دخلت العلاقات السورية-اللبنانية مرحلة جديدة، في أعقاب تحوّلات جذرية شهدها البلدان في بنيتهما السياسية، وفي ظل ابتعادهما عن دائرة النفوذ الإيراني، واتجاههما نحو مزيد من التنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة وعدد من الدول العربية. وفي ضوء تطلعات الدولتين إلى الفُرص الممكنة في مرحلة ما بعد الحرب والصراع، ولاسيما فيما يتصل بإعادة الإعمار، والتنمية الاقتصادية، وإعادة صياغة العقد الاجتماعي، وهي عوامل تشير -نظريًّا على الأقل- إلى أن العلاقات بين الجانبين يُفترض أن تتجه نحو مزيد من النمو والتعاون.
غير أن الواقع الراهن يُظهر أن هذه العلاقات ماتزال تتسم بالحذر والتردد، فضلًا عن بطءٍ واضحٍ في وتيرة تطورها. ويعود ذلك بشكلٍ أساسيّ إلى تراكم التحديات المحلية على الحكومتين، إلى جانب الدور غير الرسمي والفعّال الذي يضطلع به حزب الله في مجرياتها، خصوصًا مع سعيه لمحاولة فرض نفوذه وتوسيع أنشطته على الحدود الشرقية اللبنانية، على نحوٍ جعل من الاعتبارات الأمنية وإدارة التوترات الحدودية أولويةً لدى الدولتين تتقدم جوانب العلاقة الأخرى. وتفيد الرسائل التي يتلقاها الحزب من الأطراف ذات العلاقة بأن نعيم قاسم، الأمين العام للحزب، هو الأقل رتبة ورقمًا على قائمة الاستهداف الإسرائيلية مقارنةً بمن سبقوه، وأنه يمكن إنهاؤه في أي لحظة، وإسرائيل اليوم بين لحظتين تحاول المفاضلة بينهما؛ الأولى: هل نجعل قاسمًا حجة لتدمير لبنان والضاحية الجنوبية والوصول إلى بيروت، أم نكتفي باغتياله والإنهاء الكامل على حزب الله؟ لكنها، في المقابل، تنتظر أن يقوم الساسة اللبنانيون بإقناع قاسم بأن يُقر بالهزيمة، ويكتفي بحزبه على أنه سياسي لا يمتلك أي نوع من السلاح، ولا داعي لأي حركات استعراضية قد تعصف بلبنان كاملًا.
معادلة سياسية جديدة في سياق الدولتين
شهدت كل من سوريا ولبنان تحولات جوهرية على المستوى السياسي، فقد أسفرت تطورات الحرب في قطاع غزة عن إعادة تشكيل عميقة لبُنى السلطة وموازين القوى في البلدين. ففي سوريا، أفضى تحرك المعارضة المسلحة إلى تغيير النظام السابق في ديسمبر 2024، وصعود “هيئة تحرير الشام” والفصائل المتحالفة معها إلى السلطة، معلنةً عن إطلاق مرحلة انتقالية تستمر لمدة خمس سنوات؛ في حالة تتصف بالضبابية التامة، وعدم اليقين، وغياب القدرة على استشراف مآلات الأمور.
في المقابل، شهد لبنان نهايةً لفراغٍ رئاسي استمر أكثر من ثلاث سنوات، تمثّلت بانتخاب قائد الجيش السابق، جوزيف عون، رئيسًا للجمهورية، وتشكيل نواف سلام حكومة انتقالية، اتسمت بتراجعٍ واضحٍ في نفوذ “حزب الله”، الذي خسر، للمرة الأولى منذ عام 2006، امتلاكه لما يُعرف بـ”الثلث المعطّل” في مجلس الوزراء[1]، وهو ما شكّل اختلالًا في معادلة السلطة التي طالما فرضها الحزب داخل النظام السياسي اللبناني.
يأتي ذلك كتحوّلٍ في ديناميات العلاقة التاريخية المتشابكة بين الدولتين، وتأثير ذلك على الدور المحوري الذي لطالما اضطلعت به إيران في هذا الإطار. فخلال مرحلة حكم “حزب البعث” في سوريا، كانت دمشق تمارس نوعًا من الوصاية السياسية والأمنية على لبنان، وتعمل على عرقلة أي محاولة لنزع سلاح “حزب الله”. وقد امتد هذا النمط من العلاقات منذ العام 2000، تاريخ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، وحتى عام 2012، حين انخرط “حزب الله” وإيران عسكريًّا في الأزمة السورية. هذا التدخل شكّل نقطة تحوّل في موازين القوى بين الأطراف المعنية، حيث برز “حزب الله” كفاعلٍ إقليميٍّ مؤثّر، وتزايد النفوذ الإيراني بشكلٍ ملحوظ في كلٍّ من لبنان وسوريا. وقد أفضى هذا التدخل إلى صياغة معادلةٍ جديدة في السياق السوري، ساهمت في تعزيز نفوذ كلٍّ من الحزب وطهران داخل المشهد السياسي والأمني في دمشق.
غير أن الانخراط الخجول لـ”حزب الله” في الحرب في قطاع غزة دخل تحت تسمية “حرب الإسناد” في 8 أكتوبر 2023، ولكنه في حقيقة الأمر لم يكن كذلك. فلو كان ما قام به “حزب الله” حربَ إسنادٍ حقيقية لكانت النتيجة اليوم مختلفة في غزة وفي الضاحية الجنوبية. ودعونا نعترف، لمرة واحدة، بأن كلًّا من “حماس” و”حزب الله” أسهما في القضاء على وجودهما، وأن من يروّج لفكرة “الكمون الاستراتيجي إنما يروج لحالة تعزية للنفس وتبرير لعدم القدرة على المواجهة من جديد. نحن أمام مرحلةٍ مختلفةٍ تغيّرت فيها الموازين والمعادلات؛ واللجوء إلى طاولة التفاوض والحوار هو الحلّ الأمثل.
فعندما تصاعدت الضربات الإسرائيلية الموجّهة ضد البنية القيادية والعسكرية للحزب في كلٍّ من لبنان وسوريا، شكّلت عاملًا حاسمًا في إضعافه وتآكل نفوذه في المشهدين السياسي والأمني في البلدين. وقد أتاح هذا التراجع المفاجئ للمعارضة السورية المسلحة التحركَ العسكري وتغيير النظام، كما فتح المجال في لبنان أمام توافقٍ سياسي داخلي ودولي، سمح بانتخاب رئيسٍ للجمهورية، وممارسة ضغوطٍ متزايدة على الحزب من أجل نزع ما تبقى من سلاحه[2].
وقد تزايدت المؤشرات على دخول كلٍّ من سوريا ولبنان في مسارٍ استكشافي جديد لعلاقاتهما الثنائية، في ضوء تعقّد الملفات المشتركة، وتكثّفت اللقاءات السياسية، إلى جانب تفاعل الحلفاء الإقليميين والدوليين ضمن هذا السياق. تمثّلت أولى الخطوات العلنية في هذا المسار باللقاء الذي جمع الرئيس السوري المؤقت، أحمد الشرع، بنظيره اللبناني، جوزيف عون، في 11 يناير 2025، على هامش القمة العربية المنعقدة في القاهرة. وأعقبه، في 14 أبريل من العام نفسه، قيام رئيس الوزراء اللبناني، نواف سلام، بزيارةٍ رسمية إلى دمشق، جرت خلالها مناقشة عدة ملفات، من أبرزها المعابر غير الشرعية، وملف اللاجئين، إضافةً إلى قضية المفقودين بين البلدين. كما تلتها زيارة وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، إلى بيروت في 10 أكتوبر 2025، بعد أن أُلغيت زيارةٌ سابقة كانت مقررة له أواخر يونيو، على خلفية الضربات الإسرائيلية ضد القدرات الإيرانية.
في موازاة ذلك، ظهر التأثير الأمريكي والعربي كعاملين مؤثّرين في إعادة تشكيل البيئة السياسية لكلٍّ من سوريا ولبنان، وكذلك في توجيه مسار علاقاتهما الثنائية. فقد سارعت عدة دولٍ عربية إلى ملء الفراغ الذي خلّفه تراجع النفوذ الإيراني، من خلال دعم المسار الانتقالي في كلا البلدين، والمساهمة في توفير الغطاء السياسي والاقتصادي، ودعم مسار التقارب بينهما. فيما دخلت الولايات المتحدة على خط الترتيبات الإقليمية لما بعد الصراع، عبر تحرّكات دبلوماسية تستهدف إعادة ضبط التوازنات. ففي لبنان، شدّدت واشنطن على ضرورة الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار الموقَّع في نوفمبر 2024، والعمل على تنفيذ خطة لنزع سلاح “حزب الله”. أما في سوريا، فقد قُدّمت للحكومة المؤقتة قائمةُ مطالب تتركز على ملفات الحوكمة، والإصلاح المؤسسي، وضبط الأمن، كشرطٍ للحصول على دعمٍ سياسي واقتصادي.
ورغم ما سبق، لاتزال العلاقات السورية-اللبنانية الناشئة هشّة، ومحكومة في معظمها بأطرٍ تقنية وأمنية محددة، وعلى رأسها ملفا المفقودين والحدود[3]. ففي مايو 2025، تم تشكيل لجنتين متخصصتين لمتابعة هذين الملفين. أُنيطت بالأولى مهمة التحقق من مصير نحو 600 لبناني مفقود في سوريا، ونحو 2000 سوري محتجز في السجون اللبنانية، فيما تُعنى اللجنة الثانية بمتابعة قضايا ترسيم الحدود، وبلورة إطارِ تفاهمٍ مشترك يُنظّم العلاقة الحدودية بين البلدين، في ضوء المستجدات السياسية والأمنية الراهنة.
حزب الله الفاعل غير الرسمي في العلاقة
ترتبط التحديات أمام تطوّر مسار العلاقات السورية-اللبنانية بعوامل محلية لدى الطرفين، وأخرى تتصل مباشرة بسياق علاقاتهما؛ إذ تُعاني هذه العلاقات من أزمة ثقة وإرثٍ ثقيل بينهما، حيث عانى لبنان لعقودٍ جراء التدخّل الأمني السوري في شؤونه الداخلية، وفي دعمه لهيمنة “حزب الله” ونفوذه في لبنان، فيما ارتكب “حزب الله” انتهاكاتٍ إنسانية بالغة أثناء تدخّله في الأزمة السورية.
ولايزال تأثير “حزب الله” قائمًا في سياق العلاقات الناشئة، خصوصًا مع سعيه لفرض نفوذه وتوسيع أنشطته على الحدود الشرقية اللبنانية. فقد أقدم مقاتلوه، في فبراير 2025، على اختطاف عناصر أمن تابعين للحكومة السورية المؤقتة، ما أدّى إلى تصعيدٍ عسكري بين الطرفين، تمثّل في ردّ قوات الحكومة السورية بقصف القرى اللبنانية المحاذية للحدود لمدة ثلاثة أيام متواصلة، توقّف بهُدنة بين وزارتي دفاع الدولتين[4]. وقد دفعت تلك الحادثة السعودية إلى التدخّل في محاولة لضبط الأمن على الحدود، إذ رعت، في مارس 2025، محادثاتٍ لبنانية-سورية رسمية لتنسيق الأمن وضبطه على الحدود.
مع ذلك، لاتزال الحدود بين الدولتين هشّة، ويُظهر “حزب الله” تمسّكًا بالحفاظ على أنشطته هناك، خاصةً بعد انقطاع طُرق الإمداد الإيراني نحوه، واعتماده بشكلٍ متزايد على شبكات التهريب والتعاون مع منظمات الجريمة المنظمة في الداخل السوري[5]. وبالرغم من انتشار الجيش اللبناني وتعزيز وجوده على الحدود الشرقية، ظلّت عمليات اختراق “حزب الله” وتجاوزه للترتيبات الأمنية حدثًا متكررًا، ما دفع القوات التابعة للحكومة السورية، في مايو 2025، إلى تنفيذ حملة تمشيط جديدة وواسعة في القرى السورية الحدودية، وتحديدًا قرية حوش السيد، لطرد مقاتلي “حزب الله” الذين ينشطون في المنطقة لغايات عمليات التهريب العابرة للحدود.
بالنسبة إلى “حزب الله”، الذي يواجه واقعًا معقّدًا ومُربكًا، فقد شكّل تغيير النظام وصعود قوى معادية للحزب حدثًا مفصليًّا، وضع الحزب بين عاملين في غاية الأهمية يُضيّقان الخناق عليه؛ يتمثّل الأول في الوجود الإسرائيلي في الجنوب اللبناني، والثاني في قوات الجيش والأمن على الحدود السورية–اللبنانية. لكنّ تعاطي الحزب مع هذه المتغيرات أصبح مرتبطًا بالتهديدات التي تُحيط بدوره المحلي اللبناني، خاصةً تجاه الضغوط المحلية والدولية الداعية لنزع كامل سلاحه شمال نهر الليطاني، ما يعني مواجهته خطر الأفول محليًّا.
وفي ضوء هذه الوقائع، فإن خروج “حزب الله” من إنهاكه الحالي يتطلّب تعزيز نشاطه في الساحة السورية لسدّ تضاؤل الدعم الإيراني[6]، وربما انعدامه تمامًا؛ ما يعني زيادة الاحتكاك بالجيش والقوات التابعة للحكومة السورية المؤقتة. وهذا غير متاح في ضوء الوقائع العسكرية والميدانية، والنقص الشديد في العتاد والقوة المسلحة التي يملكها الحزب؛ ولاسيّما أن الحزب يدرك أن سبب انكشافه للإسرائيليين يعود إلى قتاله في سوريا أيام نظام الأسد.
يحاول الحزب أن يُمرّر رسائل عدة، أخطرها يتمثّل في استخدامه الساحة السورية للمناورة، تفاديًا أو تأجيلًا لمطالب تسليم سلاحه. فالقوى السياسية والقادة الجدد في لبنان يُواجهون استحقاقًا محليًّا وضغطًا دوليًّا لتحقيق هذه المهمة، التي ترتبط بحلحلة الأزمات الاقتصادية والمالية التي تعاني منها البلاد، وملف إعادة الإعمار ما بعد الحرب[7]. وثمّة وعيٌ وطنيّ تجاه أهداف الحزب من الدعوة إلى الحوار، والتي لا تتعدّى كونها محاولةً لكسب الوقت.
وقد وافقت الحكومة اللبنانية بالفعل في سبتمبر 2025 على خطة أعدها الجيش اللبناني، لنزع سلاح حزب الله، وتشمل 5 مراحل، وتنتهي بحلول أواخر العام 2025، وقد جاء ذلك بعد تأكيد الرئيس اللبناني جوزيف عون في أبريل 2025، سعيه لسحب سلاح الحزب.
في المقابل يتمسك حزب الله بسلاحه، وبخلاف خطابات أمين “حزب الله” نعيم قاسم في الفترة اللاحقة للحرب بين الحزب وإسرائيل، والتي أشار خلالها إلى أن الحزب منفتح على جميع الخيارات، وقابل لتقديم تنازلات جوهرية، تعكس خطاباته الأخيرة لهجةً أكثر تشددًا، خاصةً تجاه مناقشة مستقبل سلاحه، حيث وجه الحزب في 5 نوفمبر 2025، كتابًا مفتوحًا إلى الرؤساء الثلاثة جوزيف عون ونبيه بري ونواف سلام وعموم اللبنانيين، يؤكد فيه حرصه على التفاهم الوطني، إلا أنه أعاد طرح فكرة “استراتيجية دفاع وطني”، وفي المقابل تؤكد الحكومة أنه لا وجود لاستراتيجية دفاع وطني بل “أمن وطني”.
في السابق، كان الحزب مستعدًّا لاستخدام القوة في مواجهة أيّ طرح داخلي أو تهديد خارجي يطال سلاحه؛ ففي عام 2006 هدّد أمينه العام الأسبق، حسن نصر الله، بـ”قطع يد” كلّ من يستهدف سلاح الحزب[8]، وفي عام 2008 خاض مقاتلو الحزب حرب شوارع في العاصمة بيروت على خلفية قرارات مجلس الوزراء بمصادرة شبكة الاتصالات التابعة لسلاح الإشارة في الحزب. لكن من الوارد أن يتغيّر خطاب الحزب بسبب تغيّر سلوكه، ومن المؤكد أن الحزب يبحث عن آليةٍ معينة لتفادي تسليم سلاحه، إذ تداولت قنوات الحزب الرسمية وغير الرسمية أنه مستعد لوضع سلاحه عند العراق كضامن، لكن الولايات المتحدة رفضت ذلك، ومن ثمَّ لم يبقَ أمامه إلا التسليم[9].
في رواية “حزب الله”، فإن لبنان مُحاط بتهديدين؛ يتمثّل الأول في الانتشار الإسرائيلي في خمس نقاط من جنوب لبنان، والضربات الجوية المتكررة لسلاح الجو الإسرائيلي ضد أهدافٍ للحزب في لبنان. أما الثاني، فيتعلّق بالقوات التابعة للحكومة السورية التي تنتشر على حدود لبنان الشرقية. وقد حمّل نعيم قاسم مسؤولية الرد على الاعتداءات الإسرائيلية للدولة اللبنانية، كما أشار في فبراير ثم مايو 2025.
لذلك، فإنّ خلق تهديدٍ ثانٍ يعقّد موقف الحكومة اللبنانية، ففي الاشتباك الحدودي الأول في فبراير، وجّه الرئيس اللبناني، جوزيف عون، الجيش للرد على مصادر النيران من سوريا. ويستمر الحزب في الترويج للتهديدات القادمة من سوريا؛ فخلال يونيو 2025، تداولت مواقع إخبارية ومنصات تواصل اجتماعي تابعة للحزب أخبارًا غير مؤكدة حول تحرّكات وصفتها بـ”المشبوهة” لمقاتلين أجانب على الجانب السوري من الحدود، وهي الرواية التي نفاها الجيشان السوري واللبناني، لكنها تُدلّل على اتجاهات حركة الحزب لمواجهة الضغوط المحلية والخارجية لتسليم سلاحه.
وربما يكون الإبقاء على حالةٍ متوتّرة مع سوريا أكثر أهمية في الوقت الحالي من مناورة خاسرة ضد إسرائيل. فلدى مقاتلي “حزب الله” ماضٍ وخبرةٌ ومعرفة في القتال ضد الفصائل التي أصبحت اليوم تُشكّل البنية العسكرية لسوريا، بل إنّ الأولوية الاستراتيجية لقتالهم في سوريا؛ فبعد عام 2012 أصبحت سوريا الميدان الفعلي لنشاط الحزب. وهذا التحريض السياسي والإعلامي ضد السلطة في سوريا يتقاطع مع خطابٍ عام لـ “المحور” الإيراني، ومع التهديدات المُبطّنة للمرشد الإيراني، علي خامنئي، منذ انهيار النظام السوري.
وعلى الطرف الآخر، تتوافر لدى القيادة السورية الجديدة رغبةٌ واستعداد لاستخدام العنف ضد “حزب الله”، حيث من الممكن أن تستخدم ملف المجاهدين الأجانب لمواجهة الحزب، ومن ثمَّ تكون قد أصابت الهدف الذي بات واضحًا، وهو التخلّص من المجاهدين الأجانب من خلال الاقتتال مع “حزب الله” الذي يناور من أجل وجوده. فبالنسبة للجانب السوري، تُعدّ الخسارة في هذا السياق ربحًا خالصًا.
لقد شكّل عنف السلطة مأزقًا محليًّا حقيقيًّا، كما ظهر في سلوك قوات الجيش والأمن التابعين للحكومة المؤقتة في أحداث الساحل (6-10مارس 2025)، ثم السويداء (12-16يونيو)، بشكلٍ يعقبه تحذيرات من أن حالة التوتر التي تعيشها السلطة تجاه الأقليات، أو العكس، قد تدفع البلاد نحو صراعٍ داخلي واسع، أو توجّه السلطة نحو قمعٍ دموي ضد معارضيها. ومؤخرًا، شهدنا مواجهاتٍ خلال الفترة 22-24 أكتوبر بين أفراد الأمن العام السوري، نفّذوا هجومًا على ما يُعرف بـاسم “مخيم الفرنسيين”، مستخدمين أسلحة خفيفة ومتوسطة، بالإضافة إلى اعتقال جهاديين فرنسيين؛ ما اضطر مجموعة “الأوزبك” إلى مساندة الفرنسيين، لأنهم شعروا بأن الشرع يريد تصفية ملف ما يُعرف بـ “كلفة المجاهدين الأجانب”. ووفقًا للمرصد السوري، “جاءت العملية بعد تهديدات أمنية من داخل المخيم، وكان هدف العملية هو اعتقال قائدة كتيبة الغرباء الجهادية، الفرنسي من أصول سنغالية عمر أومسين، وإنهاء نفوذه داخل المخيم”. كما هدفت العملية الأمنية ضد الكتيبة الفرنسية في منطقة حارم إلى البحث عن المهاجرين الأجانب لتسليمهم إلى بلدانهم: “الأوزبك والشيشان إلى روسيا، والفرنسيين إلى فرنسا”.
لكن ديناميات التوازن الهش بين السلطة والأقليات لا تتعاطى معها الحكومة المؤقتة باعتبارها شأنًا داخليًّا فحسب؛ بل غالبًا ما تربطها بأنشطة “حزب الله” المستمرّة على الحدود وتحركاته داخل سوريا؛ إذ تعتقد أن الفصائل المسلحة المعارضة لها في السويداء تحصل على تمويلها من تجارة الأسلحة والمخدرات، التي يهرّبها “حزب الله” من لبنان، مرورًا بالسويداء، قبل محاولة تهريبها إلى الأردن، وهي عملية لاتزال متواصلة، رغم تراجع وتيرتها بعد انهيار النظام، حيث تم ضبط حوالي 8 ملايين حبة كبتاغون خلال عام 2025. وسبق أن اتّهم الرئيس السوري المؤقت، أحمد الشرع، “أطرافًا خارجية” بالضلوع في أحداث الساحل خلال الفترة (6-10 مارس 2025)، وأشار ناشطون مؤيّدون ومسؤولون سوريون صراحةً إلى دور “حزب الله” وإيران في دعم تمرد “فلول النظام السابق” في الساحل السوري، وهو ما نفاه الطرفان.
من جهةٍ أخرى، تُواجه الحكومة السورية المؤقتة أزماتٍ متعددة، تتعلّق بالشرعية السياسية الضعيفة، وأزماتٍ اقتصادية صعبة، وانقساماتٍ على مستوى وطني، تتقاطع ويؤثر بعضها في بعض، إذ فقدت السلطة جانبًا من مكانتها بعد تعثّر محاولاتها بسط سيطرتها على محافظة السويداء خلال منتصف يونيو 2025، وهو ما تغاضت عنه بشكلٍ أساسيّ جراء التدخل العسكري الإسرائيلي. لكنّ ذلك قد يدفع بها إلى تأكيد هيبتها وتعزيز مكانتها من خلال ردودها المستقبلية على اختراقات وأنشطة “حزب الله”، التي قد تصبح أكثر قوّةً وعنفًا. فبذلك تُعيد تأكيد دورها وأهميتها الإقليمية من منطلق مواجهة النفوذ الإيراني والحفاظ على وحدة البلاد داخليًّا، وتتقاطع أيضًا مع الضغوط الأمريكية والإسرائيلية على لبنان لنزع سلاح “حزب الله”، وربما لجوء إسرائيل إلى القوّة العسكرية من جديد لتحقيق ذلك الهدف. وتُعدّ هذه المهمة إحدى الفرص المحدودة التي يمكن للحكومة المؤقتة من خلالها استعادة بعض بريقها الذي فقدته بعد أحداث العنف في السويداء، وبشكلٍ يُهدّئ من المخاوف الإسرائيلية تجاهها، ويُعيد زخم القبول الأمريكي لدورها.
وبناءً على ما سبق، لا يمكن استبعاد أن يكون ملف “المجاهدين الأجانب” هو رأس الحربة ضد نشاطات “حزب الله” على الحدود السورية-اللبنانية؛ فالخسارة من الطرفين تُعدّ مكسبًا لكلٍّ من لبنان وسوريا. وفي ضوء هذا الوضع المعقّد، فإن تطوّر العلاقات بين الدولتين يبقى مرتبطًا بقدرة لبنان على نزع سلاح “حزب الله”، المتطوّر مقارنةً بالمقاتلين الأجانب، ودخول الدولتين في ترتيبات أوسع نحو ترسيم الحدود، وإرساء علاقاتهما، وعودة اللاجئين السوريين في لبنان.
[1] حكومة لبنان تعقد أولى جلساتها. وعون يشدد على انسحاب إسرائيل، موقع العربية، https://www.alarabiya.net/arab-and-world/2025/02/11/%D8%AD%D9%83%D9%88%D9%85%D8%A9-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D8%B9%D9%82%D8%AF-%D8%A3%D9%88%D9%84%D9%89-%D8%AC%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D9%88%D8%B9%D9%88%D9%86-%D9%8A%D8%B4%D8%AF%D8%AF-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%86%D8%B3%D8%AD%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84
[2] سلاح حزب الله اللبناني في واقع ما بعد الحرب، معهد ستراتيجيكس للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، https://strategiecs.com/ar/analyses/%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%B9-%D9%85%D8%A7-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8
[3] Lebanese-Syrian relations committees hold first meeting in Damascus, L’Orient-Le Jour, https://today.lorientlejour.com/article/1476624/lebanese-syrian-relations-committees-hold-first-meeting-in-damascus.html
[4] William Christou, Border wars: Syria’s new authorities grapple with Lebanese smugglers, The Guardian, https://www.theguardian.com/world/2025/apr/01/border-wars-syrias-new-authorities-grapple-with-lebanese-smugglers
[5] Ahmad Sharawi, The Quiet Return of Hezbollah’s Smuggling Network in Syria, Foundation for Defense of Democracies, https://www.fdd.org/analysis/2025/10/01/the-quiet-return-of-hezbollahs-smuggling-network-in-syria/
[6] Haid Haid, Hezbollah’s smuggling lifeline: can Syria’s new authorities cut it off?. Cross-Border Conflict Evidence, Policy and Trends (XCEPT), https://www.xcept-research.org/hezbollahs-smuggling-lifeline-can-syrias-new-authorities-cut-it-off/
[7] Amatzia Baram, Hezbollah’s Refusal to Disarm Risks Lebanon’s Stability, The Middle East Forum, https://www.meforum.org/mef-online/hezbollahs-refusal-to-disarm-risks-lebanons-stability?utm_source=chatgpt.com
[8] Von Erich Follath, Indictments Come at Key Moment for Hezbollah’s Nasrallah, SPIEGEL International, https://www.spiegel.de/international/world/hariri-or-harakiri-indictments-come-at-key-moment-for-hezbollah-s-nasrallah-a-773913.html
[9] علي السراي، واشنطن ترفض اقتراح إيداع سلاح «حزب الله» لدى «طرف عراقي ضامن»، صحيفة الشرق الأوسط، https://aawsat.com/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/5196352-%D9%88%D8%A7%D8%B4%D9%86%D8%B7%D9%86-%D8%AA%D8%B1%D9%81%D8%B6-%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AD-%D8%A5%D9%8A%D8%AF%D8%A7%D8%B9-%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%84%D8%AF%D9%89-%D8%B7%D8%B1%D9%81-%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D8%B6%D8%A7%D9%85%D9%86