المقدمة
في فبراير 2023، شهدت دولة الإمارات حدثًا استثنائيًا
وفريدًا من نوعه، يُعَبِّر عن روح الأُخُوَّة الإنسانية، وذلك عندما تم افتتاح
“بيت العائلة الإبراهيمية”، بحضور الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل
نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، ومعالي الشيخ نهيان بن مبارك
آل نهيان، وزير التسامح والتعايش. وفي هذا الصدد ينبغي أن نلتفت إلى التوقيت الرمزي
الذي تم فيه خروج هذا الحدث إلى النور، إذ إنه قد أتى تزامنًا مع ذكرى
“الإسراء والمعراج”، ذلك الحدث العظيم الذي جمع النبي محمدًا – صلى الله
عليه وسلم – بأصحاب الرسالات السماوية من قبله، أنبياء الله عليهم جميعًا السلام.
ومن ثم كان افتتاح “بيت العائلة الإبراهيمية” يمثّل نموذجًا رائعًا
للتآلف والتعايش الإنساني بين الأمم والثقافات المختلفة.
“بيت العائلة الإبراهيمية” هو تجسيد لرؤية
إماراتية، تؤمن بقِيَم الحوار وتَقَبُّل الآخر، ويُعَدُّ مثالًا مميزًا لنموذج
التعايش بين الأديان السماوية الثلاثة، حيث يضم ثلاث دور
عبادة: وهي مسجد شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب، وكنيسة قداسة البابا فرانسيس،
وكنيس موسى بن ميمون. ويتيح هذا المكان للزوار فرصة ممارسة الشعائر الدينية،
واكتساب فهم أعمق للأديان الأخرى، مما يعزز قيم التسامح والتعايش الإنساني. وجديرٌ
بالذكر أن سُمُوّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات العربية
المتحدة، قد أعرب في مناسبة افتتاح البيت الإبراهيمي عن أهمية هذا المشروع بقوله:
“إن بيت العائلة الإبراهيمية هو مكان للحوار الحضاري البنّاء، ومنصة للتلاقي
من أجل السلام والأخوة الإنسانية”[1].
وليس
من شَكٍّ في أنّ القيم المشتركة قد تعززت بين الأديان السماوية الثلاثة بوساطة
تصميم “البيت الإبراهيمي”، حيث تمّ تصميمه بطريقة تحافظ على خصوصيّة
العقائد الدينية، وفي الوقت نفسه تحترم خصوصية الهويات الدينية، مع الحرص على عدم
حدوث تداخل أو تجاوز على الطابع الديني، إذ إن تصميم هذا المَعْلَم يُحافظ على
التميّز الفريد لكل دين، مُلتزمًا بالاحترام لمعتنقيه، ومتناسبًا مع طبيعة الشعائر
والطقوس. فقد أوضح مصمم “بيت العائلة الإبراهيمية” – وهو المصمم البارز السير
ديفيد أدجاي – أنه استوحى تصميمه من “القِيَم الإنسانية المشتركة التي تجمعنا
حول العالم”، مشددًا على أن هذه القِيَم تمثل تجسيدًا للنقاط المشتركة بين
الأديان الثلاثة. وأضاف أن هذه الأماكن الدينية تُكمل بعضها بعضًا، مع الاحتفاظ
بتفرّد كُلٍّ منها، وبالرسالة الخاصة التي تحملها، مُعبِّرًا عن تطوّر الثقافة
المتعلقة بالأديان على مرور العصور[2].
مما ينبغي الالتفات
إليه أيضًا أن حدث افتتاح “بيت العائلة الإبراهيمية” قد جاء متزامنًا مع
إعلان دولة الإمارات عن عام 2023 باعتباره “عام الاستدامة”، وهو ما
سيُسهم بشكل كبير في استدامة رؤى وتوجهات القيادة الإماراتية فيما يتعلق بتعزيز
ثقافة التسامح والتعايش. هذا ما أكده الشيخ سيف بن زايد عندما وصف افتتاح البيت
الإبراهيمي بأنه “تَجَلٍّ حضاريٌّ للرؤية الملهمة لسيدي الشيخ محمد بن زايد
في مجال الأخوة الإنسانية، وتجسيدٌ لروح التآخي بين أبناء الديانات السماوية
الثلاث، ليكون صرحًا إنسانيًا للتلاقي وإعلاء قيم الوئام في وطن التسامح
والسلام”. ومن ثم، فإن “بيت العائلة الإبراهيمية”سوف يكون له تأثير
ملحوظ على منظومة القيم في المجتمع، حيث سيُسهم في إبعاد الفرد عن الأفكار
المتطرفة، ويعزز من ثقافة الحوار وقبول الأفكار المختلفة، باعتبار ذلك جزءًا من
البيئة السائدة في المجتمع. ونتيجة لذلك، ستتشكل بيئةٌ تُحْتَرَم فيها خصوصية
الآخرين، وستظهر معانٍ نبيلة تؤثر بشكل إيجابي ومُستدام على القيم الإنسانية
العالمية على المدى الطويل.
لقرون وعقود، سادت حول
العالم نظريات صراع الحضارات والثقافات[3]،
التي تسبّبت في نشوب العديد من النزاعات الدينية والطائفية والفكرية والسياسية،
وأدت إلى تحويل الاختلاف الأيديولوجي إلى سبب مباشر وراء الحروب والأزمات. وكان من
الطبيعي – بناءً على ذلك – أن تحارب الجماعات المتطرفة والمؤدلجة، بما فيها تنظيم
الإخوان الإرهابي، مشروع “البيت الإبراهيمي”، بسبب ما يتمتع به من
مواصفات فريدة، إذ إن هذا المشروع يقدم فكرةً مبتكرةً لتجمع ثلاثٍ من دور العبادة،
في صرحٍ واحد يدعو إلى الحوار والتواصل والسلام، وهي قيم تتناقض بطبيعة الحال مع المبادئ
التي يعتنقها الإرهابيون والمتطرفون، تلك المبادئ المبنية على إقصاء الآخر وتكفيره
ثم محاربته. وانطلاقًا من هذا النهج، يُسهم “البيت الإبراهيمي” في بناء
جسور المحبة والتفاهم بين الثقافات المختلفة، ويُعَزّز رسالة السلام والتعايش
السلمي، لا سيّما في هذا العالم المُعاصر الذي هو أحوج ما يكون إلى التلاقح
الإنساني والتعايش السلمي.
إن دولة الإمارات تقود مشروعًا عالميًا،
مُقترنًا بتوجه إنساني، يهدف إلى غرس قيم التسامح، ويدعو إلى التعايش في ظل القيم
الإنسانية العالمية. ومن خلال مبادرتها المبتكرة والتي تضم (المسجد – الكنيسة –
الكنيس) في مجتمع مشترك، تكون قد أبدعت نموذجًا حضاريًا يُبرز التلاحم بين الأديان
السماوية الثلاثة، ويعزز التقارب والتركيز على القيم المشتركة. ويأتي ذلك في ظل
التحديات الصعبة التي يواجهها العالم نتيجة لتغيرات النظام الدولي[4].
تنقسم الدراسة إلى 4 أجزاء: في الجزء الأول
نلقي الضوء على الدور الرائد للشيخ زايد بن سلطان – رحمه الله – في تعزيز قيم
التسامح والتعايش على أرض دولة الإمارات العربية. وفي الجزء الثاني نبرز جهود دولة
الإمارات في نشر قيم الأخوة الإنسانية والتسامح لتعزيز السلام العالمي. وفي الجزء
الثالث نُفَصّل دور الدبلوماسية الدينية في تحقيق التسامح والتعايش، مع تقديم دولة
الإمارات نموذجًا. وفي الجزء الرابع والأخير نحلل كيف يتم تسييس وتشويه مبادرة
دولة الإمارات لبيت العائلة الإبراهيمية.
1. الدور الرائد للشيخ زايد في تعزيز قيم التسامح
والتعايش على أرض دولة الإمارات
بادئ
ذي بدء، شكَّلت دولة الإمارات العربية المتحدة علامة مضيئة في مسيرتها نحو التطور
والحداثة. وقد برزت حركة تقدمها الحضاري من خلال مجموعة متنوعة من ميادين التنمية،
عبر مختلف الجوانب. وعلى امتداد هذه المسيرة تجلت قيم وأخلاق البيئة الإماراتية،
التي يعود إليها الفضل في تحقيق تقدم شامل، أثّر إيجابيًا وبشكل واسع على المجتمع
الإماراتي، وذلك من خلال الرؤية الحضارية المستندة إلى الأسس التي وضعها المؤسس
الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، خلال المراحل الأولى لبناء الدولة. وكانت
هذه الأسس تستند إلى تعاليم الإسلام السمح المعتدل، وتجسدت فيها قيم القيادة
الإماراتية. وقد انعكست هذه الرؤية أثناء مراحل تمكينها خلال عهد الرئيس الراحل
الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رحمه الله، ثم وصلت هذه المسيرة إلى ذروتها في
مرحلة الريادة التي يقودها حاليًا صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه
الله. وباتت دولة الإمارات العربية نموذجًا عالميًا في مراعاة الجوانب الإنسانية
والاجتماعية والدينية والأخلاقية، وتعتبر رؤيتها وإنجازاتها قدوة يُحتذى بها على
الصعيدين الإقليمي والدولي[5].
لقد تجلت قيم التسامح والتعايش والأخوة الإنسانية
بوضوح خلال فترة حكم الشيخ زايد، رحمه الله، من خلال مجموعة من الأعمال والممارسات
التي عززت من مكانة دولة الإمارات كنموذج إنساني ومحور للسلام، وشعب متسامح ومحب
للآخرين. وقد أسهمت هذه الأعمال في تعزيز موقع الإمارات أمام العالم، وجعلتها بعد
أعوام من العطاء الإنساني نموذجًا لتطبيق “وثيقة الأخوة الإنسانية”. وظل
هذا التطبيق مُمْتَدًا بفضل توجيهات وسياسات الأجيال اللاحقة من القيادة الإماراتية،
وذلك بالتناسق مع رؤية المؤسس الأصيلة. ومن بين هذه الأعمال المهمة:[6]
· شارك الشيخ زايد في افتتاح كنيسة مار يوسف، وهي أول كنيسة كاثوليكية تم
بناؤها في دولة الإمارات عام 1962م. كما شارك أيضًا في افتتاح أول كنيسة إنجيلية
في أبوظبي في فبراير 1968م.
· قام الشيخ زايد بتغطية تكاليف صيانة قبة كنيسة القيامة المجيدة، وهذا
الإجراء أثّر بشكل إيجابي كبير في تعزيز قيم التسامح والتعايش الحضاري والسلمي.
· استراحة الشيخ زايد في سويسرا كانت ملاذًا ومقصدًا للكثير من الفقراء
والمحتاجين من مختلف الأعراق والجنسيات. وفي إحدى المرات ضاعف الشيخ زايد العطاء
لأحد الأجانب حين علم أنه يهودي، وقال حينذاك: “إنه إنسانٌ أولًا وأخيرًا”،
ما يعكس حرص الشيخ زايد على ترسيخ مفهوم تقبل الآخر في دولة الإمارات والعالم[7].
· منذ ثلاثة عقود، أسس القائد المؤسس الشيخ زايد – طيب الله ثراه – “مؤسسة
زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية”، التي تقوم بتقديم
المساعدات في داخل دولة الإمارات والعالم، بغضّ النظر عن ديانتهم أو انتمائهم
العرقي، وقد وصلت المساعدات الإنسانية منذ تأسيس هذه المؤسسة إلى 177 دولة في كل بقاع الأرض[8].
وفي هذا الصدد أعرب جيمي كارتر، الرئيس
الأمريكي الأسبق، عن رأيه قائلًا: “إن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دولة
الإمارات العربية المتحدة، قد مَدَّ يد العون والمساعدة إلى الدول الفقيرة التي
تتعرض للكوارث والحروب الأهلية في مختلف بقاع العالم، التي يصل عددها إلى 70 حربًا
أهلية. وإن صاحب السمو رئيس الدولة من الشخصيات المهمة التي تدعم العمل الإنساني المتخصص،
برفع المعاناة بأشكالها كافة عن هذه الشعوب. وقد أثمر هذا الدعم انخفاض عدد الأشخاص
الذين يعانون سوء التغذية، والأمراض المستعصية، والحروب الأهلية، ليصل إلى 70 ألف حالة
في دول العالم”[9].
ويمكننا القول بكل ثقة بأن تبنِّي حكام دولة الإمارات لرؤية الأب المؤسس –
بشأن التسامح والتواصل الحضاري والتعايش السلمي – كان العامل المحفز الأساسي وراء
إطلاق مؤسسات قوية، يعود إليها الفضل في جعل الدولة رمزًا للتسامح والأخوة
والتعايش السلمي على الصعيدين الوطني والدولي. من هذه المؤسسات “مجلس حكماء
المسلمين” الذي تأسس في عام 2014، والذي يترأسه شيخ الأزهر الشريف، وأيضًا
“منتدى تعزيز السلم” الذي أُسس في أبوظبي عام 2014، كمساحة ثقافية
مفتوحة للتفكير العقلاني المتاح للجميع. وبالإضافة إلى ذلك، تم إطلاق “جائزة
محمد بن راشد للسلام العالمي” في عام 2011، والتي كانت إحدى ثمرات ونتائج
مؤتمر دبي للسلام العالمي، الذي يُعقد كل عامين، ويجمع حوالي 150 ألف شخص من مختلف
الجنسيات والأديان والطوائف.
في هذا الإطار أيضًا قامت دولة الإمارات في عام
2016 بإطلاق “وزارة التسامح”، وأعلنت عن تحديد عام 2019م ليكون “عامًا
للتسامح”. وقبل هذه الإجراءات، في عام 2015، أصدر الشيخ خليفة بن زايد، طيب
الله ثراه، مرسومًا يهدف إلى “مكافحة التمييز والكراهية”، عبر مواجهة كافة
مظاهر العنصرية من خلال الوسائل المختلفة وتجريمها. هذه الخطوات المهمة والمدروسة
كانت تهدف إلى تغيير الثقافة والسلوكيات في المجتمع باتجاه التسامح والاعتدال على
المدى الطويل[10].
كذلك شهدت دولة الإمارات إقامة مؤسسات تعزز قيم
التواصل الحضاري، بفضل جهود المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله. ومن
بين هذه المؤسسات “المجمع الوطني” وفروعه المتعددة، الذي تم افتتاحه في
عام 1981، والذي كان بمثابة منصة تواصل حضارية بين مختلف الشعوب، لا سيّما
الإماراتيين والعرب والأجانب، وكانت هذه اللقاءات تمنحها روح الأخوة والتسامح.
بالإضافة إلى ذلك، وجه الوالد المؤسس الشيخ زايد – رحمه الله – بإنشاء “مسجد
زايد الكبير” في عام 1998، وقد تم افتتاحه بعد رحيله. يُعَدُّ هذا المسجد
نموذجًا للتسامح والتعايش الإنساني، حيث استقبل أكثر من مليون ونصف مليون زائر
خلال النصف الأول من عام 2022. ومنذ افتتاحه، نظّم المسجد أكثر من 2000 جولة
ثقافية لنشر قيم التسامح. وقد حصل المسجد على المرتبة الأولى على مستوى الإقليم،
والمرتبة الرابعة عالميًا، في قائمة أبرز 25 منظمة سياحية في العالم[11].
وبفضل رؤية الشيخ زايد – رحمه الله – في نشر
قيم التسامح والتواصل الحضاري، أصبحت دولة الإمارات مثالًا بارزًا ومستلهمًا في
العديد من بلدان العالم. فقد أثرت هذه الرؤية بشكل كبير في دفع الدول الأخرى إلى
الاستفادة منها، وكذلك حاولت بعض الدول محاكاة هذه النموذجية والسير على نهجها
كنموذج للتسامح والتعددية الثقافية، لا سيّما أن دولة الإمارات يتواجد فيها أبناء
أكثر من 10 ديانات، ويمثلون أكثر من 200 جنسية من مختلف الأديان والطوائف، حيث
يتمتعون بحياة كريمة واحترام عالٍ، ويعيشون بانسجام وتناغم[12].
ومن هذا المنطلق، لم يكن الإعلان عن تأسيس
الصرح الذي يجسّد قيم التسامح والتعايش في جزيرة السعديات من قِبَل دولة الإمارات
مجرد حدث عابر مَرَّ مرور الكرام، بل كان هذا الإعلان جزءًا لا يتجزأ من منهج نبيل
ورؤية استراتيجية، تهدف إلى تعزيز التواصل بين الأديان السماوية الثلاثة ضمن إطار
“بيت العائلة الإبراهيمية”. وقد جسّد هذا الإعلان النهج الثابت الذي
يهدف إلى تعزيز الحوار والسلام بين الشعوب. ومن خلال هذا السياق، تقدم دولة
الإمارات نموذجًا لمفاهيم متينة، سوف تجلب النفع إلى المنطقة والعالم بأسره، لأن قوامها
وبنيانها هو منهج المؤسس الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله. هذا
النهج النبيل هو العمود الفقري للسياسة الإماراتية، وتُنَمِّيها اليوم تصريحات
وأفعال القائد المُلهم، رئيس دولة الامارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان حفظه الله.
2. استمرار جهود دولة الإمارات في نشر قيم الأخوة
الإنسانية والتسامح لتعزيز السلام العالمي
هذه الجهود الإماراتية تمت ترجمتها بنجاح عبر تأثيرها
على المستوى الدولي، حيث تم اعتمادها من قِبَل الأمم المتحدة من خلال “اليوم
العالمي للأخوة الإنسانية”، وتم ترسيخ قيم التعايش السلمي على رأس أولويات
الجهود العالمية والأممية. وغنيٌّ عن البيان أن هذا الإنجاز لم يأتِ عفويًا، بل هو
نتاج لجهود إماراتية حثيثة امتدت عبر سنوات عديدة. وقد اتضح ذلك جليًا من خلال
توقيع “وثيقة الأخوة الإنسانية” في أبوظبي في عام 2019، بمشاركة فضيلة
الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب وقداسة البابا فرنسيس. وجرى بعد ذلك ترجمة هذه
المبادرات إلى واقع ملموس بإرادة صادقة من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد،
وتوجيهاته الحكيمة الداعمة لإقامة “البيت الإبراهيمي” على “جزيرة
السعديات”، ذلك المشروع الذي بات يُشَكّل رمزًا بارزًا للعمل الإماراتي
الملموس والمستدام نحو تعزيز قيم الأخوة والتآلف[13].
ولا جدال في أن توقيع “وثيقة الأخوة
الإنسانية” – بمشاركة رموز دينية بارزة – يمثل حدثًا تاريخيًا ذا أهمية كبيرة
في العصر الحديث، إذ إن هذه الوثيقة تحمل رسالة عالية المستوى، تسعى من خلالها إلى
تحقيق السلام العالمي، وهي أول وثيقة ترسخ قيم الحوار والتعايش. هذه الوثيقة تهدف
إلى تحقيق مستقبل أفضل للبشرية، حيث يسود التسامح في بيئة عالمية، تُحترم فيها
خصوصية الأديان، ويسود فيها مبدأ قبول الآخر. من هذه المبادرة المثمرة نشأ مشروع
“البيت الإبراهيمي”، الذي يهدف إلى تحقيق أهداف الوثيقة، وتفعيل
المفاهيم الإنسانية التي تمثلت فيها. وهذا المشروع يركز على تعزيز قيم السلام
والتعايش المشترك، وتعددية الأديان واللغات والثقافات، ويشجع على التخلص من ثقافة
الكراهية والعنصرية ومكافحة التطرف[14].
وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن هذه الوثيقة قد أرست
مبادئ عالية وسامية، تمثل إعلانًا عن قيم الصداقة والأخوة والمحبة والسلام، مستمدة
من روح الدين. ويمكن تلخيص المبادئ الرئيسية التي تم إرساؤها من قِبَل هذه الوثيقة
كما يلي: تعزيز قيم التسامح والعدالة، والحفاظ على الحياة وحقوق الإنسان، ونبذ
القتل باسم الله، وضمان الحرية الدينية، والتأكيد على عدم اللجوء إلى التمييز ضد
الأقليات، والاعتراف بحقوق المرأة، وتضمين “مبادئ الأخوة الإنسانية” في
نظام التعليم، كما شددت الوثيقة على أن الأديان تمثل جسورًا تجمع بين الشعوب[15].
جديرٌ بالذكر أيضًا أن القائمين على صياغة هذه
الوثيقة لم يكتفوا بتبني المبادئ والقواعد فحسب، بل سعوا كذلك جاهدين إلى تهيئة
الظروف لتحقيق هذه المبادئ عمليًا، فقد تم تشكيل لجنة عليا لـ “وثيقة الأخوة
الإنسانية”، لتكون مسؤولة عن إرساء هذه المبادرة، باعتبارها واحدة من الأركان
الأساسية للدبلوماسية العالمية على أعلى المستويات، وذلك من خلال تقديمها على منبر
الأمم المتحدة. وفي ديسمبر 2020، قدم أعضاء اللجنة العليا رسالة مشتركة إلى الأمين
العام للأمم المتحدة من قِبَل كُلٍّ من الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب والبابا
فرنسيس، تقترح تعيين اليوم الرابع من فبراير كل عام يومًا عالميًا للأخوة
الإنسانية، وقد أبدى الأمين العام تجاوبه وتقديره لهذا الاقتراح[16].
يُذكر أيضًا في هذا الصدد أن دولة الإمارات
العربية المتحدة – أثناء رئاستها لمجلس الأمن في يونيو 2023 – أطلقت دعوة لعقد الجلسة
رقم 9346، تحت عنوان “تعزيز وتوثيق قيم الأخوة الإنسانية من أجل تحقيق
السلام”. كانت هذه الجلسة تهدف إلى مكافحة جميع أشكال الكراهية والتطرف، وقد
تضمن جدول أعمالها خطابات من الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، ورئيس
الأساقفة وأمين العلاقات مع الدول في الكرسي الرسولي، بول ريتشارد، وشيخ الأزهر
الشريف، الدكتور أحمد الطيب. وفي الخطاب الذي ألقاه غوتيريش سلّط الضوء على
“دور الزعماء الدينيين في تجنُّب تسييس الكراهية في أوساط متابعيهم”،
وأشاد بإعلان الأخوة الإنسانية من أجل تحقيق السلام العالمي، ذلك الإعلان الذي تم
تقديمه بواسطة شيخ الأزهر والبابا فرنسيس. وجدير بالذكر أن الدكتور أحمد الطيب شيخ
الأزهر قد أشار إلى دور دولة الإمارات في نشر رسالة السلام، معتبرًا أن
“الإسلام يسعى إلى تحقيق السلام للجميع بغض النظر عن دياناتهم
وثقافاتهم”. وأوضح أن “التصاعد في التوتر بين روسيا وأوكرانيا يثير المخاوف
من تراجع العالم إلى زمن مضى”. هذا الرأي تم مشاركته من قِبَل بول ريتشارد
الذي أشار إلى وجود “دورة متواصلة من التصعيد العالمي”، مشددًا على أن
“الحروب والنزاعات تحول الشعوب إلى أعداء”[17].
ونتيجة للجهود المبذولة من قِبَل دولة
الإمارات، أقر مجلس الأمن الدولي – بالإجماع – القرار التاريخي رقم 2686، والذي تمت
صياغته بالتعاون بين دولة الإمارات العربية والمملكة المتحدة، وذلك بشأن موضوع
“تعزيز التسامح وتحقيق السلام والأمن الدولي”. وهذه الخطوة تمثل سابقة
دولية فريدة من نوعها، حيث يعتبر هذا القرار هو الأول الذي يُقرّ بوجوب مواجهة
خطاب العنف والتمييز والكراهية والعنصرية، كونها وسائل تتسبب في تصاعد النزاعات. وفي
هذا السياق ينبغي الإشارة إلى أن هذا القرار يحث الزعماء الدينيين ووسائل الإعلام
ومنصات التواصل الاجتماعي على مكافحة هذا الخطاب، ويدعو إلى إيقاف انتشاره، وضمان
عدم تكراره. كما يطلب القرار من الأمم المتحدة مراقبة تنفيذ القرار وتقديم تقرير
بالنتائج إلى المجلس بحلول 14 يونيو من عام 2024[18].
إن العمل الدبلوماسي اليوم لم يَعُدْ يقتصر على
الأساليب التقليدية فحسب، إذ إن تطور المدارس الدبلوماسية الحديثة قد أدى إلى
تعزيز عدة مجالات متخصصة للتعامل مع قضايا محددة، بناءً على رؤى استراتيجية طويلة
المدى. فقد أثبتت الخطوات الدبلوماسية – التي تتعامل مع جذور الأزمات – أنها أكثر
فعالية من مجرد الاكتفاء باتخاذ الإجراءات الفورية وردود الأفعال السريعة. والجانب
المهم في هذا السياق يتمثل في الاستناد
إلى “الدبلوماسية العامة” التي تتناول القضايا من جذورها. فالأزمات لا
تنشأ بصورة عشوائية، بل إن لها أسبابًا وجذورًا تستدعي التعامل معها بجدية. وإذا
قمنا بتحليل أسباب اندلاع النزاعات، سنجد أن العديد منها يعود إلى انتشار خطابات
الكراهية والتحريض على العنف، بالإضافة إلى العنصرية الدينية والعرقية. وغنيٌّ عن
الذكر أن تلك المظاهر قد تكررت في العصور الحديثة في مناطق مثل أوروبا الشرقية
ومناطق متعددة في أفريقيا وآسيا.
من هذا المنطلق تأتي
أهمية معالجة الأزمات من جذورها التاريخية العميقة، وهذا الأمر لن يتم إلَّا من
خلال اعتماد استراتيجيات طويلة المدى لمكافحة العنف والتطرف. هذا هو النهج الذي
تبنته دولة الإمارات بالتعاون مع المملكة المتحدة. فعلى الرغم من أن جهود الدول
ضرورية، إلَّا أنها غالبًا لا تكفي. لذلك، يأتي الدور المهم للمؤسسات المتعددة
الأطراف على الصعيدين الدولي والأممي في وضع خطط جماعية، من خلال الالتزام
بالأنظمة والقوانين والاتفاقيات التي ستُعد التزامًا على جميع دول العالم، الأمر
الذي سيجعل هذه الجهود أكثر فعالية في كبح انتشار خطاب الكراهية وإبقائه تحت
السيطرة.
3. دور الدبلوماسية الدينية في تحقيق التسامح
والتعايش: الإمارات نموذجًا
كما أسلفنا، باتت دولة
الإمارات العربية المتحدة تتبوأ مكانة مرموقة بين الدول الرائدة في مجال تقديم
المساعدات الإنسانية عالميًا. وفي هذا الصدد تُظهر دولة الإمارات التزامًا جادًا
بتقديم الدعم والإغاثة للدول والمجتمعات المحتاجة حول العالم، متجاوزة خلفياتها
الثقافية والدينية. وتُعَدُّ دولة الإمارات موطنًا لعدد من المؤسسات الإنسانية
والتنموية التي تسعى جاهدة لتوفير المساعدات العاجلة وتعزيز التنمية المستدامة في
مختلف مناطق العالم. حيث تتضمن جهودها العالمية في مجال الإغاثة توفير المساعدات
الطبية والغذائية، وتوفير المأوى، وتقديم التعليم، وضمان توافر المياه والصرف
الصحي والكهرباء. وتسعى دولة الإمارات حثيثًا إلى تحسين ظروف المعيشة للمجتمعات
المتأثرة، سواء بالنزاعات أو الكوارث الطبيعية أو الأوبئة. وهكذا أصبحت دولة الإمارات
نموذجًا يُحتذى به في مجال الإغاثة الإنسانية، وهذا ما برز بشكل واضح خلال جائحة
كورونا، وقد استمر هذا العطاء الإنساني، حيث تصدرت دولة الإمارات طليعة الدول
المتجاوبة مع الكارثة الناجمة عن الزلزال المدمر في سوريا وتركيا[19].
إلى جانب جهودها في
مجال الإغاثة الإنسانية، ما تزال الدبلوماسية الدينية الإماراتية تلعب دورًا
بارزًا في تحقيق روح التسامح والتعايش بين مختلف الثقافات والأديان. ويستند هذه
النهج الدبلوماسي الديني إلى تعزيز التفاهم والحوار بين الأديان المختلفة؛ بهدف
تعزيز قيم التسامح والاحترام المتبادل. وفي هذا الشأن تُعَدُّ الإمارات نموذجًا
يُحتذى به للتعايش السلمي بين ثقافات وأديان متعددة، لا سيّما أن دولة الإمارات تستضيف
مجموعة متنوعة من المعتقدات والأديان، وتُوَفِّر منبرًا مفتوحًا للحوار والتبادل
البنّاء. وتعمل الدبلوماسية الدينية الإماراتية على تعزيز التعاون والتفاهم بين مختلف
الأديان من خلال تنظيم منتديات ومؤتمرات دولية ومحلية، فضلًا عن تنفيذ مبادرات وتقديم
مِنَح وفعاليات متنوعة تُسهم في هذا السياق[20].
كذلك تركز “الدبلوماسية
الدينية” جهودها من أجل تعزيز تحقيق السلام في العالم، من خلال تعاون رموز
الأديان السماوية مع السلطات الحكومية. ويتمثل هدفها الأساسي في تصويب المفاهيم
المغلوطة، والتركيز على قيم التسامح وأهمية التعايش بين الشعوب. وتسعى
“الدبلوماسية الدينية” إلى جعل الدين مصدرًا لإيجاد الحلول، وليس سببًا
للتوترات. ومن البديهي أن المروجين للأفكار المتطرفة والمتشددة قد يستغلون فجوة
الاتصال بين صُنّاع القرار ورموز القيم والعقائد لتحقيق أجنداتهم المشبوهة، في ظل
الواقع الذي ينبغي الاعتراف به، والذي كان يفصل بين الخطاب السياسي والخطاب الديني
في معالجة قضايا المنطقة والعالم. ومن هنا يأتي دور “الدبلوماسية
الدينية” لتقوم بعملية التوازن بين التوجهات السياسية والدينية؛ بهدف تخفيف
التوترات وإيجاد حلول للنزاعات. ومن هنا أيضًا تتبين أهمية هذا النوع من
الدبلوماسية في تأمين المصالح الإنسانية، وتعزيز أمنها واستقرارها وازدهارها على
السواء[21].
هذا، وقد جعلت دولة
الإمارات من قيم التسامح والتعايش الإنساني جزءًا أساسيًا من سياستها الداخلية
والخارجية. ولتحقيق هذا الهدف، أطلقت مجموعة من المبادرات الإنسانية التي أثرت
بشكل كبير على الساحة الإقليمية والدولية. وقد جعلت “الدبلوماسية
الدينية” ركيزة أساسية في السياسة الإماراتية، من منطلق أنها تتجاوز
الاختلافات، وتركز على القيم المشتركة، وتعزز من أدوات الحوار والتضامن، وفي الوقت
نفسه تتجنب التصعيد والتصادم. هذه الجهود تسعى إلى نقل البشرية من دائرة الصراعات
والأزمات إلى مناطق الاستقرار. وفي هذا الإطار يُظهر قبول ثقافة التعددية مستقبلًا
آمنًا ومستقرًا ومزدهرًا. ومن هذا المنطلق، تظهر الحاجة الماسة إلى مواجهة تحديات
الكراهية والتطرف، باستخدام أدوات جديدة تُسهم في تعزيز القيم المشتركة بين
الأديان السماوية الثلاثة. ويُعَدُّ “بيت العائلة الإبراهيمية” أحد أبرز
تلك الأدوات، حيث يعمل على تعزيز التواصل والتبادل بين ممثلي الأديان المختلفة،
لتعزيز التفاهم وتعميق روح التعايش السلمي.
يواجه العالم في الوقت
الراهن تحديات خطيرة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية، نتيجة لتغيرات يشهدها
النظام الدولي. وما يجعل الأمور أكثر تعقيدًا هو وجود تراكمات طويلة الأمد من
التحديات الثقافية، التي كان لها دور في بروز ثقافة الكراهية والتطرف. وفي هذا
السياق، يتعين علينا مواجهة هذه التحديات الصعبة من خلال تبني إجراءات استثنائية. وقد
تكون “الدبلوماسية الدينية” أحد هذه الحلول الابتكارية التي تُسهم في
تقليل التوترات الفكرية وتخفيف وتيرة الصراعات. بالإضافة إلى ذلك، قد تلعب
الدبلوماسية الدينية دور بارزًا في تقليص تأثير الميليشيات والجماعات الإرهابية
التي تسعى للاستفادة من الخلافات السياسية، وتتسلل عبر نافذة الخلافات في المنطقة.
ويمكن لهذا النهج المبتكر أن يسهم في تهدئة التوترات وتقديم حلول أكثر واقعية
للتحديات الراهنة، من خلال تعزيز التفاهم وإرساء قيم التعايش والسلام.
4. تسييس وتشويه مبادرة الإمارات لبيت العائلة
الإبراهيمية
ومما
ينبغي الالتفات إليه أن مبادرة إنشاء “بيت العائلة الإبراهيمية” لم تسلم
من التسييس والتشويه، بقصد وسوء نية، وما زالت تجري هذه المحاولة المنظمة
والممنهجة لتشويه سمعة دولة الإمارات، من خلال الربط الخبيث بين مفهوم “البيت
الإبراهيمي” وبين فكرة دمج الأديان السماوية الثلاثة في دين واحد تحت اسم “الدين
الإبراهيمي”. هذا الادعاء الزائف ينتشر للأسف بين الأفراد المتأثرين
بالتيارات المتطرفة وأنصار تنظيم الإخوان الإرهابي، الذين يسعون إلى ترويج تلك
الأكاذيب والأفكار المغلوطة. بيد أن هذه الحقيقة لا تنفي أن هناك من يجهل حقيقة
هذا المشروع، ويندفع نحو إصدار أحكام مسبقة ومشوهة. ونتيجة لهذه السياقات، يصبح من
الضروري أن نسلط الضوء على الدور الحقيقي الذي تلعبه مبادرة “البيت
الإبراهيمي”، كرد فعل إيجابي لمحاولات نشر الأكاذيب التي تستهدف مبادئ
التسامح والاعتدال[22].
إن دولة الإمارات لن تتخلى
عن مبادئها الثابتة وقيمها الجذرية، وسوف يظل الإسلام
هو الدين الرسمي للدولة بموجب دستورها، مع الوضع في الاعتبار أن الشعب الإماراتي بأكمله
مسلم، وتتجاوز عدد المساجد في مختلف إمارات الدولة اثنيْ عشر ألف مسجد، وعلى رأسها
“مسجد الشيخ زايد الكبير” في العاصمة أبوظبي، الذي يعتبر واحدًا من أكبر
وأجمل المساجد على مستوى العالم. ومن ثم فإن القيم النبيلة للإمارات تستند إلى أسس
صلبة، تمتد عبر السنين، منذ عهد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وترتكز على
مفهوم الأخوة الإنسانية كقاعدة أساسية. وفي سياق جهودها الرامية إلى تعزيز الوحدة
والسلام العالمي، برزت مبادرة إنشاء “البيت الإبراهيمي” كمحطة مهمة. ولكن
بعض الأطراف حاولت الإساءة إلى هذه المبادرة من خلال ترويج فكرة أن هذه المبادرة
تدعو إلى دمج الأديان السماوية الثلاثة في إطار دين إبراهيمي واحد، وهو ادعاء لا
أساس له من الصحة، بدليل أن شيخ الأزهر الشريف، الدكتور أحمد الطيب، قال: “إن أولئك الذين يصوّرون كذبًا الأخوة بين الأديان،
على أنها خلط بين اليهودية والمسيحية والإسلام، في دين واحد إبراهيمي، إنما ينتهكون
أثمن حق تملكه البشرية، حرية العقيدة”[23].
لقد بالغت الحملات الشعواء في التشكيك بنوايا
دولة الإمارات الحسنة، فلا يوجد شيء في “البيت الابراهيمي” يشير إلى تأسيس
دين جديد على الإطلاق، بدليل أن هذا الصرح قد تم تصميمه بشكل يعطي بيوت العبادة
الثلاثة (المسجد، الكنيسة، الكنيس) الخصوصية والاستقلالية الكاملة. وزيارة بسيطة
للموقع تكفي – بما لا يدع مجالا للشك – لفهم وإدراك الهدف الرئيسي لهذا الصرح، ألا
وهو تجاور الأديان، والتأكيد على قيم التسامح في الإسلام، لا سيّما أن دولة الإمارات
منشغلة بمستقبلها ومشاريعها التنموية الطموحة، ولم يسبق لها قَطُّ أن سقطت رهينة الخلافات
الدينية أو الأفكار الأيديولوجية عبر تاريخها. أمّا مسألة اهتمامها بحوار الأديان
فهي نابعة من إيمانها بأهمية تعزيز قيم التعايش والتسامح، في عصر خرجت به قوى إرهابية
متطرفة، تسببت في تشويه صورة الأديان.
بالإضافة
إلى ما سبق، ظهرت حملات منظمة حاولت – بطريقة ممنهجة – ربط مبادرة “البيت
الإبراهيمي” بمسألة الاتفاق الإبراهيمي مع إسرائيل، في محاولة دنيئة أخرى
لتحويل مبادرة إنسانية إلى وسيلة تحقق بها أهدافًا سياسية. وقد تم اللجوء إلى هذا
السعي المسيس بعد أن فشلت محاولات إبعاد مبادرة “البيت الابراهيمي” عن أهدافها
النبيلة. وفي هذا الصدد ينبغي أن نذكر أن فكرة “بيت العائلة الإبراهيمية”
نشأت أصلًا قبل توقيع اتفاق السلام الإبراهيمي في سبتمبر 2020، وقد خرجت هذه
المبادرة إلى حيّز الوجود بعد توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية في عام 2019. لذا، فإن
الربط بين الحدثيْن ليس له أساس من الصحة، وإنما يعكس نوايا خبيثة تهدف إلى تشويه
هذه المبادرة النبيلة[24].
عند
النظر بشكل موضوعي إلى الآراء السلبية، وإلى الحملات الممنهجة تجاه مشروع
“بيت العائلة الإبراهيمية”، سنجد أنها إمّا أن تكون نابعة من منطلق الجهل
بتفاصيل المبادرة، أو أنها مسيسة بشكل مشبوه من قوى خارجية وجماعات متشددة، تحارب معاني
السلام والتسامح الإنساني، وتحمل ضغينة واضحة تجاه السياسات الإنسانية لدولة الإمارات،
التي أثبتت أن السلام العالمي ممكن تحقيقه، وأن الدبلوماسية الدينية – لو استُغلت
بشكل سليم، ومن قِبَل الشخصيات الدينية ذات التأثير – ستكون قادرة على تصحيح العديد
من المفاهيم المغلوطة بين الشعوب، ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، وقد تنقل المفهوم
الشعبوي السائد من نمط السذاجة والسطحية إلى خانة متوازنة وعقلانية، وقادرة على الانسجام
مع الثقافات والأديان الأخرى، وتقبل خصوصيات الآخرين، والتعايش معها.
أمّا
أسباب سوء الفهم فتعود إلى ذوي النوايا السيئة من جماعات الإسلام السياسي، الذين
لا يؤمنون بالتعددية ولا يقبلون الآخر، مهما حاول بعض المنتسبين لهذه المدارس المتشددة
الادعاء بالانفتاح على الآخرين، ولكن هذا الانفتاح لم نَرَ له أثرًا عندما بدأت أنشطة
“البيت الابراهيمي”، إذ إن العقلية المنغلقة لم تتغير، لأنها – أصلًا – مفطورةٌ
على الإقصاء.
وبغض
النظر عن الحملات التشويهية التي تعرضت لها مبادرة “بيت العائلة
الإبراهيمية”، فإن دولة الإمارات ستظل ملتزمة بتعزيز قيم الأُخُوَّة
الإنسانية، ومكافحة خطاب الكراهية والعنف، بكل الوسائل المتاحة، وذلك من منطلق أن ثقافة
التسامح الإنساني تُعتبر جزءًا أساسيًا من الهوية الوطنية للإمارات منذ تأسيسها،
وهذا هو ما ساعدها في تحقيق تأثير عالمي من خلال رسالتها النبيلة. إن مبدأ تجاور
الأديان ينبع من مشاعر صادقة ونوايا حسنة، وسوف ينتقل هذا التأثير إلى جميع دول
المنطقة وإلى العالم من خلال العزيمة والإصرار والاستراتيجية الواضحة والشاملة.
مثال على هذا التأثير يأتي من مبادرة “مجمع التجلي الأعظم” في الوادي
المقدس طوى بجنوب سيناء في مصر، والذي سيتم افتتاحه في أبريل عام 2024. وتمثل هذه
المبادرة دليلًا آخر بارزًا على النجاح، حيث ستجمع بين المسجد والكنيسة والكنيس في
مكان واحد، متبعةً بذلك نموذج “البيت الإبراهيمي” في أبوظبي[25].
توصيات
إن “بيت العائلة الإبراهيمية” – من خلال
تنظيمه لأنشطة علمية ومجتمعية – يمكن أن يغدو بمثابة التطبيق العملي لوثيقة الأُخُوَّة
الإنسانية، وذلك من خلال إسهامه في تحقيق الأهداف التالية:
1. تعزيز قِيَم السلام والتسامح من خلال
الدبلوماسية الدينية والتوجيهات القيادية.
2. بناء جسور التسامح والتعايش عبـر تجاوز مسألة تسييس الأديان، وتعزيز القِيَم المشتركة.
1. تعزيز قِيَم السلام والتسامح من خلال
الدبلوماسية الدينية والتوجيهات القيادية:
· تكثيف
العمل التوعوي الديني، لتعزيز قيم التسامح والتعايش الإنساني، من خلال المؤثرين من
الرموز الدينية، في الأديان السماوية الثلاثة.
· إعداد قيادات دبلوماسية قادرة
على نقل الرسالة السياسية، التي تترجم الدبلوماسية الدينية من أقوال الى أفعال.
· التركيز على خطاب التسامح وتَقَبُّل
الآخر، والحث على مبدأ فض النزاعات عبر الحوار.
· تعزيز مبدأ الدبلوماسية
الدينية عبر المنظمات الإقليمية والدولية، ومؤسسات المجتمع المدني ذات الصلة، مع
إعطاء الأولوية لمناطق وأقاليم النزاع، إذ إنها أحوج إلى تبني مفاهيم التسامح،
لتستطيع تلك المناطق تجاوز أزماتها عبر الحوار بين الأطراف المتنازعة، دون إعطاء فرصة
التدخل للأجندات الإقليمية والدولية وفقًا لمصالحها، مما يزيد الأزمات تعقيدًا.
· خلق بيئة مستدامة من اللقاءات بين قادة العالم مع الرموز الدينية، ما يضع زاوية مختلفة للنظر في أزمات العالم، بحيث تكون إنسانية التوجه، مع التركيز على جمالية الأديان التي تحث على ثقافات التسامح الإنساني والتعايش بين البشر، واحترام خصوصياتهم واختلافاتهم، بما يؤدي إلى إرساء إطار ديني عالمي، يُسهم في التعامل مع الخلافات السياسية بشكل فريد وإيجابي.
2. بناء جسور التسامح والتعايش عبر تجاوز مسألة تسييس الأديان وتعزيز القِيَم
المشتركة:
· الرفض التام لكافة وسائل
تسييس الأديان، واستغلالها كأداة تبرر الحروب والأزمات، كونها لا تَمُتُّ إلى الدين
بصلة، وإنما هي مرتبطة بصراعات النفوذ، التي تستغل الشعوب المرتبطة روحيًا بالأديان،
للتأثير عليها، والحشد عبر الوسائل الدينية.
· العودة الى منبع وجذور
الأديان الأصلية، التي تنبذ الكراهية والتعصب، وتتشارك في قِيَم الفضيلة وأصول
الأخلاق، وترسخ مبادئ التسامح والتعايش بين الشعوب.
· التركيز على القيم الدينية
المشتركة، والمشتركات الإنسانية بين الشعوب، الأمر الذي قد يُسهم في إقصاء ثقافة
العنصرية، ويستبعد أسلوب الصدام، ويدفع نحو النظر إلى زوايا الأمور من عدسة
التلاقي، واستبعاد لغة التضاد.
· تجنُّب المسائل الجدلية، والابتعاد عن التجمعات المثيرة للجدل والنقاشات غير المثمرة، التي لا تؤدي إلى تفاهمات مشتركة، وتجنُّب أسلوب تفتيت الشعوب وزرع الانقسام الذي يحدث من خلال إظهار نقاط الضعف لكل طرف، ومحاولة إثبات صحة فكرة معينة، ورفض الفكرة المختلفة، وخاصةً بين الأديان والمذاهب والثقافات، حيث يمكن لكل هذه الأمور أن تؤدي إلى تداعيات سلبية، تستقر في النفوس، وتصعب إزالتها.
الخاتمة
مما
لا خلاف عليه أن تحقيق التواصل والتفاهم بين مختلف الثقافات والأديان يبقى هدفًا
عظيمًا، يستدعي جهودًا مستمرة ومتواصلة. وقد رأينا كيف أن تأسيس صرح عالمي مثل
“بيت العائلة الإبراهيمية” يهدف إلى اعتماد القِيَم الإنسانية المشتركة،
وإقامة آليات تفاعلية مستدامة، تجمع بين شعوب المنطقة والعالم بأسره، ويشكل نقطة
انطلاقة حيوية نحو تحقيق هذا الهدف. فمن خلال تعزيز حوار بنّاء ومثمر بين الرموز
الدينية والفكرية والسياسية، يمكن تحقيق فهم أعمق للمشتركات بين الأديان السماوية
الثلاثة، ومن ثم تعزيزها والاستفادة منها في سبيل تحقيق الوئام والسلام العالمي.
ومن
المهم إدراك أن مبادرة “البيت الإبراهيمي” هي مجرد خطوة أولى لترسيخ قِيَم
التعايش والتسامح، وينبغي البناء عليها من الدول والجهات الأممية ذات الصلة،
والشخصيات الدينية والسياسية والمجتمعية والفكرية، في ظل هذه التوترات الهائلة
التي يعيشها العالم، على إثر نزاعات وحروب وتغيرات في النظام الدولي، لكي تصبح
الدبلوماسية الدينية مطلبًا مهمًا لفض الأزمات، من بوابة العيش المشترك ونبذ العنف
والتطرف.
إن
أهم دور يمكن للبيت الإبراهيمي أن يلعبه هو توصيل أصوات الغالبية العظمى من أتباع
الأديان السماوية الثلاثة، ممن يُدينون العنف والإرهاب، ويرفضون الأفكار المتشددة.
وعبر هذه المبادرات العالمية، يستطيع السواد الأعظم من الأصوات الخَيِّرة إبعاد اهتمام
الرأي العام الدولي عن أصوات الجماعات المتشددة، فالشعوب بطبيعتها محبة للسلام
والتسامح، في حين أن هناك تيارًا يرفض الخروج من دوامة التطرف الفكري، وما يزال مصممًا
على استغلال الدين وتوظيفه لصالح أجندات مشبوهة.
قد يرى البعض أن “البيت الإبراهيمي” ليس نموذجًا جديدًا، إذ إن الفكرة نفسها سبق أن تم تطبيقها في دول عربية أخرى مثل لبنان. ففي شوارع بيروت وصيدا وطرابلس وغيرها، تتعانق مآذن المساجد مع أجراس الكنائس، ويجاورها الكنيس اليهودي. بيد أن ما يميز “البيت الإبراهيمي” في دولة الإمارات أنه جاء بعد توقيع وثيقة الأُخُوَّة الإنسانية، ما يعني أنه يقوم على أسس عالمية وأممية. وفضلًا عن ذلك، يرى خبراء آخرون أن “البيت الإبراهيمي” يتلاءم مع الاستقرار الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي في دولة الإمارات، والتي ترغب من خلاله في صنع سلام حقيقي بين كافة شعوب المنطقة والعالم تحت مظلة هذا البيت. وبناءً على ذلك، سيكون تأثير “البيت الابراهيمي” كبيرًا، فعندما يتم استثمار ذلك في دولة بوزن ومصداقية دولة الامارات، بسجلها الإنساني الحافل، ونجاحاتها التنموية البارزة، وإنجازاتها الاستثنائية على كافة الأصعدة، فسوف تتحقق النتائج المرجوة من المبادرة، وسوف تصل قِيَم التسامح والتعايش إلى سائر شعوب الأرض.
[1] محمد بن زايد: «البيت الإبراهيمي» منصة للتلاقي من أجل السلام والأخوة الإنسانية، البيان، 17 فبراير 2023،
[2] بيت العائلة
الإبراهيمية: منصَّة مثالية للحوار بين الأديان، مركز الإمارات للسياسات، 22
فبراير 2023،
https://epc.ae/ar/details/brief/bayt-alayila-al-ibrahimia-mnassa-mithalia-lilhiwar-bayn-al-adyan
[3] انظر
على سبيل المثال:
Samuel P.
Huntington, The Clash of Civilizations? Foreign Affairs, Vol. 72, No. 3
(Summer, 1993), pp. 22-49 (28 pages), Published By: Council on Foreign
Relations.
[4] محمد
خلفان الصوافي، رسالة البيت الإبراهيمي، العرب، 07/03/2023، https://cutt.ly/ZwhUBLV8
[6] جمال
سند السويدي (2022). وثيقة الأخوة الإنسانية نحو تعايش سلمي وعالم خالٍ من
الصراعات. دولة الإمارات العربية المتحدة – أبوظبي، ص 41.
[7] عمار
علي حسن، التسامح .. في
أقوال الشيخ زايد وأفعاله، درع الوطن، https://cutt.ly/rwhIi79R
“مؤسسة
زايد للأعمال الخيرية” تطلق مبادرة إنسانية لمساعدة الأسر في الدول الأقل نموًا، [8]
[10] جمال سند السويدي.
(2022). وثيقة الأخوة الإنسانية نحو تعايش سلمي وعالم خالٍ من الصراعات. دولة
الإمارات العربية المتحدة – أبوظبي، ص 44.
[13] عبدالعزيز سلطان
المعمري (2023). الإمارات تنشر الأخوة الإنسانية. البيان. على الرابط:
[22] “بيت
العائلة الإبراهيمية” بين الحقيقة والأوهام.. النعيمي يبرز ملامح المشروع
التاريخي، العين الإخبارية، 18/02/ 2023
https://al-ain.com/article/house-abrahamic-family-fraternity-humanity