Insight Image

المحاربون السجناء في الأزمة الروسية-الأوكرانية

09 أكتوبر 2024

المحاربون السجناء في الأزمة الروسية-الأوكرانية

09 أكتوبر 2024

المحاربون السجناء في الأزمة الروسية-الأوكرانية

في ظل إدانة غربية لروسيا بشأن تجنيد مدانين جنائيًّا ضمن صفوف القوات المقاتلة على جبهات القتال مع أوكرانيا، أقرّت الأخيرة، في شهر مايو الماضي، مشروع قانون يسمح بإطلاق سراح المجرمين المدانين، وحتى العنيفين، حال موافقتهم على القتال في ألوية هجومية شديدة الخطورة دون تحديد مدى زمني وإلى حين انتهاء الأعمال العسكرية، وهو ما فسره مراقبون برغبة الدولتين في تدعيم العجز المتزايد في المقاتلين من ناحية، ورغبة في الانتقام أو السعي وراء الخلاص الشخصي والحرية من جانب السجناء المقاتلين من ناحية أخرى.

وتأتي هذه الدراسة للوقوف على نشأة فكرة السجناء المقاتلين وتطورها التاريخي وأسبابها القديمة، والتجارب المعاصرة لتطبيق الفكرة، وأسبابها الراهنة، ومدى تمايز تلك الأسباب عن التطبيق التاريخي للفكرة إن وُجد، وأخيرًا الوضع القانوني الدولي لتنفيذ هذه الفكرة، وردود الأفعال العالمية بشأن تطبيقها في الأزمة الروسية-الأوكرانية.

التطور التاريخي لظاهرة تجنيد المدنيين المدانين:

تعرف الجيوش المعاصرة ما يُسمى الوحدات العسكرية الجزائية أو العقابية “Penal military unit”؛ في إشارة منها للوحدات العسكرية المقاتلة التي تتكون من فئتين هما المُدانتان مدنيًّا و المُدانتان عسكريًّا، فهي تشكيلات عسكرية مقاتلة في الخدمة العسكرية الرسمية بموجب القانون العسكري من سجناء عسكريين مدانين بموجبه، أو سجناء مدنيين مدانين في محاكم مدنية، أو أسرى حرب اختاروا الوقوف إلى جانب آسريهم، أو مزيج من هذه المجموعات.

وعادة ما تكون الخدمة في هذه الوحدات نوعًا من العمل الجزائي أو التأديب أو العقوبة، وقد تكون في إطار عقود قانونية كما هو في الحالة الروسية والأوكرانية، وذلك بدلًا من السجن، أو عقوبة الإعدام، أو استكمالًا للمدة، أو تخفيضًا لها بالعمل ضمن هذه الوحدات[1].

وتثور الإشكالية في مثل هذه الوحدات في نقطتين أساسيتين مرتبطتين ببعضهما بعضًا، وتترتب الثانية فيهما على الأولى؛ وهما النظر لمثل هذه الوحدات والتعامل معها باعتبارها تاريخيًّا “وقودًا للمدافع” أي يمكن التخلص منها ومعاملتها بشكل سيئ أو بقليل من الاهتمام هذا من ناحية، وتوظيفها في المهام الخطرة، أو غير الإنسانية، أو الحرجة، أو العمل الشاق المتعلق بالمجهود الحربي على أحسن تقدير من ناحية أخرى، ويكون عمل هذه الوحدات تحت حراسة وتدقيق من الشرطة العسكرية أكثر من غيرها من القوات لضمان عدم محاولتهم الهرب أو التمرد، أو عدم القيام بما هو مُوكل إليها من مهام والتراجع عنها. وتتنوع نظم المكافآت والحوافز المقدمة لأعضاء هذه الوحدات ترغيبًا لهم في القتال، كمحو السجل الجزائي، أو الإلغاء، أو إيقاف التنفيذ، أو العفو، خاصة عندما يتم توظيفها في المهام الحرجة، أو عالية المخاطر، أو الانتحارية[2].

وتاريخيًّا؛ تأسست أولى الوحدات العسكرية الجزائية المعروفة في التاريخ إبّان الجيش الإمبراطوري في الصين القديمة، واعتمدتها العديد من الجيوش لاحقًا في الحروب اليونانية القديمة، والحروب النابوليونية، والحروب الاستعمارية في أفريقيا، وحتى الحربَين العالميتَين الأولى والثانية، وحتى الوقت الراهن، فكانت هناك ما تُعرف باسم “كتائب المشاة الخفيفة الأفريقية” الفرنسية في شمال أفريقيا إبان الاستعمار الفرنسي لأفريقيا ” Bataillons d’Infanterie Legère d’Afrique أو BILA”، والتي عُرفت اختصارًا بكتائب “بات داف” ” Bat’ d’Af’ حيث تكونت من مدنيين لهم سجلات جنائية أو عسكرين لهم سجلات تأديبية خطيرة. وقد أنشأ الملك لويس فيليب الأول، في 13 يونيو 1832، تلك الكتائب لتتمركز في شمال أفريقيا، وذلك بموجب أمر ملكي منه، وقد تم حل تلك الكتائب في عام 1940، على أن تتكون من الجنود العاملين الذين حُكم عليهم بالانضمام إلى سرايا تأديبية قائمة، والذين لم يكملوا فترة خدمتهم العسكرية عند إطلاق سراحهم؛ بجانب المدنيين المُدانين الذين كان عليهم بعد إكمال مدة سجنهم الوفاء بالتزاماتهم بالخدمة العسكرية الإلزامية[3].

ففي الحرب العالمية الأولى عرضت المحاكم البريطانية التجنيد العسكري على المُدانين كخيار مقابل الإفراج المبكر، وعلى الرغم من انتقاد الولايات المتحدة لذلك علنًا، فإنها اعتمدته في بعض المساحات. كما أقرّه الألمان في الحرب العالمية الثانية في مايو 1935 بموجب قانون التجنيد الجديد الذي نصّ على إرسال الجنود “المُخلّين” بالنظام العسكري ولكنهم “يستحقون الخدمة العسكرية” إلى الوحدات الجزائية، وذلك بجانب تجنيد المجرمين في تلك الوحدات مقابل تخفيف العقوبة أو إيقاف التنفيذ، وقد أُشير لهذه الوحدات في بعض الخبرات العسكرية المقارنة باسم “الأقسام الخاصة”، وقد اتسع الاعتماد على تلك الوحدات في الجيش الألماني مع اقتراب الحرب من نهايتها[4]، وقامت تلك الوحدات بأعمال قاسية وعالية الخطورة على خطوط المواجهة، وذلك بتدريبهم المسبق على “استعادة شرفهم المفقود بالقتال”، واكتسبت بعض هذه الوحدات سمعة وحشية أثناء القتال، ومع دخول الاتحاد السوفيتي حينها القتال في الحرب العالمية الثانية، بدأ هو الآخر في اعتماد هذه الوحدات، وقد اعتمدت في بداية الأمر، في الأساس، على الجنود المخالفين الذين تراجعوا دون أوامر أثناء الغزو الألماني، وكذلك شهدت خبرة الحرب الأهلية الصينية بين عامي 1945 و1949 مثل تلك الكتائب في الجيش الثوري الوطني، وتم تكليفها بالمهام الخطيرة والاستطلاعية وعبور الأنهار، وعبور حقول الألغام غير المرسومة على الخرائط، أو المُستكشفة[5].

وعلى الرغم من ندرتها النسبية في الجيوش المعاصرة، في ضوء التوسع في الاعتماد على المتطوعين والوحدات النظامية العسكرية المستدامة، فإنها ما زالت معتمَدة لأسباب عدة؛ منها التخلص من عبء السجناء وتكلفة نظام السجون خاصة في وقت الحرب، أو التخفيف عن كاهل القوات المقاتلة وسد العجز في المجندين، أو القيام بالأعمال الوحشية لإرهاب العدو، وكانت الحجة الفلسفية لتشكيل هذه القوات هو القضاء على التناقض الظاهري المتمثل في أن الأفراد الذين أدّت جرائمهم في الحياة المدنية إلى فقدان الحقوق المدنية قد حصلوا على امتياز غير مستحق بإعفائهم من الخدمة العسكرية، في مقابل أن الأفراد الآخرين مضطرين للخدمة العسكرية الإلزامية؛ وعليه، فإن تجنيدهم في وحدات نظامية عقابية مستقلة سيحقق نوعًا من المساواة، خاصة أن تجنيدهم في الوحدات النظامية الاعتيادية قد ينشر عدم الانضباط بين الجنود العاملين غير المُدانين عسكريًّا أو مدنيًّا[6].

إما فيما يتصل بالممارسة الأمريكية المعاصرة، فتاريخيًّا؛ تم تجنيد وحدات عقابية إبّان الحرب الأهلية الأمريكية، كالسماح بأسرى الحرب الكونفدراليين الذين أقسموا الولاء للاتحاد بالانخراط في صفوف وحدات عقابية، لتستمر بعد ذلك تلك الممارسات في الحربَين العالميتَين الأولى، والثانية، والحرب الكورية، والفيتنامية.

وحاليًّا، تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية أسلوب التجنيد العسكري للسجناء المدنيين، حيث إن لديها آلية قانونية لهذا الأسلوب من التجنيد العسكري باسم “برنامج التنازل عن السلوك الأخلاقي للخدمة أو برنامج “الإعفاء الأخلاقي للخدمة”، “the service’s moral conduct waiver program”، حيث إن من ضمن مستلزمات الالتحاق بالخدمة العسكرية في جيش الولايات المتحدة أن يكون لديك “إعفاء أخلاقي” أو “شهادة حسن سلوك”، وهو ما لا يتوافر لكل من تم إدانته من قِبل المحكمة بارتكاب جريمة، أو مخالفة، وإن لم يتم إيداعه في السجن، أو انتهى به الأمر بدفع كفالة مالية[7]، إذ إن مستلزم “الإعفاء الأخلاقي” يعدّ ضروريًّا، وإن حصلت على عفو قضائي عن خطئك المرتكب؛ وعليه، تأتي أهمية البرنامج المذكور كأسلوب لمساعدة الأفراد على التغلب على تاريخ سابق من سوء السلوك أو الجرائم، أو الجنايات، ومن ثم القدرة على التسجيل في الجيش[8].

فقانونيًّا؛ يحتاج المواطن الأمريكي إلى “إعفاء أخلاقي” في الحالات الآتية:

  • انتهاك واحد كبير لسوء السلوك “Misconduct”[9].
  • انتهاكان لسوء السلوك[10].
  • مزيج من سوء السلوك كأن يكون سوء سلوك واحد وأربعة مخالفات غير مرورية، أو خمسة أو أكثر من المخالفات غير المرورية[11].

وتميز القوانين الأمريكية والبرنامج المذكور بين تصنيف “سوء السلوك” الجسيم وغير الجسيم، ومن ثم فعادة لا تتم الموافقة على كل شخص لديه تاريخ إجرامي للخدمة العسكرية في الولايات المتحدة بموجب برنامج التنازل[12]، أما إذا كان لديه سوء سلوك سابق ناتج عن مخالفات بسيطة، أو عدد غير كبير من الانتهاكات السابقة في سجلّه، فلديه فرص أكبر للاستفادة من البرنامج المذكور، وتتطلب إجراءات الاستفادة من هذا البرنامج تقديم طلب التنازل الأخلاقي، ووصف الانتهاك بالتفصيل وسبب حدوثه، وتضمين خطابات توصية من قادة المجتمع المحلي الموثوق بهم، يعقبها المراجعة واستصدار القرار من الجهة المعنية[13].

الوضع القانوني الدولي لتجنيد المدانين:

على الرغم من عدم وجود نصّ قانوني دولي يجرّم صراحة تجنيد المدانين جنائيًّا للقتال في العمليات العسكرية كنوع من أنواع الإفراج المشروط لهم[14]، إذ إنه بمراجعة المواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق السجناء، بدا أن قواعد القانون الدولي لم تتصدَّ لتنظيم هذه المسألة إلا متأخرًا، إذ خلا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948م تحديدًا إلى السجناء صراحة[15]، وإن شملتهم نصوص حظر تعذيب الإنسان والحق في محاكمة عادلة، وافتراض البراءة ضمنًا في المواد 3، 5، 9، 10، 11[16]، التي تتناول، على التوالي، حق الفرد في الحياة والحرية والأمان على شخصه؛ وحظر التعذيب والمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية. أو الحاطة بالكرامة؛ وحظر الاعتقال التعسفي؛ والحق في محاكمة عادلة، والحق في اعتبار الشخص بريئًا إلى أن يثبت اتهامه؛ وحظر التدابير الجزائية بأثر رجعي. وعلى الرغم من أن هذه المواد هي الأكثر اتصالًا بحقوق السجناء، أو المجرمين، فإن الإعلان المذكور خلا صراحة من استخدام مصطلح “السجناء” أو “المجرمين” في الإشارة إلى هذه الفئة من البشر[17].

وكان أول تنظيم قانوني دولي لمعاملة السجناء بعد سبع سنوات من هذا التاريخ، مع انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة الأول المعنيّ بمنع الجريمة ومعاملة المجرمين في عام 1955 في جنيف، وانتهى للتوصية باعتماد “القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء”، والتي أقرّها المجلس الاقتصادي والاجتماعي بقرارَيه 663 جيم (د-24) المؤرخ في 31 يوليو 1957، و2076 (د-62) المؤرخ في 13 مايو 1977، ولم تنصّ هذه القواعد على حظر التجنيد العسكري للمدانين كنوع من أنواع الإفراج المشروط، وإنما نصّت القواعد من 71 إلى 76 عن ضوابط العمل للسجناء المدانين من حيث الأجور المنصفة والعدد الأقصى لساعات العمل، وبيئة العمل الآمنة، واحتياطات حماية السجناء أثناء العمل، شريطة ألا يكون العمل “ذات طبيعة مؤلمة”، ومع ذلك لم تنصّ تلك القواعد على جواز التجنيد العسكري للمجرمين المدنيين إعمالًا لإفراج مشروط[18]، وتوالت المواثيق الدولية المعنية بتنظيم السجون والسجناء، كالمادة العاشرة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية فقرة 3، والتي تنصّ على أنه “يجب أن يراعي نظام السجون معاملة السجناء معاملة يكون هدفها الأساسي إصلاحهم وإعادة تأهيلهم الاجتماعي[19]، كما نصّت المادة 8 على عدم جواز “إكراه أحد على السخرة أو العمل الإلزامي”؛ ولكن البند الأهم في هذه المادة فقرة “جـ” والتي نصّت صراحة على أنه لا يشمل تعبير “السخرة أو العمل الإلزامي” كلًّا من:

  • الأعمال والخدمات غير المقصودة بالفقرة الفرعية “ب”، التي تُفرَض عادة على الشخص المعتقل نتيجة قرار قضائي أو قانوني، أو الذي صدر بحقه مثل هذا القرار ثم أُفرج عنه بصورة مشروطة.
  • أي خدمة ذات طابع عسكري، وكذلك، في البلدان التي تعترف بحق الاستنكاف الضميري عن الخدمة العسكرية، وأي خدمة قومية يفرضها القانون على المستنكفين ضميريًّا[20].
  • أي خدمة تفرَض في حالات الطوارئ أو النكبات التي تهدد حياة الجماعة أو رفاهها.
  • أي أعمال أو خدمات تشكل جزءًا من الالتزامات المدنية العادية”.

وهو ما يعدّ مسوغًا قانونيًّا دوليًّا للتجنيد العسكري للمدانين جنائيًّا[21].

وأعقب ذلك اعتماد الأمم المتحدة وثيقة ما يُعرف بـ”قواعد نيلسون مانديلا” في عام 2015، وهي “قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء” والمشار لها اختصارًا بـ”قواعد نيلسون مانديلا” بموجب قرار الجمعية العامة رقم 70/175، الذي اعتُمد في 17 ديسمبر 2015[22]، وقد نصّت هذه الوثيقة في القاعدة رقم 96 منها على أنه “يجب إتاحة الفرصة للسجناء المحكوم عليهم للعمل و/ أو المشاركة بنشاط في إعادة تأهيلهم، على أن يقرّر طبيب أو غيره من اختصاصيّي الرعاية الصحية المؤهلين لياقتهم البدنية والعقلية[23]، وأن يُوفر للسجناء عملًا منتجًا يكفي لتشغيلهم طوال يوم العمل العادي”، في حين نصّت القاعدة 97 على أنه “لا يجوز أن يكون العمل في السجن ذا طبيعة مؤلمة، ولا يجوز استرقاق السجناء أو استعبادهم”[24]؛ وعليه، لم تتضمن أيضًا هذه القواعد أي إشارة لمبدأ الإفراج المشروط بالخدمة العسكرية على جبهات القتال[25].

ولعل من الواجب استكمالًا لتتبع نصوص قواعد القانون الدولي المنظمة لهذه الظاهرة، أن تستعرض الدراسة الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم، وذلك للوقوف على التمايز بين تجنيد “المرتزق” وفقًا لها، وإمكانية تجنيد “السجين” عسكريًّا وفقًا للفقرة “جـ” المادة 8 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية[26]؛ إذ تُشير اتفاقية مناهضة تجنيد المرتزقة إلى تعريف “المرتزق” بأنه “أي شخص يُجنَّد خصيصًا، محليًّا أو في الخارج، للقتال في نزاع مسلح، ولا يكون من رعايا أطراف النزاع، بهدف تحقيق مغنم شخصي، ومن ثم يخرج تجنيد المدانين جنائيًّا من رعايا أطراف النزاع من التوصيف القانوني لـ”المرتزق” وفقًا للقانون الدولي، بيْد أن عملية تجنيد المدانين جنائيًّا من غير رعايا أطراف النزاع عُدّ “مرتزقًا”، ومن ثم يجيز القانون الدولي تجنيد المدانين جنائيًّا لأداء الخدمة العسكرية وفقًا للإفراج المشروط[27].

تجنيد المُدانين في الأزمة الروسية-الأوكرانية.. من الإدانة إلى الاعتماد:

ظهر “يفغيني بريغوجين” في فيديو مسرّب شهير في حينه، تحققت من صحته هيئة الإذاعة البريطانية وتوصلت حينها للموقع الجغرافي للسجن، وهو يدافع عن فكرة إرسال سجناء للقتال في أوكرانيا، إذ ظهر يخاطب مجموعة كبيرة من السجناء فيما يبدو أنه ساحة تريّض في أحد السجون، إذ أشارت “بي بي سي” إلى أن مكان تصوير الفيديو هو السجن المركزي بجمهورية “ماري إل” إحدى جمهوريات الاتحاد الروسي”، قائلًا لهم إن الفترات المحكوم بها عليهم يمكن تخفيفها في مقابل الانضمام للخدمة في صفوف مجموعة “فاغنر”، بقوله في الفيديو: “إذا خدمت ستة أشهر “في صفوف فاغنر”، فأنت حر.. فأحدًا لن يعود وراء أسوار السجن”، محذّرًا السجناء من مغبّة الهروب حال إرسالهم لميدان القتال بقوله: “إذا وصلت إلى أوكرانيا وقرّرت أنك لست معنيًّا بالأمر، فستواجه الإعدام ميدانيًّا”[28]، وقد أملى عليهم في الفيديو قواعده في الميدان، والتي تحظر “تناول الكحول، وتعاطي المخدرات، والاتصال الجنسي بالنساء المحليّات، وبالرجال وبالحيوانات وبالنباتات، وبأي شيء” حسب قوله، وقد بلغت التقديرات الغربية لعدد مقاتلي “فاغنر” السجناء 49 ألف سجين مقاتل حتى أغسطس 2023، مات منهم 20% حسب تلك التقديرات، وذلك على الرغم من أن القوانين في روسيا لا تسمح بتخفيف مُدَد السجن في مقابل انضمام المحكوم عليهم للخدمة في صفوف “شركات خاصة” أو مجموعات “مرتزقة” غير رسمية، أو لا تتبع هيكل القوات المسلحة الروسية[29].

أما فيما يتصل بالوحدات الجزائية الرسمية في الجيش الروسي في الأزمة الأوكرانية، والتي تتبعه مباشرة، ولا تتبع “فاغنر”، فقد حلّت محل الأخيرة في القيام بالمهام الأكثر عنفًا، وقد كان ذلك بعدما حدث من تحجيم روسي لنفوذ “فاغنر” بعد تمردهم، حيث فقدت حينها إمكانية الوصول إلى السجون، وبدأت وزارة الدفاع الروسية في تسجيل آلاف السجناء المحليين بشكل مباشر في قواتها في فبراير 2023، في وحدات خاصة سُميت ” Storm Z”، وكانت معظم عقود هؤلاء السجناء المقاتلين حسب شهادات سجلتها تقارير غربية، هو الحصول على راتب شهري قدره 2000 دولار، والحصول على الحرية بعد انتهاء مدة العقد البالغة ستة أشهر، وقد تواترت شهادات بعضهم لوسائل إعلام غربية عن عدم انتظام دفع الرواتب، والظروف القاسية للقتال[30]، ومنع قادتهم النظاميين من جمع قتلاهم من ساحة المعركة، وتسجيلهم كمفقودين بدلًا من “قتلى بساحة المعركة” لمنع عائلاتهم من المطالبة بتعويضات، وكذا إجبار بعضها على البقاء في الجبهة بعد انتهاء مدة عقودهم، ولطالما استمرت الانتقادات الغربية الرسمية وغير الرسمية بشأن تجنيد السجناء الروس على جبهة القتال في أوكرانيا[31]. بيْد التحول الأهم في هذا الخصوص، ما انتهت له أوكرانيا في مايو 2024، ومع طول أمد المعارك، والنقص المتزايد في صفوف القوات الأوكرانية، خاصة في مواقع خطوط القتال الأمامية، اتجهت هي الأخرى لاعتماد الآلية التي طالما انتقدت روسيا لاتباعها، حيث لجأت الحكومة الأوكرانية لإقرار برنامج جديد يتمثل في عرض اتفاق للإفراج المشروط عن السجناء المدنيين في سجونها يتضمن إعفاءهم من المُدَد المتبقية من العقوبات في حقهم، بصرف النظر عن طولها، وذلك شريطة الموافقة على الخدمة في الجيش الأوكراني دون شروط وحتى نهاية الحرب، وذلك على خلفية إقرار البرلمان قانونًا في هذا الخصوص، يشمل المسجونين في تهم الاتجار بالمخدرات، وجرائم القتل والجرائم الخطيرة، وقد تم تجنيد بعضهم في اللواءين الثالث والخامس الأوكرانيَّين في وحدات عسكرية منفصلة مخصّصة للسجناء فقط، وتحت فرص ضئيلة للغاية للانسحاب حال استهداف روسيا لمواقعهم.

وكانت أوكرانيا قبل هذا التاريخ تمنع قانونًا السجناء المدنيين المدانين بارتكاب جرائم معينة من أداء الخدمة العسكرية، وشملت هذه الجرائم؛ قتل شخصين أو أكثر، والقتل غير العمد، والقيادة تحت تأثير الكحول، والجرائم الجنسية، والفساد، وقد أعلنت وزارة العدل الأوكرانية أنها تلقّت 5464 طلبًا من سجناء مدنيين للانضمام فور إقرار هذا البرنامج، وتوقعت مصادر حكومية أوكرانية أن يصل عدد المنخرطين في هذا البرنامج ما بين 10 إلى 20 ألف سجين[32].

وختامًا؛ تعدّ مسألة تجنيد السجناء المدنيين المُدانين في جرائم، خاصة العنيفة منها، مثار جدل أخلاقي وقانوني واسع – على الرغم من كونه أسلوبًا تاريخيًّا قديمًا في تكوين الجيوش – مستمر حتى تاريخه، خاصة في أوقات الحروب والنزاعات المسلحة، لكن الجيوش النظامية الحديثة تسعى لتقليص الاعتماد على هذه الآلية لاعتبارات الاحترافية، والسمعة العسكرية، بيْد أن الممارسة العملية كشفت بجلاء أنه على الرغم من النقد الرسمي وغير الرسمي لاتباع مثل هذه الآليات في التجنيد العسكري، فإن الدول تعتمدها في حالة اتساع رقعة القتال، واتجاهه للاستنزاف، رغبةً في حسم سريع ذي صبغة وحشية في بعض الأحيان.

[1] Brooke, Erika J., and Jacinta M. Gau. 2015. “Military Service and Lifetime Arrests: Examining the Effects of the Total Military Experience on Arrests in a Sample of Prison Inmates.” Criminal Justice Policy Review 29 (1): 24–44. https://doi.org/10.1177/0887403415619007.

[2] Dressler, David. 1946. “Men on Parole as Soldiers in World War II.” ˜the œSocial Service Review/Social Service Review 20 (4): 537–50. https://doi.org/10.1086/636037.

[3] “The Soldier’s Burden.” n.d. http://www.kaiserscross.com/183501/183564.html.

[4] Johnson-Roehr, S. N. 2023. “How Prisoners Contributed During World War II.” JSTOR Daily, May. https://daily.jstor.org/how-prisoners-contributed-during-wwii/.

[5] Van Schellen, Marieke, Robert Apel, and Paul Nieuwbeerta. 2012. “The Impact of Military Service on Criminal Offending Over the Life Course: Evidence From a Dutch Conviction Cohort.” Journal of Experimental Criminology 8 (2): 135–64. https://doi.org/10.1007/s11292-012-9140-5.

[6] “Histoire De La Légion De 1831 À Nos Jours.” n.d. Google Books. https://shorturl.at/aCLgG

[7] “The Army Parole System.” 1949. PubMed. August 1, 1949. https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/18140422/.

[8] “When Inmates Become US Army Soldiers.” 2010. Corrections1. March 22, 2010. https://shorturl.at/65HsZ

[9] سوء السلوك المتعمد (willful misconduct) هو الفعل أو الامتناع عن الفعل الذي يتم اتخاذه:

  • عمدًا لتحقيق غرض غير مشروع.
  • عن علم دون مبرر قانوني أو واقعي.
  • تجاهل خطر معروف أو واضح كبير جدًا بحيث يجعل من المحتمل جدًا أن يفوق الضرر المنفعة.

[10] “10 U.S. Code § 391 – Reporting on Cyber Incidents With Respect to Networks and Information Systems of Operationally Critical Contractors and Certain Other Contractors.” n.d. LII / Legal Information Institute. https://www.law.cornell.edu/uscode/text/10/391#d_2.

[11] “Definition: Willful Misconduct From 10 USC § 391(D)(2) | LII / Legal Information Institute.” n.d. https://shorturl.at/ola9k

[12] “The United States Army | Army Review Boards Agency.” n.d. https://arba.army.pentagon.mil/clemency-parole.html.

[13] Bruzzo, Law Offices of William W., and Law Offices of William W. Bruzzo. 2024. “What Is a Moral Waiver in the U.S. Military?” Law Offices of William W. Bruzzo. June 22, 2024. https://shorturl.at/4STJg

[14] “Parole of Prisoners of War Under Article 21 of the Third Geneva Convention: The Past, Present, and Future | Prisoners of War in Contemporary Conflict | Oxford Academic.” n.d. https://shorturl.at/kfDKI

[15] Kunz, Josef L. “The United Nations declaration of human rights.” American Journal of International Law 43, no. 2 (1949): 316-323.

[16] Assembly, UN General. “Universal declaration of human rights.” UN General Assembly 302, no. 2 (1948): 14-25.

[17] Lauterpacht, Hersch. “The universal declaration of human rights.” Brit. YB Int’l L. 25 (1948): 354.

[18] “القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء – جامعة مينيسوتا، مكتبة حقوق الإنسان.” n.d. http://hrlibrary.umn.edu/arab/b034.html.

[19] أبو حصوة، باهى شريف محمد بدوي. “حقوق وواجبات السجناء والمعتقلين في المواثيق الدولية والاتفاقيات الدولية المماثلة.” مجلة البحوث القانونية والاقتصادية-المنوفية 55, no. 2 (2022): 241-280.‎

[20] الاستنكاف الضميري من الخدمة العسكرية هو حق الشخص في معارضة الخدمة في القوات المسلحة و/أو حمل السلاح على أساس مبادئ أخلاقية أو دينية، وهو مبدأ قانوني تقره بعض الدول لأفرادها، وقد نظمته الأمم المتحدة بموجب القرار رقم 34/2000 في الدورة السادسة والخمسين للجنة حقوق الإنسان.

[21] كويل، أندرو، ترجمة وليد المبروك صافار، “منهجية حقوق الإنسان في إدارة السجون”، كتيب للعاملين بالسجون، الطبعة الثانية، المركز الدولي لدراسات السجون، 2009، ص 89.

[22] الطاهر قيرود, and بركو مزوز. “قراءة في قواعد نيلسون مانديلا النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء لمعاملة السجناء.” مجلة دراسات في سيكولوجية الانحراف 3, no. 01 (2018): 146-127.‎

[23] McCall-Smith, Kasey. “United Nations standard minimum rules for the treatment of prisoners (Nelson Mandela Rules).” International Legal Materials 55, no. 6 (2016): 1180-1205.

[24] McCall-Smith, Kasey. “United Nations standard minimum rules for the treatment of prisoners (Nelson Mandela Rules).” International Legal Materials 55, no. 6 (2016): 1180-1205.

[25] الأمم المتحدة، حقوق الإنسان والسجون: دليل تدريب موظفي السجون على حقوق الإنسان، سلسلة التدريب المهني، العدد رقم 11، نيويورك وجنيف، 2004، ص 13.

[26] عبابسة, and ياسين. “مركـــزالمقاتلـين غـير النظامــيين في النزاعــات المسلـحة دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون.” PhD diss., Université d’El Oued-Hamma Lakhdar-.‎

[27] عمر حلي, and علي ملحم. “المرتزقة في النزاعات المسلحة غير الدولية.” مجلة جامعة البعث-سلسلة العلوم القانونية 44, no. 5 (2022).‎

[28] Sauer, Pjotr. 2023. “‘We Thieves and Killers Are Now Fighting Russia’s War’: How Moscow Recruits from Its Prisons.” The Guardian, July 19, 2023. https://shorturl.at/tVQnO

[29] BBC News عربي. 2022. “روسيا وأوكرانيا: فيديو مسرب يُظهر مؤسس مجموعة فاغنر للمرتزقة يجنّد سجناء للقتال في أوكرانيا.” September 15, 2022. https://www.bbc.com/arabic/world-62920682.

[30] Nazarova, By Arsenii Sokolov Tim Whewell & Nina. 2023. “Russian Convicts Released to Fight With Wagner Accused of New Crimes.” August 9, 2023. https://www.bbc.com/news/world-europe-66364272.

[31] دبي الحرة / ترجمات -. 2023. “‘لسنا بشرًا بالنسبة لهم.. شهادات توثق حياة السجناء المجندين بالجيش الروسي.” الحرة, August 15, 2023. https://shorturl.at/H6sUF

[32] O’Grady, Siobhán, Serhiy Morgunov, Serhii Korolchuk, and Anastacia Galouchka. 2024. “Short on Troops, Ukraine Is Freeing Criminals to Fight.” Washington Post, June 17, 2024. https://shorturl.at/QLk5v.

المواضيع ذات الصلة