مقدمة:
تعرضت بعض الدول الأوروبية في السنوات الأخيرة لمجموعة من العمليات الإرهابية، التي قامت بها جماعات الإسلام السياسي المتأثرة ببعض الأفكار المؤسسة لجماعة الإخوان المسلمين، وقد كانت هذه العمليات أمراً جديداً على المجتمعات الأوروبية التي لم تعرف مثل هذه الهجمات في عقود سابقة، الأمر الذي يثير تساؤلات حول أسباب تعرض هذه الدول لمثل هذه الهجمات، وقد اتجهت مجموعة من الدول الأوروبية إلى وضع سياسات لمواجهة هذه العمليات شملت إجراءات مختلفة بعضها أمني وبعضها سياسي وآخر قانوني وثقافي، وبرغم هذه الإجراءات التي اتخذتها هذه الدول، فإن بعضها ما زال يعاني وقوع هذه الهجمات، وهو ما يثير التساؤل حول مدى جدوى تلك السياسات في القضاء على هذه الظاهرة والتخلص منها.
في هذا الإطار تبرز تساؤلات رئيسية عدة لهذه الورقة البحثية، وأهمها: ما مدى وبواعث تطرف جماعات الإسلام السياسي في بعض الدول الأوروبية؟ وما السياسات التي وضعتها تلك الدول لمجابهة تلك الظاهرة؟ وما مدى فاعليتها؟
وتسعى هذه الورقة إلى الإجابة على هذه التساؤلات عبر تسليط الضوء على وضع جماعات الإسلام السياسي في عدد من الدول الأوروبية مثل فرنسا والنمسا وألمانيا، وذلك من خلال مجموعة من المحاور؛ المحور الأول من الدراسة يفصّل وجود جماعات الإسلام السياسي في أوروبا، والثاني يضرب أمثلة على هجمات جماعات الإسلام السياسي في أوروبا وأسبابها، والمحور الثالث يستعرض بعض السياسات الأوروبية في مواجهة الإسلام السياسي، وفي الخاتمة نشير إلى ما ينقص تلك السياسات لتكون أكثر نجوعاً في مواجهة تطرف تلك الجماعات.
- وجود الإسلام السياسي في أوروبا
تمكّنت جماعات الإسلام السياسي من الإحلال في بعض الدول الأوروبية منذ عقود مضت، واستطاعت عبر وسائل عديدة تأسيس وجود لها في هذه الدول ما زال مستمراً حتى الآن.
1.1. مدخل تاريخي على استغلال الدين للسياسة:
يُعدُّ التاريخ معملاً للتجربة البشرية، ولو نظرنا إلى تاريخ المسلمين وغيرهم في فضاء السياسة لوجدنا أن عدداً من الحكام أو الأمراء وغيرهم استغلوا الدين للوصول إلى أهدافهم السياسية، ويعد استغلال الدين في السياسة أمراً مألوفاً على أنظمة وحكومات عديدة حتى الحضارات القديمة وليس حكراً على المسلمين فقط، ففي إيطاليا في القرنين الـ (12) والـ (13) نرى أن البابوية وهي السلطة الدينية العليا في إيطاليا طمعت في الوصول إلى السلطة لتُحكم قبضتها عليها آنذاك، إلا أن فلاسفة، مثل: نيكولا ميكافيللي ومارسيليوس دي بادوا وقفوا حجر عثرة أمام السلطة البابوية، حيث تمحورت أفكارهم حول عدم بسط العباءة الدينية حول جميع نواحي الحياة السائدة في تلك الحقبة[1].
وقد اتبعت جماعات الإسلام السياسي النهج ذاته حين استغلت الدين لتحقيق أهداف سياسية، فقد استطاعت جماعة الإخوان المسلمين، إحدى كبريات هذه الجماعات، الوجود في أوروبا لمدة طويلة والوصول إلى المسلمين هناك واستغلال قضاياهم وتجنيدهم ضد أوطانهم تحت شعارات الدين، واعتادت الجماعة اختيار الأحاديث والآيات القرآنية التي توافق مواقفهم السياسية، على سبيل المثال ظهرت لجان إلكترونية لديها اتصال بالجماعة تدّعي أن وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى سدة الرئاسة ما هو إلا دليل على صحة الحديث النبوي الشريف (إن اللهَ لَينصرُ هذا الدينَ بالرجلِ الفاجرِ)، وقال في هذا الصدد طارق البشيشي المنشق عن “الإخوان” والباحث في شؤون الحركات الإسلامية إن الجماعة تختار الآيات القرآنية والأحاديث التي ترتبط بالإيمان وتوجهها للتنظيم بينما توجه الآيات المرتبطة بالكفر لأعداء الجماعة[2].
وبذلك أمسى الدين ضحية استغلال الجماعات الإسلاموية المتطرفة التي تهدف بشتى الطرق والوسائل إلى الوصول لأهدافها سواء كانت اقتصادية أو سياسية وغيرها، ولكن على الرغم من ذلك، فإنه لابد من الالتفات إلى أن الدين في بعض الأحيان يعد عامل قوة ويسهم في خلق نوع من أنواع الوحدة الوطنية.
2.1 مدى وجود الإسلام السياسي وتمدده في أوروبا
استطاعت جماعات الإسلام السياسي الوصول إلى أوروبا؛ وذلك بهدف اللجوء السياسي في بعض الأحيان وتفادياً للأوضاع الاقتصادية المتردية في بلدانهم الأصلية في أحيان أخرى، ولعل الأجواء الأوروبية التي تتيح حرية التنقل بين حدودها وحرية التعبير، ساعدت تلك الجماعات في استغلال تلك الأجواء لصالحها.
في هذا السياق، استطاع العديد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في مصر الدخول إلى أوروبا في خمسينيات القرن الماضي، وذلك هرباً من حملات الاعتقال التي قادها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ضد الجماعة، فوجدوا في أوروبا بيئة مناسبة؛ لكي يحافظوا على أنفسهم، واقتصر نشاطهم في هذه المرحلة من الدعوة على تنظيم تظاهرات وفعاليات متعلقة بالدول العربية، وقد استغل “الإخوان” في هذه البلدان لجوء العديد من مواطني الدول العربية إلى أوروبا تفادياً للأوضاع الاقتصادية المتدهورة[3]، حيث استمرت جهودهم في استقطاب هؤلاء الأفراد، وفي بناء المؤسسات وتجميع الجهود إلى منتصف الثمانينيات، فصارت الأهداف المعلنة في عام1987 توطين الوجود الإسلاموي في أوروبا، ومد الجسور مع المؤسسات الأوروبية لتثبيت وضع الإسلامويين سياسياً واجتماعياً وتقويتهم، وتُوّجت هذه المرحلة بتأسيس «اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا» عام 1989، الذي يضم ما لا يقلّ عن 1000 اتحاد وجمعية ومركز تعمل في مختلف المجالات، وقام الاتحاد بدوره بإنشاء مؤسسات مهمة، مثل: «المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث» و«المنتدى الأوروبي للمرأة المسلمة» و«منتدى الشباب الأوروبي» وغيرها من المؤسسات الفاعلة[4].
ولعل المثال الأبرز في هذا الصدد هو سعيد رمضان، زوج ابنة حسن البنّا وسكرتيره الخاص، وهو إحدى الشخصيات الإخوانية المؤثرة التي وجدت في أوروبا واستطاع أن يشكل مبادئ رؤية لمجتمع موازٍ للمجتمع الأوروبي على أسس إسلاموية، واستطاع بعد تجريده من الجنسية المصرية أن يحصل على الجنسية السويسرية، وبناء أول مركز إخواني تابع لجماعة الإخوان المسلمين في جنيف عام 1961[5]، واستغل رمضان عاطفة السكان المهمشين في بعض الأحياء الأوروبية، والأمريكيين السود في الولايات المتحدة، لاستقطابهم ووضعهم تحت مظلة الإخوان المسلمين[6].
وإلى جانب جماعة الإخوان المسلمين، وجدت جماعات أخرى في أوروبا وبثت أفكارها للمجتمعات المسلمة هناك، وأبرزها الجماعة السلفية الجهادية التي توجد في أكثر من دولة أوروبية مثل السلفية الجهادية في ألمانيا، التي تعتبر إحدى المدارس الفكرية التي ترتبط بجماعات الإسلام السياسي والتي تتسم بالخطورة في ظل نظرتها العدائية تجاه المسلمين ذوي الآراء المخالفة لها وللدول الغربية كذلك، وقد تعرضت ألمانيا بالفعل خلال السنوات الماضية إلى هجمات إرهابية من قِبل تلك الجماعة، مثل الهجوم الذي ارتكبه أنيس عمري على سوق الميلاد في برلين عام 2016[7]، وتظهر خطورة تيار السلفية في تعلم عدد منهم اللغة الألمانية والتحدث بها بطلاقة ما يجعلهم محط إقناع لدى المستمع فضلاً عن درايتهم بمشكلات المجتمع وتحدياته[8].
والمثال الآخر، السلفية الجهادية في بلجيكا التي يرى الجهاز الأمني البلجيكي أنها ربما تشكل خطراً مستقبلياً على البلاد على المدى الطويل، ويعيش في الأراضي البلجيكية ما بين 600 ألف و700 ألف مسلم من بينهم جماعات سلفية تدعم العمليات والنشاطات المرتبطة بالإرهاب[9]، وبناء على استنتاجات الجهاز الأمني البلجيكي فإن “الواقع الأيديولوجي في المساجد معقد مثلما هي الحال بالنسبة إلى الجالية المسلمة وامتدادات التيارات الإسلامية إلى داخلها، ويلاحظ أن التنظيمات الدينية بمختلف أنواعها تستخدم تكنولوجيا الإعلام الجديدة في نشر أفكارها عبر منصات حوار، يصعب تحديد عددها، وينشر تنظيم «داعش» دعاياته عبر الشبكة العنكبوتية بست لغات”[10].
- أمثلة على هجمات جماعات الإسلام السياسي في أوروبا وأسبابها:
يشير هذا الجزء من الورقة إلى بعض الهجمات التي تعرضت لها بعض الدولة الأوروبية في السنوات الأخيرة، كما يتناول الأسباب التي أدت إلى ذلك.
1.2 بعض أمثلة هجمات الإسلام السياسي في أوروبا
عانت بعض الدول من المتطرفين عبر التاريخ سواء كانوا في أراضيها أو خارجها، على الرغم من تعدد واختلاف أيديولوجياتهم وأهدافهم، وتعد قضية الإرهاب باسم الإسلام إحدى القضايا التي لا مناص من التعامل معها على المستويين المحلي والدولي، ولأن أوروبا في مرمى جماعات الإسلام السياسي فكان لها نصيب من تلك الهجمات الإرهابية، وفيما يلي إشارة إلى أبرز هذه الهجمات.
ففي مارس 2004 حدثت تفجيرات مدريد وهي سلسلة من التفجيرات استهدفت خطوط السكك الحديدية في العاصمة الإسبانية، وأسفرت عن سقوط 191 قتيلاً و1755 مصاباً، وتم توجيه الاتهام لخلية تستلهم أفكار تنظيم القاعدة، وفي 7 يوليو 2005، وقعت تفجيرات لندن، وهي سلسلة تفجيرات استهدفت قطارات الأنفاق في العاصمة البريطانية، وحافلة من طابقين، ونفذ أربعة من المتشددين هذه الهجمات، التي أسفرت عن مقتل 50 شخصاً، وإصابة 700 آخرين، وتبنّى تنظيم “داعش” تلك الهجمات[11].
وإلى جانب هذه التفجيرات الكبيرة التي تسببت في وقوع خسائر جسيمة، وقعت بعض الهجمات الأخرى بدءاً من عام 2010، ومن بينها تفجيرات إستوكهولم التي وقعت في 11 ديسمبر 2010 بعد أن انفجرت قنبلتان في وسط العاصمة السويدية ما أسفر عن مصرع الانتحاري وإصابة شخصين، والهجوم على مقر مجلة “شارلي إيبدو” الساخرة بباريس في يناير 2015، الذي قتل فيه 12 شخصاً، بينهم صحفيون ورسامون وشرطيان، وما تلا ذلك من عمليات خلال الأعوام التالية[12].
وقد استمرت تلك الهجمات ففي عام 2020، وحسب تقرير الوكالة الأمنية الأوروبية “يوروبول”، فقد تعرض الاتحاد الأوروبي لـ 57 هجمة في هذا العام بعضها تم إحباطه[13]، وفي العام نفسه، قام مهاجم شيشاني بقطع رأس المدرس الفرنسي صامويل باتي مدرس التاريخ، بدعوى أنه عرض على تلاميذه رسوماً كاريكاتيرية مسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم[14].
2.2 أسباب تعرض أوروبا لهجمات جماعات الإسلام السياسي
يرجع تعرض بعض الدول الأوروبية لهجمات جماعات الإسلام السياسي، إلى مجموعة من الأسباب التي تسهم في وقوع بعض الشباب المسلم في هذه الدول فريسة لهذه الجماعات التي تبدأ في تلقينه أفكاراً تحض على الكراهية وعدم قبول الآخر ومحاربة الدولة الوطنية ومن ثم دفعه للقيام بأعمال إرهابية في هذه الدول، فوجود هذه الأسباب يوفر بيئة خصبة لجماعات الإسلام السياسي لاستقطاب الشباب المسلم وتجنيده لتحقيق أهدافها ومصالحها الخاصة.
ولابد من الوقوف وإلقاء الضوء بشكل مبسط على هذه الأسباب التي جعلت أوروبا في مرمى جماعات الإسلام السياسي خصوصاً أن الدول الأوروبية تتسم بنوع من الوئام والاستقرار السياسي، وقد يسهم النظر في تلك الأسباب في طرح الحلول التي قد تساعد في إيجاد آليات مناسبة للتعامل مع مثل هذه الهجمات، وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى ما يلي:
1.2.2 أسباب اجتماعية
هناك مجموعة من المشكلات الاجتماعية التي تواجه الشباب المسلم في دول أوروبا أبرزها الاغتراب وعدم الشعور بالانتماء. في هذا الصدد، يقول أكبر أحمد، السفير الباكستاني السابق لدى المملكة المتحدة، أستاذ الدراسات الإسلامية حالياً في الجامعة الأمريكية في واشنطن: إن “30% من سكان مارسيليا مهاجرون وليس لديهم مسجد مركزي ويعيشون في مناطق منعزلة من المجتمع ومعظمهم بلا عمل، والظروف ذاتها موجودة في بلجيكا حيث المستوى التعليمي بائس جداً”[15]، كما يشير الباحث روبن سيموكس إلى أن الالتزام الشديد بالعلمانية والعنصرية والعداء العام تجاه المسلمين من قِبل بعض الأفراد شكل تصادماً مع الممارسات الإسلامية كقانون منع الحجاب وغيره[16].
في هذا السياق، يرى العالم السياسي الفرنسي أولفييه روا، أن أعضاء جماعات الإسلام السياسي الذين شنوا هجمات إرهابية على المجتمع الأوروبي لم يدفعهم الفكر المتطرف فقط، وإنما حالة إنكار القوانين والقيم في المجتمع التي تنامت لديهم بحكم سنوات طويلة من العزلة، والانفصال عن مجتمعاتهم أيضاً، فالأفراد الأوروبيون المنضمون إلى تنظيم “داعش” لا يدفعهم حلم بناء دولة إسلامية يحكمها الشرع، وإنما ما يواجهونه من مشكلات اجتماعية في الدول التي يعيشون فيها[17].
وتؤكد يوليا إينبر مؤلفة كتاب “ماكينات التطرف”، على الأمر ذاته، فتقول في إحدى المقابلات “أردت تسليط الضوء على الحاجات الفسيولوجية التي تدفع الشباب إلى الانضمام لتلك الجماعات المتطرفة خصوصاً أن هؤلاء المتطرفين يعولون على الشباب الذين يبحثون عن هوية أو حاضنة للإنتماء إليها، وكثير من هؤلاء الشباب عانوا مشكلات جمة في بيوتهم مثل مشكلات الوالدين وغيرها[18].
هذه الممارسات الاجتماعية التي يتعرض لها الشباب المسلم في بعض الدول الأوروبية خلقت لديه مشكلات اجتماعية تتعرض للهوية والانتماء، وهي مشكلات استغلتها جماعات الإسلام السياسي من أجل التأثير في هؤلاء الشباب وإقناعهم بأفكارها التي تحض على العنف والكراهية، ومن ثم دفعهم في بعض الحالات إلى القيام بعمليات إرهابية وإن بشكل منفرد انتقاماً من المجتمع لما يتعرضون له.
كما يستخدم الإسلامويون بعض السياسيات الداخلية لبعض الدول الأوروبية لإثارة حفيظة المتأسلمين وبقية المسلمين الذين يعيشون في أوروبا، فتبنّي دول مثل فرنسا العلمانية الشديدة أو “اللائكية” استخدمه الإسلامويون كذريعة لتنظير وشرعنة الهجمات على فرنسا؛ ولذلك نرى أن عدد الهجمات الإرهابية من قِبل تلك الجماعات في ذلك البلد ربما يفوق عدد الهجمات في باقي الدول الأوروبية الأخرى[19].
2.2.2 أسباب دينية- تعليمية
إلى جانب الأسباب الاجتماعية، هناك أسباب دينية أيضاً تتعلق بعدم وجود الوعي الديني الصحيح لدى الشباب المسلم نتيجة ضعف ما يتلقونه عن الإسلام الصحيح من قبل النظم التعليمية التي يدرسون فيها سواء في المدارس أو الجامعات، وهو ما يدفعهم إلى البحث عما يجهلونه في مصادر أخرى أبرزها شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ما يجعلهم فريسة سهلة لجماعات التطرف.
في هذا الصدد، تقول أستاذة مادة التاريخ أليس باسكال، إن طالباً فرنسياً يدعى سكوتي، قال في مقابلة تلفزيونية بعنوان “إرهاب باسم الإسلام في مدن أوروبية ومسلمو أوروبا يخشون العواقب” من خلال برنامج “عينٌ على أوروبا” المذاع على التلفزيون الألماني باللغة العربية “يعول الشباب على منصات التواصل الاجتماعي للوصول إلى المعلومة الصحيحة المتعلقة بالدين الإسلامي”، وتضيف باسكال “أن الطلاب لا يصدقون المعلومات التي نطرحها عن الإسلام ويميلون للاعتقاد أن ما يدور في فلك الشبكة العنكوبوتية هي المعلومة الصحيحة وغالباً ما يعتقدون أننا بعيدون عما يدور في الإعلام تجاه المسلمين وغير واقعيين كمدرسين، ومن أجل ذلك توجه الطالب سكوتي لتكوين قناة على منصة يوتيوب لإيضاح المعلومات ومصادرها ومدى دقتها ولاقت الكثير من الاهتمام وشارك في القناة معلمون من الجامعات وغيرهم من المثقفين بهدف عدم استدراج الشاب الفرنسي لتلك التضليلات في وسائل التواصل الاجتماعي”[20].
3.2.2 أسباب أيديولوجية
تتعلق الأسباب الأيديولوجية التي تقف وراء انتشار تطرف جماعات الإسلام السياسي في أوروبا بوجود فهم خاطئ للإسلام وتعاليمه وللآيات القرآنية والأحاديث النبوية لدى هؤلاء الذين ينضمون إلى هذه الجماعات خاصة من الشباب المسلم في المجتمعات الأوروبية، حيث دأبت جماعات الإسلام السياسي على تحريف وتسييس بعض الآيات والأحاديث لتناسب تطلعاتهم وأهدافهم مما كان أحد أسباب نشوء هذا الفهم الخاطئ.
في هذا الصدد يشير مهند خورشيد، مستشار الحكومة النمساوية، مدير مركز توثيق الإسلام السياسي، إلى أنه تم تفسير القرآن والأحاديث من قِبل هذه الجماعات دون فهم الإطار الزمني والاجتماعي، فبعض الآيات تشير إلى القتال في عهد الرسول الكريم، لكن ليس بالضرورة أن يحدث هذا القتال أو يطبق اليوم[21].
وبرغم أهمية هذه الأسباب، إلا أنه ينبغي التأكيد أنها ليست الأسباب الرئيسية لتعرض دول أوروبا لهجمات جماعات الإسلام السياسي، فهذه الأسباب توفر البيئة الخصبة التي تمكّن تلك الجماعات من العمل واستقطاب الشباب وتجنيده لتنفيذ هجمات إرهابية، وبهذا المعنى يمكن القول إن أحد الأسباب الرئيسية وراء تعرض هذه الدول لهجمات إرهابية هو الفكر المتطرف الذي تتبنّاه هذه الجماعات والذي تزرعه في عقول الشباب المسلم في الدول الأوروبية.
المحور الثالث: بعض السياسات الأوروبية في مواجهة جماعات الإسلام السياسي:
تواجه مجموعة من الدول الأوروبية أكثر من أي وقت مضى الإرهاب والتطرف المرتبط بجماعات الإسلام السياسي كنتيجة لتلك الهجمات التي أودت بحياة الأبرياء وتدمير البنى التحتية ودور العبادة، حيث بدأت هذه الدول بسن قوانين وتشريعات تهدف إلى استشراف الخطر الإرهابي بشقيه الفكري والفعلي، ولربما تباينت بعض سياسات الدول الأوروبية في نقطة وتشابهت في نقاط أخرى بحكم أن كل دولة تتسم بخصوصيتها.
ويعد تدريب الأئمة من أهم السياسات التي قامت بها بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا لمكافحة التطرف، خصوصاً أن منابر المساجد كانت مسرحاً للمتطرفين، وأعلنت السلطات الألمانية عن تلك الخطوة في عام 2019 تحت إدارة المجلس المركزي للمسلمين في ألمانيا بإشراف وزارة الداخلية وسمي المشروع “مساجد من أجل الاندماج”[22]، ويتم تجهيز الأئمة وتعليمهم باللغة الألمانية في سنتين وحسب المعطيات الموجودة فإن 90% من الأئمة في ألمانيا هم من دول شمال أفريقيا وإيران وتركيا وألبانيا، وغالباً لا يتطرق هؤلاء في خطبهم إلى سياق حياة الفرد الألماني[23].
وفي السياق ذاته، قامت فرنسا بالمشروع نفسه حيث يتم تدريب الأئمة على الطريقة الفرنسية، وينوي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السير على خُطا الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران في تعليم الأئمة وتدريبهم في معهد “مسلمو فرنسا” الذي بني في عام 1992، ويضم 200 طالب، ويوجد في فرنسا 2500 مسجد بها نحو 300 إمام “معار” من تركيا والمغرب والجزائر ويعد هؤلاء الأئمة من خارج سرب الدولة الوطنية الفرنسية بحسب الكثير من المحللين[24].
ومن تلك السياسات أيضاً، مراقبة الشبكة العنكبوتية، فمما لا شك فيه أن العديد من جماعات الإسلام السياسي تستغل هذه الشبكة وما تتيحه من قدرات للتواصل مع الشباب لغسل أدمغتهم واستقطابهم، ودفعهم بعد ذلك إلى العمل لتحقيق أهداف هذه الجماعات التي تمثل خطورة على المجتمعات الأوروبية، وقد دفعت المخاطر التي تترتب على ذلك، الدول الأوروبية إلى وضع قيود لمواجهة التطرف على الشبكة العنكبوتية، فعلى سبيل المثال وافق البرلمان الأوروبي في إبريل 2021 على فرض قيود على المنصات الإلكترونية لإزالة الرسائل والصور ومقاطع الفيديو “ذات الطابع الإرهابي”، خلال ساعة، وسيتم تطبيق هذه القيود العام المقبل في الاتحاد الأوروبي، وبموجب تلك القيود، ستضطر المنصات الإلكترونية العاملة في إحدى دول الاتحاد الأوروبي إلى إزالة المحتويات التي تحتوي طابعاً إرهابياً بشكل سريع أو تُحظر الوصول إلى المحتوى المسيء، وذلك حتى لا تقع تحت طائلة دفع غرامة[25].
ومن جهته أدخل البرلمان الألماني تعديلات قانونية تصب في مكافحة التطرف على الشبكة العنكبوتية عبر إعطاء صلاحيات أكبر لأجهزة الشرطة والقضاء، كما عزمت الحكومة النمساوية على تجفيف منابع الإرهاب وملاحقة الممولين له عبر إقرار قانون يتيح تغليظ العقوبات على البيئة الحاضنة للتطرف كما يتم مراقبة الخطابات الدينية بشكل وثيق على الإنترنت، وفي بريطانيا أعلنت الحكومة بناء مقر يجمع بين أجهزة الشرطة والاستخبارات والقضائية لمكافحة التطرف الجهادي واليميني[26].
ومن تلك السياسات أيضاً، على سبيل المثال، التضييق على الأيديولوجية الإسلاموية بعدم تداول الرموز المرتبطة بجماعات الإسلام السياسي، فحظرت ألمانيا استخدام شعارات ورموزالجماعات الإرهابية، مثل: الإخوان وداعش، وينص القانون الألماني الجديد على حظر استخدام شعارات ورموز الجماعات المتطرفة، مثل: الإخوان، والقاعدة، وداعش، والذئاب الرمادية التركية، وحزب العمال الكردستاني، والجناح العسكري لميليشيات حزب الله، والتنظيمات الإرهابية جميعها في دول الاتحاد الأوروبي، وطبقاً للقانون الجديد يحظر عرض أو حمل أو توزيع شعارات هذه الجماعات في الأماكن العامة، بما في ذلك مساعدة وسائل الاتصال الإلكترونية[27].
بالإضافة إلى ذلك، سعت بعض الدول الأوروبية إلى بناء مؤسسات علمية وبحثية تجابه الأيديولوجية الإسلاموية، وفي هذا الصدد، أشار الدكتور مهند خورشيد مستشار الحكومة النمساوية السابق، في محاضرة له ألقاها عن بُعد على قناة “مركز تريندز للبحوث والاستشارات” على موقع يوتيوب، إلى أن النمسا سعت إلى بناء وعي مجتمعي مؤسس على مواد علمية وبحثيه لفهم تلك الأيديولوجية المرتبطة بالجماعات التي تعمل في الخفاء مثل الإخوان المسلمين، خصوصاً أن الخطاب الإخواني يتسم بالازدواجية حيث يعمل على الاندماج في المجتمع الأوروبي في ظاهره ويخفي أجندة خاصة في الخفاء، وكاستجابة لذلك أقامت الحكومة النمساوية مركز توثيق الإسلام السياسي التابع لوزارة الاندماج بهدف فهم استراتيجيات وأيديولوجيات جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، كما اتخذت ألمانيا خطوات تشابه النمسا في بناء هيئة استشارية تابعة للوزارة الداخلية الألمانية لبحث وفهم وتفكيك الإسلام السياسي[28].
كما اتجهت دول أخرى مثل فرنسا إلى سن تشريعات تساعد في مواجهة جماعات الإسلام السياسي، حيث صوّت النواب الفرنسيون في 14 فبراير 2021 على قانون يقوي مكانة الجمهورية ويعززها، وهو مشروع يحد من ظاهرة النزعات الانفصالية الإسلاموية، ويهدف إلى وقف تلقي التمويلات الأجنبية التي تصل إلى الجمعيات الدينية، ومكافحة التطرف في الفضاء الإلكتروني، وسن تشريعات تتعلق بالتعليم المنزلي بما يسهم في عدم استغلال هذا النوع من التعليم في نشر التطرف[29]، وفي هذا الصدد صرح وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، أن فرنسا تعاني نزعة انفصالية مرتبطة بالتطرف الإسلاموي الذي يمثل تهديداً لمبادئ الجمهورية وقيمها[30].
الخاتمة
قدمت الورقة نبذة عن تاريخ استغلال الدين في تحقيق أهداف ومصالح سياسية، كما بيّنت بعض الأسباب التي كانت وراء انضمام بعض شرائح المجتمعات ولا سيما الشباب إلى جماعات الاسلام السياسي وقيامهم ببعض أعمال التطرف والعنف، وحللت الورقة بعض السياسات الأوروبية تجاة مكافحة تطرف جماعات الإسلام السياسي أيضاً.
وبرغم أهمية الجهود التي بذلتها بعض الدول الأوروبية لمكافحة تطرف جماعات الإسلام السياسي، فإننا نرى أنه ما زالت هناك حاجة لإعطاء أهمية أكبر لمحاربة التطرف المرتبط بالأيديولوجيا الإسلاموية، فإلى جانب معالجة الأسباب التي تقف وراء انضمام الشباب لجماعات الإسلام السياسي، مثل الأسباب الاجتماعية والدينية والتعليمية التي سبقت الإشارة إليها، ينبغي التركيز على استئصال تلك الأيديولوجيا التي تُقصي الآخر أيضاً، والتي تعد بحق أساس مشكلة التطرف المؤدي إلى العنف.
في هذا الإطار، لابد من العمل على مواجهة الأسس الأيديولوجية للتطرف، من خلال وسائل عدة، من بينها: تجديد الخطاب الديني في المجتمعات المسلمة داخل الدول الأوروبية بحيث يدفع للعيش بوئام مع مختلف الأعراق والديانات وتجنب من يدعون إلى زعزعة مبادئ الدولة باسم الدين، وخلق خطاب إعلامي يجمع بين الدولة الوطنية والفرد المسلم الأوروبي لعدم استدراجه لتلك الجماعات أو حتى التعاطف معها، وعدم التهاون مع المتطرفين أو من يتعاطف معهم.
كما ينبغي أن يكون هناك تعاون وثيق أيضاً بين الدول الأوروبية التي عانت أفعال المتطرفين ودول مثل مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وذلك لتبادل الخبرات والعمل معاً من أجل مواجهة الجماعات الإسلاموية وتطرفها.
ويبقى أن أهم السبل للقضاء على ظاهرة التطرف هو مقاومة تلك الظاهرة معرفياً؛ وذلك بوضع مبادئ لمشروع فكري لمجابهة الإخوان في أوروبا تتلخص في “تفكيك الأفكار المؤسسة لأيديولوجية جماعة الإخوان ونقدها، وتفكيك الخطاب المتعاطف معها ونقده في أوروبا، وتسليط الضوء على أنماط التدين الأخرى المتصالحة مع الحداثة ومع الدولة الوطنية، والتنظير لمرجعية معرفية عربية لدراسة الظاهرة الإسلاموية”[31] حتى لا نجابه المتطرفين فقط وليس التطرف[32].
المصادر:
[1] . عبدالرحيم العلام، سؤال الدولة والدين عند ميكافيللي وابن خلدون، بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، بدون تاريخ، على الرابط: https://bit.ly/3wHTIcr
[2]. عبدالرحيم العلام، المصدر السابق.
[3]. مريم تولتش، الإخوان المسلمون في أوروبا: تاريخ طويل ومستقبل ضبابي، موقع إضاءات، يونيو 2018، على الرابط:https://bit.ly/3lxfRr5
[4]. المصدر السابق.
[5]. منصور النقيدان، الإسلام في أوروبا إشكاليات الاندماج وتحديات الإرهاب، دبي، مركز المسبار للدراسات والبحوث، كتاب رقم 112، إبريل 2016، ص ص 192- 197.
[6]. المصدر السابق.
[7]. المركز الأوروربي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، محاربة التطرف… تقييم إلى مخاطر الجماعات الجهادية في ألمانيا، 17 مايو 2021، على الرابط: https://bit.ly/3deQ0zm
[8]. المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، السلفية الجهادية في ألمانيا…خريطة الانتشار، 3 سبتمبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/3jkGD55
[9]. وكالة أنباء فارس، بلجيكا: السلفية الجهادية تمثل خطراً مباشراً على المجتمع، على الرابط: https://bit.ly/2T4rRox
[10]. المصدر السابق.
[11]. “هجمات دامية شهدتها أوروبا منذ بداية الألفية”، 27 مارس 2017، بي بي سي، على الرابط: https://bbc.in/3sJuZSY
[12]. المرجع السابق.
[13]. “يوروبول”: 21 قتيلاً جراء هجمات إرهابية في دول الاتحاد الأوروبي عام 2020، موقع روسيا اليوم، 21 يونيو 2021، على الرابط: https://bit.ly/3vZoM6q
[14]. سكاي نيوز-عربي، أبرز الهجمات الدموية التي استهدفت دول غرب أوروبا، 3 نوفمبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/3w1ii7d
[15]. روبن سيموكس، البرامج الأوروبية للوقاية من التطرف… تفكيك أيديولوجية أم مظالم؟ مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 2 أغسطس 2019، على الرابط: https://bit.ly/3nQStCw
[16]. المصدر السابق.
[17]. سيمون كوبلاند، كيف يفكر الشخص المتطرف، بي بي سي ، 4 مايو 2019، على الرابط: https://bbc.in/3pqFb1d
[18]. باحثة ألمانية تكشف في كتاب جديد آليات التطرف على الإنترنت، موقع دويتشه فيله، 11 سبتمبر 2019، على الرابط: https://bit.ly/31wdJ7K
[19]. سلسبيل سعيد، الماكرونية والإسلام في فرنسا: هل ينجح مشروع صناعة الإسلام على مقاس اللائكية، مركز الفكر الاستراتيجي للفكر، العدد 54، صفحة 13، على الرابط: https://bit.ly/2X0PQ9s
[20]. إرهاب باسم الإسلام في مدن أوروبية ومسلمو أوروبا يخشون العواقب، برنامج “عين على أوروبا”، موقع إذاعة دويتش فيله على يوتيوب، 12 نوفمبر 2021، على الرابط:https://bit.ly/3w3z9aJ
[21]. يان سانت بيير، أمن المانيا، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، 22 فبراير 2020، على الرابط: https://bit.ly/2QezzdI
[22]. جاسم محمد، محاربة التطرف في ألمانيا، تدريب الأئمة من أجل احتواء التأثير الخارجي، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، 29 نوفمبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/3i0mkc2
[23] . المصدر السابق.
[24] . معهد فرنسي لتكوين الأئمة في إطار العلمانية حرية التعبير، موقع يورونيوز، 31 أكتوبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/3eOmTno
[25]. البرلمان الأوروبي يتبنّى قيوداً مشددة حول المحتوى الإرهابي على الإنترنت، موقع الحرة، 29 إبريل 2021، على الرابط: https://arbne.ws/2WHH9kg
[26] . المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، مكافحة الإرهاب والتطرف في أوروبا القوانين والسياسات، 30 يوليو 2021، على الرابط: https://bit.ly/3iaE30t
[27] .Bundesgesetz, mit dem die Verwendung von Symbolen der Gruppierung Islamischer Staat und anderer Gruppierungen verboten wird (Symbole-Gesetz), 2014,
[28]. انظر وقائع محاضرة الدكتورة مهند خورشيد، على قناة مركز تريندز للبحوث والاستشارات على يوتيوب، على الرابط: https://bit.ly/3xnfbak
[29]. فرانس 24 ، فرنسا: التصويت على مشروع قانون “مكافحة النزعات الانفصالية” المثير للجدل، 16 فبراير على الرابط: https://bit.ly/3lruf49
[30]. المصدر السابق.
[31]. وائل صالح، نحو مبادئ مشروع فكري لمجابهة الإخوان معرفياً في أوروبا، مركز تريندز للبحوث والاستشارات، 3 يونيو 2021، على الرابط: https://bit.ly/3shMfPW
[32]. كما يقول الكاتب والإعلامي المصري إبراهيم عيسى. شاهد التطرف الديني، قناة الحرة، 21 نوفمبر 2019، على الرابط: