شهدت هولندا في 29 أكتوبر 2025 انتخابات برلمانية حاسمة، وصفت بأنها نقطة تحول في المشهد السياسي المحلي والإقليمي. هذه الانتخابات لم تكن سباقًا بين الأحزاب فحسب، بل كانت اختبارًا لقدرة الديمقراطية الهولندية على مواجهة صعود اليمين المتطرف، الذي صعد بشكل ملحوظ في السنوات الماضية ليس في هولندا فقط، بل في أوروبا الغربية كلها. أبرز وجوه هذه الانتخابات كان حزب الديمقراطيين “دي-66” الوسطي، بقيادة روب يتن، الذي تمكّن من تحقيق مكاسب غير مسبوقة في البرلمان، مقابل تراجع ملحوظ لحزب الحرية PVV بزعامة خيرت فيلدرز.
وتعد هذه الانتخابات لحظة فارقة لأسباب عدة؛ أولًا، قد تؤدي إلى تعيين أصغر رئيس وزراء في تاريخ هولندا، روب يتن، الذي يمثل أيضًا أول رئيس وزراء معلن كمثلي الجنس. ثانيًا، تعكس الانتخابات تحولات أوسع في التوجهات السياسية للناخب الهولندي؛ إذ يبدو أن الشعبوية المتطرفة بدأت تفقد زخمها بعد تجارب سابقة في إدارة الحكومة؛ ثالثًا، تحمل هذه الانتخابات إشارات مهمة للمشهد الأوروبي، إذ تعكس قدرة الأحزاب الوسطية الليبرالية على استعادة الثقة الشعبية أمام خطاب الشعبوية المتطرف.[1]
من خلال هذا التحليل، سنتناول بالتفصيل نتائج الانتخابات، وأسباب صعود D66 وتراجعPVV، وتداعيات تشكيل الحكومة، والدلالات الإقليمية والدولية، وتوقعات السياسات المستقبلية، وتأثيرها على اليمين المتطرف في أوروبا.
نظام الانتخابات الهولندي[2]
يقوم النظام السياسي في هولندا على أساس الملكية الدستورية، إذ يُعدّ الملك أو الملكة رأس الدولة الرسمي. تتوزع السلطة في البلاد على أربعة مستويات للحكم، تشمل المجالس المحلية، والمجالس الإقليمية، والبرلمان ومجلس الشيوخ، إضافة إلى ذلك، توجد مجالس المياه والبرلمان الأوروبي التي تُنتخب مباشرة من قبل المواطنين.
يتكون البرلمان الهولندي من غرفتين: الغرفة السفلى التي تضم 150 نائبًا تُنتخب كل أربع سنوات أو عند انهيار الحكومة، وتكمن مهام النواب في سن القوانين ومراقبة أداء الوزراء. أما مجلس الشيوخ فيتألف من 75 عضوًا يُنتخبون كل أربع سنوات بواسطة أعضاء المجالس الإقليمية، ويقتصر دورهم على تقييم القوانين الجديدة وقبولها أو رفضها من دون إمكانية تعديلها. الحكومة بحاجة لدعم أغلبية الشيوخ لضمان تمرير سياساتها الأكثر جدلًا.
يشترط التصويت الوطني في هولندا أن يكون الناخب هولندي الجنسية ويبلغ 18 سنة أو أكثر. تُرسل بطاقات الاقتراع قبل 14 يومًا، ويجب على الناخبين إظهار هويتهم عند الإدلاء بأصواتهم، مع إمكانية التصويت بالوكالة. بينما يسمح للأجانب بالتصويت في الانتخابات المحلية والأوروبية ومجالس المياه وفق شروط محددة، لكن لا يحق لهم التصويت في الانتخابات الوطنية.
يعتمد نظام التصويت في هولندا على التمثيل النسبي وفق قوائم الأحزاب المعتمدة، يرأس قائمة الحزب عادة زعيمه، في حين يوضع آخر اسم في القائمة غالبًا كشخصية مشهورة لدعم الحزب، ويُعرف هذا الموقع باسم Lijstduwer. يقوم الناخبون باختيار الحزب وتحديد المرشح المفضل عن طريق قلم أحمر، بينما أُلغيت محاولات التصويت الإلكتروني بسبب مخاوف الاحتيال والخصوصية.
يوفر النظام الهولندي آلية التصويت التفضيلي، إذ يمكن للمرشح الذي يحصل على نسبة 25% من الحصة الانتخابية أن يتقدم في القائمة ويفوز بمقعد، بصرف النظر عن موقعه الأصلي. هذه الآلية تسمح للناخبين بتعزيز تمثيل مجموعات معينة، مثل النساء أو الأقليات، ضمن البرلمان.
تُحسب الحصة الانتخابية عبر قسمة إجمالي الأصوات على عدد المقاعد في البرلمان (150). أي حزب يحصل على أصوات أكثر من الحصة يكسب مقعدًا على الأقل. أما الأصوات المتبقية فتُوزع وفق صيغة معقدة، وغالبًا تتفق الأحزاب على نقل أصواتها الزائدة لدعم فرص بعض الأحزاب بالفوز بمقاعد إضافية.
بعد إعلان النتائج، يبدأ مسار تشكيل الحكومة، يُعيَّن أولًا Verkenner، وهو شخصية سياسية مخضرمة تستطلع إمكانيات التحالفات بين الأحزاب. ثم يأتي دور Informateur الذي يتولى التفاوض بين الأحزاب على اتفاقية تحالف حكومي (coalition agreement)، وقد تستغرق هذه العملية شهورًا. بعد ذلك يُعيَّن Formateur، غالبًا زعيم أكبر حزب، لتعيين الوزراء. تُعلن الحكومة الجديدة لاحقًا Regeerakkoord، وهو وثيقة تشمل السياسات والخطط التي ستنفذها الحكومة، التي غالبًا ما تكون مزيجًا من تسويات سياسية وسياسات جديدة.
يُظهر النظام الهولندي طبيعة التمثيل النسبي وتعدد الأحزاب، ما يجعل التحالفات أمرًا ضروريًّا لتشكيل الحكومة، كما يوفر التصويت التفضيلي فرصة للناخبين للتأثير على ترتيب المرشحين في القوائم، ويبرز طول ومرونة عملية تشكيل الحكومة، حيث قد تستغرق شهورًا قبل أن تبدأ الحكومة الجديدة أعمالها الفعلية.
نتائج الانتخابات
أظهرت الانتخابات البرلمانية الهولندية 2025 تحولات مهمة في موازين القوى داخل البرلمان؛ إذ أدت التغيرات في الدعم الشعبي إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي المحلي. وفقًا للبيانات الأولية، وبعد فرز نحو 98% من الأصوات، تصدرت النتائج كل من حزب الديمقراطيين “دي-66” الوسطي وحزب الحرية PVV بزعامة خيرت فيلدرز؛ فحصل كلا الحزبين على نحو 26 مقعدًا من أصل 150 في مجلس النواب يمثل هذا تراجعًا ملحوظًا لحزب الحرية مقارنة بأدائه القياسي في انتخابات 2023، حيث حصل على 37 مقعدًا، بينما حقق D66 مكاسب كبيرة تكاد تقترب من مضاعفة مقاعده ثلاث مرات تقريبًا. [3]
توزيع المقاعد المتبقية بين الأحزاب الرئيسية يظهر توازنًا نسبيًّا: VVD يمين الوسط حصل على 22 مقعدًا، بينما الديمقراطيون المسيحيون حصلوا على 15 مقعدًا، وحزب الخضر/العمال على 12 مقعدًا، مع 49 مقعدًا موزعة على أحزاب صغيرة ومتنوعة. يعكس هذا التنوع الحزبي الطبيعة متعددة الأطراف للنظام الهولندي، حيث لا يكفي حزب واحد لتشكيل الحكومة بمفرده، ما يجعل بناء تحالف مستقر أمرًا بالغ الأهمية لضمان الأغلبية البرلمانية.
النتائج الأولية تشير أيضًا إلى تحولات اجتماعية وسياسية أوسع، حيث يعكس صعود D66 رغبة الناخبين في تبني خطاب إيجابي وحلول عملية للأزمات الحضرية والاقتصادية، مثل الإسكان والتعليم والهجرة. [4]
في المقابل، يظهر تراجع PVV محدودية جاذبية الخطاب الشعبوي المتطرف عندما يواجه قيودًا سياسية وأخطاء سابقة في إدارة الحكومة. باختصار، الانتخابات تعكس توازنًا دقيقًا بين الوسط واليمين المتطرف، وتضع الأساس لمفاوضات ائتلافية معقدة ستحدد مستقبل السياسات الهولندية في السنوات المقبلة.
جدول يوضح المقاعد قبل وبعد انتخابات 2025 للأحزاب الرئيسية في هولندا:
| الفارق (±) | 2025 | 2023 | الحزب |
| +17 | 26 | 9 | D66 (يسار – الوسط) |
| -11 | 26 | 37 | PVV (اليمين المتطرف – حزب الحرية) |
| -2 | 22 | 24 | VVD (يمين الوسط) |
| -5 | 20 | 25 | GL-PvdA (الخضر/العمال) |
| +13 | 18 | 5 | CDA (المسيحي الديمقراطي) |
| +8 | 9 | 1 | JA21 |
| +4 | 7 | 3 | FvD |
| -3 | 4 | 7 | BBB |
| -2 | 3 | 5 | SP |
| ±0 | 3 | 3 | Denk |
| ±0 | 3 | 3 | PvdD |
| ±0 | 3 | 3 | SGP |
| -1 | 2 | 3 | CU |
| -2 | 0 | 2 | Volt |
| +2 | 2 | 0 | 50+ |
المصدر: داتش نيوز: https://tinyurl.com/tjhb6krk
ملاحظات مهمة:
- الأرقام الخاصة بالمقاعد لبعض الأحزاب لم تُعلَن بدقة بعد، لذا وُضعت تقديرات مستندة على النتائج السابقة والتحليلات المبكرة.
- D66 سجل أكبر زيادة مطلقة تقريبًا ثلاثة أضعاف مقاعده السابقة.
- PVV فقَدَ جزءًا من شعبيته بعد الفوز القياسي في 2023.
- لتشكيل حكومة يحتاج التحالف إلى 76 مقعدًا على الأقل، ما يعني أن أربعة أحزاب أو أكثر ستشكل الائتلاف المتوقع.
تحليل المشهد السياسي الهولندي
تحليل نتائج الانتخابات الهولندية 2025 يتطلب فهمًا دقيقًا للسياق السياسي الداخلي والعوامل التي دفعت إلى صعود الوسط الليبرالي وتراجع اليمين المتطرف. من أبرز هذه العوامل كان الخطاب الإيجابي والبرامج العملية التي تبناها حزب الديمقراطيين “دي-66” بقيادة روب يتن، حيث ركز الحزب على معالجة أزمات الإسكان، والتعليم، والطاقة، وهي القضايا التي تمس حياة المواطنين اليومية. كما شكلت شخصية يتن، الشاب البالغ من العمر 38 عامًا والأول المعلن كمثلي الجنس في منصب رئيس الوزراء المحتمل، عامل جذب قوي للناخبين، خصوصًا الشباب والطبقة الوسطى الحضرية، الذين يميلون إلى تبني سياسات تقدمية ومرنة.
على الجانب الآخر، شهد حزب الحرية PVV تراجعًا ملحوظًا بعد أدائه القياسي في 2023. أسباب عدة تفسر هذا الانخفاض: أولًا، رفض الأحزاب الأخرى الدخول في ائتلاف مع PVV بعد أن أسقطت حكومته السابقة في يونيو 2025 بسبب سياساته المتشددة. ثانيًا، أدت سياسات الحزب المتطرفة، مثل رفض طلبات اللجوء وإعادة اللاجئين الأوكرانيين ووقف المساعدات الخارجية، إلى فقدان دعم الناخبين المعتدلين. ثالثًا، أسهمت الصورة السلبية التي رسمتها وسائل الإعلام الأوروبية عن الحزب في تقويض جاذبيته. [5]
تشير النتائج إلى أن الناخب الهولندي يبحث عن حلول عملية قابلة للتطبيق بدلًا من خطاب شعبوي مبني على الرفض والعداء، وهو ما منح D66 اليد العليا في الانتخابات. إضافة إلى ذلك، تعكس النتائج تفضيلًا لاستقرار النظام البرلماني الهولندي المتعدد الأحزاب؛ إذ لا يمكن لأي حزب واحد الحكم بمفرده، ما يجعل قدرة الأحزاب على بناء ائتلاف مستقر العامل الحاسم لضمان تنفيذ سياسات الإصلاح المستقبلية.
باختصار، المشهد الداخلي يعكس نهاية فترة الهيمنة القصيرة لليمين المتطرف وإمكانية استعادة الوسط المعتدل لمركز القيادة السياسية، مع توقع تأثير كبير في سياسات الحكومة القادمة.
تداعيات تشكيل الحكومة
تشكيل الحكومة الهولندية بعد انتخابات 2025 يمثل تحديًّا كبيرًا بسبب تعددية الأحزاب وتوازن القوى البرلماني. للوصول إلى أغلبية برلمانية في مجلس النواب المؤلف من 150 مقعدًا، يحتاج أي ائتلاف إلى 76 مقعدًا على الأقل. هذا يعني أن حزبًا واحدًا، حتى مع المكاسب الكبيرة مثلD66، لا يمكنه الحكم بمفرده، ويحتاج إلى التعاون مع أحزاب أخرى عدة. السيناريو المرجح لتشكيل ائتلاف مستقر يشمل D66 (26 مقعدًا) + الديمقراطيون المسيحيون (15) + VVD (22) + الخضر/العمال (12)، مع احتمال دمج أحزاب صغيرة لتحقيق الأغلبية الكاملة.
تشكيل هذا الائتلاف لن يكون سهلًا، نظرًا للاختلافات الأيديولوجية بين الأحزاب، خصوصًا في الملفات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية. هذا يجعل من المرجح أن تستغرق مفاوضات الائتلاف أشهرًا عدة قبل إعلان الحكومة الجديدة. على الرغم من ذلك، فإن قدرة روب يتن على قيادة التفاوض وحشد دعم الوسط المعتدل قد تمنحه ميزة في تكوين حكومة مستقرة وفعالة.
من ناحية أخرى، من المرجح أن يبقى PVV في المعارضة، ما يعني استمرار الدور الرقابي القوي للمعارضة في البرلمان، مع إمكانية استخدامه للضغط على الحكومة في قضايا الهجرة والطاقة. وفي المجمل، فإن تشكيل الحكومة المقبلة سيحدد بشكل مباشر قدرة D66 على تنفيذ إصلاحاته الاقتصادية والاجتماعية واستقرار المشهد السياسي الهولندي في السنوات المقبلة.
الدلالات الإقليمية والدولية
تمثّل نتائج الانتخابات الهولندية لعام 2025 مؤشرًا بارزًا إلى التحولات السياسية في أوروبا الغربية، فهي لا تعكس فقط الانتصار المحلي لحزب الديمقراطيين D66، بل تحمل رسائل أوسع على الصعيدين الإقليمي والدولي. أول ما يمكن ملاحظته هو قدرة الوسط الليبرالي على استعادة الثقة الشعبية بعد سنوات شهدت فيها الأحزاب التقليدية تراجعًا أمام صعود الأحزاب الشعبوية واليمين المتطرف. نجاح D66 في الانتخابات يشير إلى أن الجماهير الأوروبية المتقدمة لا تزال تعطي أهمية كبيرة للاستقرار السياسي والبرامج العملية التي تلامس هموم المواطن اليومية، مقارنة بالخطاب الشعبوي الذي يركز غالبًا على العواطف والمواقف المعادية للمؤسسات. بهذا المعنى، تعكس هولندا نموذجًا للديمقراطيات متعددة الأحزاب حيث يمكن للوسط المعتدل استعادة زمام المبادرة إذا قدم خطابًا متوازنًا وحلًا عمليًّا للتحديات الاقتصادية والاجتماعية.
على الصعيد الأوروبي، تحمل نتائج الانتخابات دلالات واضحة تتعلق بمسار الاتحاد الأوروبي. فوز حزب D66 يعزز التوجهات المؤيدة للتكامل الأوروبي؛ إذ يدعم الحزب سياسات موحدة في مجالات الطاقة، والمناخ، والهجرة والدفاع. في سياق أزمات الطاقة التي شهدتها أوروبا خلال السنوات الأخيرة، يُعدّ الاستقرار السياسي في هولندا أمرًا أساسيًّا لتنسيق السياسات مع بروكسل؛ سواء فيما يتعلق بأسعار الطاقة أو تطوير مصادر الطاقة المتجددة، كما أن الالتزام الأوروبي للحزب الجديد يعزز قدرة هولندا على التعاون مع شركائها في الاتحاد في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية المشتركة، مثل التضخم، والبطالة الجزئية، وإعادة بناء شبكات التعليم والتدريب المهني. هذه القدرة على التعاون الإقليمي تعكس دور هولندا كلاعب رئيسي في تعزيز الاستقرار الأوروبي، وهو عامل أساسي في المرحلة الحالية التي تشهد توترات جيوسياسية متزايدة في شرق أوروبا والبحر المتوسط.
من الناحية الاقتصادية، تحمل نتائج الانتخابات رسائل مهمة للمستثمرين والأسواق. فنجاح حزب الوسط المعتدل يعطي إشارات إلى استمرارية السياسات الاقتصادية الهولندية، ما يطمئن المستثمرين بشأن المناخ الاستثماري في البلاد. هولندا معروفة بسياسات استقرار المالية العامة، وتشريعاتها الصديقة للأعمال، ومشاريعها الطموحة في البنية التحتية والتعليم والطاقة. الحكومة الجديدة، وفق برنامجD66، ستتمكن من تنفيذ إصلاحات هيكلية طويلة الأمد، بما في ذلك تطوير شبكة النقل العام، تعزيز البنية التحتية الرقمية، وتحسين جودة التعليم العالي والبحث العلمي. هذه السياسات، إذا ما نُفّذت بفعالية، ستؤدي إلى رفع تنافسية الاقتصاد الهولندي في أوروبا والعالم، وتدعم مكانته كمركز اقتصادي مستقر وجاذب للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
على الصعيد الإقليمي، تُعدّ الانتخابات الهولندية مؤشرًا ضد موجات الشعبوية التي اجتاحت أوروبا في العقد الأخير. نجاح حزب الوسط المعتدل في استعادة مكانته يظهر أن الشعبوية ليست بالضرورة مستدامة في بيئات ديمقراطية متعددة الأحزاب، خصوصًا عندما يواجه المواطنون تحديات حياتية واقتصادية ملموسة. الدرس المستفاد من هولندا أن الاستراتيجيات المبنية على برامج عملية وحلول واقعية قد تفوق الخطاب الشعبوي العاطفي في التأثير على الناخبين؛ خصوصًا في المجتمعات التي تتمتع بمستوى تعليم مرتفع ونظام سياسي مؤسساتي قوي. هذه الرسالة تحمل دلالة استراتيجية لدول أخرى تواجه صعود التيارات الشعبوية، مثل بعض الدول الأوروبية الغربية والجنوبية، إذ توضح أن استراتيجية الوسط المعتدل يمكن أن تحقق انتصارات سياسية ملحوظة إذا ترافقت مع برامج عملية قابلة للتنفيذ.
من جهة أخرى، يحمل هذا الانتصار الهولندي دلالات جيوسياسية دولية. في ظل التحديات العالمية الراهنة، بما في ذلك الصراعات في أوكرانيا والشرق الأوسط، وكذلك المنافسة الاقتصادية بين القوى الكبرى، يُعد استقرار هولندا سياسيًّا عاملًا مهمًّا في دعم مواقف الاتحاد الأوروبي على الساحة الدولية. فقدرة الحكومة الجديدة على المشاركة الفعالة في صوغ السياسات الأوروبية الموحدة في مجالات الدفاع والطاقة والمناخ تجعلها شريكًا موثوقًا به في الملفات الحساسة، وهو ما يعزز الدور الأوروبي ككتلة قادرة على التفاوض والتأثير عالميًّا.
نتائج الانتخابات الهولندية 2025 أيضًا تعكس تحولات اجتماعية داخلية. اختيار الناخبين لحزب D66 يشير إلى تفضيل السياسات الاجتماعية والاقتصادية المعتدلة على الخطابات الشعبوية القومية أو المعادية للهجرة. هذا التوجه يعكس وعي الجمهور بأهمية التوازن بين الأمن الاجتماعي والاقتصادي والحقوق الفردية، ويُظهر أن المجتمعات المتقدمة لا تتأثر بسهولة بخطابات اليمين المتطرف إذا لم تقدم هذه الخطابات حلولًا واقعية للمشاكل اليومية.
إضافة إلى ذلك، تُبرز النتائج أهمية الديمقراطية التعددية والتمثيل النسبي في التخفيف من حدة التيارات المتطرفة. نظام الانتخابات الهولندي الذي يعتمد على التمثيل النسبي يتيح للأحزاب الصغيرة والمتوسطة التأثير في تشكيل الحكومة، ويجعل من الضروري إقامة تحالفات سياسية قائمة على التفاوض والتوافق. هذه الديناميكية تقلل من قدرة الأحزاب الشعبوية على احتكار الخطاب السياسي، وتعزز فكرة أن الاستقرار السياسي يتحقق من خلال الحوار والتحالفات بدلًا من الخطاب الانفعالي والمواقف المتطرفة.
في المحصلة، يمكن القول إن نتائج الانتخابات الهولندية لعام 2025 تحمل رسائل مزدوجة على المستويين الإقليمي والدولي. على المستوى الإقليمي، هي تأكيد لقوة الوسط المعتدل وقدرته على الصمود أمام صعود الشعبوية، وتعزز دور هولندا كشريك موثوق به في الاتحاد الأوروبي. على المستوى الدولي، يظهر أن الديمقراطيات الأوروبية المتقدمة قادرة على الحفاظ على توازن سياسي مستقر حتى في مواجهة تحديات عالمية واقتصادية، وأن السياسات الوسطية القائمة على برامج عملية وشفافة يمكن أن تفوز بثقة الناخبين على المدى الطويل.
الرؤية المستقبلية والسياسات المتوقعة
فوز حزب الديمقراطيين D66 في انتخابات 2025 يفتح الباب أمام حقبة جديدة من السياسات الوسطية والليبرالية في هولندا، مع التركيز على الإصلاحات الهيكلية وتحسين حياة السكان. ومن المتوقع أن تتبنى الحكومة الجديدة بقيادة روب يتن سياسات إسكانية متقدمة لمعالجة أزمة السكن المتفاقمة في المدن الكبرى، مع تشجيع الاستثمار في مشاريع البناء والإسكان الاجتماعي.
في مجال التعليم، ستولي الحكومة اهتمامًا كبيرًا بتحسين جودة التعليم العام وتوسيع الفرص للطلاب، بما يتماشى مع التزامات هولندا نحو التنمية البشرية والاستدامة. أما على صعيد الهجرة، فمن المتوقع أن تعتمد الحكومة سياسات متوازنة تحافظ على معايير اللجوء والاندماج، بعيدًا عن الخطاب الشعبوي الذي ميز PVV في الفترات السابقة.
على المستوى الاقتصادي، ستسعى الحكومة إلى تطوير الطاقة المتجددة والاستثمار في البنية التحتية، مع تحقيق توازن بين استدامة الموارد واحتياجات الاقتصاد الهولندي، وهو ما سيعزز الاستقرار المالي والثقة لدى المستثمرين.
من الناحية السياسية، تبقى قدرة الحكومة على بناء ائتلاف مستقر العامل الأهم لضمان تنفيذ هذه السياسات بنجاح؛ إذ إن فشل الائتلاف قد يؤدي إلى عودة عدم الاستقرار، كما حدث في حكومة PVV السابقة. على المدى الطويل، يمثل هذا الفوز مؤشرًا إلى أن الحلول الوسطية العملية والإيجابية يمكن أن تتفوق على الشعبوية المتطرفة إذا نجحت في الاستجابة لمطالب الناخبين بشكل فعال ومستدام.
والخلاصة، تشكل نتائج الانتخابات الهولندية 2025 لحظة فارقة ليس فقط في التاريخ السياسي الهولندي، بل في السياق الأوروبي والدولي أيضًا. فوز حزب الديمقراطيين D66 بقيادة روب يتن يعكس قدرة الوسط المعتدل على استعادة الثقة الشعبية بعد فترة من الهيمنة المؤقتة لليمين المتطرف. هذه النتيجة ليست تغييرًا في الأرقام البرلمانية فحسب، بل رسالة رمزية قوية مفادها أن الناخبين يفضلون الحلول العملية والإيجابية على خطاب الكراهية والشعبوية.
من الناحية الاستراتيجية، تشير هذه الانتخابات إلى أن الشعبوية المتطرفة ليست مستدامة في المجتمعات الديمقراطية المتعددة الأحزاب؛ خصوصًا عندما تواجه إدارةً عملية للحكومة وفشلًا في تحالفات مستقرة. بالمقابل، يظهر النجاح الكبير لـ D66 أن الأحزاب الوسطية والليبرالية القادرة على تقديم برامج واضحة ومحددة يمكنها الفوز بثقة الناخبين، بل إعادة تشكيل المشهد السياسي لمصلحة الاستقرار والتنمية.
إضافة إلى ذلك، يحمل هذا الفوز دلالات دولية مهمة: فهو يعزز استقرار الاتحاد الأوروبي، ويتيح لهولندا قيادة مبادرات متقدمة في مجالات الطاقة والتعليم والهجرة، كما يمثل إشارة واضحة إلى أن السياسة الإيجابية والبرامجية يمكن أن تتجاوز خطاب التطرف إذا نجحت في التعامل مع الاحتياجات الحقيقية للمجتمع.
في الختام، تمثّل هذه الانتخابات درسًا عمليًّا للدول الأوروبية حول قوة الوسط المعتدل وقدرته على مواجهة الشعبوية، كما تؤكد أن المستقبل السياسي الهولندي سيعتمد على القدرة على بناء تحالفات فعالة، وتطبيق إصلاحات ملموسة، وتعزيز الثقة بين الحكومة والمواطنين. هذه الرسالة تحمل أهمية استراتيجية لكلٍّ من صناع القرار والمحللين السياسيين والمستثمرين على حد سواء.
[1] Jon Henley and Senay Boztas, Centrist D66 party makes huge gains in Dutch election, The Guardian. October 30, 2025: https://www.theguardian.com/world/2025/oct/29/exit-poll-suggests-progressive-d66-party-will-become-largest-in-dutch-parliament?utm_source=chatgpt.com
[2] Dutch Nes, What you need to know about how the Dutch electoral system works, October 22, 2025: https://www.dutchnews.nl/2025/10/what-you-need-to-know-about-how-the-dutch-electoral-system-works/
[3] Reuters. 2025. “Dutch‑centrist D66 Party Wins Big in Election as Far Right Loses Support.” Reuters, October 30, 2025: https://www.reuters.com/world/dutch-vote-elections-test-european-populisms-reach-2025-10-29/?utm_source=chatgpt.com
[4] Atlantic Council. 2025. “Your Primer on the Dutch General Elections.” Atlantic Council, October 25, 2025: https://www.atlanticcouncil.org/content-series/eye-on-europes-elections/your-primer-on-the-dutch-general-elections/?utm_source=chatgpt.com
[5] Al Jazeera, Netherlands centrist party wins big in election as far right loses support, October 30, 2025: https://www.aljazeera.com/news/2025/10/30/netherlands-centrist-party-wins-big-in-election-as-far-right-loses-support