شكلت جريمة قتل المدرس الفرنسي صامويل باتي وقطع رأسه بالقرب من مدرسته في إحدى ضواحي العاصمة الفرنسية باريس يوم 16 أكتوبر 2020 صدمة للمجتمع الفرنسي الذي لم يعتاد هذا النوع من الجرائم الإرهابية البشعة التي تنطوي على مقدار هائل من الحقد والكراهية المدفوعة بالفكر الظلامي المتطرف الذي تغذيه وتروج له التنظيمات المتطرفة والإرهابية والقوى الداعمة لها.
وما زاد من بشاعة المشهد وصدمته أن الشاب الشيشاني المتطرف الذي ارتكب الجريمة عبدالله أنزوروف البالغ من العمر 18 عاما لم يكتف بقطع رأس ضحيته بل قام بنشر رسالة على حسابه في موقع “تويتر” تتضمن صورة لجسد القتيل مصحوبة باعتراف بارتكاب الجريمة[1]. كما كان يفعل تنظيم داعش لبث الرعب في نفوس المدنيين في مناطق سيطرته، مع فارق أن هذه الجريمة ارتكبت في فرنسا وليس في العراق أو سوريا.
وما من شك أن هذه الجريمة ستغير الموقفين الرسمي والشعبي حيال قضية الإسلام السياسي والجاليات المسلمة في الغرب بالنظر إلى الغضب الذي اجتاح الشارع الفرنسي، ولا سيما أنها – الجريمة – جاءت لتتوج سلسلة هجمات إرهابية شهدتها فرنسا منذ عام 2012؛ أبرزها هجوم نيس بواسطة شاحنة عام 2016 الذي راح ضحيته 86 مواطناً، وهجوم سان دنيس، ومسرح باتاكلان، والاعتداء على مقر صحيفة “شارلي إيبدو”[2] عام 2015.
كما جاءت هذه الجريمة أيضاً بعد نحو أسبوعين من خطاب مطول للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حذر فيه من خطر جماعات الإسلام السياسي وخطابها المتطرف المناهض لمبادئ الجمهورية الفرنسية العلمانية، لتعطي مزيدا من الأدلة على أهمية التحرك الفرنسي في مواجهة هذه الأزمات.
مسؤولية جماعات الإسلام السياسي
رغم أن التحقيقات لم تكشف حتى الآن إذا ما كان أنزوروف، قد تصرف من تلقاء نفسه أو بالتنسيق مع جماعات إرهابية أخرى، فإن جماعات الإسلام السياسي تعد مسؤولة بدرجة كبيرة عن هذه الجريمة، سواء بسبب فكرها الضال الذي تبثه في المجتمعات، والذي يشجع على العنف كأداة للتعامل مع من تعتبرهم خصوماً لها، أو بسبب كم التحريض الذي تمارسه ضد هؤلاء الخصوم.
وقد ظهرت إشارات على ارتباط مرتكب الجريمة بهذه الجماعات، إذ أفادت بعض المصادر الإخبارية (وكالة فرانس برس) أن منفذ الاعتداء كان على اتصال بمتشدد يتحدث الروسية في سوريا، وأوضحت صحيفة “لو باريسيان” أن الشخص الذي يشتبه بأن أنزوروف كان على اتصال به متواجد في إدلب، آخر معاقل فصائل المعارضة والمجموعات المتشددة في سوريا، وذلك بناء على عنوان بروتوكول الإنترنت التابع له[3].
وفي ما يعد إشارة أخرى على ارتباط هذه الجريمة بجماعات الإسلام السياسي، قيام السلطات الفرنسية باعتقال الداعية المغربي الأصل، عبدالحكيم الصفريوي الذي يحمل الجنسية الفرنسية، والذي يرأس “جمعية الشيخ ياسين” المقربة من جماعة الإخوان المسلمين، بسبب تحريضه على المعلم الفرنسي، ما شكل دافعاً للشاب الشيشاني من أجل ارتكاب جريمته[4].
كما يشير قيام السلطات بإغلاق الجمعية التي يرأسها الصفريوي، ضمن ما اتخذته من إجراءات لمواجهة جماعات الإسلام السياسي في فرنسا، إلى مسؤولية هذه الجمعية، وغيرها من جماعات الإسلام السياسي عن مثل هذه الجرائم من خلال ما تبثه من أفكار تشجع على العنف.
دلالات خطيرة:
تعكس هذه العملية الإرهابية مجموعة من الدلالات الخطيرة التي تتعلق بدور جماعات الإسلام السياسي وأفكارها المضللة في تغذية جرائم الإرهاب والعنف والتحريض عليها.
أول هذه الدلالات تنامي خطورة تأثير التحريض الذي تمارسه جماعات الإسلام السياسي في فرنسا على الإنترنت، حتى أصبح أحد أهم العوامل التي تغذي مشاعر الحقد والكراهية لدى أتباع هذه الجماعات ومناصريها ضد من تعتبرهم خصوماً لها؛ ودفعهم من ثم إلى التطرف والإرهاب وارتكاب مثل هذه الجرائم البشعة بكل سهولة، ومن دون أي وازع، متوهمين بذلك أنهم يدافعون عن الإسلام وعن نبيه الكريم.
وقد بدا هذا التحريض واضحاً في ما قام به الداعية عبدالحكيم الصفريوي الذي ظهر في مقطع مصور يقدم فيه نفسه على أنه عضو في مجلس أئمة فرنسا، وأطلق حملة تحريض ضد المعلم القتيل الفرنسي صامويل باتي، معتبراً أنه معاد للإسلام. كما أنه رافق والد أحد التلاميذ خلال مقابلته مديرة المدرسة التي كان يعمل فيها المعلم الفرنسي من أجل المطالبة بوقفه عن العمل[5].
ويشار إلى أن عبدالحكيم الصفريوي يلعب دوراً تحريضياً في دعم الخطاب المتشدد لجماعات الإسلام السياسي في فرنسا، حتى أن إمام منطقة بوردو طارق أبرو الذي عرفه منذ سنوات حين كان ما يزال يبيع فقط الكتب الدينية، وصفه في تصريحات صحفية، بالمجنون والمحرض والخطير على قيم الجمهورية الفرنسية، معتبراً أنه جبان يغذي عقول الأشخاص الضعفاء بتعاليمه المتطرفة[6].
كما حرض والد أحد الطلاب في المدرسة التي عمل فيها المعلم الفرنسي، ضد باتي، حين نشر مقطع فيديو على الإنترنت قال فيه إن المعلم طرد الطلاب المسلمين من الصف في محاولة لإذلالهم. وكشف هذا الوالد خلال الفيديو أيضاً اسم المعلم وعنوان المدرسة. وحسب بعض الباحثين، حظي هذا الوالد الذي انضمت أخته غير الشقيقة إلى تنظيم “داعش” في سوريا عام 2014، بدعم الناشطين الإسلاميين في فرنسا الذين شنوا حملة عبر الإنترنت ضد باتي[7].
وقد اكتسبت هذه الحملة زخماً كبيراً في غضون أسبوع لدرجة أنها أقنعت الشاب الشيشاني الذي كان يعيش في مدينة فرنسية أخرى على بعد ستين ميلاً، على السفر بالسيارة إلى المدينة التي تقع فيها المدرسة التي يعمل فيها باتي ويتتبعه بعد خروجه من عمله ليقتله في الشارع ويقطع رأسه[8].
والواضح أن تأثير هذا التحريض كان كبيراً على الشاب الشيشاني، لدرجة أنه يمكن اعتباره بمثابة الدافع الأساسي لارتكاب هذه الجريمة البشعة؛ فهذه العملية لم تكن مثل تلك التي تنفذها جماعات الإسلام السياسي والتنظيمات الإرهابية التي دأبت على تهديد فرنسا، وإنما تمت بفعل التحريض الذي تمارسه هذه الجماعات، والذي تأثر به منفذ الجريمة.
ثاني هذه الدلالات، هو خطورة الفتاوى الدينية التي تصدرها جماعات الإسلام السياسي وأنصارها، إذ أن مثل هذه الفتاوى يمكن أن تؤدي إلى ارتكاب جرائم من شأنها أن تزعزع أركان الدولة الوطنية، وتضرب استقرارها عبر نشر الفوضى فيها وانعدام الأمن.
وفي هذا الإطار، وعقب عمليات أطلقتها الشرطة الفرنسية يوم الإثنين 19 أكتوبر 2020 ضد “عشرات الأفراد” المرتبطين بالتيار الإسلامي، قال وزير الداخلية جيرار دارمانانن لإذاعة “أوروبا1” الفرنسية، في إشارة إلى مشتبه فيهم تمّ توقيفهم: “من الواضح أنهم أصدروا فتوى ضد الأستاذ”، وأوضح الوزير أن والد إحدى الطالبات وأحد المتشددين الإسلاميين المعروفين أصدرا فتوى عقب عرض المدرس الرسوم الكاريكاتورية المثيرة للجدل في الفصل[9].
وقد أسهمت هذه الفتاوي، وكذلك التحريض، في أن جعلت الشاب الشيشاني يمارس السلطتين القضائية والتنفيذية في آن واحد، فنصب نفسه قاضياً، وقرر أن الرد على استخدام المعلم الفرنسي للرسوم المسيئة للنبي محمد كوسيلة لتناول موضوع حرية التعبير، لا يكون إلا بإعدام المعلم وذبحه، ومن ثم أصدر حكماً بالإعدام وقام بتنفيذه بنفسه، ليلغي بذلك مبدأً مهماً تأسست عليه الدول وهو تفويض الفرد للدولة مهمة تحقيق العدالة.
ثالث هذه الدلالات محاولة جماعات الإسلام السياسي استغلال هذه الجرائم لبث الذعر والرعب في المجتمعات. كما حدث حين قام الشاب الشيشاني بنشر صورة لجسد المعلم الفرنسي على “تويتر” بعدما قطع رأسه وأرفقها برسالة يقر فيها بقتله.
يضاف إلى هذا أنه، بعد نحو أسبوع من الجريمة عثُر على كتابات تهديدية على واجهة مدرسة في الدائرة الثامنة لمدينة ليون جنوب شرق فرنسا، استهدفت أوليفييه بيرزان رئيس بلدية الدائرة الثامنة للمدينة دون سبب واضح. وورد في إحدى هذه الكتابات على حائط المدرسة: “يا رئيس بلدية الدائرة الثامنة سنقطع رأسك”. وفي أخرى “واصلوا، سنقطع رؤوس الأساتذة والتلاميذ”. وقبل ذلك بيومين، استهدفت كتابات على حائط ورشة بناء، جيريمي برو رئيس بلدية برون، الواقعة في ضاحية ليون، بالتهديد بقطع الرأس[10].
خاتمة:
تكشف هذه الجريمة عن خطورة جماعات الإسلام السياسي في فرنسا والدول الأوروبية عموماً، إذ نجحت هذه الجماعات في نقل أفكارها التي تحض على العنف والكراهية والانعزالية إلى أتباعها وأنصارها من مختلف الفئات العمرية في المجتمعات الأوروبية. نتيجة هذا بات هؤلاء الأتباع والأنصار مهيؤون تماماً لارتكاب مثل تلك الجرائم البشعة بداعي الدفاع عن الإسلام وعن نبيه الكريم. ويرفض الإسلام بالطبع هذه الجرائم، فلم يكن أبداً العنف والقتل والإرهاب منهج الإسلام أو أداته في التعامل مع الآخر المختلف وإنما كان الحوار والنقاش والتسامح.
لقد أطلقت هذه الجريمة البشعة موجة من التطرف والكراهية هددت التماسك المجتمعي في فرنسا بين الجاليات المسلمة وبعض الفئات المجتمعية الأخرى، ولا سيما اليمينية منها التي اتسمت ردود أفعالها بنوع من التطرف المقابل المتمثل في التوسع في نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد تعبيراً عن تمسك الفرنسيين بمبدأ حرية التعبير وإلصاق تهم التطرف بالإسلام ذاته، وهي السلوكيات التي انزلقت لها الدولة الفرنسية للأسف، لتقدم هدية مجانية لتنظيمات الإسلام السياسي والتنظيمات المتطرفة التي استغلتها لشن حملة واسعة ضد فرنسا والمطالبة بمقاطعة منتجاتها ومحاولة استعادة بريقها لدى الرأي العام الإسلامي باعتبارها من المدافعين عنه.
المراجع
[1] “الادعاء الفرنسي يكشف عن رسالة نشرها قاتل مدرس التاريخ في باريس وتوجه فيها إلى ماكرون”، روسيا اليوم، 17 أكتوبر 2020، https://bit.ly/2G2jOC1
[2] ” من شارلي إبدو إلى مسجد “بايون”.. أبرز الهجمات الإرهابية بفرنسا”، بوابة العين الإخبارية، 29 أكتوبر 2019، https://bit.ly/2HBkSNO
[3] ” قاتل الاستاذ في فرنسا كان على اتصال بجهادي ناطق بالروسية في سوريا”، وكالة الصحافة الفرنسية، 22 أكتوبر 2020، https://bit.ly/35EKmSu
[4] ” تفاصيل عن داعية تورط بجريمة قطع الرأس التي هزت فرنسا”، العربية نت، 21 أكتوبر 2020، https://bit.ly/3jtzqfz
[5] المصدر السابق.
[6] المصدر السابق.
[7] تشارلز ثيبوت، ” جريمة جهادية أخرى تختبر صمود الشعب الفرنسي”، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 22 أكتوبر 2020، https://bit.ly/3mqYW6Z
[8] المصدر السابق.
[9] ” باريس: فتوى صدرت بحق المدرّس الذي قُتل بقطع رأسه”، دويتشه فيله، 19 أكتوبر 2020، https://bit.ly/3otTvG8
[10] ” تهديدات جديدة بقطع رأس رئيس بلدية في فرنسا”، روسيا اليوم، 24 أكتوبر 2020، https://bit.ly/3e1dgQw