منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في سوريا عام 2011، وما تبعها من حرب مدمرة، بدأت موجات نزوح اللاجئين السوريين تتجه نحو أوروبا؛ بحثًا عن الأمان والاستقرار، بعيدًا عن الصراعات. كانت ألمانيا الوجهة الأبرز، حيث استقبلت بين عامي 2015 و2016 أكثر من مليون لاجئ، معظمهم من سوريا، في إحدى موجات اللجوء الإنساني الكبرى، التي شهدتها أوروبا في العقود الأخيرة.
مع سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، وجد اللاجئون السوريون أنفسهم أمام واقع جديد يثير تساؤلات مصيرية. إن التحولات الجارية في سوريا، إلى جانب التغيرات في السياسات الأوروبية تجاه اللاجئين، تعيد رسم ملامح مستقبل مئات الآلاف ممن واجهوا تحديات التكيف في المجتمعات الأوروبية.
في الأسبوع الأول بعد سقوط النظام، شهدت وسائل الإعلام الألمانية موجة تقارير مكثفة تبشر بعودة اللاجئين السوريين، وتطرح تساؤلات حول مشاعرهم وخططهم للعودة. ورغم هذا الزخم الإعلامي، يبقى السؤال الأعمق: ما العوامل الحقيقية التي تؤثر في قرار اللاجئين بالعودة أو البقاء؟
وفيما تلوح إمكانية العودة لبعض اللاجئين، تظل استدامة الاستقرار في سوريا عاملًا حاسمًا، إلى جانب تأثير التطورات في سياسات اللجوء في ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي.
يستعرض هذا التقرير تأثير التحولات الأخيرة في سوريا في اللاجئين السوريين بألمانيا، مع تحليل العوامل المؤثرة في قراراتهم، واستكشاف السيناريوهات المحتملة للمرحلة المقبلة.
التأثير الأولي لخبر سقوط النظام في اللاجئين السوريين
في صباح 8 ديسمبر 2024، شهدت كبرى المدن الألمانية احتفالات، شارك فيها الآلاف من اللاجئين السوريين؛ تعبيرًا عن فرحتهم بسقوط النظام السوري، معلنين بذلك انتهاء حقبة امتدت عقودًا من القمع والدمار. تجمَّع المحتفلون في ساحات برلين وهامبورغ وفرانكفورت ومدنٍ ألمانية أخرى، حاملين الأعلام السورية، التي تمثل المعارضة للنظام السابق. وعبّر الكثير من المشاركين عن مشاعر مختلطة تجمع بين الفرح لسقوط النظام، والخوف من المستقبل المجهول الذي ينتظر سوريا.
في خضم هذه الاحتفالات، كانت قضية المعتقلين السوريين، الذين بدأوا بالخروج تباعًا من السجون السورية، محور اهتمام كبير بين المحتفلين. ومع سقوط نظام الأسد، أُطلق سراح آلاف عدة من المعتقلين، أمضى بعضهم سنوات طويلة خلف القضبان دون محاكمات عادلة. وأفاد العديد من المعتقلين المفرج عنهم بأن ظروف الاحتجاز كانت قاسية وغير إنسانية، حيث تعرضوا للتعذيب والإهمال الصحي بشكل ممنهج. أيضًا، ظهرت صور وفيديوهات توثق خروج أطفال وقُصَّر من السجون؛ ما يشير إلى احتمال أن بعضهم وُلد داخل تلك السجون.
خلال الاحتفالات في المدن الألمانية، رفع المشاركون شعارات تطالب بالكشف عن مصير جميع المفقودين والمعتقلين، مؤكدين أن الفرحة بسقوط النظام تتخللها مشاعر القلق حول مصير أحبائهم وأصدقائهم الذين لايزالون مجهولي المصير في المعتقلات.
تُعد قضية المعتقلين السوريين أحد أبرز أوجه تأثير سقوط النظام في اللاجئين السوريين؛ إذ لاتزال سوريا تواجه مأساة وجود أكثر من 150 ألف مختفٍ قسريًا منذ اندلاع الحرب. وعلى الرغم من سقوط النظام، عبّر اللاجئون السوريون في ألمانيا عن صدمتهم من العدد القليل نسبيًا للمعتقلين، الذين أُفرج عنهم، مقارنة بالعدد الإجمالي للمختفين قسريًا، وهو ما ظهر بوضوح في كلماتهم وشعاراتهم خلال الاحتفالات.
العوامل التي ستلعب دورًا في عودة اللاجئين السوريين إلى سوريا
بعد استعراض التأثيرات الأولية لسقوط النظام في اللاجئين السوريين، تبرز أهمية تحليل العوامل التي ستحدد قرار عودة هؤلاء اللاجئين إلى وطنهم. تُقدّر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن يعود نحو مليون شخص إلى سوريا خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2025[1].
بالطبع، لن يكون جميع هؤلاء من ألمانيا. ورغم غياب إحصاءات دقيقة حول أعداد اللاجئين العائدين من ألمانيا، أو الراغبين في العودة، فإن الضغط الكبير على الرحلات الجوية من مطارات فرانكفورت وبرلين وشتوتغارت إلى مطارَي عمّان وبيروت يعكس توجهًا متزايدًا نحو العودة. أدى هذا الضغط إلى ارتفاع أسعار التذاكر إلى عمّان وبيروت بأكثر من 100%.
ورغم هذا الزخم، يظل تحليل قرار العودة معقدًا، ويتطلب النظر في عوامل الجذب، التي تشجع اللاجئين على العودة إلى سوريا، مثل استقرار الوضع الأمني، وتحسن الظروف الاقتصادية، إلى جانب الدعم الدولي لإعادة الإعمار. في المقابل، هناك عوامل دفع تجعل اللاجئين يفضلون البقاء في دول اللجوء، مثل الشعور بالأمان، والاستقرار المعيشي، والتعليم لأطفالهم. ومع غياب بيانات دقيقة، يمكن القول إن قرار العودة يعتمد على موازنة دقيقة بين هذه العوامل المتناقضة، التي ستشكل مستقبل هؤلاء اللاجئين في ظل الظروف المتغيرة.
عوامل تشجع اللاجئين السويين على العودة
أولًا، إن انتهاء التهديد المباشر للاجئين، بعد سقوط النظام، الذي كان متمثلًا في الاضطهاد السياسي، أو العمليات العسكرية من الجيش السوري ضد العديد من المدن السورية، يُعد الدافع الأكبر والأكثر وضوحًا، الذي يشجع الكثير من اللاجئين على اتخاذ قرار العودة. بالإضافة إلى ذلك، فإن آلاف اللاجئين من الأصغر عمرًا (أقل من 30 عامًا) كان العائق الوحيد لعودتهم هو الخدمة العسكرية في الجيش السوري. ومع زوال النظام السابق، وإعلان قادة العملية العسكرية في سوريا اعتزامهم إلغاء التجنيد الإجباري[2]، قد يرى بعض اللاجئين السوريين أن هذا عامل جاذب للعودة لوطنهم. في هذا السياق، يعبر بعض اللاجئين عن رغبتهم في إعادة إعمار سوريا، بناءً على شعور بالانتماء والحنين إلى الوطن؛ ما يدفعهم إلى الإسهام في إعمار بلادهم، والمشاركة في بناء مستقبل جديد لأبنائها. كذلك، فإن الارتباط العائلي والمجتمعي، والعودة إلى الأقارب أو الأصدقاء في سوريا قد يكونان عاملًا محفزًا على العودة، خاصة إذا تمكنت العائلات من التجمع مرة أخرى، بعد سنوات من التشتت في بلدان عدة.
ثانيًا، إن الاستقرار السياسي، وبدء عملية إعادة الإعمار في سوريا سيشكلان قوة تشجع اللاجئين السوريين على الثقة بالعودة إلى بلدهم. فإعادة الإعمار مشترطة بالتمويل من المجتمع الدولي، لاسيما الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، للسلطة الجديدة في دمشق. كذلك، تشترط الحكومات الغربية على هيئة تحرير الشام، الفصيل الأكبر الذي يسيطر على دمشق، تقديم تطمينات للأقليات وحول شكل الحكم، قبل أن تعلن دعمها لعملية إعادة الإعمار. حتى الآن، فإن معظم الدول العربية المؤثرة في القضية السورية لاتزال تتحدث عن مبادرات عدة لدعم السلطة الحالية في دمشق؛ للوصول إلى الاستقرار. فضلًا عن ذلك، لاتزال الولايات المتحدة تشترط رفع هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب، قبل أن تسهم في عملية إعادة الإعمار. المملكة المتحدة هي فقط، التي أعلنت دعمًا ماديًا واسع النطاق، سيتم عرضه في التقرير لاحقًا. إذا أطلق المجتمع الدولي مشاريع إعادة إعمار، مثل توفير البنية التحتية الأساسية، وفرص العمل، فإن ذلك سيدفع اللاجئين إلى العودة إلى بلدهم.
عوامل تَثْني اللاجئين عن العودة إلى سوريا
أولًا، قد يثير استمرار النزاعات بين الجماعات المسلحة في سوريا، بشكل أساسي بين “قسد” وهيئة تحرير الشام، قلق اللاجئين؛ حيث يخشون العودة إلى بيئة غير آمنة. كذلك، فإن الأيام الأخيرة شهدت تصعيدًا ملحوظًا في العمليات العسكرية الإسرائيلية على الأراضي السورية، حيث استهدفت غارات جوية مكثفة مواقع في جنوب سوريا ووسطها[3]. تُشير التقارير إلى أن هذه الهجمات استهدفت مواقع عسكرية، يُعتقد أن الميليشيات المدعومة من إيران تستخدمها. قد تشكل هذه العمليات العسكرية عاملًا يَثْني اللاجئين السوريين عن قرار العودة إلى سوريا. يضاف إلى ذلك أن موضوع العدالة الانتقالية، وضمانات الحماية قد يدفع الكثيرين إلى تجنب العودة؛ خوفًا من الانتقام أو الاضطهاد.
ثانيًا، إن تدهور الوضع الاقتصادي في سوريا؛ نتيجة الدمار الواسع الذي لحق بالبنية التحتية في سوريا، كالدمار الجزئي أو الكلي اللاحق بالمنازل والمدارس والمستشفيات ببعض المدن السورية، يجعل الحياة اليومية أمرًا بالغ الصعوبة في ذلك البلد، ويجعل الكثير من اللاجئين يفكرون مليًا قبل العودة. ورغم التحسن الطفيف في سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل الليرة السورية، بعد انهيار نظام الأسد، فإن انهيار الاقتصاد السوري، وغياب فرص العمل يعززان من صعوبة تأمين عيش كريم للعائدين.
ثالثًا، يجب عدم إغفال أهمية ضغط الظروف الاجتماعية في سوريا، والتحديات المتعلقة بالتعايش مع مجتمع ما بعد الحرب، الذي قد يكون منقسمًا على أسس طائفية أو سياسية، تُوجِد بيئة غير مشجعة على العودة. فقد شهدت الأسابيع الأولى، بعد سقوط النظام، نشوء استقطاب فكري بين الإسلاميين والعلمانيين، ظهرت آثاره على شبكات التواصل الاجتماعي، وكذلك بين مجموعات تدعو للعدالة من مرتكبي جرائم الحرب، ومجموعات تدعو للتسامح. إن الدعوات للانتقام والاستقطاب السياسي تعبر عن حالة مجتمعية غير مستقرة تُقلِق الكثير من اللاجئين. بشكل عام، تدفع سيطرة فصائل إسلامية، بقيادة هيئة تحرير الشام على الحكم في سوريا، الكثير من السوريين “المتحررين”، خاصة النساء منهم، لإعادة التفكير في خطوة العودة للبلاد. وقد دفعت التصريحات الأخيرة لبعض قادة هيئة تحرير الشام حول جدوى تقلد النساء بعض المناصب، كالقضاء[4]، بعص اللاجئين السوريين إلى التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي، والتعبير عن خوفهم من المستقبل.
رابعًا، بغض النظر عن الوضع في سوريا، فإن التأقلم مع الحياة الاقتصادية والاجتماعية في ألمانيا بالنسبة لكثير من اللاجئين، خاصة الشباب الذين نشأوا، وتعلموا في بلدان اللجوء، مثل ألمانيا، يُعد عاملًا حاسمًا في قرار العودة إلى سوريا، الذي يعني التخلي عن الاستقرار الذي بنوه في ألمانيا. قد يجد بعض اللاجئين، الذين حصلوا على وظائف جيدة، أو فرص تعليمية في ألمانيا، أن العودة خطوة غير مجدية من الناحية المهنية.
ختامًا، في محور الدوافع التي تلعب دورًا في قرار عودة اللاجئين إلى سوريا، فإن هذا القرار يعتمد على الموازنة بين عوامل تشجع اللاجئين على العودة، وعوامل تَثْنيهم عنها، وتدفعهم إلى البقاء في بلدان اللجوء. وعلى الرغم من سقوط النظام، فإن استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي يَثني الكثير من اللاجئين عن العودة الفورية. من جهة أخرى، فإن تحسن الأوضاع الأمنية، إلى جانب الدعم الدولي الذي سيدفع عجلة إعادة الإعمار، يمكن أن يشكلا حافزًا قويًا لعودة أعداد أكبر من اللاجئين إلى سوريا.
توجهات الحكومة الألمانية بشأن ملف اللاجئين السوريين
مع بداية الأسبوع التالي لسقوط النظام في دمشق، جمَّدت بعض الدول الأوروبية، ومنها ألمانيا، طلبات اللجوء للسوريين[5]، في إشارة واضحة إلى التوجه نحو تغيير سريع وحازم في سياسات اللجوء. وقد تدفق اللاجئون السوريون إلى أوروبا منذ عام 2011. ووسط التطورات الأخيرة، مثل سقوط نظام بشار الأسد، تواجه الحكومات الأوروبية، بما فيها ألمانيا، تحديات معقدة في التعامل مع ملف اللاجئين. وتعتمد القرارات المتعلقة بهذا الملف على عوامل رئيسية عدة، تشمل الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية.
العوامل السياسية والدبلوماسية
تعد التغيرات في الأوضاع الميدانية والسياسية على الأراضي السورية أهم ما سيؤثر في صناع القرار في ألمانيا تجاه ملف اللجوء السوري. وتراقب الحكومات الغربية في أوروبا وأمريكا الوضع في سوريا من كثب. وسيشكل أي تطور نحو الاستقرار السياسي والأمني في البلاد دافعًا مباشرًا لبحث إعادة اللاجئين، أو تعديل السياسات تجاههم[6].
في إشارة أولية، رأى متحدث باسم الاتحاد الأوروبي أن من مصلحته نجاحَ سوريا في المرحلة الانتقالية، لكنه في الوقت نفسه أشار إلى أن تخفيف العقوبات على دمشق يقترن بخطوات ملموسة من قِبل الحكومة الانتقالية، مع الحفاظ على آليات الضغط.
يأتي ذلك فيما قالت وزارة الخارجية الألمانية إن دبلوماسيين من ألمانيا سيجرون أول محادثات مع ممثلين لهيئة تحرير الشام في دمشق، يوم الثلاثاء، مع التركيز على عملية انتقالية في سوريا، وحماية الأقليات.
وذكر متحدث باسم الوزارة، في بيان: “كما يجري استكشاف الإمكانيات لوجود دبلوماسي في دمشق”، مؤكدًا أن برلين تراقب هيئة تحرير الشام من كثب، بالنظر لعودة جذورها لأيديولوجية لتنظيم القاعدة. وحول الهيئة التي قادت الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، بعد سنوات من الحرب، قال المتحدث: “يمكن القول، في ضوء المتاح، إنهم يتصرفون بحكمة حتى الآن”.
يُعد هذا الموقف ملتزمًا بالسياسات الأمريكية تجاه السلطة الانتقالية في دمشق، حيث إن الولايات المتحدة أكدت، على لسان وزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، أن مسؤولين أمريكيين أجْرَوا محادثات مع ممثلين لهيئة تحرير الشام، رغم أن وزارة الخارجية تصنفها منظمةً إرهابية أجنبية.
في الوقت نفسه، كان الموقف البريطاني الأكثرَ انفتاحًا حتى الآن على هيئة تحرير الشام في دمشق، وأظهرت صورٌ كبارَ المسؤولين، بمَن فيهم الممثل الخاص للمملكة المتحدة في سوريا، آن سنو، وهم يلتقون زعيمَ “هيئة تحرير الشام”، الذي عُرف سابقًا بأبومحمد الجولاني، قبل أن يبدأ باستخدام اسمه الأصلي، أحمد الشرع، في دمشق، الأسبوع الماضي. جاء الاجتماع بعد تأكيد من وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، أنه تم إرسال وفد لإجراء محادثات مع السلطات السورية المؤقتة، ومجموعات المجتمع المدني، بعد سقوط نظام الأسد في وقت سابق من الشهر الجاري. في 15 ديسمبر، خصصت الخارجية البريطانية مبلغًا قدره 50 مليون جنيه إسترليني دعمًا لسوريا، وهذا قبل أن يُلغَى تصنيف هيئة تحرير الشام في دمشق من قوائم الإرهاب. يُعد هذا الموقف الأكثر انفتاحًا على السلطة الانتقالية في دمشق حتى الآن.
وفيما يبدو أن تصنيف الولايات المتحدة لهيئة تحرير الشام على قوائم الإرهاب هو العائق الأكبر أمام الانفتاح الألماني، أو الأوروبي بشكل عام، تجاه السلطة الانتقالية في دمشق، فإن التوجه البريطاني يوحي بأن الانفتاح تجاه دمشق قد بدأ بالفعل. قد لا تنتظر برلين حتى ترفع واشنطن تصنيف هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب، وقد تتبع الخطى البريطانية في اتخاذ فتح قنوات التواصل مع دمشق، خاصة إذا أخذ القارئ في الحسبان الخلافات الألمانية – الأمريكية، التي قد تطفو على السطح مع تسلم إدارة ترامب مهامها مطلع العام المقبل.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الضمانات التركية ستلعب دورًا إيجابيًا في إيجاد الثقة، في الدوائر الألمانية، بالاستثمار سياسيًا في ملف عودة اللاجئين إلى سوريا. تاريخيًا، تؤثر المفاوضات مع تركيا، التي تحتضن ملايين اللاجئين، بشكل كبير في القرارات الأوروبية؛ فقد أسهمت الاتفاقيات الثنائية بشأن اللاجئين، مثل اتفاقية 2016 بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، في تشكيل سياسات الهجرة في أوروبا في العقد الماضي.
إن عودة العلاقات الدبلوماسية بين دمشق وبرلين تتيح لألمانيا رفع أجزاء كبيرة من الدعم الاقتصادي، الذي تخصصه للاجئين، لتقدم جزءًا منه للسلطات في سوريا؛ لتمهيد الوضع لإعادة أعداد من اللاجئين. كذلك، فإن عودة العلاقات السياسية مع سوريا تتيح لبرلين أمرين قانونيين؛ أولهما إعادة النظر في إعطاء القادمين الجدد من سوريا إقامات لجوء وحماية ثانوية، وهو أمر بدأ بالفعل. أما الأمر الآخر، فهو ملف ترحيل اللاجئين السوريين من الذين ارتكبوا جرائم في ألمانيا، حيث لم يكن ممكنًا إعادتهم إلى سوريا؛ بسبب الوضع الأمني، وهو أحد شروط قوانين اللجوء الألمانية.
العوامل الداخلية في ألمانيا
أولًا، يُعد الدعم المالي، الذي تقدمه الحكومات الأوروبية الغربية لاستضافة اللاجئين، ضغطًا على الميزانيات الوطنية. يسري هذا الأمر بالتحديد في ألمانيا، التي تعاني اقتصاديًا تبعات الحرب الروسية الأوكرانية. لذلك، فإن أي تحسن في الأوضاع السورية سيدفع الحكومة الألمانية إلى تشجيع العودة الطوعية؛ لتخفيف العبء الاقتصادي الناتج من برامج دعم إدماج اللاجئين. يُعد اليمينيون في ألمانيا (كحزب البديل من أجل ألمانيا) أن هذا صرفٌ غير حكيم للميزانية الألمانية، فيما يرى اليساريون (كالحزب اليساري وحزب الخضر) أن هذ واجب إنساني وضرورة اقتصادية لألمانيا. وتركز أحزاب الوسط (المسيحي الديمقراطي والاشتراكي الديمقراطي) تاريخيًا على النقاش البراغماتي، وكيف يخدم استقدام اللاجئين ألمانيا على المدى الطويل، اقتصاديًا وسكانيًا، حيث قدمت تلك الأحزاب البراهين التي تبرز حاجة ألمانيا إلى عمال مَهَرة، ومهاجرين من أعمار شابة بشكل عام؛ بسبب أن المجتمع الألماني مجتمع هَرِم أولًا (أعداد الألمان فوق الـ50 أكثر من أعداد الألمان تحت الـ50) ومجتمع يتناقص تدريجيًا (أعداد المواليد في انحدار).
ثانيًا، ترى أحزاب اليمين خطرًا أمنيًا في استقدام لاجئين من دول النزاعات، كما فعلت حكومة ميركل عام 2015 – 2016، فيما تتهم أحزاب اليسار في ألمانيا اليمينيين بالعنصرية. وهنالك مخاوف أمنية شعبية متعلقة بوجود اللاجئين، ستدفع الحكومة الألمانية، غالبًا، إلى تبني سياسات مشددة، مثل فرض قيود على دخول اللاجئين الجدد، أو تسريع إعادتهم إلى أوطانهم.
في الآونة الأخيرة، وتقريبًا منذ عام 2021، أصبحت أحزاب الوسط أكثر ميلًا لليمين في كلا النقاشين (الاقتصادي والأمني) في محاولة لدرء الخسارة الفادحة في الأصوات، التي حصل عليها حزب “البديل لأجل ألمانيا” اليميني.
على المستوى الوطني، شهد حزب “البديل من أجل ألمانيا” (تأسس عام 2013) زيادة ملحوظة في شعبيته في الانتخابات الفيدرالية لعام 2021؛ حيث حصل على نحو 10.3% من الأصوات في الانتخابات الماضية عام 2019. وفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة، ارتفعت نسبة التأييد للحزب إلى ما يتراوح بين 20% و22%، ما يشير إلى تضاعف الدعم الشعبي له خلال السنوات الثلاث الماضية. تعكس هذه الزيادة في التأييد تحولًا في المزاج الشعبي الألماني؛ ما سينعكس على المشهد السياسي الألماني، حيث أصبح “البديل من أجل ألمانيا” لاعبًا رئيسيًا، خاصة في الولايات الشرقية. يُعزَى هذا الصعود إلى عوامل متعددة، تصب جُلها في خانة الاستياء من السياسات الحكومية الحالية، والمخاوف المتعلقة بالهجرة والاقتصاد والأوضاع الأمنية. وقد نجح حزب “البديل من أجل ألمانيا” في استغلال هذه القضايا؛ لتعزيز قاعدته الشعبية.[7] من المهم ملاحظة أن هذه النتائج أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية والإعلامية، حيث يُعد صعود “البديل من أجل ألمانيا” نتيجة للغضب الشعبي، ويراه قادة الأحزاب الأخرى خطرًا على الديمقراطية. لهذا السبب، تتجه العديد من أحزاب الوسط، كالمسيحي الديمقراطي والاشتراكي الديمقراطي، وحتى بعض أحزاب اليسار كحزب الخضر، إلى سياسات أكثر صرامة تجاه ملف اللاجئين؛ لتُوقِف الخسارة الشعبية لأصواتها لمصلحة حزب البديل. يعني هذا أن معظم أحزاب الوسط (ومنها أحزاب الائتلاف الحاكم) لها مصلحة داخلية ألمانية ومصلحة داخلية حزبية لتبني ملف عودة اللاجئين السوريين لبلادهم، والهدف إنقاذ المزيد من الأصوات.
ورغم ذلك، فإن النقاشات الألمانية الإعلامية والرسمية الحزبية التي ترى في اللاجئين فرصة لسد الفجوات في سوق العمل، خاصة مع ارتفاع نسب الشيخوخة في أوروبا، لاتزال حاضرة، رغم تراجعها. وقد تحدث محللون ألمان كُثر عن أزمة قطاع الصحة الألماني، إذا ما قرر اللاجئون السويون من العاملين في قطاع الصحة العودة إلى ألمانيا [8]. نشرت هذه التقارير نوعًا من الخوف في الأوساط الشعبية الألمانية، التي شعرت بأن ترحيبها بعودة اللاجئين سيكون له ثمن. بصفة عامة، فإن الرؤية الشعبية للموضوع (عودةً أو بقاءً) غير واقعية؛ فتحليل الإجابة عن هذا السؤال يكشف عن عمق العوامل التي ستلعب دورًا في هذا القرار. ولكبح جماح القلق الشعبي من ناحية الألمان الخائفين على قطاع الصحة الألماني، ومن ناحية اللاجئين من الذين باتوا يشعرون بخطر الترحيل، نشر المستشار الألماني أولاف شولتس تصريحًا مفاده أن “المندمجين بشكل جيد من اللاجئين يمكنهم البقاء”[9].
تجدر الإشارة هنا إلى أن الائتلاف الحكومي في ألمانيا يعيش أشهره الأخيرة، بعد الخلافات الداخلية التي عصفت به ليلة نجاح ترامب في الانتخابات الأمريكية، وأدت في النهاية إلى الاتفاق على إجراء انتخابات مبكرة في فبراير 2025 القادم. يُعد حزب “البديل من أجل ألمانيا” من المرشحين للفوز بنتائج انتخابية تتيح له المشاركة في تشكيل الائتلاف الحكومي، وهو أمر إذا ما حصل، فسيدفع الحزب نحو تطبيق برنامجه الداعم للتقليل من أعداد اللاجئين، الذين يُقبل لجوؤهم، والسماح بترحيل اللاجئين من مرتكبي الجرائم، وتخفيض الدعم للاجئين في ألمانيا، وزيادة الدعم لبرامج إعادة اللاجئين لبلادهم. الحزب الآخر الذي يحظى بفرص قوية هو الحزب المسيحي الديمقراطي، بقيادة ميرتس (خليفة ميركل)، الذي سيكون صارمًا في سياسات اللجوء، ولكن ليس من وجهة نظر ألمانية داخلية فقط، بل بتعاون أوروبي أكبر يركز على الرقابة على الحدود الأوروبية الخارجية، وتعديل اتفاقية دبلن نحو توزيع مسؤولية اللجوء على الدول الأعضاء في الاتفاقية[10].
بغض النظر عن التطورات في سوريا، فإن اللاجئين السوريين يتابعون التطورات الداخلية في السياسة الألمانية التي تؤثر في حياتهم بطريقة مباشرة في ألمانيا، وكثيرون منهم ينظرون للمستقبل بعين القلق. أما الآن، وقد سقط النظام في سوريا، فأصبحت هذه النقاشات أكثر حدية ووضوحًا في الإعلام الألماني، ما يعني أنها ستؤثر كذلك في وجهات نظر اللاجئين السوريين حول العودة إلى بلادهم.
السيناريوهات المحتملة
بعد عرض التأثير الأولي لسقوط النظام في دمشق في اللاجئين السوريين في ألمانيا، وتحديد العوامل التي قد تدفع اللاجئين للعودة إلى بلادهم، أو قد تَثْنيهم عن اتخاذ هذا القرار، وعرض العوامل السياسية والاقتصادية والأمنية، التي تلعب دورًا في تشكيل الآراء الحكومية حول ملف اللاجئين، يعرض التقرير الآن السيناريوهات المحتملة لملف اللاجئين في ألمانيا، وهي:
السيناريو الأول: استقرار في سوريا
يتثمل هذا السيناريو في العودة التدريجية إلى سوريا، بعد استقرار الوضع الاقتصادي إلى درجة ما، في حال استقرار كل من الوضع الأمني والسياسي فيها، وبدء مشاريع إعادة الإعمار، فإن أعدادًا واسعة من اللاجئين السوريين غالبا ما سيعودون تدريجيًا إلى وطنهم، خاصة أولئك الذين يواجهون صعوبات في التأقلم في المهجر.
يتحقق هذا السيناريو غالبًا بعد تشكيل حكومة انتقالية شاملة في سوريا في مارس 2025، تتضمن الحريات وتحمي حقوق العائدين. يترافق ذلك مع تحقيق دعم دولي واسع النطاق لإعادة الإعمار في البلاد، بما في ذلك برامج لتمويل عودة اللاجئين، مع تحسن ملموس للوضع الأمني، وضمان عدم وقوع أي انتهاكات أو أعمال انتقامية.
ستكون الآثار المحتملة لهذا السيناريو هي تخفيف العبء على دول اللجوء، خاصة ألمانيا، حيث قد يتم تخصيص موارد جديدة لدعم المجتمعات المحلية في البلاد، وتوفير فرص اقتصادية جديدة لإعادة الإعمار، ستترافق بالطبع مع صعوبات في مواجهة تحديات إعادة الإعمار والاندماج للاجئين داخل سوريا، خاصة في ظل ضعف البنية التحتية.
السيناريو الثاني: تدهور الوضع في سوريا وائتلاف حكومي أقرب لليمين في ألمانيا
في حال عدم استقرار الأوضاع في سوريا، قد يختار معظم اللاجئين السوريين البقاء في ألمانيا، حيث بنوا حياة جديدة، وأصبحوا جزءًا من المجتمع المحلي، لكن هذا سيُواجَه بنجاح محتمل لأحزاب اليمين أو ائتلاف حكومي أقرب لليمين في فبراير 2025 القادم؛ ما يعني سياسات أكثر صرامة تجاه ملف اللجوء، دون الوصول لحل نهائي له.
يتحقق هذا السيناريو غالبًا إذا استمرت الفوضى السياسية والصراعات المسلحة في سوريا، خاصة شرق البلاد وجنوبها، وفي ألمانيا، عبر وصول أحزاب أقرب لليمين للحكم، تدفع نحو سياسات أكثر صرامة تجاه اللاجئين، دون الوصول إلى حل للملف؛ ما يعني أنها قد تؤثر في اندماج اللاجئين في ألمانيا، دون القدرة على ترحيلهم، ما قد يُوجِد مشكلات مجتمعية داخل البلاد. يترافق ذلك مع تشديد السياسات الأمنية تجاه استقبال لاجئين جدد دون فرض العودة الإجبارية؛ بسبب غياب التعاون الدبلوماسي بين دمشق وبرلين.
ستكون الآثار المحتملة قاسية مجتمعيًا واقتصاديًا على ألمانيا، وتتضمن استمرار الضغط على الموارد والخدمات الاجتماعية، وارتفاع التوتر بين المجموعات العرقية، مع إمكانية حدوث توترات اجتماعية وسياسية أكثر حدة، تزيد من نسب التطرف بين اللاجئين، إذا استمر الخطاب المعادي لهم في ألمانيا.
السيناريو الثالث والأخير: تدهور الوضع في سوريا وسياسات ضغط نحو العودة والترحيل في ألمانيا
في حال عدم استقرار الوضع في سوريا، وعدم قدرة الحكومة الألمانية على ترحيل اللاجئين؛ بسبب غياب العلاقات الدبلوماسية مع دمشق، وفي ظل الضغوط السياسية والاقتصادية في ألمانيا، قد تتبنى الحكومة سياسات لتشجيع العودة، سواء عبر تقديم حوافز مالية، أو إقامة شبكة تعاون مع دول الجوار لسوريا لتسهيل ترحيل اللاجئين نحوها؛ بهدف تخفيف العبء عن الاقتصاد الألماني.
يتحقق هذا السيناريو في حال استمرار الفوضى والعنف في سوريا، مع تزايد الضغط السياسي من الأحزاب اليمينية المطالبة بتخفيف أعباء اللجوء.
وفيما ستُخفَّف الأعباء الاقتصادية في ألمانيا، فستكون الآثار المحتملة قاسية من ناحية الانتقادات الحقوقية الواسعة لتسريع العودة دون ضمانات كافية لأمان اللاجئين وكرامتهم. وفيما ستعجز الدولة عن ترحيل أعداد كبيرة من اللاجئين، فإنها ستسهم في زيادة التوتر بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة.
وفيما يُعد السيناريو الأول الأقربَ للواقع في الوقت الحالي، فإن تحقيقه يعتمد بشكل كبير على مدى تعاون هيئة تحرير الشام في دمشق مع الحكومات الأوروبية للتوصل إلى اتفاقيات ثنائية تُسهِم في تسهيل عودة اللاجئين إلى سوريا. ومع ذلك، إذا فشل هذا التعاون، أو تصاعدت الأوضاع الأمنية في سوريا، فإن اللاجئين السوريين قد يواجهون سيناريوهات أكثر قتامة في أوروبا، لاسيما مع تصاعد التأييد للأحزاب اليمينية في ألمانيا، خاصة مع اقتراب الانتخابات.
حتى اللحظة، يبدو أن حدة الصراع المسلح في سوريا قد انخفضت، رغم استمرار وجود جيوب من التوتر والقضايا العالقة، خاصة في غرب البلاد. في الوقت نفسه، يشهد التعاون الأوروبي-الأمريكي مع السلطة الجديدة في دمشق تقدمًا حذِرًا على أساس خطة ثابتة، دون تحقيق نتائج حاسمة حتى الآن، مثل رفع العقوبات عن هيئة تحرير الشام، أو إلغاء عقوبات قانون “قيصر” المفروضة على سوريا.
في ظل هذه الظروف، يبقى السيناريو الأول هو الأكثرَ ترجيحًا للحدوث، مع الأخذ في الحسبان احتمالية فشله، إذا تدهورت الأوضاع الأمنية في البلاد، أو لم يُحرَز تقدم ملموس في التعاون بين الأطراف المعنية.
الخاتمة
يعتمد مستقبل اللاجئين السوريين في ألمانيا، بعد سقوط الأسد، على عوامل متداخلة عدة، منها الوضع الداخلي في سوريا، والسياسات التي تتبناها الحكومة الألمانية تجاه ملف اللاجئين. وفي ظل النقاشات المستمرة حول أفضل الحلول، يبدو أن سيناريو العودة التدريجية للاجئين هو الأكثر ترجيحًا، خاصة إذا توافرت ظروف داعمة، مثل استقرار الأوضاع الأمنية والاقتصادية في سوريا. يتطلب هذا السيناريو تضافر الجهود الدولية لدعم إعادة الإعمار، وتوفير ضمانات قانونية وأمنية للعائدين. من جانب آخر، يتأثر هذا السيناريو بموقف الحكومة الألمانية، والأوروبيين بشكل عام، حيث يلعب التوازن بين حماية حقوق اللاجئين، وتخفيف الضغط على الدول المضيفة دورًا حاسمًا. ومع ذلك، فإن أي تصعيد جديد في سوريا قد يهدد تحقيق هذا السيناريو، ويدفع باتجاه سيناريوهات أكثر تعقيدًا.
[1] سويس إنفو، 20 ديسمبر، 2024:
[2] العربية نت، 17 ديسمبر، 2024:
[3] الجزيرة، 17 ديسمبر 2024:
[4] المشهد، كريمة محمد، 18 ديسمبر 2024:
[5] سي إن إن عربي، 09 ديسمبر 2024:
[6] العربية نت، 17 ديسمبر 2024:
[7] دويتشه فيله، زابينه كينكارتكس، 23 يونيو 2024:
[8] فيلت، إيما زوستمان، 16 ديسمبر 2024:
[9] تاغسشاو، 14 ديسمبر 2024:
https://www.tagesschau.de/inland/innenpolitik/fluechtlinge-syrien-deutschland-100.html
[10] دويتشه فيله، 31 أغسطس، 2024: