مقدمة
الحرب الروسية في أوكرانيا سيكون لها تأثير عميق في الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية سواء في أوروبا أو آسيا أو الشرق الأوسط حيث ستلعب التعقيدات الجديدة للجغرافيا السياسية الخاصة بالصراع أدواراً مهمة في تشكيل أطر جديدة للتنافس الاستراتيجي والمصالح الحيوية للأطراف المختلفة سواء كانت القوى الكبرى أو القوى الإقليمية وهو ما سينعكس على الترتيبات الأمنية في مناطق عديدة ومنها الشرق الأوسط. وتنظر هذه الورقة في مدى تأثير الصراع في أوكرانيا على الحرب على الإرهاب وعلى مدى استفادة حركات التطرف والإرهاب من الصدام بين القوتين الأكثر نفوذاً في منطقة الشرق الأوسط – الغرب وروسيا – والسيناريوهات المحتملة بشأن وضع حركات التطرف والإرهاب وفرص توظيفها مجدداً في الصراع الممتد الذي لن يتوقف تأثيره في حدود أوكرانيا وحدها ولكنه سوف يخلّف تداعيات واسعة النطاق سيكون للشرق الأوسط نصيب وافر منها. إن مسار الأزمة وعمقها يحددان إلى حد كبير ماهية التطورات التي ستمر بها منطقة الشرق الأوسط في المديين القصير والمتوسط، فالحديث اليوم عن سيناريوهات المستقبل يتوقف على طبيعة النظام الدولي الذي سينشأ في مرحلة ما بعد الحرب في أوكرانيا. فالشرق الأوسط يشكل ركيزة أساسية في المواجهة بين روسيا والغرب، حيث يعول الأخير على إعادة ضبط العلاقات مع دول المنطقة لتوفير بدائل واردات النفط والغاز الطبيعي الروسيين، وهو هدف مرحلي سوف تنتج عنه تفاهمات بين الولايات المتحدة وشركائها الاستراتيجيين في المنطقة، خاصة أن الدول الغربية توصلت إلى رؤية موحدة بالاستغناء عن الاعتماد على موارد الطاقة الروسية.
أولاً: حالة الأنشطة المتطرفة في الشرق الأوسط قبل أزمة أوكرانيا
يقول مؤشر الإرهاب العالمي إن الأنشطة الإرهابية، من الناحية الكمية، تتركز في الشهور الأخيرة في جنوب آسيا وجنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا حيث سجلت كلتا المنطقتين العدد الأكبر من ضحايا العمليات الإرهابية في عام 2021 بما يفوق ما شهدته منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال الأعوام الثلاثة الماضية. وشكلت جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى نسبة 74% من وفيات الإرهاب في عام 2021[1]. وفي إشارة إلى نوعية العمليات، يشير التقرير إلى وجود اختلافات في التكتيكات المستخدمة من قِبل المنظمات الإرهابية حسب المنطقة المستهدفة. في معظم المناطق، تستخدم الأسلحة النارية بكثافة في غالبية الهجمات، تليها المتفجرات. وكانت التفجيرات هي التكتيكات الأكثر شيوعاً في الشرق الأوسط، حيث شكلت أكثر من 70% من مجموع العمليات الإرهابية منذ عام 2007. كما سجلت منطقة جنوب آسيا أكبر عدد من الهجمات بالمتفجرات في عام 2021، بمعدل 67% من أصل 796 هجوماً في جنوب آسيا باستخدام المتفجرات. وبشكل عام، فإن الصراع هو المحرك الرئيسي للإرهاب. ومن ثم، فإن الدول العشر الأكثر تأثراً بالإرهاب في عام 2021 تشهد نزاعات مسلحة، من بينها دول أفغانستان ونيجيريا والصومال وسوريا، التي شهدت صراعات مسلحة أدت إلى أكثر من ألف حالة وفاة في عام 2021 [2].
قد تدفع الأرقام السابقة إلى تغذية الشعور بحدوث تقدم إيجابي بشأن الحرب ضد التنظيمات الأصولية المتطرفة والجماعات التابعة لها سواء في الشرق الأوسط أو خارجه، ولكن حقيقة الأمر أن الأرقام وحدها لا تقدم تفسيرات مقنعة حول بقاء التأثير الأيديولوجي لتلك التنظيمات، وإجادتها التكيف مع الضغوط الأمنية سواء على المستويين المحلي أو الإقليمي أو الضغوط التي تقوم بها تحالفات أمنية أكبر تشارك فيها دول عديدة. فتلك التنظيمات تنتظر دائماً الفرصة السانحة التي توفرها عوامل داخلية أو خارجية لإعادة إنتاج نفسها من جديد.
ففي بداية عام 2018، شرعت الدوائر الأمنية والاستخبارية في الولايات المتحدة الأمريكية في تعقب خطط تنظيم القاعدة، والتنظيمات الخارجة من تحت عباءته، لإعادة تنظيم صفوفه من جديد بعد فترة تراجع نسبي لمدة أربعة أعوام شهدت صعود تنظيم “داعش”. ورأت تلك الدوائر أن تنظيم “القاعدة” سيصبح التهديد الإرهابي الأكثر خطورة، خاصة بعد أن تمدد التنظيم وأعاد تنظيم صفوفه في أفغانستان والصومال وسوريا واليمن. وفي تقييم مغاير لتلك التوقعات، قال فلاديمير فورنكوف مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، في شهادة أمام مجلس الأمن الدولي في 9 فبراير 2022، أن مسار الأحداث يشير إلى أن تنظيمي “القاعدة” و”داعش”، والتنظيمات الفرعية لهما، يشكلان تهديداً حقيقياً وأن الحرب العالمية على تنظيم داعش في العراق والشام ISIL\Da’esh والجماعات التي خرجت من التنظيم الرئيسي، تنبئ بما سماه لعبة طويلة الأمد Long-Term Game[3].
ويبدو أن توقعات الخبراء بصعود “القاعدة” مرة أخرى لتحل محل تنظيم “داعش” في خطف الأنظار لم يكن دقيقاً تماماً، حيث حقق الأخير نجاحات متتالية في مناطق عديدة وهو ما دفع فورنكوف إلى التأكيد أنه لا يوجد تحرك سريع لمواجهة التنظيم حالياً[4]. ورغم مصرع “أبو إبراهيم القرشي” زعيم داعش وهو الحدث الأهم في العمليات ضد قيادات التنظيم منذ أعوام فإن هناك شواهد عديدة على قدرة داعش على إعادة ترتيب صفوفه وتكثيف عملياته بما يجعل الحركة الجهادية العالمية محط أنظار ويؤكد أنها ستظل التهديد الأبرز في الشرق الأوسط لأعوام مقبلة.
إن الاختلاف بين طبيعة تنظيم داعش في الأعوام التي شهدت صعوده واليوم هو أن التنظيم صار أكثر تشظياً وأكثر لامركزية وهو ما يمكّنه من الاستمرار. إن قدرة التنظيم على تسويق نفسه باعتباره “دولة” قد ضعفت ولم يعد بإمكانه حيازة مساحات من الأراضي مثلما فعل في ذروة انتصاراته، إلا أن عناصره مازالت في إمكانها القيام بشن هجمات عسكرية “منسقة” تخلف دماراً كبيراً[5].
وتتجه التنظيمات الإرهابية إلى مزيد من اللامركزية في عملها نتيجة الضربات التي لحقت بها في العراق وسوريا إلا أن التحدي الأمني “الممتد” يتمثل في وجود مقاتلين وأسرهم في معسكرات الاعتقال في الأراضي السورية يشكلون هاجساً يصعب تجاهله، حيث تقوم عناصر التنظيم الإرهابي بشن عمليات لاقتحام السجون لتحرير تلك العناصر مثلما جرى في دير الزور في نوفمبر الماضي إلا أن القوات الكردية نجحت في إحباط العملية. في الوقت نفسه، يقوم تنظيم داعش بمواصلة تمويل فروعه ومنحها مزيداً من قوة الدفع في مناطق أخرى، مثل التنظيمات التابعة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ليبقى التنظيم في مركز الإلهام للتنظيمات الموالية وهو ما أدى إلى ظهور نسخ أكثر دموية مثل تنظيم ولاية وسط أفريقيا الإسلامية ISCAP، وتنظيم داعش خراسان ISK. وفي ظل غياب المعالجات الأمنية والعسكرية المناسبة للتهديدات المتصاعدة، تكتسب نسخ من تنظيم داعش زخماً مطرداً مثل التنظيم التابع له في موزامبيق والكونغو الديمقراطية، في ظل غياب مؤشرات على فرص توفير دعم دولي كافٍ لهذه الدول في الحرب ضد التنظيم الإرهابي[6]. فالتنظيم ينشط اليوم في الدول الفاشلة ومناطق الصراعات والأماكن التي تشهد فوضى في إدارة الحكم، ففي ظل وجود البدائل في مناطق خصبة لعمل مقاتليه، يمكن لأعضاء التنظيم الانتقال ما بين العديد من هذه المناطق للاختيار من بينها، بما في ذلك أفغانستان وأجزاء من أفريقيا حيث تتسم سياسات التنظيم بالبراغماتية وهي سمة لعمل الحركة الجهادية في العقدين الماضيين[7].
ثانياً: مأزق النظام الدولي في الأزمة الأوكرانية والحرب على الإرهاب
تقترن الحرب الدائرة في أوكرانيا بمتغيرات جديدة في النظام الدولي تمس الحرب على التنظيمات المتطرفة والإرهابية يمكن أن نجملها، مبدئياً، في الآتي:
1- تراجع النظام الدولي القائم على القواعد، حيث أسهم الإضعاف المتعمد لدور الأمم المتحدة على مدى العقود الثلاثة الماضية بشكل كبير في خلق عالم أكثر فوضوية وقيام دول كبرى بانتهاك حقوق السيادة لدولة أخرى دون رادع من المنظمة الدولية. وقد كان من الصعب القيام بتحرك في الأمم المتحدة لفرض قواعد على روسيا تقوم الولايات المتحدة نفسها بخرقها باستمرار في تهديد صريح للأمن والسلم الدوليين[8]. فعوضاً عن التزام الولايات المتحدة بالنظام الدولي القائم على القواعد وتمكين الأمم المتحدة، قادت واشنطن التوجهات الرامية إلى تجاهل القوانين والقرارات الدولية وهو ما سهل على القوى الأخرى تجاهل القوانين والأعراف الدولية أيضاً.
فعلى مدى أكثر من 75 عاماً، تمسكت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالحدود الدنيا لعمل ميثاق المنظمة العالمية ورغم الإخفاقات العديدة على مستوى تطبيق القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي فإن الآليات الخاصة بالقضايا العالمية مثل مكافحة الإرهاب ومواجهة التغير المناخي ومحاربة الفقر وغيرها من القضايا العالمية برهنت على أن العمل الجماعي الدولي من أهم مكاسب عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. قد تدفع الأزمة الأوكرانية- الروسية المجتمع الدولي إلى المناداة بتقوية دور الأمم المتحدة لتجنب فوضى عالمية أو الانزلاق إلى حرب نووية، وفي حالة الحرب على الإرهاب فإن أنظمة الرصد والمراقبة لأنشطة التنظيمات والجماعات الإرهابية التي ترعاها المنظمة العالمية تشكل أهمية قصوى لا يمكن خسارتها فتلك الآليات الدولية تؤدي مهمات حيوية وغيابها سيُظهر فجوات عميقة في جهود مجابهة التنظيمات الإرهابية يصعب ردمها.
2- عودة التحالفات: في ظل تصاعد الأزمة الروسية – الأوكرانية، عاد حلف شمال الأطلسي “الناتو” من جديد لاعباً بارزاً على مستوى منظومة الدفاع الغربية بقيادة الولايات المتحدة وهو الحلف العسكري الوحيد القائم عالمياً بعد تفكيك حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفييتي في أعقاب نهاية الحرب الباردة في مطلع التسعينيات من القرن العشرين. إن الوجود المنفرد لحلف عسكري تقوده واشنطن سوف يقابله، في الغالب، ظهور تكتلات وتحالفات عسكرية في المستقبل، خاصة أن روسيا تسعى من خلال الحرب الحالية إلى تأكيد مناطق نفوذها في منطقة أوراسيا وعينها على منظومة الأمن الأوروبي التي تريد أن تلعب دوراً مهيمناً داخله. كما أن الصين تترقب وتنتظر ما سوف تسفر عنه الأزمة الحالية وإنْ كان من الصعب التكهن بما تضمره بكين في تلك المرحلة. إن وجود تنافس بين تحالفين عسكريين أو أكثر هو أقصر طريق لعودة أجواء الحرب الباردة ويمكن أن تعود “الحروب بالوكالة” أيضاً. في مثل هذا المناخ يمكن للتنظيمات العقائدية العابرة للحدود، ومنها التنظيمات الجهادية الإرهابية، أن يكون لها دور في حروب الوكالة وأن تحصل على دعم وتمويل وحرية حركة تسمح لها بالتمدد والانتشار بترتيبات خاصة مع أطراف توظفها لخدمة أجندة أعمالها.
3- شرعنة فيالق المقاتلين الأجانب (المرتزقة): جاءت دعوة الرئيس الأوكراني فولاديمير زيلنيسكي لفتح باب التطوع واستقبال مقاتلين أجانب للقتال إلى جانب الجيش الأوكراني من خلال التقدم بطلبات إلى سفارات بلاده في جميع أنحاء العالم بمنزلة صدمة مفاجئة خاصة في ظل ردود أفعال دول غربية اختارت الصمت على هذا التوجه. وقد أثارت الدعوة حالة من القلق بسبب منح الشرعية لمبدأ جلب المرتزقة والمقاتلين من خارج البلاد حيث يتوقع ألا يتوقف الأمر عند الحالة الأوكرانية وحدها، بل سيصبح من حق أي دولة أن تستخدم أوكرانيا سابقة يمكن القياس عليها. وقد غضت الحكومات الغربية الطرف عن تجنيد “الفيلق الدولي” رغم أن الانضمام إلى القوات المسلحة الأجنبية بشكل عام جريمة يعاقب عليها القانون[9]. فقد أعلنت الحكومة الألمانية أن السفر إلى منطقة الصراع غير قانوني بشكل عام، لكنها تريد منع سفر المتطرفين فقط، وهو ما يعني موافقة ضمنية على توجه زيلنيسكي. كما ناقشت الحكومة البريطانية علناً إذا ما كانت ستدعم سفر المتطوعين إلى منطقة الصراع. حتماً لا تزال العواقب القانونية لكيفية التعامل مع المقاتلين الأجانب العائدين إلى ديارهم بعد انضمامهم إلى القوات المسلحة الأوكرانية غير واضحة. فمن منظور قانوني، تعتبر مجموعات مثل “داعش” و”القاعدة” مجموعات إرهابية عالمية وتم تجريم السفر للانضمام إليها في النزاعات الخارجية من قِبل العديد من الحكومات، وكذلك أي دعم يقدم لهذه الجماعات بشكل مباشر أو غير مباشر، لكن السفر للقتال في أوكرانيا، على خلاف ما سبق، لم يتم تجريمه أو منعه وهو ما يفتح الباب أمام نقاش عالمي سيحتدم بالتأكيد في المستقبل حول منح مثل هذا التصرف الشرعية لجماعات إرهابية على خلاف التوافق الأممي في مواجهة الجماعات خارج نطاق الدولة.
4- مكافحة الإرهاب في ظل المنافسة بين القوى العظمى: تبرهن الحرب في أوكرانيا أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تملك رفاهية الانسحاب أو التراجع عن التزاماتها في الشرق الأوسط حيث تفرض المنافسة بين القوى الكبرى great-power competition على مساحة رقعة واسعة في أوراسيا والشرق الأوسط تحجيم طموحات المنافسين الرئيسيين – روسيا والصين – حيث سيفرض التوجه الأمريكي الاستراتيجي إلى آسيا والباسيفيك تأمين مصالح الولايات المتحدة في بقاع أخرى. ووفقاً لكريستوفر بي كوستا، المساعد الخاص للرئيس الأمريكي، مدير مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي الأمريكي (2017 – 2018)، فإن سياسة مكافحة الإرهاب ومنح أولوية لمسألة المنافسة بين القوى الكبرى لا يمكن المفاضلة بينهما عندما يتعلق الأمر بخيارات الأمن القومي[10]. بمعنى آخر، قد تدفع قيادة الولايات المتحدة للتحالف الغربي ضد روسيا في أزمة أوكرانيا إلى تحقيق توازن ما بين تركيز اهتمام الولايات المتحدة على المنافسة بين القوى العظمى في ظل صعود روسيا والصين والتزامات الحرب على الإرهاب في الشرق الأوسط، حيث يرى محللون استراتيجيون أن التركيز على منافسة القوى الكبرى وحدها قد يؤدي إلى انتكاسات طويلة الأجل لسياسات مكافحة الإرهاب والإضرار بمكانة الولايات المتحدة عالمياً أيضاً.
ثالثاً: تأثير الأزمة الأوكرانية في حركات التطرف في الشرق الأوسط
في إفادة فلاديمير فورنكوف مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب أمام مجلس الأمن، التي سبقت الإشارة إليها، طالب المسؤول الأممي بالعمل على تنفيذ عمليات عسكرية في إطار عمليات مكافحة الإرهاب وتبنّي إجراءات أخرى أكثر شمولاً بالتركيز على الإجراءات الوقائية، خاصة في ظل التمكن الكبير من جانب المنظمات الإرهابية في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات الإلكترونية لتحقيق أهدافها في التجنيد ونشر أفكارها أكثر من ذي قبل. وتشكل الأزمة بين روسيا وأوكرانيا تحدياً وعبئاً كبيراً جديداً، لقدرة المجتمع الدولي على التنسيق في الحرب على جماعات الإرهاب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى وأفغانستان في ظل الانخراط الأمريكي في الترتيبات الأمنية الجديدة في القارة الأوروبية وإعادة إحياء المنظومة العسكرية لحلف شمال الأطلسي من جانب، وصعوبة التنسيق مع الجانب الروسي في مناطق تشكل رأس الحربة في المواجهة ضد الجماعات الإرهابية مثل الجبهة السورية من ناحية أخرى. وفي توقيت اندلاع الأزمة في أوكرانيا، أشار التقدير الاستخباراتي السنوي الأخير لمكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكي The Annual Assessment of the US Intelligence Community الصادر في فبراير 2022 “أن الشرق الأوسط سوف يظل منطقة تتميز بالصراع المستمر مع حركات تمرد نشطة في العديد من البلدان، والصراع بين إيران ودول أخرى، وإرهاب وحركات احتجاجية تثير أعمال عنف بين الحين والآخر”[11].
وقياساً على التطورات التي صاحبت أزمة جائحة “كوفيد – 19″، فإن التنظيمات الإرهابية قد تتجه في الشرق الأوسط إلى محاكاة نموذج استغلال الجائحة في التمدد والانتشار مثلما فعل تنظيم “داعش” في عدد من مناطق أفريقيا حيث استغل التنظيم التداعيات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة لانتشار الوباء لكسب مواطئ أقدام في مناطق جديدة. فرضت الجائحة قيوداً اجتماعية وسببت توتراً سياسياً وتراجعاً اقتصادياً بعد أن قامت دول عدة بتوجيه الموارد الخاصة بمكافحة الإرهاب إلى الجهود التي تستهدف مواجهة آثار الوباء. وبالمثل، بدأت بوادر الأزمة بين روسيا وأوكرانيا تلقي بظلال كثيفة على مجتمعات العالم النامي ومنها دول الشرق الأوسط، التي أدى ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي والحبوب، وأهمها القمح والذرة، بالإضافة إلى زيوت الطعام التي تنتج روسيا وأوكرانيا النسبة الأكبر منها على المستوى الدولي (تمثل روسيا وأوكرانيا معاً 29% من إمدادات القمح في العالم) إلى أزمات فورية، حيث لم تعد بعض الدول قادرة على الوفاء بتوفير واردات القمح أو النفط في ظل نقص المعروض والارتفاع الحاد في الأسعار بالبورصات العالمية في توقيت تعاني فيه الموازنات العامة في أغلب دول المنطقة عجزاً مالياً كبيراً على امتداد الأعوام التي صاحبت موجة الاحتجاجات والحروب الأهلية في عدد من الدول ثم جاءت جائحة “كوفيد – 19” لترفع من سقف الأعباء.
كما أن الدول الهشة التي مزقتها الحروب والقريبة بشكل خطير من المجاعة، مثل لبنان وسوريا واليمن، قد تواجه أسوأ نتائج الحرب في أوكرانيا على الأرجح[12]. فمع استمرار الصراع في أوكرانيا، من المرجح أن تواجه هذه البلدان زيادة سريعة في أسعار المواد الغذائية التي بدورها يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الظروف الإنسانية الصعبة[13]. وفي ظل توقع موجة جديدة من الاضطرابات الاجتماعية الناجمة عن ارتفاع تكلفة المعيشة في المجتمعات المتضررة بشدة من الجائحة ثم تداعيات الأزمة في أوكرانيا، فإن الجماعات المتطرفة والإرهابية يتوقع أن تسعى لاستغلال الموقف لصالحها في المرحلة المقبلة، ويمكن أن ترفع تلك الجماعات من سقف أهدافها للعودة إلى مناطق نفوذ سابقة في سوريا وأفغانستان. وكانت تقارير روسية وعربية قد تحدثت عن نقل أعداد من الجهاديين في سوريا، خاصة الموجودين في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب إلى أوكرانيا، وأن غالبية هؤلاء الجهاديين من الأجانب في صفوف جبهة النصرة، بينما تقول تقارير لوكالة “سبوتنيك” الروسية أن قرابة 150 مسلحاً غادروا من مناطق عدة في إدلب وريفها وينتمي معظمهم إلى جنسيات فرنسية وبلجيكية ومغربية وتونسية وشيشانية وبريطانية فيما غادر 300 آخرون من مناطق ريفي إدلب وحلب لقتال الروس في أوكرانيا، حيث تشير المصادر الإعلامية إلى أن الرواتب تتراوح ما بين 1200 و1500 دولار[14]. وتضم محافظة إدلب السورية أكبر تجمعات المقاتلين الأجانب من جميع أنحاء العالم وتسيطر عليها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) التي كانت قد انشقت عن تنظيم القاعدة.
وحسب تقرير “تقدير المخاطر الأمريكي” الصادر عقب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا فإن “من المؤكد أن الصراع الطائفي والتمرد وعدم الاستقرار سيوفر للجماعات الإرهابية فرصاً متواصلة لتجنيد أعضاء جدد والحصول على الأموال وإنشاء أو توسيع الملاذات الآمنة التي يمكن من خلالها التخطيط لهجمات، بما في ذلك إحياء الملاذات الآمنة في أفغانستان”[15]. إن التجنيد الجماعي للمقاتلين الأجانب ليس بالأمر الجديد، وموجة الجهاديين الذين ذهبوا للقتال في أفغانستان والعراق وسوريا، في العقود السابقة، لم تكن ظاهرة جديدة. ويشير دانيال بيمان إلى أن الحرب الحالية في أوكرانيا تختلف عن الصراعات التي ينخرط فيها الجهاديون وتختلف حتى عن الصراع المدني المحدود في أوكرانيا، الذي اندلع في عام 2014، بمشاركة من المتطوعين من المقاتلين الأجانب لكن “هذه التجارب وغيرها تقدم بعض الدروس التي يجب مراعاتها حول أي دور مستقبلي للمقاتلين الأجانب”[16].
ويشير بيمان إلى أن الإرهاب هو أحد أكبر المخاطر المتعلقة بظاهرة المقاتلين الأجانب مثلما وجد الباحث في شؤون الإرهاب توماس هيغهامر “أن المقاتلين الأجانب تدفقوا على أفغانستان لمحاربة السوفييت ثم نقلوا الجهاد إلى البلدان ذات الأغلبية المسلمة مثل الجزائر والصومال. معظم المقاتلين الذين عادوا إلى أوطانهم لم يكونوا متورطين في الإرهاب، ولكن المتورطين كانوا هم أولئك الذين ثبت أنهم أكثر كفاءة ووحشية – تم توظيفهم في حروب دموية فيما بعد – بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي انخراط المقاتلين الأجانب في الصراع إلى تلقين الأجانب المثاليين أيديولوجيات أكثر راديكالية: يذهبون لمعارضة عدو واحد، لكن في منطقة الحرب يختلطون مع متطرفين آخرين ويخرجون أكثر راديكالية وأكثر تشابكاً”[17].
في الحالة الأوكرانية، فإن غالبية ساحقة من الفيلق الدولي The International Legion من العناصر اليمينية المتطرفة التي ستشكل خطورة علي المجتمعات التي سيعودون إليها في المستقبل وهو ما سيرفع بالتأكيد من منسوب موجات التطرف والعنف في مناطق عديدة من العالم، فقد يكون إعلان قوى يمينية متطرفة عن نفسها، عائدة من أوكرانيا إلى بلدان أوروبا الغربية وكندا والولايات المتحدة، خاصة في ظل عدائهم الصريح للأجانب وعقائد دينية بعينها، بمنزلة الحجة والذريعة التي ستمنح المتطرفين الإسلاميين قدرة أكبر على تجميع أنفسهم وإطلاق موجات جديدة من العمليات الإرهابية ضد الحكومات في دولهم أو في مناطق جغرافية بعيدة عن أوطانهم أو عبر الحدود في المجتمعات الغربية.
رابعاً: سيناريوهات حركة التنظيمات الإرهابية
بعد الاستعراض السابق، من الضروري الإجابة عن سؤال: هل يمكن لحركات التطرف والإرهاب في الشرق الأوسط أن توسع من نطاق حركتها وتثير مزيداً من القلاقل والاضطراب على وقع العوارض الممتدة للحرب الدائرة في أوكرانيا؟
في ظل غياب أفق الحل السياسي واتساع الفجوة ما بين روسيا والغرب بشأن تسوية الأوضاع على الجبهة الأوكرانية، فإن الموقف الراهن مرشح لمزيد من التدهور وتوظيف كل طرف للأدوات كافة المتاحة في حوزته لتحقيق مكسب على حساب الطرف الآخر، ولعل توظيف معسكر الحلفاء الغربيين لسلاح العقوبات – الأضخم والأكثر تأثيراً في تاريخ العقوبات في العصر الحديث – سيكون له تبعات على مسار الأزمة في الفترة المقبلة وعلى قدرة أطراف بعينها في البلدان المتضررة من الأزمة الكبرى على توظيف التوابع الاقتصادية السلبية لخدمة أهداف سياسية والخروج بمكاسب محددة. وفي مقدمة الأطراف التي تنظر إلى تبعات الأزمة هي الجماعات المتطرفة والإرهابية في منطقة الشرق الأوسط التي ستعمل على استغلال السخط وتدهور الأحوال المعيشية في الاقتصاديات الأكثر عرضة للتقلبات الناجمة عن الحرب نتيجة الارتفاع الحاد في تكلفة المواد الخام والمواد الغذائية بما يفوق قدرة الاقتصاديات المحلية على توفير اعتمادات مالية لشراء النفط أو المشتقات النفطية والغاز الطبيعي والقمح والذرة أيضاً بأسعار السوق العالمية. وفي هذا الإطار يمكن وضع عدد من السيناريوهات لكيفية تعامل التنظيمات المتطرفة مع الوضعين الإقليمي والدولي الراهنين وذاك على النحو التالي:
السيناريو الأول: احتواء الأزمة في مدى زمني قصير وإبرام تسوية بشأن وضع أوكرانيا يسمح بإعادة تطبيع العلاقات بين روسيا والدول الغربية ورفع العقوبات المشددة في مرحلة لاحقة وهو ما يعني أن الجماعات والتنظيمات المتطرفة والإرهابية في المنطقة العربية لن تكون قادرة على الاستفادة القصوى من حالة الفراغ الناشئة عن توجيه الأنظار كاملة إلى القارة الأوروبية وانشغال الولايات المتحدة وروسيا بالأزمة الأوكرانية. ففي حالة انتهاء الأزمة دون الوصول إلى مراحل لجوء الأطراف الغربية أو روسيا إلى التصعيد العسكري المحفوف بالمخاطر أو فرض عزلة كاملة على موسكو، فإن النظام الدولي سوف يحتفظ بقدر من التماسك يسمح له بالاستمرار في انخراط الأطراف المؤثرة فيه في حوارات حول القضايا المتصلة بمكافحة الإرهاب وتجنب الانزلاق إلى فوضى عالمية تستفيد منها التنظيمات الإرهابية.
السيناريو الثاني: استمرار القتال في أوكرانيا وتواصل الأطراف المعنية في مفاوضات بلا توافق على الحل السياسي لشهور عدة ما يضاعف من المأساة الإنسانية ونزوح المزيد من اللاجئين، في الوقت نفسه تتعمق أزمة الاقتصاد العالمي بسبب ارتفاع تكلفة المواد الخام والمواد الغذائية بما يرفع من درجة التوتر في عدد من دول الشرق الأوسط التي لا تستطيع التعامل مع الآثار الكارثية للأزمة وهو ما يمكن أن يفتح الباب أمام استفادة جماعات متطرفة وإرهابية من القلاقل والاحتجاجات المحتملة خاصة في البلدان التي تشهد صراعات مسلحة بالفعل وتعتمد على الدعم الأمريكي أو الدعم الروسي. في هذا السيناريو لا يمكن التقليل من خطر استغلال التنظيمات الإرهابية انشغال القوى الكبرى بالوضع في أوكرانيا ومحاولة تجميع قواها لشن هجمات مؤثرة في مناطق بعينها بغية استعادة بعض من نفوذها المفقود، خاصة في سوريا والعراق وأفغانستان وبعض مناطق أفريقيا.
السيناريو الثالث: استمرار القتال في أوكرانيا إلى أمد غير معلوم في المستقبل وتتحول الأزمة الأوكرانية إلى مواجهة عالمية بين حلف شمال الأطلسي وروسيا على الأراضي الأوروبية واستخدام الإمكانيات المتاحة كلها لدى الطرفين ومن بينها توظيف التنظيمات الإرهابية ضد المصالح الروسية في الشرق الأوسط وعودة الحروب بالوكالة التي يمكن أن تنعش تلك التنظيمات في عودة إلى مشهد حرب أفغانستان في نهاية السبعينيات عندما وظفت الولايات المتحدة الإمكانيات المالية والعسكرية والبشرية كلها (تجنيد الجهاديين) لإخراج الاتحاد السوفييتي من الأراضي الأفغانية. في هذا السيناريو الكارثي ستتعمق الأزمات الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية في الشرق الأوسط وستجد التنظيمات المتطرفة والإرهابية فرصة سانحة لاستعادة قوتها كاملة وإطلاق يدها في إيجاد موارد جديدة من خلال بسط سطوتها على مناطق بعيدة عن سيطرة الحكومات خاصة في الدول الهشة.
وتشير المعطيات على الأرض، حتى الآن، إلى أن السيناريو الثاني هو الأكثر ترجيحاً حيث لا توجد فرص مواتية لإنهاء الحرب عبر التفاوض في ظل رفع الجانب الروسي سقف المطالب بما تعتبره أوكرانيا والغرب بمنزلة إعلان بالاستسلام. إن إطالة أمد الحرب ستكون له تداعيات إقليمية ودولية من بينها: إنعاش فرص الجماعات الإرهابية في استغلال الأزمة الاقتصادية الناجمة عن اختلال سلاسل التوريد، وإمكانية تصاعد الاضطرابات المجتمعية في دول بعينها، وتوجيه الموارد المالية لعلاج آثار الأزمة خصماً من بنود أخرى من بينها مخصصات المواجهة الأمنية ضد الجماعات الإرهابية.
الخاتمة
يتعين على الحكومات العربية أن تتخذ عدداً من الخطوات العملية لاحتواء الآثار الكارثية للحرب الروسية في أوكرانيا من أجل التحوط ضد إمكانية تعمق الأزمة والوصول إلى السيناريو الثالث. ومن الخطوات التي يمكن البدء بها للتعامل مع الأزمة الدعوة إلى منتدى أمني عربي يطرح بوضوح ملفات الهواجس الأمنية المصاحبة للأزمة الحالية في أوروبا ويضع سيناريوهات لمواجهتها، ومن أهم تلك الملفات ما يتعلق بكيفية التعامل مع مشهد الفراغ الناجم عن تشتت الأطراف الفاعلة في التحالف الدولي ضد الإرهاب الذي تلعب الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي أدواراً رئيسية فيه. والأمر الثاني، بدء تحرك جماعي عربي من خلال المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع لجامعة الدول العربية من أجل توفير غطاء غذائي كافٍ للمناطق المتضررة بشدة من أزمة نقص الحبوب وهو إجراء يمكن أن يكون مقدمة لتجريد الجماعات الأصولية والمتطرفة من سلاح مهم في حال قيامها بمحاولات لاستغلال الأزمة ويفتح الباب أيضاً أمام استعادة المنطقة العربية زمام المبادرة للتعامل مع مشكلاتها وبناء نظام عربي جديد في عالم سيتجه حتماً في اتجاه ظهور التحالفات القوية بعد الأزمة الأوكرانية.
المراجع
[1]. GLOBAL TERRORISM INDEX, Institute for Economics & Peace, MEASURING THE IMPACT OF TERRORISM, 2021
[2]. Ibid.
[3]. Battle against Da’esh, a ‘long-term game’, Voronkov tells Security Council, UN News, 9 February 2022, https://news.un.org/en/story/2022/02/1111602
[4]. Ibid
[5] .Ben Hubbard, Leader’s Death Is Another Blow for ISIS, but It’s Hardly the End, The New York Times, Feb. 5, 2022, https://www.nytimes.com/2022/02/05/world/middleeast/isis-qurayshi-death.html
[6]. Colin P. Clark, Trends in Terrorism: What’s on the Horizon, Foreign Policy Research Institute, December 8, 2021, https://www.fpri.org/article/2021/12/trends-in-terrorism-whats-on-the-horizon-in-2022/
[7]. Ibid
[8]. Trita Parsi, What Putin’s Ukraine crisis proves about the dying United Nations, MSNBC Website, Feb. 22, 2022, https://www.msnbc.com/opinion/msnbc-opinion/russia-ukraine-crisis-highlights-erosion-u-n-n1289511
[9]. Scott N. Romaniuk, Creating a Crisis: Canada and the Foreign Fighter Phenomenon, Geopolitical Monitor, March 8, 2022, https://www.geopoliticalmonitor.com/creating-a-crisis-canada-and-the-foreign-fighter-phenomenon/
[10]. CHRISTOPHER P. COSTA, How the US can balance counterterrorism and the great power competition, The Hill, February 25, 2022 https://thehill.com/opinion/national-security/595674-how-the-us-can-balance-counterterrorism-and-the-great-power ,
[11]. 2022 ANNUAL THREAT ASSESSMENT OF THE U.S. INTELLIGENCE COMMUNITY, https://www.odni.gov/index.php/newsroom/reports-publications/reports-publications-2022/item/2279-2022-annual-threat-assessment-of-the-u-s-intelligence-community
[12]. The Italian Institute for International Political Studies (ISPI), War in Ukraine: A food crisis in the MENA region?, March 10, 2022, https://www.ispionline.it/it/pubblicazione/war-ukraine-food-crisis-mena-region-34063#g1
[13]. Ibid.
[14]. “وصول 450 مسلحاً عربياً وأجنبياً من إدلب إلى أوكرانيا”، وكالة سبوتنيك الروسية، 8 مارس 2022، https://bit.ly/3MB5T3j
[15]. Annual Threat Assessment of the U.S. intelligence Community, op.cit.
[16]. Daniel L. Byman, Foreign fighters in Ukraine? Evaluating the benefits and risks, The Brookings institution, Thursday, March 3, 2022, https://www.brookings.edu/blog/order-from-chaos/2022/03/03/foreign-fighters-in-ukraine-evaluating-the-benefits-and-risks/
[17]. Ibid.