Insight Image

المقاربة الأوروبية الجديدة تجاه الإسلاموية

13 أكتوبر 2020

المقاربة الأوروبية الجديدة تجاه الإسلاموية

13 أكتوبر 2020

في 2 أكتوبر 2020، رسم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استراتيجية حكومته لمواجهة ما وصفه بمصطلح “الانفصالية الإسلامية”؛ وخلال تأطير المشكلة، حذّر ماكرون، قائلاً:

“….. إن هذا المشروع السياسي-الديني الواعي والمدروس الذي تجسَّــدَ في انحرافات متكررة عن قيم الجمهورية، والتي غالباً ما تؤدي إلى تأسيس مجتمع مضاد تبرزُ مظاهره وملامحه في تسرب الأطفال من المدارس، وتطوير أنشطة رياضية وممارسات ثقافية مخصصة لجالية معينة، والتي تُعتبر ذرائع لتعليم مبادئ مختلفة لا تنسجم مع قوانين الجمهورية؛ وهذا المشروع عملية تلقين ومن خلاله يتم رفض مبادئنا، ورفض المساواة بين الرجل والمرأة، والكرامة الإنسانية عموماً. وجوهر المشكلة يكمن في هذه الأيديولوجيا الإسلاموية التي تؤكد على أن قوانينها الخاصة أسمى من قوانين الجمهورية[1].”

ويشير  إعلان هذه الاستراتيجية الذي اجتذب اهتماماً واسعاً في جميع أنحاء العالم،  إلى تطورين مهمين:

  • الأول أن السلطات الأوروبية تشعر بقلق متزايد بشأن التحدي الذي يفرضه التيار الإسلاموي؛ ومع أنه – في الفترات السابقة وحتى الآونة الأخيرة – كان الاهتمام يتركز بشكل شبه كامل على التهديد الذي يشكله التيار الذي يُطلق عليه اسم “الجهادية”، إلا أن التركيز الحالي يتسع بصورة متزايدة ليشمل الحركات الإسلاموية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، أي الحركات غير المتورطة في أنشطة إرهابية على التراب الأوروبي، والتي– رغم ذلك – يُنظر إليها على أنها إشكالية ومصدر قلق.
  • الثاني ويتمثل في التطور الذي تم تسليط الضوء عليه في خطاب ماكرون من حيث الدافع الرئيسي وراء الاهتمام المتجدد لدى الأوروبيين بتيار الإسلاموية؛ ومع أن الهواجس الأمنية لم تكن غائبة كلياً عن ساحة الجدل، إلا أنها أخذت مرتبة متأخرة بالمقارنة مع خطورة التأثيرات السلبية لأنشطة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلاموية الأخرى على التماسك الاجتماعي واندماج الجاليات المسلمة في داخل المجتمعات الأوروبية. ففي جوهر المسألة، لا تنظر معظم الحكومات الأوروبية إلى جماعة الإخوان المسلمين عبر عدسات المنظور الأمني، وهذا ما يجعل تصنيف الجماعة بأنها إرهابية أمراً مستبعداً إلى حد ما. ولكن في الوقت ذاته، من الواضح تماماً في كل أنحاء القارة الأوروبية أن النظرات إلى جماعة الإخوان المسلمين تزداد قتامة، وهناك أعمال وإجراءات تُـتّخذ بهدف الحدّ من تأثيرها التقسيمي والاستقطابي.

الصعوبات الأوروبية بشأن الإسلاموية

كانت جماعة الإخوان المسلمين والحركات الإسلاموية المشابهة منذ فترة طويلة، وما تزال، موضع جدل في كل أنحاء أوروبا؛ وهذا الجدل شديد التعقيد نظراً لوجود العديد من الطبقات المتداخلة في التحليل. وتشمل هذه الطبقات شؤون السياسة الخارجية وجوانب السياسة المحلية مثل: الاندماج، والتعليم، والأمن، والعلاقات بين الدولة والدين، وكل واحدة من هذه القضايا تُعرض مصالح الدولة واعتباراتها واهتماماتها؛ فكل دولة تناقش هذه القضايا بطريقتها الخاصة، مع تفاوت في نواحي التركيز ودرجات الشـِـدّة.

ورغم هذه التعقيدات، فإن القاسم المشترك بين كل الجدالات الأوروبية حول الإسلاموية هو عدم وجود اتفاق على تقييم موحد للمسألة. فالآراء حول طبيعة الإسلامويين ليست متجانسة بين صناع السياسة، والباحثين، والمعلقين الأوروبيين، فبعضهم يتبنى ما يمكن أن نطلق عليه اسم “مقاربة متفائلة” وهذا الرأي يقول إن الإسلامويين قوة سياسية معتدلة، تكافح في الأساس من أجل الديموقراطية في الشرق الأوسط، وفي الساحة المحلية داخل أوروبا يشكلون شركاء جديرين بالثقة للحكومات عند التعامل مع الجاليات المسلمة الأوروبية.

أما الآخرون الذين يتبنون وجهة نظر متشائمة فيقولون إن الإسلامويين ببساطة يشكلون واجهة أكثر اعتدالاً من الذين يُطلق عليهم اسم “جهاديين”؛ ولكنهم في الواقع يشتركون مع الجهاديين في الرؤية العالمية والأهداف بعيدة المدى، وحسب هؤلاء فإن هذه الديناميات والتكتيكات موجودة في الشرق الأوسط وأوروبا على حد السواء، حيث يسعى الإسلاميون للتقرّب من النخب الأوروبية وفي الوقت نفسه ينهمكون في مساع طويلة الأجل مكرسة للهندسة الاجتماعية، بهدف دقّ إسفين بين المسلمين وبقية فئات المجتمع. ويقول النقاد أيضاً إن الإسلامويين، حتى عندما لا يتورطون مباشرة في أعمال العنف، فهم يروجون رواية تحفّز الأفراد المنبوذين على تقبل رسالة الجماعات الجهادية.

إن معظم صانعي السياسة الأوروبيين يميلون إلى تبني وجهة نظر متوسطة تقع في مكان ما بين هذين الموقفين المتطرفين. ولكن ليس هناك أي دولة أوروبية تبنت تقييماً متماسكاً يتم تطبيقه من قبل جميع فروع الحكومة يوضح كيف تتم عملية التقييم وكيف يتم التعامل مع الإسلامويين (أو حتى كيف يتم التعرّف عليهم)؛ ويؤدي هذا الوضع إلى تناقضات كثيرة في السياسات، ليس فقط من جانب دولة ما تجاه الأخرى، بل ضمن كل دولة؛ لأن المواقف تختلف من وزارة إلى وزارة، وحتى من مكتب إلى مكتب ضمن الوزارة أو المؤسسة الواحدة. النتيجة معقدة، وحتى مشوشة، الوضع في المؤسسات يتأرجح عشوائياً بين الأعمال التي تعكس أحياناً آراء المتفائلين، وأحياناً أخرى تعكس آراء المتشائمين تجاه الإسلامويين.

وهناك عامل يزيد المسألة تعقيداً، وغالباً لا يكون مفهوماً بشكل كامل من جانب أولئك الذين ليسوا قريبين من دوائر السلطة الأوروبية، وهو المعرفة المحدودة جداً عن الإسلام والإسلاموية، ناهيك عن القدرة على فهم الاختلافات الدقيقة وفك شيفرة لغة الإسلامويين التي غالباً ما تكون غامضة، بالنسبة للقسم الأكبر من صانعي السياسة الأوروبيين في جميع مستوياتهم. وقد أظهرت التقارير الصحفية، على سبيل المثال، أن هناك العديد من كبار المسؤولين الغربيين المكلفين بمعالجة جوانب شديدة الأهمية في حقل الأمن ومكافحة الإرهاب.

ويركز هؤلاء المسؤولين على الجماعات الجهادية، ولديهم صعوبات كبيرة في توضيح الفرق بين الطائفتين السنية والشيعية، وتحديد الطائفة التي تنتمي إليها جماعة مثل تنظيم القاعدة؛ وهذه مسائل تُعتبر من الحقائق الأساسية التي يجب أن تكون شديدة الوضوح لأي شخص مشارك في صناعة السياسة حول المسائل الأمنية[2]؛ ولهذا، ليس من الصعب أن يصبح هذا النقص في المعرفة شائعاً بدرجة متساوية بين العامة والمسؤولين، إن لم نقل أكثر شيوعاً بين المسؤولين الذين أمضوا سنوات سيرتهم المهنية يتعاملون مع مسائل مختلفة كلياً أو في بعض البلديات الصغيرة.

بالطبع هناك استثناءات، ويوجد عدد كبير من المسؤولين الحكوميين في جميع المستويات ويعملون في جميع الحقول ولديهم معرفة واسعة حول هذا الموضوع. ولكن افتراض أن هناك نقصاً في الفهم الصحيح للإسلاموية من جانب صانعي السياسة الأوروبيين ليس افتراضاً خاطئاً؛ ولهذا، ومع أن الحكم صحيح إلى حد ما في بعض الحالات، فإن التفسيرات التي ترى أن هناك عملية معقدة لصنع القرار خلف التعامل مع الإسلامويين، حيث تتم عملية صنع القرار بطريقة مكيافيلية، وتأخذ في الحسبان جميع الزوايا المحتملة، هي في أغلب الأحوال غير صحيحة. وهناك قول شائع، لا تعزو الأمر إلى الخبث، إذا كان يمكن تفسيره بأنه عدم كفاءة.

ويمكن للأجهزة الأمنية في كل دولة أن تلعب دوراً شديد الأهمية في تشكيل وتقييم المعرفة؛ فمع أن العديد من المسائل التي تتعلق بالإسلاموية ليست مسائل أمنية محضة، فإن الأجهزة الأمنية تميل لأن تكون مهيأة على أفضل وجه لفهم شبكات الإسلامويين. ولكن هناك عوامل مختلفة تجعل هذه الديناميكية أقل سلاسة مما يفترض المرء.

أولاً، ليس جميع الأجهزة الأمنية مخولة لمتابعة الإسلاموية. وفي دول عديدة، في الحقيقة، يكون لدى الأجهزة الأمنية تفويض/صلاحيات ضيقة، تتيح لها فقط مراقبة الأفراد والمنظمات التي تشكل تهديداً أمنياً مباشراً. ويمكن أن يُنظر إلى جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلاموية الأخرى على أنها تمثل إشكالية، ولكنها لا تميل إلى الانخراط في الأنشطة الإرهابية في الغرب، ولذلك فإن هذه الجماعات تقع خارج نطاق مهمة العديد من أجهزة الأمن الأوروبية.

ومع ذلك، تمتلك الأجهزة الأمنية في بعض الدول الأوروبية تفويضاً أوسع يتطلب منها مراقبة مجموعة من التهديدات المحتملة أكبر بكثير من الجماعات الإسلاموية. وعلى سبيل المثال، وبسبب تاريخها المميز، فقد منحت ألمانيا أجهزتها الأمنية تفويضاً واسعاً للتركيز على جميع الكيانات السياسية التي يمكن أن تعطل الحياة الديموقراطية في البلاد. ولذلك فإن ألمانيا لديها نظام – نادراً ما يتكرر في الدول الأوروبية الأخرى – يشمل جميع أقسام الأجهزة الأمنية المتخصصة فقط في مراقبة الإسلاموية غير العنيفة.

ومن الجدير بالملاحظة أن تقييمات الإسلامويين من قبل أجهزة الأمن الألمانية تشاؤمية إلى أبعد الحدود. وهناك تقرير صادر عن أجهزة الأمن في منطقة شمال الراين-وستفاليا، وهي الولاية الأكثر اكتظاظاً بالسكان، تجسد بشكل متقن هذه الآراء التي يتم تقاسمها مع الأجهزة الأمنية في جميع الولايات الألمانية الأخرى. ويقول التقرير: “في السنوات الأخيرة، كان المؤيدون المحليون لجماعة الإخوان المسلمين قادرين على استغلال التركيز العلني العام على الجهادية والصعود المذهل لجماعة داعش (ISIS) ثم سقوطها، لكي يقدموا أنفسهم على أنهم يمكن أن يشكلوا بديلاً لا يخلق إشكالية ويحل محل الإسلامويين الذين يميلون للعنف، ويمكن أن يكونوا نقطة تواصل للمؤسسات الحكومية والأطراف الفاعلة في المجتمع المدني. وهكذا، يمكن لجماعة الإخوان المسلمين أن تصبح ممثلاً لمصالح المسلمين في الدولة والمجتمع، وهذا التطور لن يكون مقبولاً للمجتمع ككل ولنظامنا الديموقراطي”.

ويتابع التقرير المذكور: “في المدى البعيد، إن التهديد الذي تشكله الإسلاموية القانونية (التي تلتزم بقوانين البلاد) على النظام الديموقراطي الليبرالي سيكون أكبر بكثير من تهديد الجهادية، التي تتفوق دائماً على سواها عددياً. الإسلامويون القانونيون يتطلعون إلى بناء نظام إسلاموي، ولكنهم مستعدون للسماح بوجود عناصر ديموقراطية محددة ضمن إطار عملهم. ولهذا السبب، فإن تطرفهم في أغلب الحالات يمكن بالكاد التعرف عليه من النظرة الأولى”[3].

ولكن حتى في ألمانيا، كما هي الحال في جميع الدول الأوروبية الأخرى، خلال السنوات القليلة الماضية، ونظراً لانتشار التهديد المرتبط بتنظيم داعش في كل أنحاء القارة الأوروبية، فقد كان يتوجب على الأجهزة الأمنية توجيه معظم تركيزها إلى منع حدوث هجمات إرهابية والتحقيق في الهجمات التي تحصل، بدلاً من التركيز على تحليل التحديات غير المباشرة والأقل إلحاحاً، كالتحديات التي يشكلها الإسلامويون.

ثانياً، حتى إذا نجحت الأجهزة الأمنية في التوصل إلى فهم عميق للإسلاموية، فإن تدفق المعلومات إلى صانعي السياسة غالباً ما يكون عملية معقدة؛ وعلى سبيل المثال، في حالات عديدة لا تشارك أجهزة الاستخبارات أي جهة في المعلومات إلا إذا طُلب منها ذلك، وكأن هذه الأجهزة مسجونة داخل تحيّز ثقافي مؤسساتي يشدد على درجة مفرطة من السرية أحياناً؛ وفي حالات أخرى، لا يكترث المسؤولون الحكوميون بالتواصل مع أجهزة الاستخبارات لمعرفة تقييم تلك الأجهزة لوضع ما. وهناك عوامل مثل الخمول البيروقراطي، والعقبات القضائية، والتنافس بين الدوائر الحكومية، تساهم أيضاً في زيادة المشكلات الكثيرة في مسألة تقاسم المعلومات.

وهناك عوامل أخرى تغذي هذه الصورة المعقدة؛ على سبيل المثال، ليس أمراً غير شائع بين صانعي السياسة، وخاصة أولئك الذين يشاركون في الانتخابات، أن يتدخلوا في الاعتبارات بشأن العواقب المحتملة لقراراتهم على سيرتهم السياسية وكما هي الحال في مسائل أخرى، فإن الموقف المعتمد تجاه الإسلاموية، في الخارج وفي الساحة المحلية، يمكن أن يؤثر على الحظوظ الانتخابية للسياسي؛ من ناحية، على سبيل المثال، يمكن أن يعتبر بعض السياسيين التقارب مع الإسلامويين خطأ انتخابياً فادحاً، يكلفهم خسارة أصوات الناخبين الذين يفضلون الموقف المتوجس من الإسلاموية. ومن الناحية الأخرى، هناك العديد من الأحزاب السياسية الأوروبية والسياسيين الأوروبيين قد دخلوا منذ زمن طويل في معاهدات “زبائنية” ليست سرية (لتبادل الدعم السياسي) مع جماعات إسلاموية وعدتهم بتجميع “أصوات المسلمين” لصالحهم.

علاوة على ما سبق، يتسم إن الجدل السياسي الحالي في أوروبا بدرجة عالية من الصواب السياسي. ويدرك الإسلامويون تماماً هذه الديناميكية، وغالباً ما يستخدمون التهم بممارسة العنصرية والرهاب من الإسلام (إسلاموفوبيا) لرصد حوادث التعصب التي لا يمكن إنكارها والموجودة في أوروبا، وأي انتقادات مشروعة ومتفاوتة موجهة للإسلاموية.

مقاربة جديدة

إن الجدل حول الإسلاموية غير العنيفة غالباً ما يأخذ المقعد الخلفي في ترتيب الأهمية، بالمقارنة مع الجدل حول المظاهر والممارسات العنيفة التي تفرزها الأيديولوجيا المتطرفة. ولأسباب واضحة، تجتذب الهجمات الإرهابية – وخاصة عندما تكون متكررة ودراماتيكية مثل بعض الهجمات التي عانى الناس منها في مختلف أنحاء أوروبا في السنوات الأخيرة – كل الاهتمام من جانب صانعي السياسة، والأجهزة الاستخباراتية، ووسائل الإعلام؛ وفي الناحية الأخرى، تميل الأنشطة التي ينفذها الإسلامويون الذين لا يتبنون العنف لأن تكون غير جاذبة للانتباه: وهي في معظمها قانونية؛ ونادراً ما تندلع في حوادث دراماتيكية؛ وغالباً ما تجلب معها تهماً بالعنصرية والإسلاموفوبيا موجّهة لأولئك الذين يسلطون الضوء عليها.

مع ذلك، يبدو أن الجدل حول الإسلاموية غير العنيفة قد كسب خلال السنوات القليلة الماضية، المزيد من الاهتمام في عدة دول أوروبية؛  فمن الجدير بالملاحظة أن الهواجس بشأن الإسلاموية لا يتم التعبير عنها بشكل حصري من جانب أولئك المصنفين على يمين الطيف السياسي، كما كان يحصل بكثرة في السنوات الماضية، بل يتم التعبير عنها من قبل سياسيين ومعلقين من جميع ألوان القناعات السياسية؛ ويمكن، بالتالي، اعتبار موقف الرئيس ماكرون ليس كحالة شاذة، بل ببساطة قمة جبل الجليد الذي بدأ بالذوبان (كما يقال غيض من فيض).

لكن هذا التركيز المتزايد يصطدم مع الصعوبات العملية التي تواجهها السلطات الأوروبية، في اختيار الإجراءات التي ستستخدمها لمعالجة النفوذ الإسلاموي. والحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن معظم أنشطة جماعة الإخوان المسلمين والشبكات الإسلاموية الأخرى في أوروبا تقع ضمن إطار القانون. وأحياناً، وهذا يتوقف أيضاً على الظروف المحلية، تنتهك بعض الخطابات الإسلاموية القوانين في مجالات التمييز، والتحريض أو معاداة السامية. والحالات التي تقوم فيها الجماعات الإسلاموية الأوروبية بتقديم أشكال مختلفة من الدعم للجماعات المتورطة في أنشطة عنيفة خارج أوروبا، مثل حركة حماس أو الميليشيات المتنوعة التي تقاتل في الحرب الأهلية السورية، ليست نادرة الحدوث.

لكن هناك استثناءات، وهي الحالات القليلة التي تستطيع فيها السلطات الأوروبية التدخل ضد الإسلامويين من خلال أدوات جنائية؛ ومع أنه يمكن القول إن هذه الحالات مثيرة للإشكالية، فإن الأغلبية العظمى للأنشطة التي يشارك فيها الإسلامويون الأوروبيون (الوعظ، والأنشطة السياسية، وجمع الأموال، وبناء المساجد، والمدارس ….) ليست خارجة عن القانون بحد ذاتها. ويمكن للقوانين في دولة محددة أن تعاقب على هذه السلوكيات إذا تم تصنيفها بأنها جزء من استراتيجية هدّامة أوسع. ولكن بوجه عام، يعمل الإسلامويون إلى حد كبير ضمن حدود القانون، ويتمتعون بحق معتمد في الدستور يتيح لهم الدفاع عن النظام الإسلامي والعمل من أجله.

ولتمييز الإسلامويين عن الجماعات الإرهابية/العنيفة، تستخدم السلطات الألمانية مصطلح “جماعات ملتزمة بالقانون” لوصف تلك الجماعات التي “تحاول فرض ما تعتبره نظاماً إسلامياً من خلال فرض نفوذ سياسي واجتماعي”[4]. ويحمل التمييز بين هذه الجماعات انعكاسات عملية؛ فالجماعات الإرهابية غير قانونية، ويُعتبر الانضمام لها أو تقديم الدعم لها عملاً غير شرعي، بينما الجماعات الإسلاموية “الملتزمة بالقانون” يمكن التساهل معها ولكنها تظل تحت الرقابة؛ ومع أن بعض الدول الأخرى أضفت صفة رسمية على الطريقة التي تستخدمها ألمانيا في التمييز بين الجماعات، إلا أنه يوجد وعي متزايد بين السلطات الأوروبية بالطبيعة المثيرة لإشكاليات الجماعات الإسلاموية. ولكن الطبيعة القانونية للجماعات تجعلها محصنة تقريباً ضد العديد من الإجراءات (الحظر، واعتقال أعضائها ….) التي تتخذها الحكومات عموماً لمعالجة مشكلة الجماعات العنيفة.

لهذه الأسباب، حتى النقاد الأكثر شراسة تجاه جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلاموية المرتبطة بها لا يؤيدون تصنيفها كمنظمات إرهابية. ويحذّر المتشائمون – ومن بين المتشائمين أغلبية الأجهزة الأمنية الأوروبية – بشأن التأثيرات السلبية لجماعة الإخوان المسلمين التي تشجع التحول إلى التطرف الراديكالي العنيف. على سبيل المثال، يقول جهاز الاستخبارات الألماني للحماية الدستورية الاتحادية إن الإسلامويين “لا ينفذون أنشطة تجنيد لغرض ممارسة “الحرب المقدسة” العنيفة (الجهاد). وبالتالي، يمكن أن يطالبوا بتحصين المسلمين الشباب ضد التلقين العقائدي الجهادي من خلال تقديم العرض البديل المتمثل في التعرف على هوية الجهاديين”.

وأضاف جهاز الاستخبارات الألماني المذكور أنه يوجد “مخاطر أن الأوساط من هذا النوع يمكن أن تشكّل أيضاً الأرضية المفرِّخة لمزيد من التحول إلى الراديكالية”، حيث تمهد الأرضية الأيديولوجية الملائمة لتفريخ الجماعات العنيفة[5]. وقد صرح آلين شويت، الرئيس السابق للمديرية العامة للأمن الخارجي (DGES)، وهي جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي الذي تم حله، قائلاً: إن “تنظيم القاعدة مجرد حلقة قصيرة، وأداة نفعية براغماتية في كيان الإخوان المسلمين الذي وصل عمره إلى 100 سنة. والخطر الحقيقي يكمن في توسع جماعة الإخوان المسلمين، وزيادة أعداد جمهورها. الذئب يعرف كيف يتنكر في ثوب نعجة[6].

في جوهر المسألة، هناك العديد من النقاد في مختلف أطياف المجتمع الأوروبي المحارب للإرهاب يؤمنون بقوة أن الإسلامويين غير العنيفين يخلقون البيئة الملائمة للتطرف العنيف، بيئة خصبة لمن يُطلق عليهم اسم الجهاديين، الذين لا يتوجب عليهم سوى إقناع المجندين المحتملين حول صحة ونزاهة تكتيكاتهم. ولكن حتى إذا افترضنا أن هذه هي حقيقة الأمر – وهذا الافتراض يحظى بدعم الكثير من الخبراء الذين يحملون النظرة المتفائلة حول التحدي الذي تشكله الإسلاموية – فإن ذلك لا يسوّغ تصنيفها بشكل قانوني كمنظمة إرهابية.

لذلك، يبدو أن طريق التصنيف كجماعة إرهابية محكم بدقة، إن لم يكن غير قابل للتنفيذ ومستحيلاً تماماً، في جميع الدول الأوروبية. وهذا الوضع كان نتيجة خطوات سابقة، على سبيل المثال إجراء مراجعة لوضع الإخوان المسلمين عام 2014، الذي أمر به  رئيس الوزراء البريطاني حينذاك، ديفيد كاميرون.[7] وخلاصة تقرير المراجعة تلك تقول: “إن مفرزات الأيديولوجيا والتكتيكات التي تتبناها جماعة الإخوان المسلمين في هذه البلاد وفي الدول الأجنبية، مناقضة لمصالحنا القومية وأمننا القومي”. ولكن تلك المراجعة لم تتضمن تأييد تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية، ويُعزى ذلك إلى حد كبير إلى غياب المستلزمات القانونية الضرورية للتصنيف.

لكن رغم شبه استحالة اللجوء إلى تصنيف الإسلامويين كجماعات إرهابية، فإن هذا لا يعني أن الأوروبيين بلا أسنان. يجب عدم النظر إلى هذه المسألة وفق التصنيف القاطع بين الأسود والأبيض، أي إما تصنيف جماعة الإخوان المسلمين على أنها تنظيم إرهابي، أو أن يُطلق لها العنان لكي تعمل بلا أية قيود. إنما هناك عدة ظلال باللون الرمادي وعدة مستويات للعمل يمكن أن تستخدمها الدول الأوروبية التي تسعى إلى كبح نفوذ الإسلامويين، وهناك دول أوروبية عديدة تدرس هذه الخيارات وإمكانية تطبيقها.

على سبيل المثال، هناك عدة حكومات أوروبية تدرس إجراءات محددة لكي توقف تدفق الأموال على الإسلامويين. والحالة الأبرز أستراليا التي أقرت قانوناً جديداً يعتبر تلقي أموال غير مشروعة من الخارج مرسلة إلى منظمات إسلامية عملية غير قانونية. وهناك عدة دول كانت أكثر صرامة في مراقبة مدى شرعية العمليات المالية المرتبطة بالجمعيات الخيرية الإسلاموية. وهناك دول أخرى بدأت بإعادة النظر بشأن سياساتها التي رصدت مؤسسات حكومية مختلفة تمول منظمات إسلاموية غير حكومية، لتنفيذ أنشطة في حقول الاندماج الاجتماعي، أو المساعدات الدولية، أو منع التحول إلى التيارات الراديكالية. وعلى سبيل المثال، كانت السويد تسير في هذا الاتجاه، حيث سحبت جمعية الشباب والمجتمع المدني (MUCF) تمويلها للجماعة الإسلاموية المحلية المرتبطة بالإخوان المسلمين. وحسب بيانات جمعية الشباب السويدية هذه، فإن الجماعة الإسلاموية المحلية لها ارتباطات كثيفة مع منظمات إسلاموية وتوجّه الكثير من الدعوات إلى الواعظين الذين يتبنون أفكاراً متطرفة، وهذه السلوكيات تجعل التزام الجماعة الإسلاموية السويدية بالديموقراطية – وهذا يُعتبر الشرط الأساسي لكي تحصل على تمويل حكومي – موضع شك[8].

وعلى الرغم من أهمية هذه الإجراءات، فإن معظم صانعي السياسة الأوروبيين يدركون أن هذه الإجراءات لا تشكل سوى جزءاً صغيراً مما يمكن أن يُنفّذ بل يجب أن يُنفذ. إن الرد الأكثر شمولية يتطلب، كما أوضحت استراتيجية ماكرون، جهوداً استراتيجية طويلة الأجل في ميادين واسعة ومعقدة مثل: التعليم، والاندماج الاجتماعي، والفكر الديني (اللاهوت).

إن كبح نفوذ الإسلامويين هو بدون أدنى شك مسعى طموح حافل بالتحديات الأخلاقية، والقانونية، والسياسية. وليس من المتوقع أن تبدأ جميع الدول الأوروبية بإطلاق هذا المسعى بالشدة ذاتها والتناسق ذاته، بل من المتوقع أن تتردد بعض الدول في تنفيذه أو تأجيله. ولكن هناك مؤشرات قوية على إجماع متزايد حول أهمية المشاركة في جهود مستحقة منذ زمن بعيد لاحتواء تحدٍّ مهم يهدد المجتمعات الأوروبية.

الهوامش والمراجع:

[1]  النص الكامل لخطاب الرئيس ماكرون في 2 أكتوبر 2020 موجود (باللغة الفرنسية) على الرابط التالي:

https://www.elysee.fr/emmanuel-macron/2020/10/02/la-republique-en-actes-discours-du-president-de-la-republique-sur-le-theme-de-la-lutte-contre-les-separatismes

[2]  هل تستطيع التمييز بين السني والشيعي؟ هناك “رؤساء وزراء لا يستطيعون التمييز بين السنة والشيعة في بلدانهم”

Jeff Stein, “Can You Tell a Sunni from a Shiite?” New York Times, October 18, 2006; Maurice Chittenden and Tom Baird, “MPs Don’t Know their Sunnis from their Shi’ites,” Sunday Times, January 7, 2007.

[3]  https://www.im.nrw/system/files/media/document/file/VS_Bericht_2018.pdf

[4]    Bundesverfassungsschutz, annual report, 2014. Page 86. التقرير السنوي لجهاز الحماية الدستورية الاتحادية 2014

[5]  Bundesverfassungsschutz, annual report, 2005. Page 190.

[6]  As quoted in Caroline Fourest, Brother Tariq: The Doublespeak of Tariq Ramadan (New York City: Encounter, 2008). Page 103.

[7] Prime Minister’s Office, “Government Review of the Muslim Brotherhood”, 2014. https://www.gov.uk/government/news/government-review-of-the-muslim-brotherhood

[8] Stockholm’s administrative court, Case 1383-19, October 31, 2019.

المواضيع ذات الصلة