Insight Image

تصنيف حزب البديل تنظيمًا يمينيًّا متطرفًا.. تحليل في السياق والدلالات والتداعيات

18 مايو 2025

تصنيف حزب البديل تنظيمًا يمينيًّا متطرفًا.. تحليل في السياق والدلالات والتداعيات

18 مايو 2025

في خطوة تُعد من أبرز التحولات في نهج ألمانيا الرقابي تجاه الحركات اليمينية المتطرفة، أعلن المكتب الاتحادي لحماية الدستور (BfV)، في الثاني من مايو 2025، تصنيفه لحزب “البديل من أجل ألمانيا  “(AfD) “جهة مؤكدة في تطرفها اليميني”. جاء هذا القرار بعد مراقبة دامت ثلاث سنوات، شملت مراجعات قانونية وأمنية دقيقة، تناولت خطابات الحزب، وسلوك أعضائه، وصِلاته التنظيمية بجماعات متطرفة. وخلصت الأجهزة المختصة إلى أن للحزب أيديولوجيا أساسية تتعارض مع القيم الجوهرية للدستور الألماني، وفي مقدمتها مبدأ كرامة الإنسان. ولا يُمثل هذا التصنيف مجرد إجراء إداري، بل يمثّل سابقة سياسية وأمنية تعيد رسم ملامح المشهد الحزبي في ألمانيا، وتفتح الباب أمام نقاش واسع حول حدود الديمقراطية، وسبل مواجهتها للتطرف في سياق أوروبي يشهد تصاعدًا مستمرًا في نفوذ التيارات الشعبوية.

أولًا: السياق القانوني والمؤسسي للقرار

تُعد مراقبة الأحزاب السياسية في ألمانيا مسألة حساسة تُنظمها ضوابط دستورية صارمة، خصوصًا بعد تجربة الرايخ الثالث. ويخول القانون الأساسي للمكتب الاتحادي لحماية الدستور مراقبة الكيانات التي يشتبه في أنها تهدد “النظام الديمقراطي الحر”. وقد صُنّف حزب البديل على أنه “حالة اشتباه” في مارس 2021، وهو ما أيدته لاحقًا محكمة كولن الإدارية في 2022، ومحكمة العدل الإدارية العليا لولاية شمال الراين-وستفاليا في مايو 2024. وكان من المفترض إعلان القرار نهاية 2024، لكنه تأجّل بسبب حلّ الحكومة البرلمانية والدعوة إلى انتخابات مبكرة في فبراير 2025. ولكن التأجيل كان للحفاظ على تكافؤ الفرص بين الأحزاب خلال الحملة الانتخابية.

 وما ميّز قرار مايو 2025 هو الانتقال من الشك إلى “التيقن”، بما يعني أن المكتب يرى أن الحزب كله- وليس فصائل منه فقط- يعمل ضد “الديمقراطية وكرامة الإنسان”[1]، ما يفتح الباب أمام إجراءات أكثر صرامة قد تشمل الحل القانوني لأجنحة داخل الحزب، أو مراقبة شاملة لنشاطاته واتصالاته[2]. ومن ثم فإن التصنيف الجديد يُعدّ خطوة مهمة نحو التمهيد لحظر الحزب قانونيًّا.

ثانيًا: الحجج والدوافع الرئيسية وراء التصنيف

اعتمد المكتب في تقييمه على ثلاثة محاور رئيسية:

  1. الفهم الإثني للهوية الوطنية، حيث يعتمد حزب البديل، بحسب تقييم جهاز حماية الدستور، على تصور عرقي للهوية الألمانية، يُقصي المواطنين من أصول غير ألمانية- خاصة من أصول مسلمة- من الانتماء الكامل إلى الأمة. هذا الفهم يُناقض مبادئ الدستور الألماني التي تقوم على المواطنة المتساوية والكرامة الإنسانية. ووفقًا للتقرير، فإن هذا الخطاب يُمثّل أساسًا أيديولوجيًّا لإعادة تعريف “الألمانية” بطريقة عنصرية تُبرّر التمييز والإقصاء.
  2. التحريض الممنهج ضد فئات بعينها: رصد التقرير عددًا كبيرًا من الخطابات والتصريحات الصادرة عن قيادات AfD، تتضمن تحقيرًا للاجئين والمهاجرين؛ خاصة المسلمين، وتصويرهم كتهديد ثقافي وأمني. استخدم الحزب مصطلحات عنصرية مثل “مهاجرو السكاكين” و”الغزاة”، وهي تعبيرات تروج لمشاعر الخوف والكراهية تجاه فئات معينة من المجتمع. هذا النمط المتكرر من الخطاب يُعد مؤشرًا واضحًا إلى النزعة التحريضية ذات الطابع العنصري داخل الحزب.[3]
  1. العلاقات مع منظمات يمينية متطرفة:

    أوضح التقرير أن حزب AfD يحتفظ بعلاقات وثيقة مع منظمات مصنفة يمينيةً متطرفة، أبرزها منظمة “الشبيبة البديلة” (JA)، وهي الذراع الشبابية للحزب، التي سبق أن صنّفها مكتب حماية الدستور تنظيمًا متطرفًا[4]. كما وثق التقرير تعاونًا وتواصلًا مع شخصيات ومجموعات من حركة “هوية الشعب” (Identitäre Bewegung)، المعروفة بعدائها الصريح للمهاجرين وترويجها لأفكار عنصرية تستند إلى نظرية “الاستبدال السكاني”[5]. وفي سياق آخر، كشفت التحقيقات عن تورط عناصر من الحزب في أنشطة إرهابية؛ إذ اعتُقل في نوفمبر ثمانية أشخاص بتهمة الانتماء إلى خلية يمينية متطرفة تُعرف باسم “الانفصاليون الساكسونيون”، بينهم ثلاثة من أعضاء AfD. كما لا تزال نائبة سابقة عن الحزب قيد الاحتجاز منذ أكثر من عامين بتهمة المشاركة في التخطيط لانقلاب بالتعاون مع حركة “مواطني الرايخ”.[6]  تعكس هذه الروابط الطبيعة المتطرفة للحزب من حيث الهيكل التنظيمي والانتماء الأيديولوجي.

ثالثًا: التحولات داخل الحزب بين عامي 2021 و2025

منذ أن صنّف جهاز حماية الدستور الألماني (BfV) في عام 2021 حزبَ “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) مشتبهًا به في التطرف، شهد الحزب سلسلة من التحولات العميقة التي دفعت به نحو مزيد من التشدد الأيديولوجي والتنظيمي؛ فعوضًا عن السعي إلى إعادة تموضعه ضمن المشهد الديمقراطي التقليدي، اختار الحزب تبني نهج تصعيدي، انعكس في مواقفه وخطابه وتشكيلاته الداخلية؛ ما أدى إلى تعميق المخاوف من تحوّله إلى تهديد مباشر للنظام الديمقراطي الليبرالي في ألمانيا.

أول هذه التحولات تمثل في تطرف الخطاب الرسمي؛ إذ تبنّى العديد من قادة الحزب، وعلى رأسهم بيورن هوكه، لهجة أكثر عنصرية ورفضًا صريحًا للتعددية الثقافية؛ خاصة خلال الحملات الانتخابية التي جرت بين عامي 2022 و2024، بما في ذلك انتخابات البرلمان الأوروبي والانتخابات المحلية في ولايات ساكسونيا وتورينغن وبراندنبورغ. وتكررت في خطاباتهم إشارات صريحة ضد اللاجئين والمسلمين، وُظّفت فيها لغة تحمل دلالات تاريخية خطيرة تعود إلى الحقبة النازية، ما أثار قلق المراقبين السياسيين والمنظمات الحقوقية على حد سواء.

أما على المستوى التنظيمي، فقد اختار الحزب تعزيز علاقته مع جناحه الشبابي المتطرف “الشبيبة البديلة” (JA)، وهو تنظيم شبابي سبق أن صنّفته السلطات حركةً متطرفة قومية، بدلًا من اتخاذ مسافة منه، ودمج الحزب كوادره بشكل أوسع في أنشطته ومؤتمراته، ما يدل على تزايد الانسجام الأيديولوجي بين القيادة المركزية والجناح الأكثر تشددًا داخل الحزب. هذا الدمج عكس تحولًا هيكليًّا نحو احتضان الفكر اليميني المتطرف وليس التسامح معه فقط.

وفي بُعد آخر خطير، عمل الحزب خلال هذه الفترة على تقويض أسس النظام الديمقراطي من الداخل، فكثّف قادته حملاتهم الإعلامية ضد مؤسسات الدولة، متهمين القضاء بالتحيّز السياسي، وواصفين وسائل الإعلام بأنها “أدوات دعائية للنظام”. هذه اللغة تسعى إلى نزع الثقة العامة بالمؤسسات الديمقراطية، وتغذية عقلية المؤامرة في صفوف أنصاره، وهي ممارسات تقليدية في خطابات الأحزاب السلطوية التي تسعى لتفكيك النظام من داخله.

تُظهر هذه التحولات أن حزب البديل لم يتجه نحو الاعتدال أو التكيف مع المبادئ الديمقراطية كما أمِلت بعض الأطراف، بل اختار طريق المواجهة والانزلاق المتسارع نحو الراديكالية.

رابعًا: الانعكاسات السياسية على المشهد الألماني

على المستوى الحزبي:

يمثل قرار تصنيف حزب البديل كتنظيم يميني متطرف تحديًّا داخليًّا كبيرًا للحزب ذاته؛ إذ يُتوقع أن يعمّق القرار الانقسام القائم بين الجناح المتشدد، بقيادة بيورن هوكه، الذي يدفع الحزب نحو مزيد من الراديكالية القومية، وبين الجناح “الواقعي” أو البراغماتي الذي يسعى للحفاظ على موقع الحزب داخل الإطار السياسي الشرعي. هذا الانقسام قد يؤدي إلى صراعات قيادية، أو حتى انشقاقات تنظيمية تُضعف الحزب انتخابيًّا وتقلّص قدرته على التنسيق الداخلي أو استقطاب الناخبين الوسطيين غير المتطرفين.

على مستوى التحالفات السياسية:

يمثّل القرار ضربة قوية لأي فرص لتحالفات مستقبلية بين حزب البديل وأحزاب أخرى، حتى على المستويات المحلية أو البلدية. فالأحزاب التقليدية، وعلى رأسها الاتحاد المسيحي الديمقراطي (CDU)، ستواجه ضغطًا شعبيًّا وإعلاميًّا كبيرًا إن قررت التعاون مع حزب مصنّف رسميًّا “يمينيًّا متطرفًا”. هذا سيعزز سياسة “سد الممرات” أمام اليمين المتشدد، ويجعل الحزب معزولًا سياسيًّا، ما يقلل من نفوذه التشريعي والبلدي، ويحدّ من قدرته على تمرير أي أجندات عبر التعاون مع كتل أخرى في المجالس المنتخبة.

على مستوى الشارع:

من المرجح أن يثير التصنيف ردود فعل غاضبة من قواعد حزب البديل وأنصاره، الذين سيرون فيه تأكيدًا لسردية “الملاحقة السياسية” التي يروّج لها الحزب منذ سنوات. قد تنطلق حملات تعبئة شعبية ضد الحكومة والمؤسسات، وتترافق مع احتجاجات في الشوارع، خصوصًا في شرق ألمانيا حيث يتمتع الحزب بشعبية واسعة. هذه التوترات قد تتخذ أشكالًا عنيفة في بعض المناطق، وتؤدي إلى مواجهات مع الشرطة أو خصوم سياسيين، ما يعمّق الانقسام المجتمعي ويضع ضغوطًا على الدولة للحفاظ على الأمن من دون المساس بحرية التعبير والتظاهر.

في المقابل يزداد الضغط الشعبي باتجاه حظر الحزب؛ وقد شهدت بالفعل مدن ألمانية عدة يوم الأحد 11 مايو 2025 مظاهرات حاشدة تطالب بحظر الحزب. وشارك آلاف المحتجين في هذه التظاهرات التي نظمتها شبكة “معًا ضد اليمين” وعدد من منظمات المجتمع المدني، حيث تركزت أبرز الفعاليات في برلين (أمام بوابة براندنبورغ) وميونيخ، إضافة إلى أكثر من 60 مدينة أخرى. ودعا المتظاهرون البرلمان (البوندستاغ) والمجلس الاتحادي (البوندسرات) والحكومة الفيدرالية الجديدة برئاسة المستشار فريدريش ميرتس إلى الشروع بإجراءات قانونية لحظر الحزب أمام المحكمة الدستورية الفيدرالية. واعتبر المنظمون أن الحظر يجب أن يُنظر إليه كقضية قانونية لا سياسية.[7]

خامسًا: ردود الفعل المحلية والدولية

 جاءت ردود الفعل على تصنيف حزب البديل من أجل ألمانيا كتنظيم متطرف متباينة، وتراوحت بين الترحيب والدعم، والتحفظ، والرفض الصريح، محليًّا ودوليًّا:

 الدولة الألمانية:

رحبت معظم القوى السياسية الألمانية الرئيسية بقرار تصنيف حزب البديل تنظيمًا يمينيًّا متطرفًا؛ فقد رأى كل من حزب الخضر والحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) أن القرار خطوة ضرورية لحماية الديمقراطية، ولجْم الخطابات التي تغذي الكراهية والعنصرية؛ خصوصًا ضد المهاجرين والمسلمين. وطالبت هذه الأحزاب بتشديد الرقابة على خطاب الكراهية في الفضاء الرقمي ووسائل الإعلام، ومنح السلطات أدوات قانونية إضافية لمحاربة التطرف السياسي داخل المؤسسات. كما عبّر نواب في البرلمان الألماني عن ضرورة مناقشة تدابير إضافية لمنع ترشّح المتطرفين للبرلمان المحلي والفيدرالي، لحماية النظام الديمقراطي.[8]

المجتمع المدني:

عبّرت منظمات حقوق الإنسان والجمعيات المناهضة للعنصرية عن ارتياحها لتصنيف حزب البديل تنظيمًا متطرفًا، ورأت أن القرار يُعدّ اعترافًا قانونيًّا بالخطر الذي يمثله الخطاب القومي العنصري على التعايش السلمي والتماسك المجتمعي. وقد أكدت منظمات مثل “Amadeu Antonio Foundation” و”Pro Asyl” أن الخطاب الذي يروّج له الحزب أسهم في زيادة الاعتداءات على اللاجئين والمسلمين، وأن تجاهله كان بمثابة تقصير مؤسساتي. ودعت هذه المنظمات إلى توسيع برامج التوعية المجتمعية وتعزيز التربية على الديمقراطية، بالتوازي مع مراقبة تمويل الأحزاب التي تعتمد على الخطاب الشعبوي أو التحريضي.[9]

الدول الأوروبية:

شهدت العواصم الأوروبية؛ ولاسيما باريس وبروكسل، ترحيبًا حذرًا بالخطوة الألمانية، حيث تتنامى المخاوف من تصاعد اليمين المتطرف في دول أوروبية عدة. فقد عبّر مسؤولون فرنسيون وبلجيكيون عن اهتمامهم بتجربة ألمانيا، ورأوا أنها قد تُمثّل نموذجًا لدول تواجه ظواهر مشابهة. في البرلمان الأوروبي، دعا بعض النواب إلى إطلاق دراسات قانونية بشأن إمكانية تصنيف أحزاب مثل “التجمع الوطني” في فرنسا أو “فوكس” في إسبانيا ضمن الأطر المتطرفة، على خلفية خطابها المعادي للهجرة والاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، أبدى البعض تحفظًا خوفًا من استغلال الإجراءات لتقييد التعددية السياسية.

 اليمين العالمي:

في المقابل، قوبل القرار الألماني بردود فعل غاضبة من أطراف اليمين العالمي، وخصوصًا في الولايات المتحدة وأوروبا الشرقية. فقد رأت شخصيات معروفة مثل ستيف بانون في أمريكا، وممثلون عن حزب “العدالة والقانون” البولندي و”فيدس” المجري، أن ما جرى هو مثال على “القمع المؤسسي لحرية التعبير والمعارضة”. واعتبروا أن تصنيف حزب البديل يأتي ضمن توجه أوسع في أوروبا لتصفية الأحزاب المناهضة للعولمة والهجرة. ووصفت منصات إعلامية يمينية عدة القرار بأنه “اضطهاد سياسي”، بينما أُطلقت حملات تضامن على وسائل التواصل الاجتماعي، داعية الألمان إلى “التمسك بهويتهم القومية”.

 الموقف الأمريكي: أثار القرار الألماني استياءً كبيرًا في واشنطن؛ خاصة داخل إدارة الرئيس دونالد ترامب، فقد شنّ نائب الرئيس جي. دي. فانس هجومًا لاذعًا على الحكومة الألمانية، مشبهًا القرار بـ”إعادة بناء جدار برلين ولكن بأدوات بيروقراطية”، في إشارة إلى قمع الحريات. وصرح وزير الخارجية ماركو روبيو بأن القرار “يعكس استبدادًا مقنّعًا”، واتهم ألمانيا بمنح أجهزتها الأمنية صلاحيات واسعة للتجسس على المعارضة السياسية، في خرق واضح، بحسب قوله، لمبادئ الديمقراطية الليبرالية. وطالبت شخصيات أمريكية بارزة بالتراجع عن القرار، ولوّحت بإعادة تقييم التعاون الاستخباراتي مع برلين إن استمر “قمع المعارضين السياسيين” .[10]

سادسًا: أبعاد اجتماعية وثقافية للقرار

لا يقتصر قرار تصنيف حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) تنظيمًا يمينيًّا متطرفًّا على كونه إجراءً أمنيًّا أو سياسيًّا فحسب؛ بل يحمل في طياته أبعادًا اجتماعية وثقافية عميقة تمسّ جوهر الهوية الألمانية الحديثة. فالقرار يفتح الباب أمام نقاش واسع حول حدود حرية التعبير، ومسؤولية الدولة في حماية التعددية، والوقوف في وجه خطاب الكراهية والشعبوية المتصاعدة. في هذا السياق، تتعدد تداعيات القرار لتشمل الذاكرة التاريخية، وقضايا الاندماج، والشباب، والتماسك المجتمعي، وصورة ألمانيا في العالم، ما يجعل منه محطة مفصلية في صراع قيم يحدد ملامح المستقبل الديمقراطي للبلاد، ومن هذه التداعيات ما يأتي:

1- الذاكرة التاريخية وحدود الهوية الألمانية

يُعيد قرار تصنيف حزب “البديل من أجل ألمانيا” تنظيمًا متطرفًا فتح النقاش حول الذاكرة التاريخية الألمانية وحدود الهوية الوطنية. ففي بلد لا يزال يعيش آثار النازية كندبة أخلاقية في ضمير الأمة، يختبر القرار مدى استعداد المجتمع لمواجهة خطاب شعبوي يعيد إنتاج أسس الإقصاء والتفوق العرقي. إن التصدي لهذا الخطاب ليس خيارًا سياسيًّا فقط، بل موقف ثقافي عميق يعبّر عن رفض عودة النزعات القومية المتطرفة بصيغ جديدة، كما يؤكد أن الهوية الألمانية ليست حكرًا على مجموعة إثنية أو دينية، بل تقوم على مبادئ ما بعد الحرب العالمية الثانية: التعدد، والديمقراطية، واحترام الآخر.[11]

2– التماسك المجتمعي ومخاطر الاستقطاب

يمثّل القرار رسالة واضحة بأن الكراهية والإقصاء لا مكان لهما في المجتمع الديمقراطي، عبر وضع حدود قانونية لخطر التطرف، تسعى الدولة إلى حماية التماسك المجتمعي؛ خصوصًا في مواجهة خطاب حزب البديل المعادي للمهاجرين والمسلمين. لكن في المقابل، تنشأ مخاوف من أن يؤدي التصنيف إلى تعميق الانقسام؛ خصوصًا في المناطق الشرقية حيث يتمتع الحزب بقاعدة شعبية واسعة. هناك، قد تُوظف رواية “الاضطهاد السياسي” لتغذية مشاعر السخط وتعزيز تجنيد الأتباع؛ لذا فإن فعالية القرار مرهونة بقدرته على حماية السلم الأهلي من دون إشعال موجات غضب أو عنف مضاد.

3- قضايا الاندماج والشباب بين الحماية والتحدي

يمنح القرار دعمًا غير مباشر لسياسات الاندماج بتأكيده أن الدولة ترفض إقصاء فئات كاملة من المجتمع على أساس الأصل أو الدين، لكنه يفتح أيضًا ملفًّا حساسًا مرتبطًا بالشباب الذين يقعون في ساحة تجاذب بين مؤسسات الدولة وخطابات اليمين المتطرف. فمن جهة، قد يسهم التصنيف في ردع البعض عن الانخراط في مسارات الكراهية، ومن جهة أخرى، قد يُستغل لزرع مزيد من الشك تجاه المؤسسات، خاصة إذا غابت البرامج التربوية والثقافية المصاحبة. ومن ثَمّ، فإن المسؤولية لا تقف عند القرار الأمني، بل تمتد إلى بناء وعي شامل يحصّن الأجيال من الانجرار وراء الشعارات الشعبوية.

4- مقاومة التطبيع مع الشعبوية وحماية الثقافة الديمقراطية

ثقافيًّا، يعيد القرار ضبط حدود الجدل العام، ويواجه التدرج الخطير نحو “تطبيع الكراهية”؛ إذ باتت بعض الخطابات الشعبوية تحظى بمنصات إعلامية وجماهير رقمية واسعة، تُخفي جوهرها الإقصائي تحت غطاء “حرية التعبير”. ويكمن خطر ذلك في زعزعة المعايير الأخلاقية للديمقراطية من الداخل. لذلك، فإن تجريم الحزب ليس إجراء قانونيًّا فقط، بل هو مقاومة ثقافية لتآكل المفاهيم الأساسية مثل التسامح، وكرامة الإنسان، والمواطنة الجامعة. ويهدف القرار إلى إعادة تعريف المجال العام بوصفه فضاء للحوار البناء، لا منصة للعداء الرمزي والعنف اللفظي الذي يسبق في كثير من الأحيان العنف المادي.

5– البُعد الدولي وصورة ألمانيا الأخلاقية

يمتد تأثير القرار إلى ما هو أبعد من حدود ألمانيا، ليعزز من صورتها بصفتها دولة تحترم التعدد وتحارب التطرف ضمن أطر دستورية. ففي وقت يتصاعد فيه اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا، تقدم ألمانيا نموذجًا قانونيًّا لمقاومته من دون المساس بالحريات الأساسية. وقد أشادت جهات أوروبية بهذا النهج، وأشارت إلى إمكانية تعميمه لدراسة حالات مشابهة في فرنسا وإسبانيا وغيرها. بذلك، لا يدافع القرار فقط عن الداخل الألماني، بل يكرّس ألمانيا بصفتها فاعلًا أخلاقيًّا عالميًّا، يوازن بين حماية ديمقراطيته الداخلية والإسهام في ضبط التحديات التي تواجه المجتمعات الليبرالية عالميًّا.

الخاتمة

تصنيف حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) تنظيمًا يمينيًّا متطرفًا لا يُعد إجراء قانونيًّا فقط، بل يمثل لحظة فارقة في تاريخ الجمهورية الألمانية الحديثة، ومرحلة اختبار جدّي لقدرة الدولة والمجتمع على الدفاع عن الديمقراطية من داخلها. فهو إعلان حاسم بأن المبادئ الأساسية التي بُني عليها الدستور الألماني بعد الحرب العالمية الثانية- من كرامة الإنسان، إلى التعددية، إلى مناهضة العنصرية- ليست شعارات فقط، بل خطوط حمراء لا يُسمح بتجاوزها تحت أي ذريعة حزبية أو انتخابية.

ومع ذلك، فإن هذا القرار لا يُغلق الملف، بل يفتحه على تحديات جديدة أكثر تعقيدًا. إذ تُطرح أسئلة مصيرية: هل ستتمكن مؤسسات الدولة من تحجيم تأثير الحزب من دون منحه ذريعة لتكريس سردية “المظلومية”؟ هل سيستوعب المجتمع الألماني هذا التحوّل بوصفه ضرورة ديمقراطية، أو أنه سيؤدي إلى مزيد من الاستقطاب والتشظي الاجتماعي، خاصة في المناطق التي تحظى فيها الأحزاب المتطرفة بشعبية متزايدة؟

الرهان لم يعد على القرار وحده، بل على ما يرافقه من سياسات تعليمية، وخطاب سياسي مسؤول، واستثمار في العدالة الاجتماعية. فمستقبل حزب البديل مرتبط بمستقبل المجتمع الألماني نفسه: إما أن يُعيد إنتاج الانقسامات، أو أن يخرج من هذه اللحظة أكثر تماسكًا ووضوحًا في الدفاع عن قيمه الدستورية.

بتعبير آخر، فإن ما يجري في ألمانيا اليوم لا يخصها وحدها، بل هو مرآة لصراع أوسع يعيشه العالم الغربي: صراع بين الديمقراطية الليبرالية وبين صعود القومية الشعبوية.


[1] Jamey Keaten and Kirsten Grieshaber, “Alternative for Germany is listed as a ‘right-wing extremist’ party by domestic intelligence agency,” The Washington Post, May 2, 2025, https://www.washingtonpost.com/world/2025/05/02/alternative-for-germany-extremism/2a595f56-2735-11f0-ae6d-e4db528eba27_story.html

[2] حزب الخضر الألماني (Bündnis 90/Die Grünen)، “تقرير حماية الدستور: تصنيف حزب AfD كتنظيم يميني متطرف “، الكتلة البرلمانية لحزب الخضر في البوندستاغ، 9 مايو 2025، https://www.gruene-bundestag.de/unsere-politik/fachtexte/verfassungsschutz-gutachten-afd-gesichert-rechtsextremistisch/.

[3] مايْك باومغارتنر، وآن-كاترين مولر، وولف فيدمان-شميدت، “هيئة حماية الدستور تُصنّف حزب AfD بأكمله كتنظيم يميني متطرف مؤكد”، دير شبيغل، 2 مايو 2025، https://www.spiegel.de/politik/deutschland/afd-verfassungsschutz-stuft-gesamte-partei-als-gesichert-rechtsextremistisch-ein-a-c571570b-c17d-43b8-8bf6-b27699fcb8cf.

[4] Sarah Marsh, “German spy agency ranks far-right AfD extremist,” Reuters, May 2, 2025, https://www.reuters.com/world/europe/german-spy-agency-ranks-far-right-afd-extremist-2025-05-02/.

[5] “Germany’s AfD: Far-right party embraces conspiracy theories,” Deutsche Welle, accessed May 13, 2025, https://www.dw.com/en/germany-afd-far-right-conspiracy-theories/a-66396943.

[6] مايْك باومغارتنر، وآن-كاترين مولر، وولف فيدمان-شميدت، “هيئة حماية الدستور تُصنّف حزب AfD بأكمله كتنظيم يميني متطرف مؤكد”، دير شبيغل، 2 مايو 2025، https://www.spiegel.de/politik/deutschland/afd-verfassungsschutz-stuft-gesamte-partei-als-gesichert-rechtsextremistisch-ein-a-c571570b-c17d-43b8-8bf6-b27699fcb8cf.

[7] “Protesters in Cities Across Germany Demand Ban on Far-Right AfD.” Anews, May 11, 2025. https://www.anews.com.tr/europe/2025/05/11/protesters-in-cities-across-germany-demand-ban-on-far-right-afd.

[8] “بعد تصنيف حزب البديل: ‘بالنسبة لنا كخضر، من الواضح أن حظر الحزب يجب أن يحدث’.” صحيفة فيلت (Welt)، 7 مايو 2025. https://www.welt.de/regionales/hamburg/article256083784/Nach-AfD-Einstufung-Fuer-uns-Gruene-ist-klar-Ein-Parteiverbotsverfahren-muss-kommen.html

[9] “Protesters in Cities Across Germany Demand Ban on Far-Right AfD.” Anews, May 11, 2025. https://www.anews.com.tr/europe/2025/05/11/protesters-in-cities-across-germany-demand-ban-on-far-right-afd.

[10] Srinivas Mazumdaru, “US Criticizes Germany for Labeling AfD ‘Extremist’,” DW, May 3, 2025, https://www.dw.com/en/us-criticizes-germany-for-labeling-afd-extremist/a-72423560.

[11] Jamey Keaten and Kirsten Grieshaber, “Alternative for Germany is listed as a ‘right-wing extremist’ party by domestic intelligence agency,” AP News, May 2, 2025, https://apnews.com/article/alternative-for-germany-extremism-63106110e79b588cd21fd02639364a22

المواضيع ذات الصلة