Insight Image

بوكو حرام: هل يعني موت زعيم الحرب موت التنظيم؟

24 يونيو 2021

بوكو حرام: هل يعني موت زعيم الحرب موت التنظيم؟

24 يونيو 2021

مقدمة:

“بوكو حرام تؤكد خبر مقتل شيكاو قائدها التاريخي، وتعيِّن خليفته” هكذا أعلنت الجريدة الفرنسية (Le Figaro) بتاريخ 16 يونيو 2021 عن نبأ وفاة أبي بكر شيكاو القائد التاريخي للجماعة، في مواجهات مع الجماعة الجهادية المنافسة الدولة الإسلامية في الغرب الأفريقي، بقيادة أبي بكر البرناوي. ونشر باكورا مودو القائد الجديد المفترض تسجيلاً صوتياً على شبكة الإنترنت نعى فيه فقيد التنظيم، وتوعد بالثأر له.

مات زعيم التنظيم الذي روع الشمال النيجيري ولفت إليه أنظار العالم بوحشية عملياته الإرهابية، منذ أن تولى رئاسته خلفاً لزعيمه المؤسس وقائده الميداني محمد يوسف عام 2009، إثر عملية أمنية للقوات النظامية النيجيرية، قتلت فيها من أفراد التنظيم مع رئيسه ما يناهز الألف من مقاتليه. لكن.. هل مات معه تنظيمه الإرهابي، خصوصاً أنه عرف في السنوات الأخيرة تهاوياً ملحوظاً في قوته القتالية نتيجة الضربات المتتالية التي وجهتها له القوات الحكومية، بحيث يمكن أن تكون وفاة قائده ضربة نهائية قاسمة لوجوده؟ أو على الأقل هل يعني الحذف بالموت حذفاً حسابياً من كتلة الإرهاب العددية يستجيب لبداهة الحساب العقلي التلقائي، في مثل هذه الوضعيات الاستهجانية، التي يفقد فيها الموت جلاله ليحمل محملاً تفاؤليا بنهاية مشكلة؟

1- نموذج الدراسة الاستشرافي

في الواقع لا تنحصر بداهة التساؤل السابق عن تأثير موت شيكاو في بداهة الإجابة بنقص في التهديد الإرهابي، وقد يجرنا السير مع البداهتين إلى اختزالية لمعنى التهديد الإرهابي الديني والكوني تحجب عن التفكير الاستشرافي رمزية المقتول، وهذه علامة على تعقيد في الظاهرة، وضرورة النظر إليها برؤية تركيبية، ما عاد تفكير العالم الراهن – وقد تفطن إلى تعدد طبقات الواقع وتشابكها، كتعقد عملية التفكير نفسها- يسمح بالوقوع في حبائلها.

يتعين، والحالة هذه، أن نقارب خبر الموت هذا مقاربة مركبة تصطنع له من نماذج التحليل التبسيطية ما يحيط بمسارات تأثيره، أو قنواته، واتجاهاته.

من هذا المنظور، نجيب عن سؤال تأثير خبر موت شيكاو وحدثه، بأنه لن يغير شيئاً في قوة الظاهرة الإرهابية في نيجيريا، وفي أفريقيا بصفة أعم. وهذا على الرغم من تهاوي قوة تنظيم داعش بعد هزائمه في سوريا والعراق، ومقتل زعيمه أبي بكر البغدادي بتاريخ 27-10-2019 . قد يجوز تفسير هذا الحكم المخيِّب بشتى أنواع النماذج التفسيرية السوسيولوجية أو الجيوستراتيجية أو التاريخية أو غيرها من النماذج. ولكن يمكننا استجابة لحجم هذه الدراسة أن نختزلها في عامل جامع، يمكن أن ندرج تحته مختلف العوامل الفرعية. نعتقد أن سبب استمرار التأثير الإرهابي بقوته القديمة في نيجيريا وفي أفريقيا عامة قبل مقتل قائد بوكو حرام، عامل جامع مورده في القاموس السياسي هو ضعف الاندماج الوطني، أو عجز الدولة الوطنية في نيجيريا وفي سائر البلدان الأفريقية عن إحداث التوازن المرن بين مكونات الضفيرة الدينية والإثنية اللغوية والسياسية والثقافية الشديدة التعقيد التي تميز سائر البلدان الأفريقية، ولاسيما في قطاعها الجنوبي.

ففي نيجيريا، كما في غالب الدول الأفريقية، خلل هيكلي في بناء الهوية النيجيرية، حال دون توحيد الولاءات الدينية والقبلية والطبقية وتوحيدها في اتجاه الكتلة السياسية الواحدة، إذ إن عوامل الربط بالعمق اللغوي والإثني والثقافي والجغرافي بالفضاء الأفريقي الواسع وارتباطاته التاريخية بما يتجاوز حدود القارة الأفريقية كالارتباط بالجزيرة العربية – كلها تمثل موانع إزاء محاولات الدمج والتوحيد السياسيين التي تبذلها الدولة لإحكام السيطرة على مجالها السياسي.

تمثل هذه الوضعية الإطار الملائم لانزراع تنظيم مناوئ للدولة، يحمل دعاواها نفسها بجدارته بإدارة الحياة الجماعية، ومشروعها نفسه بتنفيذ هذه الإدارة سياسياً. التنظيمات الإسلامية التي ينتمي إليها تنظيم بوكو حرام هما التنظيمان -محل الدراسة- اللذان يسعيان لإقامة الدولة الإسلامية[1]؛ تنظيم “القاعدة” ومنافسه على المشروع نفسه؛ أي تنظيم “داعش”. فبوكو حرام تقع في قلب هذا الصراع على الدولة بين الدولة النيجيرية القائمة والتنظيمات الإسلامية التي تريد بدورها الاستحواذ على الدولة.

تعمل الدولة الوطنية لتحقيق الاندماج الوطني سياسياً وإقليمياً ودينياً ولغوياً واقتصادياً في مستوى الوطن الضيق، بينما تقوم الاستراتيجيات العامة للتنظيمات الإسلامية على كسر عملية التوحيد تلك والإفادة منها. وتمثل جدلية التفتيت والتوحيد، التي تميز علاقة الدولة بهذه العوامل الخلفية المحددة في الانتماء النيجيري، عاملاً أساسياً مركباً مانعاً من الحديث عن نهاية الإرهاب باسم الإسلام في نيجيريا. فخلف عوامل التوحيد القسرية في إطار الدولة النيجيرية في ظل نموذج وطني علماني، تشكل هذه العوامل المفتتة لذلك المجهود التجميعي في إطار القطر الضيق، مواد عملية خفية رابطة في اتجاه إقليمي أوسع تشكل مرساة أساسية وفضاء ثقافياً ودينياً حيوياً لاستمرار تأثير هذه التنظيمات. وهكذا، فإن مجهود الدولة الوطنية لتحقيق الاندماج الوطني في مستوى الوطن الضيق، يقابله عمل التنظيمات الإسلامية على كسر عملية التوحيد تلك والإفادة منها في جدلية تفتيت وتركيب تربط سلوكه بسلوك الدولة في الاستحواذ على الولاء الجماعي الضروري لكل دولة.

إن تعيين عامل ضعف الاندماج الوطني بوصفه عاملاً جامعاً، يمثل اختزالاً لمجموعة الشروط الموضوعية التي تعمل عليها جدلية التفكيك والتوحيد الجامعة بين طرفي التنافس على المجال النيجيري؛ أي الدولة الوطنية ودولة التنظيمات الإرهابية، إلا أنه يتعين علينا، فضلاً عن ذلك، أن نأخذ في الحسبان جملة الخصائص الذاتية المميزة لهذه التنظيمات، التي تعد بدورها عوامل تمنحها القدرة على الاستمرار. وهي شروط ذاتية تمثل خصائصها تنظيماً سياسياً دينياً تابعاً لتنظيم أكبر، خصائصه هي مبادئه الفكرية وأطروحاته النظرية وسلوكه العملي، سواء من جهة تطبيق المبادئ على أرض الواقع في شكل فقه وفتاوى، أو من الجهة الاستراتيجية الميدانية. فهذه العوامل بدورها تمثل أسباباً رئيسية تدعم استمرار الوجود الإرهابي، سواء تشكل في تواصل بوكو حرام بعد وفاة قائدها، أو في تنظيمات أو جماعات مقاتلة بديلة، أو في استمرار التنظيمين الكبيرين المتنازعين على الدولة؛ أي تنظيم القاعدة وتنظيم داعش[2].

 2- في خطة الدراسة وتمشيها

في سياق تفسيرنا لأسباب ضعف الاندماج الوطني أو مظاهره، سنعرض في الاستدلال التالي تحت عنوان الشروط الموضوعية لاستمرار بوكوحرام فعلياً أو رمزياً، أي عبر وسائطها الأخرى الجامعة أو الجزئية، مظاهر هذه الجدلية، جدلية التوحيد والتجزئة التي تجري بطريقة دائرية يؤدي فيها التفتيت (أو التجزئة)، الذي تمارسه هذه العوامل ضد مسار التوحيد لصالح الدولة الوطنية، دور عامل التوحيد لصالح الدولة المنازعة لها، أي الدولة الإسلامية بممثليها الرئيسيين “القاعدة” و”داعش”. فبقدر ما تمثل هذه العوامل السياسية والإثنية واللغوية والاجتماعية عوامل تقسيم تمنع الدولة من عملية إنجاز الاندماج الكلي في سياق الدولة، فهي تشكل في الوقت نفسه عوامل ربط للمجموعات العرقية واللغوية المقسمة، في فضاء أوسع هو الفضاء الأممي الذي يمثل المجال الحيوي الضروري للدولة الإسلامية القائم مقام المجال الضروري للدولة، كما تحدده نظرية العناصر الثلاثة، وهي عوامل يمكن تعيينها بمنطق الجدليات في ثلاث جدليات رئيسية؛ هي:

  • تقسيم سياسي وطني ضد الدولة الوطنية/ ربط سياسي أممي لصالح الدولة الإسلامية
  • تقسيم لغوي وطني ضد الدولة الوطنية/ ربط لغوي أممي لصالح الدولة الإسلامية
  • تقسيم ديني ضد الدولة الوطنية/ ربط ديني لصالح الدولة الإسلامية.

ثم سنعرض تحت عنوان الشروط الذاتية لاستمرار بوكو حرام عوامل هذا الاستمرار المتأتية من الخصائص الذاتية لهذه التنظيمات، بمختلف تشكلاتها في مستوى مبادئها النظرية وسلوكها العملي التطبيقي والاستراتيجي، التي تمكنها من الإفادة من الشروط الموضوعية السابقة.

أولاً: في الشروط الموضوعية لاستمرار بوكو حرام

1– تقسيم سياسي وطني ضد الدولة الوطنية/ ربط سياسي أممي لصالح الدولة الإسلامية

تتبنى نيجيريا نظاماً سياسياً تقسيمياً بطبيعته فهي دولة فيدرالية من 36 ولاية، مقسمة وفق التقسيم الإداري تقسيماً دينياً يعمل عمل التقسيم السياسي، بين أغلبية مسلمة في الشمال موزعة بين قبائل الهوسا Haoussa والفولاني Fulani، وقبائل الإيبو Igbo في الشمال الشرقي، وأغلبية ثانية مسيحية موطنها القسم الجنوبي من الفيدرالية. وفضلاً عن القطيعة بين الشمال والجنوب، فإن المسلمين بدورهم لم يكونوا كياناً موحداً متجانساً بسبب التعدد الديني واللغوي والإثني.

وهذا التقسيم السياسي على المستوى الجغرافي territoire، تدعمه سيولة الحدود المؤطرة جغرافياً وقانونياً لمجال نفوذ الدولة؛ فموقع نيجيريا في الغرب الأفريقي، بدوله الست عشرة، يجعلها ضمن دائرة نظام إثني قائم على تقاليد ثقافية قديمة وعادات اجتماعية مركبة تمثل نظاماً جامعاً من الأفكار يحافظ على نوع من الولاء التاريخي بين المجموعات الإثنية المقسمة بين الدولة لم تقدر الدولة الموحدة على تعويضه.

وتتدعم هذه السيولة الجغرافية للدولة النيجيرية بانتماء مؤثر بدوره لما يسمى بمنطقة الساحل الأفريقي، حيث تمثل هذه المنطقة خطاً إقليمياً مقسوماً بين عدة دول، يمتد في وسط أفريقيا من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي، ويعيّن هذه الدول المحاذية للصحراء الكبرى. وإن لم تقع نيجيريا ضمن هذا الخط، فهي بالحد مع أبرز دولتين فيه، وهما النيجر وتشاد. وهذا الامتداد الجغرافي يصلها بمنطقة أبعد تفتحها على منطقة أقرب إلى الجزيرة العربية هي منطقة القرن الأفريقي التي تتكون من جيبوتي والصومال وأثيوبيا وأريتريا التابعة للساحل الأفريقي. وهو فضاء جيوسياسي يضم دولاً أخرى أغلب سكانها مسلمون، كالسودان وكينيا وتنزانيا. ومنطقة القرن الأفريقي كما هو معلوم تنتمي إلى هذا الإقليم الذي يسمى قوس الأزمة والذي يضم إلى القرن الأفريقي شبه الجزيرة العربية، ومنطقة الخليج.

وعلى الرغم من تشكل الدولة النيجيرية بحدودها الحديثة بعد الاستقلال عن الاستعمار البريطاني في 1 أكتوبر 1960، فإن انتماءها الجغرافي السياسي يمثل عامل تقسيم داخلي للمجال الوطني، إذ ينزل بثقله ليشد نيجيريا إلى فضائها الأممي الجغرافي الواسع ضد كل محاولات التوحيد السياسي التي تجري فيها. وهو ما يمثل مرتكز هشاشة سياسية على المستوى المجالي يمنح مشروع الدولة الإسلامية، المعادي للدولة الوطنية، القدرة على تغليب قوة جذب المجال الإقليمي الواسع على قوة توحيد المجال الإقليمي الوطني الضيق[3].

2-تقسيم لغوي وطني ضد الدولة الوطنية/ رباط لغوي أممي لصالح الدولة الإسلامية

إن جدل التقسيم الداخلي – أي داخل الدولة – والتوحيد والربط بالفضاء الإقليمي الواسع الذي يمنح المشروع المنافس للدولة – أي مشروع الدولة الإسلامية – منابت العمل والتأثير والتوحيد الأشمل – هذا الجدل يتضاعف بالعوامل اللغوية والإثنية الموروثة من تاريخ التوزع الديمغرافي للقبائل في عصر الإمبراطوريات في القرن 16؛ فهذه العوامل تمثل مانعاً من هذا التوحيد السياسي في الإطار القطري الضيق، بينما هي تمثل عوامل ربط مع الإطار الأفريقي الأممي الواسع.

فاللغة والإثنية تعملان دور العامل الثقافي الذي يكسر القيد الحدودي القانوني للدولة الوطنية في نيجيريا، ليجعلها مشدودة إلى إطارها الإقليمي الواسع؛ ففي أفريقيا، فضلاً عن اللغات الوافدة كالعربية والبرتغالية والإنجليزية، يتكلم السكان ما يقارب الألفي لغة مقسمة إلى أربع عائلات كبرى هي: السواحيلي Swahili واللينغوالا Lingala، والعربية، والهوسا، وتخترقها لهجات فرعية كثيرة[4].

وبقدر ما تمثل هذه اللغات وسائل تواصل، فإنها تعد أكبر حامل للتعدد الإثني المميز للدولة النيجيرية، إذ تتوزع الإثنيات بوصفها مجموعات ثقافية ذات روابط دموية ولغوية وتاريخية على أربع إثنيات كبرى معروفة باسم اللغات التي تتكلمها؛ وهي: اليوروبا Yorouba التي يتكلمها نحو 20% من السكان، والهوسا التي يتكلمها نحو 18% من السكان، والإيبو التي ينطق بها 14% من السكان، والفولاني Fulani ويتكلمها قرابة 8% من السكان[5].

وإذا كانت نيجيريا باعتبارها دولة تتبنى الإنجليزية لغة رسمية وبدرجة أقل العربية، فإن لغة الهوسا والإيبو واليوروبا هي اللغات الأفريقية المنتشرة فيها، والتي تضمن ارتباطها بمجالها الأفريقي الواسع، مقابل محاولات الحصر اللغوية التي تمارسها الدولة، على الرغم من اعترافها بحرية نسبية للولايات في تدريس اللغات المحلية. من ناحية أخرى تشكّل اللغة العربية، بوصفها اللغة الوافدة الأوسع انتشاراً في أفريقيا، عامل تقسيم داخلياً وطنياً، وهي في الوقت نفسه تمثل عامل توحيد أممياً يربط نيجيريا بعمق أفريقي، بل بعمق عربي يدعم صلتها الجغرافية الثقافية بالجزيرة العربية. وهكذا فبينما تعمل اللغة العربية إلى جانب اللغات الأخرى كعوامل تقسيم للغة الوطنية بالدولة النيجيرية، فإنها تمثل عامل توحيد تفيد منه الدولة الإسلامية (في تنظيميها الكبيرين، (القاعدة وداعش) في عمقها الأممي الأفريقي والعربي.

3-تقسيم ديني ضد الدولة الوطنية/ ربط ديني لصالح الدولة الإسلامية

ربما يمثل التقسيم الديني أخطر أنواع التقسيم التي تمنح تنظيم الدولة الإسلامية المنافس للدولة الوطنية الأسبقية في حيازة الولاء الجماعي؛ ويعود ذلك إلى أهمية المعتقد وقوة حضوره في التركيبة الاجتماعية التي حافظت على طبيعة تقليدية لم يؤثر فيها التعليم الحديث، الضعيف من حيث التوزيع الجغرافي. وإذا كان الإسلام هو الحامل الأساسي لرؤية العالَم التي تشكل الوعي الجماعي العام بالنسبة إلى القسم الشمالي من الفيدرالية النيجيرية بوصفه الديانة المهيمنة في الشمال، فإنه يضمن من خلال الرباط الديني لتنظيم الدولة الإسلامية تحت شعار الإسلام ما يكسبه في نيجيريا نفسها حضوراً مباشراً بوسائطه الكثيرة.

ويمثل الإسلام في نيجيريا أداة تقسيم تمنع الوحدة الدينية للفيدرالية على عدة واجهات، تحوِّل وجهة الولاء الجماعي من الداخل إلى الخارج، أي من الداخل الوطني إلى الخارج الأفريقي الأممي، بل إلى العربي الخليجي والعربي الأفريقي في شمال أفريقيا. فلدينا في نيجيريا داخل الأغلبية المسلمة القاطنة بالشمال، مقابل المسيحيين المتوزعين في ولايات الجنوب، توزُّع ديني صوفي مالكي المذهب أشعري العقيدة، وسلفي حنبلي تيمي يخترقه من الداخل تقسيم للصوفية إلى فرقتين رئيسيتين متنازعتين؛ هما: القادرية في سوكوتو والنخب الفلولانية، والتيجانية لدى الكانوريين. وبالصورة نفسها لدينا تنوع في أصناف السلفية يحاكي تصنيفتها الواردة من الجزيرة العربية، فضلاً عن توجهات إخوانية واردة من مصر، بعضها ذو إلهام بنّاويٌّ (نسبة إلى حسن البَنّا) وبعضها الآخر قطبي (نسبة إلى سيد قطب) متشبع بأفكار الحاكمية والجاهلية ومحاربة الكل. زد على ذلك فرقاً ذات ولاء شيعي، بعضها شيعي المذهب، وبعضها من المتأثرين بنجاح الثورة الإيرانية التي لم تعجز عن اختراق المجال الأفريقي والنيجيري الخاص[6].

ولا تتفاعل هذه التنويعات الدينية في ما بينها على معنى الاعتراف والتعدد، إنما العلاقة الأساسية بينها التمايز والانقسام والانعزال. وهي علاقة تطورت بعد الاستقلال بظهور المعطى السلفي مراهنا على إنجاز عملية التوحيد التي فشلت في إنجازها الدولة، نحو مزيد من التنازع الذي يصل حد التكفير والتقاتل. علينا هنا استعادة الدخول السلفي إلى الفيدرالية باعتباره المورد الأساسي للعنف الجهادي المستقبلي الذي ستتبناه بوكوحرام منهاج عمل لاحقا، وأداة تفتيت ديني للوحدة الدينية الوطنية خادمة بقوة للرهان التوحيدي الأممي والعالمي الذي راهن عليه التنظيم الديني أي تنظيم الدولة الإسلامية في ممثليه الكبيرين القاعدة وتنظيم داعش.

ويعود تاريخ السلفية في نيجيريا المستقلة إلى فترة الثمانينات، تاريخ تشكُّل أُولى الحركات السلفية الفاعلة، وهي حركة “إزالة البدعة وإقامة السنة” التي تأسست عام 1978 واقترن اسمها بالمستشار في حكومة محمد الحاج أحمد بللو، أبوبكر جومي. نشأت هذه الحركة بهدف مشروع توحيد الشمال النيجيري الإسلامي، المقسَّم دينياً، توحيداً سياسياً على أساس الدين، وتحت شعار مقاومة الطُرُقية – نسبة إلى الطرق الصوفية – والبدعة في الإسلام؛ ولذا عملت هذه الحركة على واجهتين سياسية ودينية؛ فسعت من ناحية لإلغاء الوجود الديني الصوفي، وتعويض المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية بالعقيدة السلفية “الصافية”، ومن ناحية أخرى عملت على الاستقطاب والضبط الاجتماعيين، وفعلت لذلك منظومة خدمية تعليمية[7].

لم تكن حركة”إزالة” وحدها في المجال الديني؛ ففضلاً عن عناصر التركيبة الدينية الموصوفة أعلاه نشطت ضد مشروعها التوحيدي حركات متطرفة كحركة الداعية القادم من شمال الكاميرون محمد مروة “الميتاتسين”، و”جمعية الطلاب المسلمين” المتأثرة بالإخوان المسلمين، وهذه بدورها انقسمت بعد الثورة الإيرانية لتخرج منها كبرى الحركات الإسلامية الموالية لإيران في نيجيريا، وهي جماعة إبراهيم الزكزاكي (1996)، إلا أن حركة “إزالة” الرافعة لمشروع التوحيد والمنخرطة في الجهود التوحيدية للدولة الفيدرالية ستنقسم بعد وفاة مؤسسها أبي بكر جومي (1992)، وتعرف مجموعتها العديد من الانشقاقات التي ستحمل بذرتها السلفية في اتجاهات عنيفة كثيرة؛ منها الاتجاه الذي ستمشي فيه وتتغذى عليه بوكو حرام.

وتماماً مثلما وضعت حركة”إزالة” أرضية للسلفية ستكون مورداً من موارد الجهادية العنيفة التي تبنتها بوكو حرام لاحقاً، فإنها ثبَّتت منهاج توحيد ديني لن يكون مآله إلا تركيز القواعد اللوجستية والسياسية للتفتيت السياسي؛ بسبب ترسيخها لقاعدة التفكيك الكبرى في نيجيريا. وسيكون مشروع التوحيد الديني الذي أرادته “إزالة” ملهماً لعمليات توحيد سياسية مشابهة على قاعدة دينية، وسيبرز مشروع تطبيق الشريعة، الذي أعلنه الحاج أحمد ثاني،  حاكم ولاية زمفرا، عملاً بدستور 1999 استمراراً لنيابة الدين عن الدولة في إنجاز مهمة التوحيد السياسي، إلا أنه سيؤدي كما أدى مشروع سلفه إلى تكريس البؤرة الكبرى للتفتيت، فقد ضاعف عزلة الشمال الإسلامي عن الجنوب المسيحي، تماماً مثلما ضاعف تكريس الشريعة كل الصراعات المذهبية الناتجة عن اختلاف التأويل.

إن التقسيم الديني على قاعدة التمايز إسلام / مسيحية، وسُنّة / شيعة، وسلفية / صوفية، وتيجانية / قادرية، واعتدال / تطرف، وتطرف / تكفيرية عامة، سيغذي انفلات الولاء الجماعي للدولة في كل اتجاه معاد لوحدتها داخلياً، وسيفتحها في الآن نفسه على ارتباطات إقليمية وعبر إقليمية أوسع عبر ممثلين إقليميين في أفريقيا لمشاريع الدول الإسلامية العَبر إقليمية. إذ تحدثنا المصادر الجيوستراتيجية عن تواجد إقليمي لكل التنظيمات التابعة لمشروع الدولة الإسلامية، سواء تلك المنتمية إلى “القاعدة” أو الموالية إلى تنظيم داعش.

فلدينا من جهة تنظيم القاعدة في القرن الأفريقي أي في الشرق المحاذي للجزيرة العربية، حيث انضمت الصومال بتنظيمها حركة الشباب المجاهدين إليه عام 2010، ومثلت همزة وصل بين التنظيم في الجزيرة العربية ولاسيما في اليمن، والتنظيم في المغرب الإسلامي المعروف بهذا الاسم عبر فروعه النشيطة في صحراء مالي والنيجر وغيرها من بلدان الساحل الأفريقي.

ولدينا من جهة الغرب التنظيم المنازع لتنظيم القاعدة وهو تنظيم “داعش” أو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، ولدينا في نيجيريا التنظيم الواصل الفاصل بين التنظيمين الكبيرين القاعدة وداعش، وهو تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا الذي خرجت من رحمه بوكو حرام، ثم سرعان ما خرجت عن طاعته معلنة ولاءها للقاعدة، ثم جرى ما يعلمه الجميع من ملاحقة لأبي بكر شيكاو، مات فيها موتات كثيرة، قبل أن يموت موتته الأخيرة المرجحة يوم 18/5/2021[8].

وتتكهن تقارير كثيرة بأن تنظيم داعش سيتزايد نفوذه بعد مقتل زعيم بوكو حرام، خصوصاً مع اعتماد التنظيم أسلوباً جديداً يقوم على استمالة المواطنين عبر الاضطلاع بأعمال خدمية تطمئنهم على حياتهم وتزيل عنها ذكريات العنف. لكن الحقيقة المؤكدة هي أن وجود هذه التنظيمات الكبرى للدولة الإسلامية، أي القاعدة وداعش، لن يكف عن تمثيل قوة جذب، مستفيدة باستمرار من مناخ التقسيم الديني الذي تعيشه نيجيريا في مستواها الوطني الضيق.

ثانياً: في الشروط الذاتية لاستمرار بوكو حرام: أو عوامل الديمومة المتعلقة بالجهادية في ذاتها

يمكننا في الواقع أن نتوسع أكثر في تفصيل القول في هذه الجدلية القائمة بين التنظيمين المتنافسين على الدولة في نيجيريا كما في أغلب الدول الأفريقية وإن بدرجات متفاوتة؛ أي بين الدولة الوطنية الساعية للتوحيد الوطني الإقليمي الضيق والعاجزة عنه، والدولة الإسلامية في تنظيميها الكبيرين وفروعها المحلية المزروعة في كل مكان، والمستفيدة من عجز الدولة عن التوحيد، ومن قوى التقسيم التي تنهشها داخلياً على المستوى السياسي واللغوي الإثني والديني.

فمقابل الدولة الوطنية التي لن تتشكل ما لم تقدر على التوحيد الوطني الداخلي، تستمد هذه التنظيمات البديلة أو المنازعة قوة مشروعها وعناصر إمكانها من ذلك العجز، عبر إبقاء الدولة مفتوحة على فضائها الأممي والإقليمي الأفريقي، بل العربي والإسلامي الأعم، فكل مظهر تقسيم في الفضاء الدولتي الضيق للدولة النيجيرية يصبح آلياً عامل إمكان توحيد للدولة الإسلامية، وفق آلية التفكيك وإعادة التركيب. إن هذه الجدلية – وقد توخيناها محور استدلال على حكمنا الاستشرافي بقلة تأثير حادث مقتل أبي بكر شيكاو في المسار الجهادي بنيجيريا – يمكن دعمها بعوامل كثيرة تسير في الاتجاه نفسه، تأكيداً لضعف تأثير هذا المقتل في الخريطة الإرهابية في أفريقيا وفي العالمين العربي والإسلامي. في هذا السياق نتحدث عن الشروط الذاتية أو خصائص التنظيم التي تمنحه القدرة على الاستمرار والتأثير.

يمكن الحديث بداية عن واجهة عملية لتنظيم الدولة الإسلامية، سواء كان “القاعدة” أو “داعش”، تتمثل خصائصها في هذه القدرة العالية على التأقلم التي تبديها هذه الحركات مع الأوضاع العملية التي توجد فيها، وهو تأقلم لئن جرى على نطاق العلاقة بين النظري والعملي في مستوى الأولوية، بحيث تبنت هذه الحركات التابعة للتنظيمين الكبيرين المتنازعين مبدأ فقه الضرورة الذي تدرّج إلى نوع من الفقه الميداني للقيادات المقاتلة[9]، فإنه جرى بصور أخرى على صورة استعداد ثابت لتعويض القادة الميدانيين في أسرع وقت ممكن، ونحن نعتقد جاهزية تنظيم داعش[10] لتعويض أبي بكر شيكاو بزعيم بديل يخلفه، في ضوء الجاهزية الثابتة التي ميزت سلوك هذا التنظيم في هذه الأحوال[11]، ولا أدل على ذلك من سرعة تنظيم داعش في تعيين خليفة لأبي بكر البغدادي يوم 27 أكتوبر، بعد أربعة أيام من قتله. ولا تختلف دلالة هذه الحادثة بقدرة هذه التنظيمات على تعويض خسائرها، عن دلالة حادثة تعيين قيادة تعوض زعيم التنظيم الأم الذي خرجت من رحمه داعش، أي تنظيم القاعدة، بمجرد الإعلان عن مقتل مؤسسه أسامة بن لادن (2-5-2011) ليمثلها علي محمد إبراهيم مكاوي، المشهور بسيف العدل، وسرعة تعويض القاعدة للقائد الميداني مصطفى دروكدال بعد مقتله بقائد ميداني جديد هو أبوعبيدة العنابي (20-11-2020)، وبالصورة نفسها عوضت، في كل تاريخها الجهادي في أفريقيا منذ فترة الجهاد الأفغاني، كل القيادات المقتولة؛ ففي الصومال عوضت قائدها الميداني فضل محمد يوم قتله (10-6-2011) وكذلك فعلت في ليبيا مع قائدها أبي عطية الليبي (أغسطس 2012). ولم يكن أبوبكر شيكاو إلا خليفة لمعلمه مؤسس بوكو حرام محمد يوسف، حيث تولى قيادة الجماعة بعد مقتله مباشرة.

ويُعتقد أن هذه الخاصية حاصلة من التزام بتنفيذ وصية زعيم القاعدة التنظيم الأم الأول أسامة بن لادن، بسرعة لملمة الخسارة، ورأب الصدع، وتجسد هذا مع الراحل محمد خليل الحكايمة الذي وضع استراتيجية تقبل بأدنى الجهاد نزولاً عند ضغط الحاجة إلى الجهاد الفردي. وهي استراتيجية ما كان يتوقع لها هذا المصير المؤثر، إذ تحول الجهاد إلى حالة ملهمة. فرغم الضربات المتتالية التي لقيتها القاعدة تماماً كالتنظيم المنازع تنظيم “داعش”، ولاسيما بعد مقتل أسامة بن لادن، في كل البلدان الأفريقية، فإن التراجع الذي عرفه حجم عملياتها الإرهابية في بقية بلدان العالم، قابله تزايد في عددها في منطقة الساحل الأفريقي، ووقع ذلك في القرن الأفريقي، خصوصاً من قبل بوكو حرام التي أعلنت ولاءها لـ “داعش” في 7 مارس 2015، قبل أن تنقسم إلى جماعتين بعد إزاحة أبوبكر شيكاو من قبل التنظيم عام 2016.

غير أن ملامح هذه القدرة التأقلمية العالية قد تجد تجسيدها أيضاً، فضلاً عن جدلية التفكك والتركيب التي مارستها كل الجماعات الإسلامية في شكل انشقاقات وتحالفات تتبعها لا تتوقف- تجد هذا التجسيد في السيولة الواضحة للجماعات الجهادية وقدرتها الكبيرة على الحركة؛ ففي ظل عوامل الهشاشة الحدودية للدول الأفريقية بما في ذلك الدولة النيجيرية، بفعل الروابط الإثنية المخترقة لحدود الدول، لم يكن صعباً على هذه الحركات كلما زاد تضييق الجيوش عليها أن تتنقل من بقعة إلى أخرى تتخذها مقر انطلاق جديداً؛ لتتناسل وتفرخ في كل مكان. فتنظيم القاعدة بالساحل الأفريقي هو الحاضنة الجديدة لتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي بقيادة أبي مصعب عبدالودود، القادم من دول الشمال بعد أن ضُيِّق عليه الخناق فيها، نحو موريتانيا ثم تشاد فصحراء النيجر. ومن مواقع انطلاقه الجديدة في شمال مالي، التي سيطر عليها في شهر مارس 2012 وتحولت إلى قبلة جديدة للجهاديين الوافدين من كل البلدان الأفريقية، فتح خمس جبهات قتال جديدة تحت قيادة كتيبة أنصار الدين[12]. وجماعة التوحيد والجهاد في شمال مالي المسيطرة على مدينة غاوه، منشقة في الأصل عن تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، إلا أنها تحتفظ معه بتحالف استراتيجي تربطه وحدة القناعات، تماماً كتحالفها مع بوكو حرام في الشمال النيجيري.

تؤكد هذه الأمثلة وغيرها هذا الملمح الأخير للقدرة التأقلمية العالية التي تميز الجماعات الجهادية في مجموعها، وهو ملمح بين جملة ملامح يمكن تأطيرها تحت السلوك العملي والاستراتيجي لهذه التنظيمات.

وأما الواجهة الأخرى التي يمكن أن نبني عليها حكمنا الاستشرافي تحت هذا الباب، أي باب وصف الخصائص الذاتية لهذه التنظيمات، فهي عمق البناء النظري الذي تستند إليه. يتحدث الدارسون في توصيف هذه الحركات عن تمايزات في نوع العنف أو وجهته أو طريقته؛ بين عنف عام يشمل البعيد والقريب، والكافر والمسلم، والدولة ومن يعمل تحت إمرتها، أو عنف يرفض المخالف في الدين؛ فيشمل المباين في الدين على درجاته المختلفة، من غير المسلم إلى المختلف في العقيدة أو في المذهب.

وخلف هذه التنويعات هناك تنويعات في فهم النص، تصنعه الفتاوى المتكاثرة في كل مكان، إلا أن كل التيارات الجهادية المنضوية تحت التنظيم أو الموازية، تمتص إمدادها الديني الموجِّه من مورد واحد هو المورد الحنبلي التيمي الذي صيغت مبادئه الصياغة السلفية المتقاطعة مع القطبية الإخوانية، وهكذا فإن جميع هذه التفريعات تؤمن بالأفكار القاعدية للسلفية الجهادية التي وجدت صياغتها الأولى في الكتاب المرجعي لأول من نظَّر للظاهرة الجهادية المصري عبدالسلام فرج (ت 1982) “الفريضة الغائبة”. وهي الأفكار نفسها التي تتقاطع فيها الأفكار القطبية ومبادئ السلفية الجهادية، ويعينها هاني نسيرة بتوحيد الحاكمية، والجهاد طريق التوحيد، والولاء والبراء، ودار الإسلام ودار الكفر، والكفر بالطاغوت، وغيرها من الأفكار التي لا تخرج عن المعنى العام لهذه المبادئ[13].

وعلى الرغم من المراجعات العديدة لهذه المبادئ والتعديلات الداخلة عليها[14]، فإنها تمتص كامل ألوان الطيف الاصطلاحي التبريري الديني والجهادي، حتى في السلوكيات العملية اليومية البسيطة. وتلعب هذه الأفكار القاعدية دور التأصيل الفكري في التراث الإسلامي، عودةً إلى المنابع المؤسسة للحقيقة في القدامة أي القرآن والسنة، وتمنح هذه الحركات ما تصنع به عمقها التاريخي، إلا أنها تمثل على مستوى التقاطعات القائمة بينها الموارد الأولى للتحالفات الممكنة بينها في كل وقت، التي تكسبها القدرة الثابتة على الانتشار والتوالد.

خاتمة

تسعى الدول الأفريقية جميعاً إلى مواجهة التهديد الإرهابي المسلَّط عليها بشتى الوسائل والطرق[15]، وتُجبر على تحمل حجم إنفاق مالي كان يمكن أن يسهم بقوة في حل مشكلاتها الأزلية؛ كمشكلة البطالة، وشح الموارد الطبيعية، وانتشار الفقر، والهجرة السرية، وتجارة السلاح[16]. إلا أن مشكلات من قبيل: تفشي الجريمة المنظمة، وانفلات الحدود، وتدخل الجيش في العملية السياسية بطريقة متكررة وعنيفة، لا يقل عنها في العنف التدخل الوحشي الذي مارسته قوات الشرطة في الرد على عمليات بوكو حرام وأمثالها بالإعدامات الهمجية[17] – هذه العوامل وغيرها إن كانت تفسِّر إلى حد ما نجاح التيارات الجهادية في الاستمرار والبقاء، فإن مناط تأثيرها ينبغي ألا يقاس بمعايير العقل التكميمي في مستوى الخسائر المادية والبشرية، وإنما مناط تأثيرها الأكبر أنها سبب أساسي في انفراط عقدة الولاء. وإذا كانت الدولة تُبنَى – حسب التفسير الكلاسيكي – على إقليم، وشعب، وسلطة سياسية تحكمهما، فإن بؤرة معناها الكلية تتركز في مدى ما تحظى به من مشروعية. من هذه الناحية تبدو أزمة المشروعية، وهي الأزمة التي تعانيها جل التركيبات الدولتية الإسلامية في أفريقيا وغيرها، هي مكمن الداء الأساسي الذي لا يكف ينخرها من الداخل، مغذياً في الوعي الشعبي الإسلامي الحنين الثابت إلى الدولة الكلية الإسلامية التي ترمم جرح المشروعية، بإحياء وهم الانتماء إلى مشروعية سلطة الله. هكذا نظر المسلمون، في شمال نيجيريا وفي ولايتي بورنو ويوبي موطن نشأة جماعة بوكو حرام، إلى الدولة الناشئة بعد أن شاهدوا قمعها، دولة جاءت لتعدم المسلمين. لن يُستغرب بعد هذا أن يجد الإرهاب في نفوس من يعيشون ألم الدولة بعض التعاطف مع بديلها الإسلامي الموعود، حتى وهو يمارس أشنع أصناف التنكيل بالمسلمين والإسلام.

المراجع

[1]. المقصود بـ “الدولة الإسلامية” في هذه الورقة المشروع الذي تسعى التنظيمات الإسلامية الإرهابية، مثل القاعدة وداعش وغيرهما، لإقامته ليحل محل الدولة الوطنية.

[2]. يمكن القول بمتابعة تاريخ الظاهرة الجهادية في طورها المراهن على تكوين الدولة الأممية، إن نواتها الأصلية هي تنظيم القاعدة الذي نشأ عام 1987 بقيادة الجهادي الفلسطيني عبد الله عزام، وتابعه أسامة بن لادن، ومنظره المصري أيمن الظواهري. وعلى كون المرحلة المفصلية في تاريخه، وهي تفجيرات 11 سبتمبر 2011، حيث انقسم بعدها إلى تنظيمبن كبيرين هما القاعدة في المغرب الإسلامي والقاعدة في شبه الجزيرة العربية، فإن انقسامه الأكبر هو ذاك الذي وقع عام 2006، ليخرج منه تنظيم الدولة الإسلامية، أو تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام (داعش) بداية من عام 2013 . راجع كتاب: الجغرافيا السياسية للحركات الإسلاموية، باللسان الفرنسي:

Anne-Clémentine Larroque, Géopolitique Des Islamismes, PUF/Point Delta, 2015, p109-115

[3]. حول المعلومات السابقة، راجع الموسوعة الكونية، الناطقة باللغة الفرنسية، مقال:

Dmitri-Georges Lavroff, Nigeria, in Encyclopaedia Universalis, France S.A, Corpus 13, 1988, p28-32

[4]. راجع على الموسوعة الحرة الناطقة باللسان الفرنسي ويكيبيديا، مقال: (اللغات في أفريقيا) (langues en Afrique) على الرابط التالي:

(تاريخ الاطلاع 17-6-2021).https://fr.wikipedia.org/wiki/Langues_en_Afrique

[5]. راجع على الموسوعة الحرة الناطقة باللسان الفرنسي ويكيبيديا، مقال: (اللغات في أفريقيا) (langues au Nigeria) على الرابط التالي:

https://fr.wikipedia.org/wiki/Langues_au_Nigeria (تاريخ الاطلاع 17-6-2021)

[6]. عمر البشير الترابي، “بوكو حرام.. التداخلات الدينية والإثنية والسياسية”، موقع مركز المسبار، 13 أغسطس 2020، https://bit.ly/2ScEKfy

[7]. أنشأت حركة إزالة 856 مدرسة ابتدائية في 17 ولاية، بلغ عدد طلابها عام 2000 خمسين ألف طالب في كل المستويات التعليمية. راجع:

Adam Higazi, Les Origines et la transformation de l’insurrection de Boko Haram dans le nord du Nigeria, Trad. Florence Brisset-Foucault, in Politique Africaine, 2013/2 N130, p-p 137-164

[8]. بين سنتي 2014 و2021 أعلن في مختلف وسائل الإعلام عن وفاة أبي بكر شيكاو أكثر من مرة، قبل أن يظهر بعد كل إعلان أن الخبر كان زائفاً.

[9]. يتحدث هاني نسيرة عن نوع من حصر المرجعية في القادة الميدانيين، ويقدم مثالاً عليه التحفظات التي أبداها بعض منظري القاعدة على العمليات الانتحارية التي نفذها أبوبصير الطرطوسي وأبومحمد المقدسي. فهي وإن لم تلق آذاناً صاغية في البداية، فإنها وجدت من تصدت لها بتبرير فقه الضرورة في شخص أيمن الظواهري، ورد عليه في ذلك دكتور فضل. راجع: هاني نسيرة، “تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية”، في: الحركات الإسلامية في الوطن العربي (لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية، الجزء الثاني، 2013) ص 1212 .

 [10]. وهي خاصية موروثة جينياً من التنظيم الأم الذي انبثقت منه داعش، أي تنظيم القاعدة، عام 2006، قبل أن يدخل التنظيمان في علاقة تنافس وعداء بداية من يناير 2014. ولئن يعد تنظيم القاعدة الحركة الجهادية الكبرى في أفريقيا. وقد تأسس في أفريقيا، انطلاقاً من الجزائر لما أعلن زعيم الجماعة السلفية للدعوة والقتال مصطفى دروكدال عام 2006 ولاءه لأسامة بن لادن، قبل أن ينزح انطلاقاً من تلك البقعة لينتشر في منطقة الساحل الأفريقي، في الصومال، ثم في النيجر ومالي، ويكون تنظيمه القاعدة في الساحل الأفريقي، حيث التحقت به جماعات جهادية كثيرة، فإن تنظيم الدولة الإسلامية، أي تنظيم داعش، يعد بدوره قوة إرهابية صاعدة في أفريقيا، تمارس نفوذها من خلال جماعات جهادية تتموقع في الشمال الليبي والجنوب في الحدود مع تشاد، وفي الحدود بين مالي والنيجر، وفي الشمال الشرقي النيجيري، حيث تحظى بولاء بوكو حرام، راجع الحوار المنجز مع الباحث تياري فيركولون، على موقع (TV5 Monde Info) تحت عنوان: هل إن داعش بصدد الانتشار في أفريقيا؟ (بالفرنسية) على الرابط التالي:

https://information.tv5monde.com/afrique/daech-est-il-en-voie-d-expansion-en-afrique-296217

(تاريخ الاطلاع 21-6-2021)

[11]. وليس تنصيص مقال الإعلان عن مقتل شيكاو في جريدة الفيغارو عن البديل المفترض باكورا مودو إلا دليلاً على هذه السرعة في تعيين القائد البديل.

[12]. هاني نسيرة، مرجع سابق، ص 1588.

[13]. المرجع السابق، ص1261

[14]. راجع في هذا المعنى الجدل الذي وقع حول اصطلاح مفهوم توحيد الحاكمية، بين بعض القادة المنظّرين للجهادية، كأبي حمزة، وأبي بصير الطرطوسي وأبي قتادة الفلسطيني، في: شيراز ماهر، السلفية الجهادية .. تاريخ فكرة، ترجمة محمد العربي، وعبدالعزيز الحميد (الرياض، مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية، 1440هـ) ص 268.

[15]. في هذا تكوّن ما يعرف بمجموعة الدول الخمس؛ ففي عام 2014  أعلنت خمس دول أفريقية عن إنشاء مجموعة الدول الخمس في الساحل لتنسيق التعاون الإقليمي في مجال مكافحة الإرهاب، ونشأت في إطار هذا التنسيق القوة الأفريقية المتعددة الجنسيات التي جمعت الكاميرون والنيجر ونيجيريا وتشاد بهدف محاربة بوكو حرام.

[16]. تعد نيجيريا سوقاً مفتوحة للسلاح، الذي يفد عليها من كل جهاتها الحدودية: من ليبيا، ومالي، والنيجر، وتشاد، والسودان

[17]. تروي التقارير الإخبارية أن القمع البوليسي للجماعة عام 2009، الذي قُتل فيه المؤسس الأول لبوكو حرام محمد يوسف خلف ألف قتيل أعدموا في الشوارع خلال أربعة أيام، لم يستثن فيها الأبرياء.

المواضيع ذات الصلة