في 30 يوليو 2020، أعلن رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، أن انتخابات مجلس النواب العراقي ستجرى في يونيو 2021، أي قبل عام من الموعد الذي كان مقرراً لها أصلاً. وفي يناير 2021، وافق مجلس الوزراء على تأجيل موعد هذه الانتخابات إلى 10 أكتوبر 2021 استجابة لطلب المفوضية العليا المستقلة للانتخابات من أجل معالجة مسائل “فنية” محددة لضمان عملية انتخابية حرة وشفافة. وعلى الرغم من عدم توضيح ماهية هذه المسائل الفنية حينئذ، فإن التقارير اللاحقة تشير إلى أنها تتعلق بتسجيل الناخبين، وإنشاء أحزاب جديدة، ووضع اللمسات الأخيرة على “التحالفات” بين المجموعات المختلفة، وإعداد قوائم المرشحين.
وجاء قرار إجراء انتخابات مبكرة نتيجة مباشرة لاحتجاجات واسعة النطاق عبّر من خلالها الشعب العراقي عن غضبه من النظام السياسي والاقتصادي في العراق. وقد انطلقت شرارة هذه الاحتجاجات في أكتوبر 2019 بعد قيام رئيس الوزراء حينها، عادل عبد المهدي، بنقل الفريق عبد الوهاب الساعدي، وهو ضابط عسكري يحظى بشعبية واسعة وقاد القتال ضد تنظيم داعش، من جهاز مكافحة الإرهاب إلى وزارة الدفاع، حيث رأى الشباب الذين نزلوا إلى الشارع في هذا العمل خضوعاً للإملاءات الإيرانية لأن جهاز مكافحة الإرهاب كان منافساً لوحدات الحشد الشعبي، وهي تكتل من الميليشيات الشيعية التي ترعاها إيران.
الاحتجاجات الشعبية
اتسمت احتجاجات أكتوبر 2019 التي اجتاحت شوارع بغداد والعديد من مدن جنوب العراق بسمات عدة مهمة. فقد كان المحتجون يتكوّنون بشكل رئيسي من الشباب، وهذا انعكاس لكون الشباب دون سن الثلاثين يمثلون أكثر من 60% من سكان العراق. وكان المتظاهرون عموماً من الشيعة، وكانت تحركاتهم بشكل رئيسي في المدن الشيعية في البلاد، ما يشير إلى رفض الشباب العراقي للهويات العرقية والطائفية التي طغت على الساحة السياسية في البلاد منذ الاحتلال الأمريكي في عام 2003.
تمثلت مطالب الشارع في إصلاح شامل للنظام السياسي العراقي، والتخلص من هيمنة نظام “الغنائم” العرقي الطائفي والاستعاضة عنه بديمقراطية حقيقية، والقضاء على الفساد في الحياة العامة، وتقديم خدمات أفضل، وتحسين الأوضاع الاقتصادية، وتوفير فرص عمل أفضل للشباب. كما طالب المتظاهرون بأن يصبح العراق دولة ذات سيادة حقيقية والتخلص من نفوذ جميع الدول الأجنبية، في إشارة مباشرة إلى تدخل كلٍّ من إيران والولايات المتحدة الأمريكية في شؤونه.
كان الجانب الأبرز في الاحتجاجات هو صمود المحتجين. فعلى الرغم من رد الحكومة عليهم بالرصاص الحي، الذي أسفر عن مقتل نحو 500 شخص وجرح آلاف عدة، رفض المحتجون العودة إلى منازلهم. ووبخ آية الله العظمى علي السيستاني الحكومة علناً على فشلها في تنفيذ إصلاحاتها الموعودة منذ فترة طويلة، ما أدى إلى استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في ديسمبر 2019.
كما دفع غضب الشباب العراقي مجلس النواب إلى المسارعة إلى صياغة قانون جديد للانتخابات تم إقراره في 24 ديسمبر 2019. ولكن المجلس استغرق 11 شهراً آخر للانتهاء من ملحق القانون الذي يحدد الدوائر الانتخابية في البلاد، حيث صادق الرئيس برهم صالح على القانون الجديد في أوائل نوفمبر 2020.
قانون الانتخابات الجديد
يعود سبب هذا التأخير الكبير في تنفيذ الإصلاحات الانتخابية إلى رغبة سماسرة السلطة الحاليين في البلاد في التأكد من أن القانون الجديد لن يقوض سلطتهم ونفوذهم في ظل النظام الانتخابي القائم.
في السنوات الثماني عشرة التي مرت منذ الغزو الأمريكي في عام 2003، أجريت انتخابات تشريعية في العراق خمس مرات، مرتان في عام 2005، ومرة واحدة في كل من الأعوام 2010 و2014 و2018. وهذه الانتخابات جميعها جرت في إطار نظام المحاصصة الذي نص على توزيع المناصب الوزارية والحكومية الأخرى وتعيين المسؤولين الآخرين على أساس المحاصصة العرقية والطائفية. وهذا النظام، كما يراه الشعب، يؤسس للفساد ويجعل الدولة غير قادرة على الوفاء بمسؤولياتها الأساسية في تحقيق التنمية الوطنية وتوفير الأمن والخدمات وفرص العمل.
بينما كان العراق بكامله دائرة انتخابية واحدة في انتخابات عام 2005، فقد تغير هذا الوضع بدءاً من عام 2010، إذ أصبحت كل محافظة من المحافظات الثماني عشرة دائرة انتخابية واحدة، مع تخصيص عدد من المقاعد لكل منها بناء على عدد سكانها. فالعاصمة بغداد، على سبيل المثال، خُصِّص لها 71 مقعداً.
هذا النظام يعطي أفضلية للأحزاب الكبيرة التي لها حضور على مستوى البلاد ولها قادة شعبيون وبارزون. فرئيس الوزراء السابق نوري المالكي كان يحصل على نحو 500 ألف صوت، بينما كان الحد الأدنى المطلوب لانتخابه 25 ألف صوت فقط. والنظام يسمح له بتحويل بقية الأصوات التي حصل عليها إلى أعضاء الحزب الآخرين في قائمته. وبما أن الأحزاب السياسية كانت قائمة على أساس عرقي وطائفي، فقد رسخ النظام الانتخابي هذه الانقسامات في النظام السياسي العراقي.
نظراً إلى مطالبة الشارع بإصلاح النظام الانتخابي بشكل يزيل العوامل العرقية والطائفية من العملية الانتخابية، تعرض البرلمان لضغوط لإقرار نظام جديد أساسه المرشحون وليس الأحزاب السياسية. وقد نص القانون الجديد الصادر في نوفمبر 2020 على بعض الإصلاحات وأبقى على بعض ميزات النظام القديم. فبدلاً من أن تشكل كل محافظة دائرة انتخابية واحدة، سيتم الآن تقسيم محافظات البلاد الثماني عشرة إلى 83 دائرة انتخابية، بحيث تضم كل محافظة دوائر انتخابية متعددة تساوي في عددها كوتا النساء، ويخصص عدد المقاعد في كل دائرة على أساس مقعد واحد لكل نحو 100 ألف نسمة.
ويتضمن القانون الجديد بعض الأحكام الأخرى:
- الترشيح فردي ضمن الدائرة الانتخابية، ويُعاد ترتيب تسلسل المرشحين في الدائرة الانتخابية وفقاً لعدد الأصوات التي حصل عليها كل منهم ويُعد فائزاً من حصل على أعلى الأصوات وفق نظام الفائز الأول وهكذا بالنسبة إلى المرشحين المتبقين، بحيث يكون لكل ناخب صوت واحد غير قابل للتحويل، أي إن القانون الجديد ألغى النظام السابق القائم على التمثيل النسبي والقوائم الذي كان يمنح أفضلية للأحزاب الكبيرة التي لديها قادة بارزون.
- يجب أن يكون المرشح من أبناء المحافظة أو مقيماً فيها.
- يجب أن يكون المرشح قد أتم 28 عاماً من عمره في يوم الاقتراع، وهذا ينطوي على ازدراء للطامحين الأصغر سناً الذين أرادوا أن يكون الحد الأدنى للسن 25 عاماً.
إلى جانب أحكام القانون الجديد، ستخضع الانتخابات المقبلة أيضاً للقواعد التي أعدتها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في عام 2015 فيما يتعلق بتسجيل الأحزاب والمرشحين الجدد. إذ تفرض المفوضية رسماً مقداره 30 مليون دينار عراقي (20,500 دولار أمريكي) على تسجيل الحزب الجديد ومليوني دينار عراقي (1,400 دولار أمريكي) عن كل عضو مؤسس (على ألا يقل عدد الأعضاء المؤسسين عن خمسة). ويجب أن يكون طلب التسجيل مدعوماً بثلاثة آلاف توقيع من ثلاث محافظات. كما يجب أن يكون للحزب المقترح مقر ومكاتب فرعية، وأن ينظم مؤتمراً يضم 350 عضواً يحضره أعضاء من المفوضية. ويجب على كل مرشح إيداع مبلغ 10 ملايين دينار عراقي (6,800 دولار) لدى المفوضية على أن يتم رد نصفه في حالة فوز المرشح. وأخيراً، يجب أن يكون المرشح حاصلاً على شهادة الدراسة الإعدادية، وهو أمر يتناسب مع مصالح الأحزاب التقليدية، بينما طالب النشطاء بالحصول على شهادة جامعية كحد أدنى للمؤهلات.
أوجه القصور في القانون الجديد
نظراً لأن القانون الجديد صدر استجابة للمطالب الشعبية بالتغيير، فهناك خيبة أمل كبيرة في أوساط الذين تظاهروا للمطالبة بالإصلاح. والانتقاد الرئيسي يتعلق بتعريف الدوائر الانتخابية.
حُدِّدت معظم الدوائر الانتخابية بناء على تقسيمات جغرافية بحيث يُخصص مقعد لكل 100,000 نسمة، ونظراً إلى عدم وجود حدود واضحة بين الدوائر الانتخابية المتعددة، قامت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في بعض الحالات بتحديد الدوائر الانتخابية على أساس قبلي وعشائري. ويبرز هذا الأمر في محافظات نينوى وكركوك والأنبار. ففي نينوى وكركوك، سادت الاعتبارات العرقية والدينية، إذ حُدِّدت الدوائر الانتخابية على أساس الأغلبية الكردية والعربية والتركمانية. وفي الأنبار، كانت الهويات القبلية عوامل حاسمة في تحديد الدوائر الانتخابية.
من وجهة نظر النقاد، فإن هذا “يرسخ رسمياً الحدود الطائفية التي نشأت خلال سنوات الصراع الأهلي المستمر منذ عام 2005″، ما يثير مخاوف من أنه بدلاً من التخلص من الاعتبارات العرقية والطائفية في الانتخابات المقبلة، قد تؤدي هذه الترتيبات إلى “إثارة توترات قبلية وإقليمية جديدة”، إذ سيصبح للهوية القبلية وزعماء القبائل تأثير مهيمن في الساحة السياسة العراقية بدلاً من تعزيز هوية وطنية حديثة تتجنب هذه الانتماءات.
مرة أخرى، يجد الشباب الذين قادوا المطالبة بالتغيير عقبات عدة في وجه جهودهم الهادفة لتأسيس الأحزاب والترشح للانتخابات. فالرسوم والشروط التي تفرضها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات على تسجيل الأحزاب والمرشحين الجدد والحد الأدنى للعمر البالغ 28 عاماً يعني أن العديد من الشباب الطامحين لدخول مجلس النواب لن يتمكنوا من ذلك.
ولكن العديد من الأحزاب الجديدة تسعى للحصول على المال من الجمهور. على سبيل المثال، تمكّن حزب البيت الوطني من إنشاء مقر له في بغداد، وأسست حركة “امتداد” مقراً لها في محافظة ذي قار جنوب العراق. وهناك ثلاثة أحزاب أخرى تم تسجيلها وتتكون من نشطاء مرتبطين بالاحتجاجات، وهي حركة 25 أكتوبر، وحركة الوعي، وحزب المرحلة، الذي يتكون من نشطاء مرتبطين برئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.
تم تسجيل ما مجموعه 249 حزباً للانتخابات المقبلة. ويبدو أن بعض الأحزاب القديمة (ويشار إليها باسم “أحزاب النظام الحالي”) تسعى إلى تسجيل أحزاب جديدة وتقديم مرشحين أصغر سناً لزيادة شعبيتها. وهذا يمثل استجابة لتغيير مهم في القانون الجديد، وهو تنافس المرشحين الأفراد في دوائر انتخابية أصغر. فبما أن الناخبين الآن يعرفون المرشحين شخصياً ويحرصون على رؤية إصلاحات في النظام، من المرجح أن يكون المرشحون الأصغر سناً المنتسبون إلى مجموعات جديدة أكثر جاذبية للناخبين.
المخاوف المتعلقة بالانتخابات
على الرغم من إعلان قانون الانتخابات الجديد، وتسجيل الأحزاب، والإعلان عن تاريخ 10 أكتوبر 2021 كموعد مؤكد للانتخابات، ما زالت هناك شكوك جدية حول إجراء الانتخابات في موعدها. فالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات تواجه بعض المشكلات في إتمام الاستعدادات لإجراء الانتخابات في أكتوبر، مثل بطء وتيرة تسجيل الناخبين، وتعيين الموظفين، ونموذج ورقة الاقتراع، واختيار النظام الإلكتروني، وما إلى ذلك، ما شجع بعض المسؤولين على الحديث عن تأجيل الانتخابات إلى إبريل 2022 .
أحد المخاوف الرئيسية الأخرى هو احتمال عدم رغبة أعضاء مجلس النواب الحالي في تقصير فترة ولايتهم حتى لمدة ستة أشهر، لأنه لا يمكن إجراء انتخابات جديدة إلا بعد 60 يوماً على قيام مجلس النواب بحل نفسه. ويمكن أن يتم ذلك إما بالأغلبية المطلقة وإما من خلال تصويت ثلث الأعضاء مع وجود دعم من رئيس الوزراء ورئيس البلاد. ويمكن أن تشمل تكتيكات التأخير إبطاء تسجيل المرشحين والتحالفات المقترحة، أو السعي إلى تأسيس مفوضية انتخابات جديدة كلياً، واستخدام آثار الجائحة الحالية ذريعة للتأجيل.
نظراً إلى التصور السائد عن تغلغل الفساد في النظام السياسي، هناك بطبيعة الحال مخاوف واسعة تتعلق بنزاهة العملية الانتخابية. فالجمهور العراقي المتشكك يرى “مؤشرات تلاعب استراتيجي” من خلال ترهيب النشطاء، وخاصة المرشحين المحتملين، والقيود المفروضة على حرية الصحافة. كما أن هناك مخاوف من اختراق المحاكم والمؤسسات الرسمية المكلفة بضمان انتخابات حرة ونزيهة، إلى جانب التدخلات السرية وغير المشروعة في العملية الانتخابية التي قد لا تظهر بوضوح لمراقبي الأمم المتحدة والمراقبين الدوليين الآخرين.
إلا أن مصدر القلق الأكبر فيما يتعلق بالانتخابات هو العنف السياسي. فقد أشار جوستافسون والندوي إلى أن الفترة الممتدة بين بداية النصف الثاني من عام 2020 ونهاية الربع الأول من هذا العام شهدت بشكل مستمر “تفجيرات وحوادث إطلاق نار من سيارات مسرعة وعمليات قتل أخرى”. وفي هذا العنف، قامت عناصر من قوات الأمن التي قد تكون مرتبطة بالمسلحين باستهداف النشطاء ومرشحي المعارضة من خلال تهديدات واغتيالات وهجمات على منازلهم.
ذكرت بلقيس والي من منظمة “هيومان رايتس ووتش” أنه في الأشهر الثمانية عشر الماضية جرت 81 محاولة اغتيال ضد نشطاء وصحفيين نجحت 34 منها. ووقع ثلث عمليات القتل هذه بعد أن أصبح مصطفى الكاظمي رئيساً للوزراء في مايو من العام الماضي. وهي تنتقد رئيس الوزراء لفشله “في ضمان أي مساءلة أو عدالة”.
كان للعنف المرتبط بالانتخابات في العراق نتيجتان. الأولى هي أن المرشحين المحتملين إما تخلوا عن نشاطهم السياسي وإما هربوا من منازلهم، حتى إن بعضهم غادر البلاد. فقد قال العديد من المرشحين إنهم تعرضوا للتهديد بالقتل إذا لم يسحبوا ترشيحهم. أما النتيجة الأخرى فهي الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات. وإذا كانت نسبة المشاركة منخفضة جداً، فسيؤثر ذلك سلباً في مصداقية الانتخابات ويشجع الشباب الساخطين على إحياء تظاهرات الشوارع.
أدى مقتل الناشط إيهاب الوزني في كربلاء يوم 9 مايو من هذا العام إلى احتجاجات في الشوارع شارك فيها مئات الأشخاص الذين وجهوا أصابع الاتهام إلى المسلحين الشيعة الموالين لإيران وتظاهروا أمام القنصلية الإيرانية في كربلاء. فمقتل الوزني هز البيئة الانتخابية، وبحلول نهاية مايو، قالت حركات ناشطة عدة إنها ستقاطع الانتخابات.
وشجب حزب البيت الوطني الجديد ترهيب القوى الناشطة في البلاد، ورفض شرعية النظام الذي سينشأ على أساس هذا العنف. كما دفعت أعمال العنف المستمرة الرئيس العراقي برهم صالح إلى الدعوة في 30 مايو لمعاقبة القتلة والتأكيد على الحاجة إلى بيئة آمنة للانتخابات.
التغييرات في النظام العراقي
من السهل أن يشعر المرء بالتشاؤم بشأن الأوضاع في العراق قبل خمسة أشهر من موعد الانتخابات في أكتوبر. فأعمال العنف خلال العامين الماضيين، واستمرار استقلالية وحدات الحشد الشعبي ونفوذها، والتنافس الشديد بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران الذي جعل العراق مسرحاً للصراع، هذه العوامل جميعها مجتمعة تثبت صحة الاستنتاجات القائلة إن العراق لن يتخلص بسهولة من الانقسامات العرقية والطائفية، وستستمر فيه التنافسات الداخلية ضمن إطار نظام سياسي فاسد وغير فعال.
لكن هذا الاستنتاج يعتمد على قراءة سطحية للأوضاع في البلاد ويتجاهل الاتجاهات المهمة فيها. فالسمة الأبرز في الساحة السياسية العراقية هي التآكل المستمر للثنائية الطائفية وما يصفه فنار حداد بأنه “تحول من سياسة الهوية إلى سياسة القضايا”. ويرتبط بذلك ظهور انقسام جديد في العراق “بين الشعب والطبقات الحاكمة”. لذلك، لم تكن الاحتجاجات الشعبية في بغداد ومدن الجنوب قطيعة جذرية مع سياسة الماضي، بل انعكاس للتغييرات في الساحة السياسية العراقية منذ انتخابات عام 2014 على الأقل.
بعدما ترسخت ترتيبات المحاصصة بين المجموعات السياسية الثلاث (الشيعة والسُّنة والأكراد) في السنوات الأولى للاحتلال الأمريكي، لم تعد السمة الرئيسية للساحة السياسية في العراق التنافس بين الطوائف، بل داخلها. ففي انتخابات عام 2014، كانت هناك ثلاث قوائم شيعية وأربع قوائم سنية، بالإضافة إلى قوائم صغيرة أخرى من الطائفتين. وقد انعكس ذلك في نتائج الانتخابات من خلال حصول القائمة الفائزة في الانتخابات على نسبة 24% من الأصوات فقط، بينما لم تتجاوز حصة أي من القوائم الأخرى 7.5% .
واستمر هذا النمط في انتخابات عام 2018. فبينما حصد تحالف “سائرون” بزعامة مقتدى الصدر أكبر عدد من الأصوات، لم تزد نسبة هذه الأصوات على 14%. ومن المثير للاهتمام أن معظم التحالفات نظمت حملاتها بعيداً عن الانقسامات العرقية والطائفية، مع وجود توافق (أو تواطؤ، كما يقول حداد) بين الطوائف ظهر لاحقاً في تشكيل الحكومة.
هذه الاتجاهات انعكست بشكل طبيعي في الاحتجاجات التي بدأت أولاً في المدن الشيعية في جنوب العراق في عام 2018 بسبب سوء الخدمات، ثم توسعت أجندتها واتخذت بُعداً سياسياً بداية من شهر أكتوبر 2019. وهذا شكل في العقلية الشعبية نهاية السياسة القائمة على الهوية وإعطاء الأولوية للسياسة المرتبطة بالقضايا.
التوقعات المستقبلية للأوضاع في العراق
طبعاً لم تختفِ سياسات النظام القديم في مواجهة هذه التحديات الجديدة، بل ما زال الجانبان في تنافس لصياغة النظام السياسي في العراق. ومن المؤكد أن حظوظ النظام القائم أكبر، فهو جيد التسليح والتمويل، وهناك تواطؤ بين مختلف الأطراف فيه للمحافظة عليه.
ولكن بينما يسعى النظام القديم إلى البقاء من خلال سياسات الهوية وقوة المال والعنف، يقدم أنصار السياسات الجديدة أفكاراً جديدة ويطرحون أسئلة أساسية حول النظام الوطني. فهل سيكون هذا النظام نظاماً دينياً أم علمانياً؟ هذا السؤال يتعلق أيضاً بالاختيار بين نظام المحاصصة العرقي الطائفي ونظام ديمقراطي يقوم على الحرية والمساواة، والاختيار بين ميليشيات طائفية وقوات أمنية وطنية قوية، وأخيراً الاختيار بين التدخل الخارجي والاستقلال والسيادة الوطنية.
على الرغم من وجود أسباب لعدم الرضا عن وتيرة التغيير في العراق، واستمرار غيوم الانقسام والصراع في أفقه، فقد حدث تغيير كبير بالفعل في النظام السياسي، وهو دخول الشباب إلى الساحة السياسية بأعداد كبيرة بصفتهم مؤسسين لأحزاب جديدة وأعضاء في أحزاب قديمة. وتحديد مقعد واحد لكل 100 ألف نسمة سيمنحهم حضوراً وصوتاً لم يكن ممكناً من قبل. حتى لو هُزِموا، لن تتلاشى المسائل التي يطرحونها وستظهر مجدداً في الانتخابات اللاحقة.
الأهم من ذلك كله هو أن عنف الحرس القديم لن يُرهب المرشحين الجدد والأحزاب الجديدة. فقد استهدفتهم هذه العناصر نفسها خلال الاحتجاجات وكبدتهم 500 قتيل و20 ألف جريح، ولكنهم لم يتراجعوا حينها، ولن يتراجعوا الآن. كما أن النظام الجديد يحظى بدعم الحوزة الشيعية في النجف، حيث دعم آية الله العظمى علي السيستاني المسيرات الاحتجاجية، وانفصلت بتأثير منه بعض وحدات الميليشيات عن وحدات الحشد الشعبي تعبيراً على استيائها من وضع وحدات الحشد الشعبي خارج النظام الوطني وتبعيتها لإيران.
ستُظهر انتخابات عام 2021 حدوث تقدم نحو الأمام مقارنة بالانتخابات السابقة لأسباب عدة، أولها التركيبة السكانية في العراق التي يطغى عليها الشباب. كما كان للمرأة حضور كبير في احتجاجات أكتوبر وسيكون لها حضور كبير في الأجواء الانتخابية نظراً لتحديد كوتا 25% للنساء (83 مقعداً في مجلس النواب المكون من 329 عضواً). والقضايا التي أثارها الشباب تتجاوز المناطق الجغرافية والهوية ويتردد صداها على نطاق واسع في جميع أنحاء البلاد بشكل أكبر بكثير من نظام المحاصصة الفاسد الذي انتهت صلاحيته.
وهناك وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً، وهي وسيلة التواصل القوية بين الشباب التي تسهم في نشر الأخبار، وحشد أشخاص تتشابه أفكارهم بغض النظر عن هوياتهم الإقليمية والشخصية، ودفعهم إلى النزول إلى الشارع.
لقد قطعت الساحة السياسية في العراق شوطاً طويلاً منذ أيام الحرب وبداية الاحتلال، عندما عمد الأمريكيون إلى حقن البلاد بسم الانقسام العرقي والطائفي لتسهيل هيمنتهم وسيطرتهم عليها. واستمرار مسيرة التطور أمر حتمي. ونحن الآن على أعتاب صفحة جديدة في تاريخ بلاد ما بين النهرين.
المصادر:
١. . استند هذا النظام إلى طريقة سانت ليغو التي تتضمن التمثيل النسبي ونظام القوائم الانتخابية، للمتابعة على الرابط: Election – Plurality and majority systems | Britannica
٢.. ينص قانون الانتخابات العراقي على أن تكون نسبة تمثيل النساء 25% من عدد أعضاء مجلس النواب، أي إن عدد المقاعد المخصصة للنساء في مجلس يتكون من 329 عضواً هو 83 مقعداً. بناء على ذلك، تقسم المحافظات الثماني عشرة إلى 83 دائرة انتخابية، بحيث تضم كل محافظة عدداً من الدوائر الانتخابية ويخصص لكل منها ما بين 3 إلى 5 مقاعد في المجلس حسب كثافتها السكانية.
٣.Sajad Jiyad, “Protest Vote: Why Iraq’s Next Elections are Unlikely to be Game-Changers,” LSE Middle East Centre Paper Series 48, April 2021, p. 10: Protest_vote_iraq_elections_paper_48.pdf (lse.ac.uk)
٤.. Omar Al-Jaffal, “Iraq’s New Electoral Law: Old Powers Adapting to Change,” Arab Reform Initiative, 12 January 2021: Iraq’s New Electoral Law: Old Powers Adapting to Change – Arab Reform Initiative (arab-reform.net)
٥. المرجع السابق.
٦. Omar Al-jaffal, “Iraq’s new political parties seek funds from citizens,” Al-Monitor, April 13, 2021: Iraq’s new political parties seek funds from citizens – Al-Monitor: The Pulse of the Middle East
٧. Erik K Gustafson and Omar Al-Nidawi, “Iraqi protestors’ perilous journey to the ballot box,” Middle East Institute, March 22, 2021: Iraqi protesters’ perilous journey to the ballot box | Middle East Institute (mei.edu)
٨. Sajad Jiyad, p. 12
٩. المرجع السابق، ص. 13
١٠. Marsin Alshammary and Maya Nir, “The prospects and limitations of United Nations election observation in Iraq,” Brookings, May 3, 2021: The prospects and limitations of United Nations election observation in Iraq (brookings.edu)
١١. Gustafson and Al-Nidawi
١٢. Belkis Wille, “Impunity for killings will cast a pall over Iraq’s elections,” Human Rights Watch, May 20, 2021: Impunity for Killings Will Cast a Pall Over Iraq’s Elections | Human Rights Watch (hrw.org)
١٣. Mustafa Saadoun, “Iraqi activists worry about election security,” Al-Monitor, May 30, 2021: Iraqi activists worry about election security – Al-Monitor: The Pulse of the Middle East
١٤. Fanar Haddad, Understanding Sectarianism: Sunni-Shia Relations in the Modern Arab World, (London: Hurst and Co, 2020), p. 291
١٥. Haddad, p. 295
١٦. Haddad, p. 296-97