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لواشنطن وطهران. بل أن ثمة اتفاق لدى كثيرين بأن هذه المزاعم الإيرانية الخاصة بفرضية الحرب البيولوجية لا تعدو كونها محاولة لتغطية الفشل في إدارة الأزمة، وتحميل واشنطن مسؤولية هذا الفشل، خاصة في ظل تصاعد حالة الغضب الشعبي في الداخل الإيراني.كما سعت إيران، في الوقت ذاته، إلى توظيف هذا الوباء في الضغط على أمريكا والمجتمع الدولي للعمل من أجل رفع العقوبات المفروضة عليها، لمساعدتها في مواجهة هذه الجائحة، حتى أن الرئيس حسن روحاني توجه برسالة إلى الشعب الأمريكي لاستعطافه من أجل تخفيف العقوبات المفروضة على الاقتصاد الإيراني المتهالك، قال فيها: ” إن ضحايا العقوبات وفيروس کورونا المستجد هم المواطنون العاديون في الأزقة والشوارع، وليست التيارات السياسية”. وطالب روحاني الشعب الأمريكي بحث حكومته على رفع العقوبات على إيران[6]؛ فيما اتهم وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، الولايات المتحدة بالتحول من “الإرهاب الاقتصادي” إلى “الإرهاب الطبي” من خلال رفض رفع العقوبات بعد تفشي الوباء في إيران في منتصف فبراير 2020، لكنه مع ذلك قال :”إنه على الرغم من العقوبات فقد حققت إيران تقدما كبيرا في مواجهة الفيروس، وذلك بفضل مواردها الخاصة ودعمها من بعض الدول الأجنبية”[7].من الواضح أن إيران تسعى من خلال هذا الخطاب إلى حث المجتمع الدولي على التحرك من أجل رفع العقوبات، باعتبارها تشكل العقبة الرئيسية في مواجهة هذا الوباء. كما تستغل إيران في ذلك الخلافات القائمة بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين من أجل إقناع الرأي العام الدولي بأهمية التحرك لرفع العقوبات المفروضة عليها؛ لاعتبارات إنسانية لإنقاذ الشعب الإيراني من هذا الوباء[8].في المقابل، وظفت الولايات المتحدة هي الأخرى هذا الوباء كأحد أدوات الصراع مع إيران، فقد رفضت مطالب طهران الخاصة برفع العقوبات، بل وبعثت رسائل حاسمة لها على لسان أكثر من مسؤول مفادها الاستمرار في سياسة “الضغط الأقصى” التي تقوم على تشديد العقوبات عليها، ومنعها من بيع النفط الخام والوصول إلى الأسواق المالية الدولية بهدف الحد من أنشطتها النووية والصاروخية وتقليص ممارساتها وسياساتها العدائية المزعزعة للأمن والاستقرار في المنطقة.ويشير إلى هذا التوجه الأمريكي بوضوح تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، الذي صرح في مارس 2020 قائلا:” إن القادة الإيرانيين كذبوا بشأن فيروس كورونا المستجد لمدة أسابيع، وحاولوا التنصل من مسؤوليتهم وعدم كفاءتهم”، وشدد على أن “القنوات الإنسانية مفتوحة من جانبنا، وإن كانت سياسة أقصى درجات الضغط التي نتبناها لا تسمح بمنح أموال لإرهابيين”[9]، وذلك في إشارة واضحة إلى الاستمرار في سياسة تشديد العقوبات المفروضة على النظام الإيراني.وبالفعل فقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات جديدة على إيران في 26 مارس 2020 شملت 15 فردا و5 كيانات، كشفت وزارة الخزانة الأمريكية أنهم دعموا الحرس الثوري وفيلق القدس التابع له، ونقلوا مساعدات تستخدم في القتل إلى جماعات مسلحة تدعمها إيران في العراق. كما أنهم متورطون في بيع النفط الإيراني المحظور بموجب العقوبات الأمريكية [10].هذا ويتبنى العديد من المسؤولين في إدارة ترامب وجهة نظر مفادها أن الاستمرار في سياسة “الضغط الأقصى” من خلال تشديد العقوبات على إيران قد يؤدي إلى تغيير النظام نتيجة تصاعد الرفض الشعبي وتنامي حركة الاحتجاجات والمظاهرات في الشارع الإيراني[11].
كورونا ومؤشرات التصعيد الأمريكي- الإيراني
يبدو واضحاً، في ضوء ما سبق، أن وباء كورونا المستجد لم يسهم في أي تهدئة بين الجانبين، بل على العكس أدى إلى تصعيد مستوى التوتر بينهما، وذلك على خلفية العديد من القضايا الشائكة، لعل أبرزها:
- قرض صندوق النقد الدولي لمواجهة جائحة “كوفيد-19”: طلب المصرف المركزي الإيراني في شهر مارس 2020 قرضاً بقيمة 5 مليارات دولار من مبادرة التمويل السريع التابعة لصندوق النقد الدولي، وهو برنامج لمساعدة الدول في مواجهة الكوارث والأزمات المفاجئة. وحذر الرئيس حسن روحاني في شهر أبريل 2020 من أنه “لا يجب أن يكون هناك تمييز في الموافقة على الطلبات” في إشارة إلى معارضة الولايات المتحدة لهذا القرض[12]. وبالفعل أفادت العديد من التقارير أن واشنطن عملت على منع صندوق النقد الدولي من منح هذا القرض إلى إيران؛ بحجة أن هذه الأموال لن تذهب إلى معالجة أزمة الصحة العامة في البلاد، وهذا ما أكده نص بيان للخارجية الأمريكية جاء فيه: “تسعى الدولة الراعية للإرهاب في العالم إلى الحصول على قرض لتمويل مغامراتها في الخارج وليس لشراء الأدوية للإيرانيين، فلإيران تاريخ طويل في تحويل الأموال المخصصة للسلع الإنسانية إلى وكلائهم الإرهابيين”. وأشار مسؤول في “الخزانة الأمريكية”، إلى أن “البنك المركزي الإيراني يخضع لعقوبات أمريكية، وكان طرفا فاعلا رئيسيا في تمويل الإرهاب في جميع أنحاء المنطقة وليس لدينا أي ثقة في أن هذه الأموال ستستخدم لمكافحة وباء كوفيد-19”[13].
- تجدد المناوشات في مياه الخليج: تجددت التجاذبات بين القوات البحرية الإيرانية والسفن الأمريكية خلال الأسابيع الماضية، حيث صدر أمر للقوات المسلحة الإيرانية بتحديد عدة سفن تجارية أمريكية في خليج عمان وتعقبها؛ وفي تحذير موجه – في ما يبدو لإيران – أصدرت البحرية الأمريكية تحذيرًا للسفن الحربية في الخليج للبقاء بعيدا بمسافة 100 متر عن السفن الحربية الأميركية أو المجازفة “باعتبارها تمثل تهديدا وتكون هدفا لإجراءات دفاعية مشروعة” [14].وتصاعدت حدة المواجهات بين الجانبين في شهر مايو 2020 حينما قررت إيران إرسال شحنة من النفط إلى فنزويلا، وهو الأمر الذي أغضب الولايات المتحدة، وقال مسؤول كبير في إدارة الرئيس دونالد ترامب: “إن الولايات المتحدة تدرس إجراءات يمكنها اتخاذها رداً على شحنة إيران”. وتعتبر واشنطن الشحنة الإيرانية إلى فنزويلا انتهاكا لسياسة العقوبات التي تفرضها عليها، والتي تتضمن حظرا على المعاملات التجارية مع شركة النفط الحكومية الفنزويلية “بي دي في اس أيه PDVSA”.وفي رسالة موجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إن أي إجراء أمريكي ضد الشحنة يجب أن يعتبر عملا من أعمال “القرصنة” وسيكون له تداعيات، وحذر من أن “دبلوماسية الزوارق الحربية المهيمنة تهدد بشكل خطير حرية التجارة والملاحة الدولية، والتدفق الحر للطاقة”[15].ويثير تصاعد التوتر بين واشنطن وطهران في مياه الخليج مخاوف كثيرين من إمكانية اندلاع حرب “ناقلات” جديدة تشبه ما جرى خلال حقبة الحرب العراقية – الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، خاصة أن إيران تصر على انتهاك العقوبات الأمريكية المفروضة، فيما تتمسك الولايات المتحدة بفرض أقصى الضغوط وتشديد الخناق عليها[16].ويرى كثيرون في ظل هذه التطورات أن إجراءات التصعيد الإيراني ليست سوى محاولة لإيصال رسالة إلى الولايات المتحدة والمجتمع الدولي مفادها بأنها تملك العديد من أوراق الضغط التي تهدد من خلالها أمن الطاقة والاقتصاد العالميين، كإغلاق مضيق هرمز وتعطيل حركة الملاحة الدولية[17].
- قضايا الملف النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية: ما يزال ملف إيران النووي أحد القضايا الشائكة بين طهران وواشنطن، منذ انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، وما تبعه من إجراءات إيرانية لتقليص التزامها في هذا الاتفاق في محاولة للضغط على الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا وألمانيا وبريطانيا، من أجل إقناع الولايات المتحدة بالعودة إلى الاتفاق. لكن بدا واضحاً أن إيران استغلت انشغال العالم بمواجهة وباء كورونا المستجد واستأنفت أنشطتها النووية في بعض المواقع، ورفضت قيام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التابعة للأمم المتحدة، بدخول مواقع تشتبه الوكالة بشأنها، لكنها رضخت للضغوط الأمريكية والدولية ووافقت في شهر يونيو 2020 بالسماح للوكالة بدخول هذه المواقع[18].ورغم جائحة “كوفيد-19” ومعاناة إيران في مواجهتها أعلن الحرس الثوري في 22 أبريل 2020 في ظل هذه الظروف عن إطلاق أول قمر صناعي مخصص للأغراض العسكرية يحمل اسم “نور1” يحمله صاروخ قاصد، ويبعد مداره عن سطح الأرض بــ 425 كيلومترا (264 ميلا).وقد أثارت هذه الخطوة غضب واشنطن التي رأت أنها تؤكد أهمية تشديد العقوبات على إيران، كما طالب وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بمحاسبتها معتبرا أن إطلاق إيران لهذا القمر الصناعي يعد تحدياً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم (2231) لسنة 2015، القاضي بالامتناع إيران لمدة 8 سنوات عن تطوير صواريخ باليستية مصممة لحمل أسلحة نووية، فيما أصدر الرئيس ترامب أوامره بإغراق أية سفن أو زوارق إيرانية تقترب من السفن الحربية الأمريكية في الخليج أو تهددها[19].لا شك في أن إطلاق هذا القمر الصناعي العسكري إنما يؤكد المخاوف من برنامج إيران للصواريخ الباليستية، وكيف أنه بالفعل يشكل تهديداً للأمن والسلم الإقليمي والدولي، ويدحض الادعاءات التي طالما كررتها طهران بأن برامجها الفضائية لأغراض مدنية وسلمية؛ ولعل هذا يفسر حالة القلق الدولي من هذا البرنامج، ومطالبة العديد من الدول الأوروبية لها بوقف كل الأنشطة المرتبطة بتطوير صواريخ باليستية مصممة لحمل أسلحة نووية.تقود واشنطن، نتيجة لهذا السلوك الإيراني المراوغ، الجهود الدبلوماسية على الصعيد الدولي لوقف رفع حظر الأسلحة عن إيران وفقاً لما جاء في قرار مجلس الأمن رقم (2231) الذي تلى الإعلان عن الوصول للاتفاق النووي بين إيران ومجموعة “5+1” في 14 يوليو 2015، والذي سينتهي في أكتوبر 2020، مستندة في ذلك إلى أن رفع الحظر سيهدد الأمن والاستقرار في المنطقة.وقد ردت إيران على هذه التطورات معتبرة أن واشنطن ليست طرفاً في الاتفاق بعد انسحابها منه قبل عامين، وهددت بتبني خيارات أكثر تصعيداً في حالة ما إذا تمكنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من استقطاب دعم دولي لموقفها في هذا السياق، على نحو يوحي بأن ثمة أزمة جديدة تلوح في الأفق ستتصاعد حدتها خلال الأشهر القادمة[20].وتمارس واشنطن، في هذا السياق، ضغوطاً على كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تحديداً، وهى الدول الأوروبية التي كانت منخرطة منذ البداية في المفاوضات مع إيران، والتي انتهت بالوصول للاتفاق النووي. كما تسعى، في الوقت ذاته، إلى إقناع كل من الصين وروسيا بدعم التوجه الجديد الخاص بتمديد الحظر المفروض على إيران. وفي هذا السياق، صرح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، يوم 29 أبريل 2020 بأن: “واشنطن تدرس كل الخيارات لتمديد حظر الأسلحة”، في إشارة على ما يبدو إلى إعداد صياغة قانونية جديدة تؤكد أن الولايات المتحدة ما زالت شريكة في الاتفاق؛ باعتبار أنها ما زالت ملتزمة بالقرارات الدولية السابقة عليه، وذلك تمهيداً لاستخدام ذلك في المرحلة القادمة لتعزيز احتمال تمديد الحظر أو ممارسة ضغوط على الدول التي يمكن أن تبرم مع إيران صفقات في هذا الصدد[21]. كما أن الولايات المتحدة لم تستبعد، في هذا السياق، العودة إلى فرض جميع عقوبات الأمم المتحدة على إيران إذا لم يمدد مجلس الأمن التابع للمنظمة الدولية حظر الأسلحة على إيران، حيث أكد المبعوث الأمريكي الخاص بإيران برايان إن واشنطن ستضمن بطريقة أو بأخرى استمرار حظر الأسلحة، وأنها أعدت مسودة قرار لمجلس الأمن وستمضي قدما في الدبلوماسية وحشد الدعم لذلك[22].
- الوجود الأمريكي في العراق: في الوقت الذي أسفرت جولة الحوار الاستراتيجي الأولى بين العراق والولايات المتحدة التي انعقدت في 11 من يونيو 2020 عن وضع إطار عمل لتنظيم تواجد القوات الأمريكية، تعهدت واشنطن خلاله بمواصلة خفض أعداد جنودها في العراق، والتزام الحكومة العراقية بحماية العسكريين المنضوين في التحالف الذي تقوده واشنطن ضد تنظيم “داعش”[23]، إلا أن العقبة الرئيسية التي تواجه تنفيذ هذا الإطار تكمن بالأساس في الميليشيات المسلحة التابعة لإيران التي تعمل على إفشال أي توافق يتم التوصل إليه بشأن الوجود الأمريكي في العراق.ويعد الوجود الأمريكي في العراق إحدى الأوراق التي يتم توظيفها في إدارة الصراع بين الولايات المتحدة وإيران، فالأولى ترى فيه وسيلة فاعلة للضغط على إيران، وتحجيم سياساتها التوسعية في المنطقة، لأنها تدرك جيداً أن أي محاولات لتهديد المصالح الأمريكية أو حلفائها في المنطقة ستقابل برد حازم[24]، بينما تنظر إيران دائماً إلى الوجود الأمريكي في العراق، باعتباره أحد أوراق الضغط التي تستثمرها في مساومة الولايات المتحدة، بل وتحرض الميليشيات المسلحة التابعة لها على استهداف القواعد الأمريكية في العراق.وليس أدل على هذا التوظيف الإيراني لهذه الورقة أكثر من تزايد نشاط هذه الميليشيات في الأيام التي تلت جولة الحوار الاستراتيجي الأمريكي- العراقي، حيث قامت هذه الميليشيات بشن هجمات بصواريخ الكاتيوشا استهدفت مصالح أمريكية في العراق، وذلك في تحد واضح لحكومة الكاظمي التي تعهدت بحماية القوات الأمريكية. وما تزال القوى الشيعية، التابعة لإيران، تعارض استمرار الوجود الأمريكي في العراق، وتطالب بتنفيذ قرار البرلمان العراقي الذي صدر في 5 من يناير 2020، ويقضي بإخراج القوات الأجنبية من البلاد[25].
سيناريوهات العلاقات الأمريكية- الإيرانية
في ضوء المعطيات السابقة، فإن هناك عدة سيناريوهات أمام العلاقات الأمريكية – الإيرانية، تتمثل في ما يلي:
السيناريو الأول: استمرار حالة الجمود في العلاقات، وخاصة في ظل استمرار القضايا الشائكة بين الدولتين، وتباين رؤيتهما في كيفية حلها؛ وهذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً بالنظر إلى العاملين التاليين:
- الأول انشغال العالم في هذا التوقيت بمواجهة وباء كورونا، وغياب الإرادة المشتركة لدى واشنطن وطهران لتسوية القضايا الخلافية بينهما.
- والثاني انشغال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاستعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة التي ستقام في نوفمبر 2020، ومن ثم فإنه لا يريد أن يقحم إدارته في أزمة خارجية في هذا التوقيت قد تنعكس بالسلب على شعبيته في الداخل، نفس الأمر بالنسبة لإيران التي يبدو أنها تتبنى هي الأخرى سياسة” الصبر الاستراتيجي”، على أمل تجاوز ولاية ترامب وقدوم إدارة “ديموقراطية” جديدة تعود إلى الاتفاق النووي، وتخفف من “سياسة الضغط الأقصى” التي تتبناها إدارة ترامب.
السيناريو الثاني: التصعيد العسكري، وذلك استناداً إلى المعطيات السابق الإشارة إليها، كعودة المناوشات بين قوات البحرية الإيرانية والسفن الأمريكية في مياه الخليج، واستهداف بعض القواعد الأمريكية في العراق من جانب الميليشيات المسلحة التابعة لإيران، لكن هذه المناوشات، ومن واقع خبرة السنوات الماضية، لا يمكن أن تتحول إلى مواجهة عسكرية مفتوحة بين الدولتين، وخاصة بالنظر إلى عدة اعتبارات:
- أولها استعادة الولايات المتحدة لهيبة الردع بعد عملية اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني في يناير 2020، والتي أوصلت رسالة حازمة لإيران مفادها أن الولايات المتحدة جادة في تنفيذ تهديداتها.
- وثانيها امتلاك إيران لبعض الأوراق التي من شأنها تهديد المصالح الأمريكية في العراق والمنطقة بوجه عام كما سبقت الإشارة، فضلاً عن تهديداتها المتكررة بإغلاق مضيق هرمز وعرقلة الملاحة فيه، وهذا أمر تدركه الولايات المتحدة أيضاً وتأخذه في عين الاعتبار.
- وثالثها إدراك الدولتين أن تكلفة أي تصعيد عسكري ستكون تكلفته البشرية والمادية كبيرة، خاصة في هذا التوقيت، لهذا فإنهما يبتعدان عن أي تصعيد غير محسوب لا يمكن السيطرة عليه.
السيناريو الثالث: التقارب “الحذر” بين الدولتين، وذلك استناداً إلى الرسائل الإيجابية التي صدرت عنهما في الأشهر القليلة الماضية، بداية من إعلان الولايات المتحدة استعدادها لمساعدة إيران في مواجهة وباء “كوفيد-19″، ومروراً بالإفراج المتبادل عن بعض السجناء، فإيران أطلقت في 4 يونيو 2020 سراح مايكل وايت، الضابط السابق في البحرية الأمريكية، الذي كان معتقلا في إيران منذ عام 2018، وأفرجت الولايات المتحدة في المقابل عن الطبيب الإيراني الأمريكي، مجيد طاهري، المتهم بانتهاك العقوبات الأمريكية.
وتنظر إدارة ترامب إلى تبادل السجناء باعتباره مؤشراً إيجابياً على إمكانية التفاوض والتوصل إلى اتفاق مع طهران[26]، فضلاً عن رؤية العديد من المسؤولين في الحزب الديموقراطي، وبعض الأصوات المعتدلة في الحزب الجمهوري، التي ترى أنه بالإمكان اللجوء إلى الدبلوماسية في إنهاء القضايا الخلافية مع إيران[27].
لكن مع ذلك، فإن هذا السيناريو يبدو مستبعداً ليس فقط لفشل معظم مبادرات الحوار والتفاوض بين الدولتين منذ وصول إدارة ترامب إلى السلطة في يناير من العام 2017، وإنما أيضاً لهيمنة التيار المحافظ في إيران، والذي يرفض تقديم أية تنازلات للولايات المتحدة، خاصة في ما يتعلق بالاتفاق النووي.
كما يراهن النظام الإيراني على إمكانية خسارة ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ويأمل أيضاً أن يشهد النظام الدولي تغييرات في مرحلة ما بعد جائحة وباء كورونا المستجد لصالح بناء تعددية قطبية، يتراجع فيها النفوذ الأمريكي[28]، وتصعد قوى دولية أخرى مؤيدة لإيران، كروسيا والصين، تشاركان في قيادة النظام الدولي.
خاتمة
ليس من المتصور أن يؤدي وباء “كوفيد-19” إلى تغييرات محتملة في مسار العلاقات الأمريكية- الإيرانية في المدى القريب، لأن هذه العلاقات تتوقف على إنهاء القضايا الخلافية بينهما، وهي قضايا شائكة تتباعد وجهتي نظرهما بشأنها، لهذا فإن التصور الأقرب هو أن هذه العلاقات ستظل عند حالة “الجمود” الراهنة، والتي تتراوح بين المد والجزر، والتهدئة والتصعيد “المحسوب”، ريثما تتضح نتائج الانتخابات الرئاسية التي ستقام في نوفمبر 2020، والتي ستحدد بشكل واضح مسارات هذه العلاقات.
الهوامش
[1] – كيف أصبحت إيران “بؤرة كورونا” مخيفة في الشرق الأوسط؟، “سكاي نيوز” عربية، 24 فبراير 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/30QATqB
[2] – هشام ملحم ، ترامب يفشل في إدارة أزمة كورونا داخليا وخارجيا!، معهد دول الخليج العربية في واشنطن، 27 مارس 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2Ydhlek
[3] – فيروس كورونا: لماذا نجحت دول وأخفقت أخرى في التصدي للوباء؟، هيئة الإذاعة البريطانية، “بي بي سي”، 19 أبريل 2020، من خلال الرابط التالي: https://bbc.in/2VmTAid
[4] – للمزيد من التفاصيل حول هذه الجانب يمكن الرجوع إلى:
Nancy Cook ,Trump wants to defeat coronavirus — and make sure he gets credit, politico , 22/3/2020, https://politi.co/30UhKUL
[5] – خامنئي يتشبث بنظرية المؤامرة لرفض المساعدات الأمريكية، صحيفة الشرق الأوسط(لندن)، العدد ( 15091)، 23 مارس 2020
[6] – روحاني يستعطف الشعب الأمريكي لتخفيف العقوبات، موقع ميدل إيست أون لاين، 21 مارس 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2YLuSIT
[7] – فيروس كورونا: ما حقيقة اتهام إيران للعقوبات الأمريكية بعرقلة مكافحة تفشي الوباء فيها؟، هيئة الإذاعة البريطانية، “بي بي سي”، 18 أبريل 2020، من خلال الرابط التالي: https://bbc.in/30WW6Pw
[8] – Brie Stimson ,Iran’s leader points to coronavirus as reason for US to lift sanctions, Fox News, 21 March 2020, https://fxn.ws/2AIhYU1
[9] – جوناثان ماركوس ، فيروس كورونا: هل يصلح الوباء بين الولايات المتحدة وإيران؟، هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، 19 مارس 2020، من خلال الرابط التالي: https://bbc.in/2YgJNMl
[10] – بومبيو: إيران “الخطر الأكبر” بالمنطقة ونواصل الضغط، بوابة العين(أبوظبي)، 20 مايو 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/37J5uI7
[11] – Mark Fitzpatrick, How can the United States support Iran’s response to the coronavirus and bolster diplomacy? The International Institute for Strategic Studies, 16th March 2020, https://bit.ly/2UNhMtA
[12] – فيروس كورونا: إيران تناشد صندوق النقد الدولي الموافقة على قرض بقيمة 5 مليارات دولار، هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، 9 أبريل 2020، من خلال الرابط التالي: https://bbc.in/2AIMLQS
[13] – بندر الدوشي ، ضغوط أمريكية على صندوق النقد لمنع إقراض إيران، موقع العربية، 10 أبريل 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2YeUNK3
[14] – تهديد إيراني في الخليج يفاقم التوتر بين طهران وواشنطن، موقع ميدل إيست أون لاين، 13 يونيو 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2N5CIYk
[15] – غييرمو دي أولمو، أسطول النفط الإيراني إلى فنزويلا يثير غضب الولايات المتحدة، هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، 23 مايو 2020، من خلال الرابط التالي: https://bbc.in/30YqPfk
[16] – “حرب ناقلات” تلوح في الأفق، صحيفة عكاظ (السعودية)، 24 مايو 2020 ، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3hwGyIb
[17] – عبد الرؤوف مصطفى الغنيمي، “الوساطات الدولية لتسوية الأزمة الأمريكية ـالإيرانية ومستقبل نفوذ طهران الإقليمي” ، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 2 سبتمبر 2019، ص8، على الرابط التالي: https://bit.ly/2Y2Y5jw
[18] – اتفاقية إيران النووية: الوكالة الدولية للطاقة الذرية تقول إن طهران تمنع دخول مواقع مشتبه بها، هيئة الإذاعة البريطانية”بي بي سي”، 6 يونيو 2020، من خلال الرابط التالي: https://bbc.in/2BiksZk
[19] – أحمد طاهر، القمر الإيراني «نور1»… دلالات التوقيت ومخاطر التأثير، مجلة المجلة (السعودية)، 28 مايو2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3ebr8aa
[20] – هل تندلع أزمة جديدة بين طهران وواشنطن حول حظر الأسلحة؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة (ابوظبي)، 10 مايو، 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/30Q7bBV
[21] – المصدر السابق
[22] – Brian H. Hook, We’re Ready to ‘Snap Back’ Sanctions If the U.N. doesn’t renew the arms embargo against Iran, the U.S. will use its authority to do so, May 13, 2020 , https://on.wsj.com/30LOgIv
[23] – هجمات الصواريخ قد تكون رداً على الحوار العراقي – الأمريكي، موقع “إيلفانت”، 19 يونيو 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/30TN9GR
[24] – ماهر لطيف، المواجهة الأمريكيةـ الإيرانية في العراق: السياقات والمآلات ، المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية “أفايب”، 10 أبريل 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3eiHNZi
[25] – سميرة والنبي، الكاظمي: بين إملاءات واشنطن ومناورات طهران والحوار الاستراتيجي! ، موقع مونت كارلو الدولي، 4 يونيو 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2YT8w8H
[26] – للمزيد من التفاصيل عن هذه القضية، يمكن الرجوع إلى: بنده يوسف، دبلوماسية السجناء .. هل تتخلى إيران عن سياسة “الصبر الاستراتيجي” تجاه ترامب؟، موقع “شبكة رؤية الإخبارية”، 6 يونيو 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2UL67LF
[27] – Bonnie Kristian, There Are Three Paths Forward for U.S.-Iran Relations. Only One Averts War , newsweek ,23/4/2020, https://bit.ly/2Y6pZv6
[28] – Ali Fathollah-Nejad and Amin Naeni , Iran’s corona-diplomacy,The Rouhani administration’s miscalculated efforts to get sanctions lifted, The Brookings Institution, April 29, 2020, https://brook.gs/30SORIe