مقدمة
شهدت سوريا خلال العام المنصرم 2023،
تصاعدًا ملحوظًا في تهديدات تنظيم داعش الأم، وذلك على الرغم من الجهود الكبيرة
لتقويض تلك التهديدات سواء من قِبل الحكومة السورية أو من قِبل التحالف الدولي،
فعلى الرغم من استمرار نشاطه في “دير الزور،
والحسكة، والرقة، وحلب، وحماة، وحمص”، فإن التنظيم كثف عملياته في مناطق ما
يعرف بـ”الإدارة الذاتية” شمال شرق سوريا، التي تسيطر عليها قوات سوريا
الديمقراطية التي مثّلت رأس حربة في القتال ضد تنظيم الدولة، وهي تسيطر اليوم على
ربع مساحة البلاد، وتعدّ القوة العسكرية الثانية على الأرض بعد جيش النظام السوري.
ويبرز في
سياق النشاط العملياتي لتنظيم داعش في سوريا منذ مطلع العام الجاري تصاعُد الهجمات
الخاطفة والهجمات الواسعة النطاق التي تستهدف التجمعات المسلحة الكبيرة والمرتكزات
الأمنية، إلى جانب عمليات الاغتيال للعناصر الأمنية لتجفيف المصادر المعلوماتية
والاستخباراتية للأجهزة الأمنية التي تتبع العناصر والخلايا الداعشية النشطة. حيث
يمكن النظر إليها على أنها محاولات استنزاف قدرات تلك الأجهزة، وإثبات وجود التنظيم
على الساحة، وهو ما يطرح التساؤلات حول أبرز ملامح هجمات داعش في سوريا ودلالتها
المختلفة، والأسباب والتداعيات المحتملة لهجمات التنظيم المتزايدة مؤخرًا.
نشاط داعشي متصاعد
فيما يشير إلى رغبة تنظيم “داعش” في التلويح بقدراته
على استعادة نشاطه في المناطق التي كان يسيطر عليها مكانيًّا في السابق، وهو ما
كان يعرف في الأدبيات باسم السيطرة الترابية أو المكانية، واصل التنظيم تصعيد
نشاطه في العديد من المناطق داخل سوريا؛ ولاسيما بمناطق “قسد” شرق
الفرات، وذلك بالتركيز على استهداف القوات الكردية، ويُعدّ الهجوم الانتحاري الذي شنه
تنظيم “داعش” نهاية ديسمبر الماضي، على أحد مراكز قوات الأمن الكردية في
مدينة الرقة بسوريا، مما أسفر عن مقتل 3 عناصر [1] مظهرًا من مظاهر هذا
التصعيد.
واستمر تصعيد النشاط الإرهابي لـ”داعش” بالساحة
السورية بشكل عام وذلك في سياق نجاح تنظيم داعش في استمرارية شنه هجمات إرهابية
منذ بداية العام الجاري، محاولًا توظيف الأبعاد الطائفية في الصراع بالساحة
السورية، وسعيه الدائم لتكريس حالة الانقسام طائفي في سوريا، على غرار إعلانه في
يوليو الماضي، تنفيذ عمليتين لاستهداف مدنيين في مقام السيدة زينب، جنوب العاصمة
السورية “دمشق”، أسفرتا عن مقتل نحو 6 أشخاص وإصابة أكثر من 20 شخصًا[2]، وقال التنظيم في بيانه إن
مقاتلين تابعين له “نجحوا في اختراق التشديدات الأمنية” في المنطقة
و”تمكنوا من ركن وتفجير دراجة نارية مفخخة”، الخميس، “على تجمع
للزوار الشيعة”.
ومن اللافت للنظر أيضًا في النشاط الإرهابي الداعشي في سوريا
خلال العام المنصرم 2023، هو تحوله إلى العمليات النوعية الواسعة النطاق، خاصة ضد
قوات الجيش السوري؛ وكان من أبرزها، استهداف حافلة عسكرية تابعة للجيش في أغسطس
الماضي، ما أدى إلى مقتل 33 جنديًّا وإصابة العشرات في بادية “الميادين”
بريف “دير الزور[3]“. وفي الشهر نفسه أيضًا تمكن التنظيم من شن هجوم في بلدة معدان عتيق
بريف الرقة الشرقي، واستهداف عربات عسكرية وأهداف مدنية وعسكرية، وسيطر على البلدة
لساعات قبل الانسحاب.
من الجدير بالذكر في هذا الإطار، أن الهجمات الإرهابية لتنظيم
داعش في سوريا خلال العام الماضي تزايدت بشكل لافت للنظر، إذ نفذ التنظيم نحو 336
هجومًا إرهابيًّا في مناطق سيطرة النظام السوري والإدارة الذاتية شمال البلاد، ما
أسفر عن مقتل 700 شخص من المدنيين والعسكريين. وفقًا لتقرير نشره المرصد السوري
لحقوق الإنسان.[4]
أشار إلى أن عمليات داعش شهدت زيادة خلال عام 2023، وذلك في إطار مساعيه لإرسال
رسالة مفادها “أن التنظيم مازال موجودًا”.
أسباب تصاعد هجمات داعش في سوريا
يمكن القول إن هناك مجموعة من الأسباب
التي أسهمت في تصاعد هجمات داعش في سوريا في عام 2023، ومن ثَمّ تزايد تهديداته
الأمنية، ويمكن تحديد أبرز تلك الأسباب في الآتي:
الضغوط التي يتعرض لها داعش في العراق:
على الرغم من استمرار قدرة داعش في العراق
على شن الهجمات الإرهابية خاصة ضد المدنيين على غرار الهجوم الذي استهداف حافلة
كانت تقل عددًا من المدنيين في محافظة ديالى مطلع سبتمبر الماضي، ما أسفر عن مصرع
11 شخصًا[5]، فإن هجمات التنظيم قد تراجعت خلال العام المنصرم بشكل
لافت للنظر مقارنة بالأعوام السابقة، وهو ما تشير إليه تصريحات عضو لجنة الأمن
والدفاع بالبرلمان العراقي، ياسر إسكندر وتوت، أن “نشاط خلايا داعش تراجَع
بنسبة 90 بالمئة خلال النصف الأول من 2023، لكن خطر التنظيم لم ينتهِ، إذ إن هناك
خلايا مبعثرة”[6].
وذلك بسبب جهود الحكومة العراقية في مكافحة تهديدات التنظيم؛ ولاسيما جهاز مكافحة
الإرهاب في العراق الذى كثف عملياته ضد تنظيم داعش الإرهابي خلال الآونة الأخيرة، عبر
تنفيذ عمليات نوعية تقوم على العديد من التكتيكات
والاستراتيجيات، إذ تمكن من القيام بقرابة 250 مهمة بتكتيكات مختلفة في البؤر
الرئيسية للتنظيم؛ خاصة في القاطع الشرقي بمناطق محافظات ديالى وكركوك وصلاح الدين
وتوسعت لمناطق غرب الأنبار لملاحقة بقايا التنظيم الإرهابي وهي مناطق معروفة
بوعورتها وتضاريسها المعقدة، والتي أسفرت عن مقتل 45 إرهابيًّا والقبض على 110 آخرين بينهم
قيادات للتنظيم الإرهابي خاصة في مناطق صلاح الدين وكركوك[7].
ويبدو أن جهود الحكومة العراقية
وأجهزتها الأمنية في مكافحة داعش وتجفيف مصادر تمويله البشرية والمادية، قد
دفع عددًا من المجموعات الموالية لداعش في
العراق إلى التوجه إلى سوريا عبر الحدود، لممارسة أنشطتهم الإرهابية في الأراضي
السورية؛ خاصة في ظل الدعم الدولي الذي تحظى به الحكومة العراقية لتكثيف ضرباتها
ضد مواقع ومعاقل وأوكار داعش في البؤر الرئيسية للتنظيم داخل البلاد، ومن ذلك
تأكيد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التزام بلاده بمواصلة دعم الحكومة العراقية
في مكافحة تنظيم داعش الإرهابي، في إطار التحالف الدولي[8].
البيئة المحلية المواتية للإرهاب: يبدو أن تنظيم داعش يسعى إلى محاولة تعويض حالة
التراجع التي يعانيها على الساحة العراقية بتكثيف هجماته في سوريا، محاولًا
استغلال البيئة المواتية في سوريا، التي تساعد التنظيم على الاستمرار وشن الهجمات،
بسبب حالة الانفلات الأمني التي تعانيها سوريا منذ سنوات، نظرًا إلى تعدد
التنظيمات الإرهابية، وهو ما يمثل بالنسبة إليه بيئة خصبة لشن الهجمات الإرهابية،
وذلك ليتمكن من تثبيت شعاره الذى رفع منذ عام 2014، وهو باقية وتتمدد؛ ولاسيما أن
التنظيم يعدّ كلًّا من الأراضي السورية والعراقية مجالًا حيويًّا بالنسبة إليه، ومن
ثمّ فإن أي هجمات إرهابية في سوريا ستعزز وجود التنظيم في البلدين.
يشير العديد من التقارير إلى استمرار حالة
الفوضى والانفلات الأمني في سوريا، الناتجة عن عمليات الاغتيال والقتل والموت
المجاني التي صارت عنوانًا بارزًا؛ خاصة في مناطق جنوب سوريا، وسط تصاعد وانتشار
الظاهرة منذ سنوات- على سبيل المثال- بلغ عدد عمليات القتل والاغتيالات في مناطق
جنوب سوريا ودرعا والسويداء والقنيطرة، وفقًا لإحصائيات محلية في شهر يوليو الماضي
فقط، 82 عملية، منها 45 حالة في محافظة درعا، و27 حالة في السويداء، و10 في
القنيطرة، استهدفت مدنيين وعناصر من قوات النظام السوري أو عناصر سابقين في فصائل
المعارضة، وعناصر محلية ارتبطت بالأجهزة الأمنية بعد اتفاق التسوية عام 2018،
وتجار ومروّجي مخدرات[9].
وربما هذا ما يفسر كيف تمكن داعش برغم
فقدانه السيطرة المكانية في شرق سوريا منذ أربع سنوات من البقاء في السر وتمثيل
“تهديد كامن”. وبينما ارتبطت معظم أنشطته منذ عام 2019 بعمل
“الخلايا”، تشير تحركات متكررة ارتبطت باسمه لأكثر من مرة إلى
“سياسة يتبعها قائمة على استغلال الثغرات”، بحسب خبراء ومراقبين. كان من أبرزها
تلك التحركات التي شهدتها مدينة العزبة بريف محافظة دير الزور شرق البلاد، يوليو
الماضي، بعد أن رفع أشخاص “مجهولون” الراية التي يعتمدها التنظيم في
أثناء خروج مظاهرة منددة بحرق نسخة من المصحف في السويد، قبل أسابيع[10].
اعتصام داعش بالبادية السورية: يمكن
القول إن من أخطر المناطق التي تنطلق منها هجمات داعش هي البادية السورية، التي
تنتشر فيها خلايا التنظيم؛ ولاسيما على الحدود الإدارية بين محافظتي الرقة ودير
الزور على الحواجز والآليات، ويرجع السبب إلى أنها تعد منطقة مفتوحة ومن السهل
لعناصر التنظيم التوغل فيها من مواقعهم في البادية، وخاصة أن التنظيم تمكن من بناء
العديد من الأوكار الإرهابية في البادية السورية،
إلى جانب ذلك استطاع داعش أن يتكيف ببعض السكان المحليين ويجندهم؛ ولاسيما
الذين يعانون الفقر، واستغلال حالة التوتر الناجم عن الصراع بين التنظيمات
المتطرفة في المناطق المتنازع عليها في الشمال السوري.
لذا يُمثّل وجود التنظيم في مناطق
نائية في البادية بعيدًا عن المجتمعات السكانية عاملًا أساسيًّا في عدم قدرة
الحكومة السورية وحلفائها على الحصول على معلومات استخباراتية عن التنظيم، ما جعل
الهجمات التي تستهدف أوكار التنظيم تفقد جزءًا كبيرًا من فاعليتها، نظرًا إلى أن القوى
المهاجمة تجهل أماكن تمركز التنظيم والمواقع المحتملة لوجود خلاياه، كما تغيب عنها
المعلومات التي يمكن من خلالها رصد تحركات التنظيم وتوقُّع هجماته والتعامل معها
قبل حدوثها.
كما أنه من الواضح أن تنظيم
“داعش” يستغل الأوضاع السياسية أو
الاقتصادية والأزمات في توسيع نطاق هجماتها وتنوعها؛ وذلك على الرغم من الجهود
الدولية والإقليمية والمحلية لمكافحة نشاط التنظيم في سوريا وتهديداته، بما فيها الغارات
الجوية الروسية- التي لا تكاد تنقطع- على معاقل التنظيم داعش ضمن خطة مكافحة
التنظيمات الإرهابية على الأراضي السورية، هذا إلى جانب عمليات التحالف الدولية
لمكافحة داعش، وكان التحالف أعلن القضاء على التنظيم منذ مارس 2019، ولكنه لا يزال
ينفذ حملات وهجمات مضادة لملاحقة بقايا التنظيم التي تختبئ في مناطق في سوريا؛
خاصة في مناطق البادية، وينتشر ضمن نطاق يُقدّر بـ 4000 كلم، بين منطقة جبل أبو
رجمين وصولًا إلى بادية دير الزور وريفها الغربي، إضافة إلى وجوده في بادية السخنة
ومناطق من السويداء[11].
عدم التنسيق بين
حملات مكافحة الإرهاب: من العوامل المهمة التي تساعد تنظيم داعش على الاستمرار في
شن الهجمات الإرهابية، على الرغم من تعدد حملات مكافحة الإرهاب ضد التنظيم سواء من
التحالف الدولي أو القوات الروسية فضلًا عن الجيش السوري والميليشيات الإيرانية
وقوات سوريا الديمقراطية هو عدم وجود تناسق في تلك الحملات، فعلى سبيل المثال- لا
الحصر- برغم التوافق الظاهري بين الحلفاء، روسيا وإيران والحكومة السورية، فإنّ من
الواضح أن هناك خلافات وحالة تنافس قائمة بينهم تحول دون التخطيط المشترك لحملة
عسكرية موسعة ضد “داعش”. فالقوات الإيرانية لم تشارك في عملية الصحراء
البيضاء أو العملية التي سبقتها، وكذلك في الحملة الأخيرة التي أعلنتها الحكومة
السورية في 15 أغسطس، بينما تكتفي روسيا، من جهتها، بالمشاركة الجوية لإسناد
القوات النظامية السورية المتقدمة بريًّا[12].
وربما هذا ما يفقد تلك الحملات جزءًا
كبيرًا من فاعليتها لتقويض تهديدات التنظيم ومنحه القدرة على شن هجمات إرهابية
نوعية، حتى ضد التجمعات والقوافل العسكرية التي من المفترض أنها تتمتع بقدر كبير
من الحماية، على غرار الهجوم الذي شنه التنظيم في 10 يناير 2024، وقُتل فيه 9
عناصر من قوات النظام السوري وأصيب 20 آخرون في هجوم على رتل لجيش النظام بمحافظة
حمص وسط البلاد، إذ تمكن “داعش” من نصب كمين للرتل في منطقة تدمر بريف
محافظة حمص.
ومن جهة أخرى فإن تراجع جهود التحالف
الدولي وجهود مكافحة الإرهاب في سوريا، قد ساعدت تنظيم داعش في سوريا على استعادة
جزء من حيويته التنظيمية، إذ لم يعد التحالف فاعلًا، وباتت عملياته في الغالب ردود
أفعال ضد عمليات ينفذها تنظيم داعش، وليست عمليات استباقية تحبط الهجمات قبل
تنفيذها، وهو ما جعل تلك العمليات تفتقد الفاعلية في تقويض هجمات التنظيم، فعلى
سبيل المثال، أعلنت القيادة المركزية الأمريكية، نهاية أكتوبر 2023، أنها نفذت 15
عملية ضد تنظيم داعش خلال النصف الأول من الشهر، أسفرت عن مقتل اثنين من عناصر
تنظيم “داعش” وسوريا بينما اعتقلت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة والقوات
الشريكة لها 27 آخرين، وهو ما يشير إلى ضعف نتائج حملات مكافحة الإرهاب التي يقوم
بها التحالف الدولي وغيره من القوى ضد تنظيم داعش.
توافر الموارد البشرية لداعش: على
الرغم من الجهود التي يبذلها كل من
التحالف الدولي والحكومة السورية لمكافحة تهديدات تنظيم داعش، وتجفيف
مصادره البشرية والحد من انتشار أفكاره، فإن التنظيم لا يزال يمتلك الآلاف من
العناصر؛ خاصة في سوريا، وهو ما أشار اليه تقرير صادر عن الأمم المتحدة في أغسطس
2023، كشف عن أن داعش لا يزال يقود ما بين 5000 و7000 عنصر في معقله السابق في
سوريا والعراق[13]،
تلك الموارد البشرية ساعدت تنظيم داعش في تكثيف هجماته الإرهابية في سوريا، خاصة
في ظل توافر التضاريس المعقدة من الجبال التي ينشط فيها “داعش” ويستخدمها في
عمليات التمويه والاختباء، وكذلك في إنشاء معسكرات التدريب العسكري والأيديولوجي.
كما تسمح تلك المواقع للتنظيم بالحفاظ على خطوط الدعم الخارجية وتفعيل مصادر الدعم
اللوجستي من داخل سوريا[14]، وهو ما يشجع عناصر
التنظيم على شن الهجمات النوعية التي يسقط فيها أعداد كبيرة من الضحايا، على غرار إعلان
التنظيم في العدد 424 من مجلته الأسبوعية “النبأ” بتاريخ 4 يناير 2024،
تكثيف هجماته ضد قوات الجيش السوري التي أسفرت في إحدى الهجمات مطلع العام الجاري،
في مدينة حمص، عن مقتل وإصابة 11 شخصًا.
وجود مخيمات الإرهاب: من العوامل المهمة التي تشجع التنظيم على تصعيد هجماته
في سوريا في الآونة الأخيرة، وجود عدد من مخيمات الإرهاب، التي أصبحت تمثل امتدادًا
تنظيميًّا لداعش، يتمكن من خلالها من نشر أفكاره واستقطاب عناصر جديدة، بل إن
بعضها أضحى يمثل أوكارًا للتنظيم، يأوي اليها بعض عناصره للهروب من المطاردات
الأمنية، وتوفير موارد بشرية تمكنه من الاستمرار في شن الهجمات، وفى مقدمة تلك
المخيمات وأخطرها مخيم الهول الواقع في أقصى جنوب شرق محافظة الحسكة في شمال شرق
سوريا، وبات يثير القلق والمخاوف في ظل تزايد نفوذ التنظيم داعش داخله وانتشار أفكاره به، حتى إن المخيم أصبح يوصف بـ “دويلة داعش
الجديدة”، بالنظر إلى اتخاذه معقلًا يحافظ التنظيم من خلاله على أفكاره،
ويعيد من داخله ترتيب صفوفه، من خلال خلاياه المنتشرة داخله، وأصبحت تشكل تحديًا
كبيرًا أمام قوات سوريا الديمقراطية
الكردية في إحكام قبضتها على المخيم، نظرًا إلى وجود عناصر خطرة من داعش
داخله.
وهو ما يشير إليه إعلان قوات سوريا
الديمقراطية “قسد” نهاية العام الماضي، أنها قتلت قياديًّا بارزًا في
تنظيم داعش، قالت إنه المسؤول عن مخيم الهول الذي يؤوي عشرات الآلاف من النازحين
في شمال شرق سوريا[15]. ومن جهة أخرى بات هذا
المخيم يوفر مصادر تمويل جيدة للتنظيم بالنظر إلى وجود مجموعات موالية لداعش داخل
المخيم مهمتها التعاون والتنسيق مع المجموعات الداعشية من خارج المخيم، ومجموعات
أخرى دورها تهريب اللاجئين من المخيم، مقابل مبالغ مالية قد تصل في بعض الأحيان
الى 14 ألف دولار، وهو ما دفع مسؤولين أمريكيين إلى التحذير من أن مخيم الهول،
الذي يضم أكثر من 60 ألفًا معظمهم من النساء والأطفال، قد عزز بالفعل دوره فاعلًا
رئيسيًّا في الشبكة المالية للجماعة الإرهابية، ما يساعد في نقل احتياطاته النقدية
التي تقدر بنحو 100 مليون دولار[16].
تداعيات محتملة
يمكن القول إن تصاعد هجمات تنظيم داعش
في سوريا خلال الفترة الأخيرة، قد يكون له مجموعة من التداعيات الخطيرة على الساحة
السورية؛ ولاسيما في ظل الأوضاع الأمنية المتردية في عدد من المناطق، ويمكن تحديد
أبرز تلك التداعيات في الآتي:
تزايد حالة الهشاشة الأمنية في البلاد:
من التداعيات المهمة التي يمكن أن
تترتب على تصاعد هجمات داعش في سوريا، بعد الضغوط التي تعرض لها التنظيم في العراق
وأدت إلى تراجعه عملياته، ومحاولته تعويض ذلك التراجع، بشن الهجمات الواسعة
النطاق، هي تصاعد حالة الهشاشة الأمنية في البلاد، وإضعاف قدرة الأجهزة الأمنية
وقوات الجيش السوري على تقويض تهديدات التنظيم؛ وخاصة في ظل قدرته على تنفيذ هجمات
غير تقليدية ضد الجيش، على غرار تنفيذ مقاتلي داعش في سوريا عملية نوعية عبر نصب
كمين لحافلة جنود تابعة للجيش السوري النظامي في بادية الميادين بريف دير الزور في
أغسطس الماضي، ما أودى بحياة 23 جنديًّا وأوقع العشرات من الجرحى، بالتزامن مع
هجوم آخر بمحافظة الرقة تسبب في قتل نحو 10 جنود سوريين، وفقًا لبيانات نشرتها
وكالة “أعماق” التابعة للتنظيم[17]، وهو ما يمكن أن يفسح
المجال للمجموعات الإرهابية الأخرى لتصعيد هجماتها الإرهابية، وهو ما يعني تفاقم
مخاطر الانفلات الأمني في البلاد؛ ولاسيما أن مقاتلي داعش يأملون من خلال هجماتهم
الاستعراضية السهلة بطول وعرض البادية السورية المحاذية للحدود العراقية والممتدة
بين محافظات عدة وصولًا إلى الحدود مع العراق، وبالبادية الشامية (بادية الحضر)
الأكثر انتشارًا بغرب الفرات التي تتوسط مدينة تدمر، أن تؤدي زيادة وتيرة العمليات
إلى التغطية على الضعف الملحوظ على التنظيم وإكساب الخليفة الجديد بعض الشرعية.
تصاعد الهجمات
النوعية: من المحتمل أن يشجع تصاعد
الهجمات الإرهابية الخاطفة لداعش سواء ضد قوات الجيش السوري وقوات قسد فضلًا عن
الميليشيات الموالية لإيران على التحول نحو الهجمات الواسعة النطاق، على غرار
هجومه على سجن غويران في الحسكة في يوم 20 يناير، إذ هاجمت خلايا التنظيم السجن، وبدأ
الهجوم بتفجير التنظيم سيارة مفخخة كانت متجهة إلى بوابة السجن الرئيسية بعد أن
اعترضها الحاجز المؤدي إلى البوابة، معلنًا بدء الهجوم، ليقوم نحو 100 عنصر من
التنظيم بحسب قوات سوريا الديمقراطية بالهجوم من محاور عدة على السجن بهدف خلق
الفوضى، وتمكن مقاتلو التنظيم من إحداث خرق عند البوابة الرئيسية للسجن، بعد أن
فجر انتحاري آخر نفسه بدراجة نارية على البوابة الرئيسية للسجن، ما سهّل مرور
مقاتلي التنظيم إلى داخله، ومع فقدان حراسة السجن السيطرة تمكن العديد من سجناء
التنظيم من الخروج خارج السجن والهروب جنوبًا إلى حي الزهور الملاصق للسجن[18]. وقد أسفر ذلك الهجوم عن
فرار العشرات من مقاتلي داعش من السجن، ومقتل نحو 140 عنصرًا من قوات سوريا
الديمقراطية وحامية السجن التابعة لها.
تزايد مخاطر مخيمات الإرهاب: تشير
سيطرة تنظيم داعش على مخيم الهول إلى وجود العديد من التهديدات المستقبلية لأمن
المنطقة والعالم يمكن أن تقوض الجهود الدولية والإقليمية المبذولة للقضاء على الوجود
الداعشي في المنطقة؛ وخاصة أن تلك السيطرة قد تسهم في بروز ظهور نسخ فكرية أكثر
تطرفًا، فسيطرة تنظيم داعش على مخيم الهول
قد تحوله إلى معسكرات أو معاهد لتدريس الأفكار الداعشية على نحو قد يكون أشد
تطرفًا من تدريسها في المناطق التي كان يسيطر عليها التنظيم، ما قد يخلق نسخة من
الأفكار الداعشية تفوق في تطرفها الأفكار الحالية، ويجعل من الصعوبة بمكان
معالجتها أو مواجهتها فكريًّا، وهو ما تشير إليه العديد من التجارب في المنطقة،
التي تكشف أن السجون على سبيل المثال في العديد من الدول كانت سببًا في ظهور
الأفكار التكفيرية بشتى صورها وأشكالها، وهذا ما تؤكده تصريحات الممثلة الخاصة
للأمين العام للأمم المتحدة، جينين هينيس بلاسخارت، خلال مؤتمر استضافته الحكومة
العراقية في العاصمة بغداد في إبريل 2022، إذ حذرت من تحول المخيم إلى بؤرة
إرهابية أشبه بقنبلة موقوتة، إذا انفجرت، لن يقتصر تأثيرها على العراق والمنطقة
فقط لكنه سيمتد إلى أبعد من ذلك[19]، وذلك بسبب تصاعد انتشار
الأفكار المتطرفة داخله، ما قد يؤدي إلى إعاقة الجهود التي تبذلها المؤسسات
الدينية الرسمية والمركز الفكرية والمؤسسات التربوية المختلفة لمواجهة الأفكار
المتطرفة؛ ولاسيما أن المؤشرات تكشف عن ارتفاع حدة الأفكار المتطرفة داخل المخيم[20].
خاتمة
في النهاية يمكن القول إن تهديدات داعش
في سوريا تبدو مستمرة في العام الجديد 2024، إن لم تكن مرشحة للتصاعد خلال الفترة
القادمة، وذلك بالنظر إلى استمرار الانقسامات والصراعات الطائفية في البلاد، إضافة
إلى وجود العديد من القوى والتنظيمات المسلحة التي تسهم في خلق حالة من الهشاشة
الأمنية، تُعدّ بيئة مواتية تساعد على الاستمرار في شن الهجمات الإرهابية، إضافة
إلى غياب أجندة مصالحة أو حل سلمي لإنهاء الصراع السوري، يضاف إلى ذلك تردي
الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وغياب الخدمات الأساسية في الكثير من مناطق البلاد،
ما قد يَدفع الأشخاص الذين لا يؤمنون بأيديولوجية تنظيم داعش إلى العمل معه أو على الأقل تقديم المساعدة من
أجل إعالة أسرهم.
كما أنه من المحتمل أن تركز الهجمات الداعشية داخل الأراضي السورية على الأكراد وقوات الجيش السوري، وربما هذا ما تشير اليه بعض المصادر الإعلامية للتنظيم على غرار مجلته الأسبوعية النبأ، التي تؤكد أعدادها المختلفة على مواصلة استهداف قوات سوريا الديمقراطية وقوات الجيش السوري، وكذلك الميليشيات الموالية لإيران الداعمة للجيش السوري، ما يعني أننا قد نكون بصدد تصاعد هجمات داعش في سوريا في العام الجاري.
[1] سوريا.. قتلى أكراد في هجوم
لـ”داعش” بالرقة، موقع سكاي نيوز عربية، بتاريخ 26 ديسمبر 2023، على
الرابط:
[2] “داعش” يعلن مسؤوليته عن هجوم
منطقة السيدة زينب في سوريا، موقع الحرة، بتاريخ 29 يوليو 2023، على الرابط:
[3] ارتفاع عدد قتلى الجيش السوري في هجوم
داعش بدير الزور إلى 33، موقع العربية نت، بتاريخ 12 أغسطس 2023، على الرابط:
[4] “دولة الخلافة” خلال العام 2023،
المرصد السوري لحقوق الإنسان، بتاريخ 29 ديسمبر 2023، على الرابط:
[5] مقتل 11 شخصًا في هجوم
لـ”داعش” بالعراق، موقع الإمارات اليوم، بتاريخ 1 ديسمبر 2023، على
الرابط:
[6] تراجع وتمدّد.. خريطة الإرهاب لعام
2023 في آسيا وإفريقيا، موقع سكاي نيوز عربية، بتاريخ 30 ديسمبر 2023، على الرابط:
[7] استهداف مركز الثقل للتنظيم.. العراق
يكثف عملياته ضد داعش، موقع سكاي نيوز عربية، بتاريخ 23 أكتوبر 2023، على الرابط:
[8] ماكرون يؤكد لرئيس الوزراء العراقي
التزام فرنسا بمواصلة مكافحة تنظيم داعش، موقع اليوم السابع، بتاريخ 23 أغسطس
2023، على الرابط:
[9] الانفلات الأمني جنوب سوريا يتسبب بـ82
عملية قتل واغتيال في شهر، موقع الشرق الأوسط، بتاريخ 5 أغسطس 2022، على الرابط:
[10] حادثة “استثنائية” في مناطق
“قسد” تجدد المخاوف من داعش، موقع الحرة، بتاريخ 7 يوليو 2023، على
الرابط:
[11] داعش في 2023.. عمليات تودي بحياة 700
شخص بسوريا، موقع الحرة، بتاريخ 30 ديسمبر 2023، على الرابط:
[12] محمد حسان، حربٌ بلا نهاية: نشاط «داعش» المتزايد في سورية، وخيارات خصومه، مركز الإمارات للسياسات، بتاريخ 29 أغسطس 2023، على الرابط: https://rebrand.ly/nagsskj
[13] خبراء أمميون: أتباع داعش بالآلاف في سوريا والعراق، موقع العربية نت، بتاريخ 15 أغسطس 2023، على الرابط: https://rebrand.ly/fmb8cy5
[14] داعش و”الجهاديون” في سوريا ـ أسباب
ظهور داعش من جديد، المركز الأوربي لمكافحة الإرهاب والاستخبارات، بتاريخ 29 أغسطس
2023، على الرابط:
[15] سوريا.. مقتل قيادي بداعش في مخيم “الهول” في الحسكة، موقع سكاي نيوز عربية، بتاريخ 28 ديسمبر 2023، على الرابط: https://rebrand.ly/c7l5v1g
[16] قاعدة عمليات جديدة.. داعش يعيد بناء نفسه في مخيمات سوريا، موقع الحرة، بتاريخ 14 فبراير 2021، على الرابط: https://rebrand.ly/h0uajvn
[17] هشام النجار، عمليات داعش في سوريا: استعراض دعائي أم استراتيجية للعودة، موقع العرب اليوم، بتاريخ 24 أغسطس 2023، على الرابط: https://rebrand.ly/b0p4hnh
[18] تفاصيل هجوم “داعش” على سجن الصناعة في مدينة الحسكة السورية، موقع Middle East Institute، بتاريخ 14 فبراير 2022، على الرابط: https://rebrand.ly/bjgayib
[19] تحذيرات من خطر عودة تنظيم داعش، صحيفة
الاتحاد، بتاريخ 10 أبريل 2022، على الرابط:
[20] جون
صالح، نساء “داعش” ومخيم “الهول”،
على موقع Washington
Institute for Near East Policy، بتاريخ 29 يوليو 2021، على الرابط.