ينطوي انتخاب دولة الإمارات العربية المتحدة عضواً غير دائم في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة على أهميةٍ كبيرةٍ؛ لأنه لا يمثل تتويجاً لمسيرة حافلة من الجهود التي قامت وتقوم بها الدولة من أجل تحقيق التنمية العالمية والأمن الاستقرار الدوليين فقط، وإنما يعكس المكانة التي أضحت تحظى بها دولة الإمارات العربية المتحدة على الساحة الدولية أيضاً، وبالطبع الثقة العالية في قدرتها على المساهمة بفعالية في تعزيز التعاون الإقليمي والدولي، وحفظ السلم العالمي، والالتزام الشديد بتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة مطلع الألفية الجديدة. فما سياق هذا الانتخاب؟ وما أهميته ودلالاته؟ ولماذا يمكن للإمارات أن تضطلع بدور بارز في إطار هذه المهمة الكبيرة، ويكون لها بصمتها في مسيرة التعاون العالمي؟
سياق الترشيح ودوافع الانتخاب
كانت الإمارات قد أعلنت ترشيحها رسمياً لشغل مقعد غير دائم في مجلس الأمن الدولي أمام المناقشة العامة للدورة الخامسة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 سبتمبر 2020؛ وذلك في ظل مطالب إقليمية ودولية واسعة لها للترشح؛ وقد حصلت على تزكية جامعة الدول العربية ومجموعة دول آسيا والمحيط الهادي؛ ولذلك يمكن القول إن انتخاب الإمارات لهذا الموقع الدولي المهم كان متوقعاً بل ومؤكد أيضاً، وذلك بالنظر إلى حجم الدعم الذي لقيته الدولة قبل عملية الترشيح وخلالها وما بعدها، وصولاً إلى يوم الاقتراع، الجمعة 11 يونيو 2021؛ الذي توّج بانتخابها عضواً غير دائم في أعلى هيئة دولية مسؤولة عن حفظ السلم والأمن الدوليين.
ويعكس حجم التأييد الذي حظيت به الإمارات سواء داخل المجموعة الكبيرة التي تُمثلها، أو من أعضاء الجمعية العامة كلهم، رغبة المجتمع الدولي في أن تتولى الإمارات هذا الموقع المهم؛ حيث يُعول العالم وخاصة الدول النامية عليها كثيراً في تبنّي قضاياها العادلة ودعم عمليات التنمية وحفظ الأمن والاستقرار الدوليين، والدفع بالعمل الجماعي قُدُماً؛ خاصة في ظل جائحة كورونا التي أظهرت محورية التعاون الدولي في مواجهة التحديات العالمية. ولا شك أن الدور الذي اضطلعت به دولة الإمارات العربية المتحدة في مواجهة هذه الجائحة لقي الكثير من الثناء والتقدير سواء من الدول أو المنظمات الدولية العالمية وفي مقدمتها الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية وغيرهما.
ليست المرة الأولى…ولكنها مختلفة
ليست هذه المرة الأولى التي تُنتخب فيها دولة الإمارات العربية المتحدة عضواً غير دائم في مجلس الأمن؛ فقد سبق وكانت كذلك في الفترة ما بين عامي 1986 و1987 خلال عهد المغفور له، بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، الذي أسس ورسخ لسياسة خارجية فريدة وعلاقات دولية مميزة؛ أكسبت الدولة احتراماً دولياً ومكانة عالمية مرموقة؛ وأهلتها لأن تكون عضواً غير دائم في مجلس الأمن الدولي ولم تُكمل بعد العقد الثاني من عمرها؛ وفي فترة حرجة من تاريخ المنطقة والعالم، حيث كان العالم يشهد، آنذاك، تحولات كبرى مهدت لانتهاء الحرب الباردة، وظهور مرحلة جديدة من التوافق الدولي التي كان يؤمل أن تجعل العالم أكثر استقراراً.
ورغم أن ذلك الانتخاب، الذي مضى عليه أكثر من ثلاثة عقود، كان تقديراً لمكانة الدولة وتعبيراً عن الثقة العالية فيها أيضاً؛ فإن هذه المرة مميزة أيضاً؛ حيث تدخل الإمارات مجلس الأمن الدولي في ظل ظروف ومعطيات جديدة، أهمها:
أولاً، إن العالم يواجه تحديات غير مسبوقة، سواء في المجالات التقليدية كالاقتصاد والتجارة والأوبئة؛ أو في القضايا غير التقليدية أو الجديدة وفي مقدمتها البيئة والاحتباس الحراري، هذا فضلاً عن تفاقم ظاهرتي الإرهاب والتطرف وغيرهما.
ثانياً، إن أنماط العلاقات الدولية بما فيها التحالفات الرسمية وغير الرسمية تشهد تحولات حقيقية؛ بينما تتفاقم تداعيات الصراعات، سواء الأهلية أو الإقليمية أو الدولية، بسبب كثرة العوامل الفاعلة والمؤثرة فيها وتداخلها وصعوبة التحكم فيها، فضلاً عن غياب إرادة الإجماع الدولي في التعامل مع التحديات والمخاطر التي تواجه العالم.
ثالثاً، اشتداد حدة التنافس العالمي، خاصة في مجال الاقتصاد والتجارة، الذي إذا لم يتم ضبطه في إطار مبادئ عادلة والاحتكام في حالة النزاعات للاتفاقيات والقوانين الدولية – كما تُطالب دولة الإمارات العربية المتحدة دائماً وأبداً – يمكن أن يكون له عواقب وخيمة على رفاهية شعوب الأرض دون استثناء.
رابعاً، وفوق كل هذا وذاك، يأتي هذا الحدث المهم في العام الخمسين الذي أعلنه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، للاحتفاء بالرحلة الإنسانية الفريدة للخمسين عاماً الأولى من تاريخ الدولة، والإعداد للتحوّل الفاعل والمُستدام للخمسين عاماً المقبلة.
لهذا كله فإن دخول الإمارات مجلس الأمن الدولي هذه المرة لا شك يكتسب أهمية كبيرة؛ خاصة أن الدولة أصبحت لاعباً إقليمياً فاعلاً، وتوسعت شبكة علاقتها الدولية بشكل غير مسبوق، وهي مساهم رئيسي في عمليات التنمية في العديد من الدول والمناطق.
دلالات الاختيار وتعزيز قوة الإمارات الناعمة
لا شك أن انتخاب الإمارات لمقعد غير دائم في مجلس الأمن ليس حدثاً عادياً، وإنما يمثل علامة مهمة في مسيرة هذه الدولة الفتية في عمرها، والكبيرة في إنجازاتها، ومن ثم فله دلالات ينبغي التوقف عندها، منها:
أولاً، يعكس المكانة التي تتمتع بها الدولة وقوتها الناعمة المتنامية، والتقدير العالمي للنموذج المتميز الذي تمثله، ليس بسبب ما حققته من تقدم لشعبها في فترة زمنية قصيرة فقط، وإنما لكونها دولة عصرية تعمل من أجل التنمية والسلام والاستقرار الإقليمي والدولي أيضاً؛ وقد أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، أن “انتخاب دولة الإمارات لعضوية مجلس الأمن يعكس دبلوماسيتها النشطة، وموقعها الدولي، ونموذجها التنموي المتميز”.
ثانياً، يُجسد الثقة التي تتمتع بها الدولة في العالم؛ فالفوز بمقعد غير دائم في أعلى هيئة دولية معنية بحفظ السلم والأمن الدوليين ليس أمراً عادياً، ولا يأتي من فراغ، ولا يمكن أن يكون كذلك؛ لأن دول العالم لا تمنح صوتها لمن يتولى مثل هذه المهمة، إلا للدول التي تتمتع بثقة عالية لدى المجتمع الدولي؛ وهي ثقة لطالما عبّر عنها قادة العالم وزعماؤه؛ ولهذا فإن انتخاب الدولة لعضوية مجلس الأمن، يجسد بالفعل كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، “ثقة العالم بالسياسة الإماراتية، وكفاءة منظومتها الدبلوماسية وفاعليتها”.
ثالثاً، يدل على نجاح الدبلوماسية الإماراتية؛ فالفوز بهذه المكانة في ظل الحراك الدولي المعقّد داخل الأمم المتحدة وحتى خارجها، وطبيعة التفاعلات القائمة بين الدول وتشابك مصالحها، ليس أمراً سهلاً، ولا شك أنه جاء نتيجة جهود دبلوماسية حثيثة؛ وهذا ما عبر عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي وجه «كل الشكر لفريق الدبلوماسية الإماراتي بقيادة سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان”، مؤكداً تطلع الدولة “لفترة عضوية فاعلة وإيجابية ونشطة في مجلس الأمن الدولي”.
رابعاً، يؤكد عملياً التزام الدولة بمبادئ الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي واحترامها لها؛ حيث تمثل هذه المبادئ ثوابت في السياسة الخارجية للدولة منذ دخولها الأمم المتحدة في التاسع من الشهر الذي تأسست فيه، في ديسمبر عام 1971؛ ولطالما كانت الإمارات ملتزمة بمبادئ حسن الجوار والاحترام المتبادل والتعاون الدولي وحل النزاعات بالطرق السلمية؛ ولعل أكبر دليل على ذلك التزامها التام بحل مشكلة الجزر الثلاث التي تحتلها إيران عبر القانون الدولي، سواء بالتحكيم أو غيره من الوسائل السلمية التي تعارف عليها المجتمع الدولي وقبلها.
مسؤوليات كبيرة وآمال عريضة
إن انتخاب الإمارات لعضوية مجلس الأمن الدولي وإن كان في الحقيقة تقديراً للدولة ودورها المحوري، فإن الإمارات تنظر إليه بأهمية بالغة وتعتبره مسؤولية عظيمة، بالنظر إلى حجم التحديات التي يواجهها العالم؛ ولذلك فإن الآمال معقودة عليها للعمل مع الأعضاء الآخرين في المجلس من أجل ترسيخ السلام والتعاون والتنمية على الساحة الدولية؛ فسياسة الإمارات المستوحاة من التعاون والحوار والدبلوماسية والتسامح، سيكون لها حضور قوي خلال هذه الفترة التي تبلغ عامين؛ وستترك بصمتها داخل أورقة المجلس وخارجه؛ حيث تملك الدولة المؤهلات كلها التي تمكّنها من تحقيق شعار حملتها “نحن أقوى باتحادنا”؛ وذلك للأسباب التالية:
أولاً، الإمارات، وكما قالت لانا نسيبة مساعدة وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتية للشؤون السياسية، والمندوبة الدائمة للدولة لدى الأمم المتحدة، “دولة ديناميكية في المنطقة” وهي تتطلع دائماً إلى المستقبل وتسعى لبناء الجسور مع الجميع، بينما تقوم بدور ريادي بل وقيادي في مجال العمل الإنساني، وهي مركز عالمي للاقتصاد والتجارة وقطاع الأعمال أيضاً.
ثانياً، تطابق الأولويات التي تركز عليها الإمارات في سياستها الخارجية مع أولويات مجلس الأمن الدولي، والتي تدور حول تعزيز النهج متعدد الأطراف، والعمل مع الدول الأعضاء جميعها، والمرونة، وتحفيز الابتكار، وتأمين السلام للأجيال القادمة، وهذا لا شك سيعزز من دور مجلس الأمن الدولي خلال الفترة المقبلة.
ثالثاً، تمتع الإمارات بالخبرة والفهم الواعي والمدرك لأهمية العمل الجماعي في إيجاد حلول أكثر استدامة للعديد من القضايا التي تهم العالم، بناءً على إرث كبير وعلاقات وثيقة مع الدول والمنظمات الدولية جميعها؛ ومن ثم فإن لديها الكثير لتقدمه في قضايا محددة، منها على سبيل المثال، قضايا تغير المناخ، والإغاثة الإنسانية، والمساعدات الإنمائية، ومعالجة الأوبئة الصحية العالمية، وتسخيرها إمكانات الابتكار من أجل تحقيق السلام والاستقرار أيضاً.
رابعاً، يمكن للإمارات أن تشارك تجربتها مع أعضاء المجلس الأمن الآخرين للمساعدة في الحفاظ على السلام والأمن من التهديدات الأمنية التقليدية، وغير التقليدية أيضاً؛ حيث يمكنها نقل تجربتها كقوة معتدلة، بل والمساعدة في نقل الأصوات المعتدلة الأخرى، وتعزيز التسامح والتنوع الثقافي. فالإمارات تملك رصيداً قوياً في هذا المجال؛ وهي مسلحة بإصرار وتصميم على المضي قُدُماً في دورها القيادي في نشر التسامح العالمي. ولا شك في أن “وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك،” التي وُقعت في أبوظبي في فبراير 2019 لا تمثل دليلاً على مدى التزام الإمارات بتعزيز الحوار العالمي بين مختلف الأديان والثقافات فقط، وإنما تؤكد حرصها على أن تكون هذه الوثيقة التاريخية دافعاً لبذل المزيد من الجهود التي سيكون لها – بإذن الله – أكبر الأثر في تخفيف حدة الاحتقان بين أتباع الأديان المختلفة أيضاً، الذي نشأ نتيجة سوء فهمٍ أو تصرفات وسلوك أفراد أو عناصر محدودة، أو جماعات متطرفة معزولة، والموجودة للأسف بين أتباع مختلف الثقافات؛ ومن ثم فإن الوثيقة، بالإضافة إلى مبادئ الأمم المتحدة، ستكون دافعاً قوياً، ونبراساً ينير الطريق من أجل تحقيق نقلة نوعية في علاقات الدول والأمم، وتعزيز مفاهيم التسامح والتعايش والإخوة الإنسانية والتصدي لنزعات التعصب والكراهية التي لا تزال تسود في بعض المناطق، وتنطوي على تهديد واضح للأمن والسلم الدوليين.