تشهد الأزمة الليبية المركبة، منذ سنوات، حالة من الجمود السياسي؛ نتيجة تعقيدات داخلية وإقليمية متداخلة، وانقسامات حادّة بين المؤسّسات السيادية، ووضع أمني هشّ تُغذّيه الميليشيات المسلحة والتدخلات الأجنبية المتباينة.
وفي خطوة نوعية تهدف إلى إحياء العملية السياسية المتعثّرة في ليبيا، كشفت الممثّلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، رئيسة البعثة الأممية، هانا تيتيه، أثناء إحاطتها الدورية لمجلس الأمن الدولي، في 25 يونيو 2025، عن عزم البعثة تقديم “خريطة طريق لليبيا” محدَّدة زمنيًّا، في منتصف أغسطس المقبل؛ تهدف إلى إنهاء المراحل الانتقالية، وإجراء الانتخابات بإشراف البعثة الأممية[1]؛ انطلاقًا من التوصية الرابعة من توصيات لجنة العشرين الاستشارية في ليبيا؛ وهي التوصية التي تؤكّد ضرورة اتخاذ بعثة الأمم المتحدة خطوات عملية لمواجهة أيّ طرف يحاول عرقلة، أو تعطيل، مسار اللجنة. [2]
تستعرض هذه الورقة أبرز ما جاء في الإحاطة الأممية في مجلس الأمن، ومساعي المبعوثة الأممية لكسر حالة الجمود السياسي في ليبيا، ثم تُحلّل التحديات التي تواجه الخريطة الأممية الجديدة على الصعيدَين السياسي والأمني، وتستكشف مواقف القوى السياسية الفاعلة في الشرق والغرب الليبي من الخريطة، بما في ذلك تداعيات الفوضى الأمنية في طرابلس، وتأثير الميليشيات المسلحة على مسار الخريطة الأممية الجديدة. وبناءً على هذا التحليل، تُقدِّم الورقة سيناريوهات محتملة لمستقبل المبادرة الأممية.
أولًا- الإحاطة الأممية بمجلس الأمن الدولي بشأن ليبيا:
تُشكّل إحاطة المبعوثة الأممية إلى ليبيا، هانا تيته، أمام مجلس الأمن، في 25 يونيو 2025، منعطفًا حاسمًا في الجهود الدولية لإحياء العملية السياسية المتعثرة في البلاد. وفي هذا الصدد، قدّمت المبعوثة الأممية رؤيتها للوضع الراهن، وفق الآتي:
- فقدان الثقة بالمؤسّسات الحالية: أكدت المبعوثة الأممية أن معظم الليبيين فقدوا الثقة بالمؤسّسات السياسية الليبية الحالية، وباتوا يشكِّكون في مدى استعدادها لوضع المصالح الوطنية فوق مصالحها الخاصة.
- “خريطة طريق في ليبيا” محدّدة الزمن: كشفت هانا تيته عن عزمها تقديم خريطة طريق محدّدة زمنيًّا لعملية سياسية تهدف إلى إنهاء المراحل الانتقالية في ليبيا، وإجراء الانتخابات الوطنية.
- الأوضاع الأمنية في العاصمة طرابلس: أشارت هانا تيته إلى أن الوضع الأمني في طرابلس لا يمكن التنبّؤ به؛ في إشارة إلى الفوضى الأمنية التي تفجّرت في العاصمة، في مايو المنصرم، وحذّرت من أن استمرار الوضع الحالي قد يؤدي إلى تقسيم تدريجي للبلاد.
- مسألة الميزانية: حذّرت المبعوثة الأممية من مصادقة مجلس النواب على الميزانية الخاصة بصندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا، برئاسة بلقاسم حفتر، معتبرةً أنها ستقوّض قدرة مصرف ليبيا المركزي على السيطرة على التضخم، والحفاظ على قيمة الدينار الليبي.
ثانيًا- مساعي المبعوثة الأممية الأخيرة لكسر حالة الجمود السياسي في ليبيا:
في إطار تعزيز الجهود الأممية لكسر حالة الجمود السياسي في ليبيا، كثَّفت الممثّلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة، هانا تيته، من تحرّكاتها خلال الفترة الماضية، التي سبقت إحاطتها الأخيرة لمجلس الأمن، استهدفت فيها حشد كلٍّ من الدعم المحلّي والدولي للخريطة الأممية الجديدة. وتمثّلت أبرز هذه الجهود فيما يأتي:
- تشكيل لجنة العشرين الاستشارية: كجزء من مبادرتها السياسية المتعدّدة المسارات، التي قُدّمت إلى مجلس الأمن في ديسمبر 2024، أعلنت البعثة الأممية في ليبيا تشكيل اللجنة الاستشارية العشرين، في 4 فبراير 2025؛[3] وتهدف اللجنة إلى تقديم توصيات فنية وسياسية قابلة للتنفيذ لمعالجة القضايا الخلافية المتعلّقة بالانتخابات الوطنية المعطّلة منذ عام 2021. وتتألف اللجنة من 20 شخصية ليبية ذات خبرة متخصّصة في القانون، والدستور، والمسائل الانتخابية، كما ضمّت 35% من العنصر النسائي، مع تمثيل جغرافي وثقافي متوازن، لضمان التنوع والمصداقية. وكان للّجنة مدة عمل محدّدة لا تتجاوز الأشهر، على أن تسهم مخرجاتها في تطوير خريطة طريق جديدة تعالج الانسداد السياسي في ليبيا. ولا شكّ في أن التحدي الأكبر يكمن في مدى قبول الأطراف الليبية وتعاطيها مع نتائج ومخرجات اللجنة، وتحويلها إلى سياسة واقعية تقود إلى الانتخابات الوطنية.
- تفعيل اجتماعات لجنة المتابعة الدولية وعقد اجتماع “برلين 3”: ترأّست الممثّلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، هانا تيته، بشكل مشترك، مع السفير الألماني كريستيان باك، الاجتماع الثالث لِلَجنة المتابعة الدولية المعنية بليبيا “عملية برلين”؛[4] ما عكس الدور المحوري للبعثة الأممية وألمانيا في قيادة الجهود الدولية لحل الأزمة الليبية. وبشكل غير مسبوق، صعّد الاجتماع اللهجة ضدّ معرقلين العملية السياسية، واتخاذ موقف حازم ضدّهم، مع التأكيد على أن أولوية المجتمع الدولي يجب أن تركز على “توحيد المؤسّسات، وتجديد شرعيتها” لتحقيق السلام والاستقرار في ليبيا، بما يتماشى مع أهداف خريطة الطريق الأممية الجديدة. وتبدو مشاركة المبعوثة الأممية في اجتماع “برلين 3” حاسمة لإعادة تفعيل الدور الدولي في الملف الليبي، وتعكس مساعي المبعوثة في حشد الدعم الدولي لخريطة الطريق الجديدة التي تنوي الكشف عنها في منتصف أغسطس المقبل.
- عقد اجتماعات مع القوى السياسية الليبية والقوى الدولية الفاعلة: كثّفت المبعوثة الأممية من اجتماعاتها ولقاءاتها مع مختلف القوى السياسية الليبية في الفترة الأخيرة، ففي يونيو 2025 اجتمعت برئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، كما اجتمعت مع عدد من ممثّلين عن تجمّعات وائتلافات من الأحزاب السياسية الليبية؛ في مسعى لتوسيع قاعدة المشاورات لتشمل أطرافًا سياسية أوسع. من جانب آخر، اجتمعت “تيته” مع أطراف دولية فاعلة في الملف الليبي؛ على غرار الجانب التركي، ممثَّلًا بنائب وزير الخارجية التركي برهان الدين دوران، ومسؤولين مصريين في القاهرة؛ لمناقشة قضايا محورية؛ كخروج القوات الأجنبية والمرتزقة. وتعكس هذه اللقاءات أهمية كلٍّ من الدعم الإقليمي والدولي لأي مبادرة أممية لليبيا، ومساعي المبعوثة الأممية في الحصول على مواقف موحدة من الدول المعنية والمؤثرة في الملف الليبي.
ثالثًا- مواقف القوى السياسية الفاعلة الليبية من الخريطة:
أعلن مجلس النواب الليبي والحكومة المنبثقة عنه (حكومة الاستقرار) برئاسة أسامة حماد، رفضهما المبادرة الأممية؛ ما يشكّل أكبر العوائق أمام تنفيذ نتائج لجنة العشرين، والخريطة الأممية الجديدة لليبيا. فقد شدّد مجلس النواب الليبي، خلال مراحل عمل اللجنة الاستشارية، على ضرورة عدم تجاوز اللجنة الاستشارية بدعم من البعثة الأممية لمؤسّسات الدولة – كمجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة (الذي يعتبر الغرفة الثانية للبرلمان)، واعتبر أن أي مخرجات تتعلّق بتعديل القوانين الانتخابية أو إعادة تشكيل السلطة التنفيذية ستُعتبر باطلة؛ إذا لم تُعرَض عليه رسميًّا. بل إنّ النائب الثاني لرئيس مجلس النواب، مصباح دومة، صرّح بأن إحاطة تيته “أسهمت في تعقيد المشهد السياسي”، واتهمها بمحاولة “إيقاف قطار التنمية الذي انطلق في شرق البلاد وجنوبها، وأجزاء من غربها”. وانتقد دومة اللجنة الاستشارية، واصفًا إيّاها بـ”مجموعة موظفين في البعثة ينفّذون ما تراه تيته فقط، دون تمثيل حقيقي للشعب الليبي، أو مؤسّساته الشرعية”.
وبُعيد إحاطة البعثة الأممية إلى مجلس الأمن، سارعت حكومة الاستقرار في الشرق المنبثقة من مجلس النواب، برئاسة أسامة حماد، بالتعبير عن الرفض الصريح لمضمون إحاطة المبعوثة الأممية، حيث قال حماد إن الإحاطة “مملوءة بالتجاوزات والمواقف المنحازة”، ودعا إلى “طرد البعثة الأممية من ليبيا فورًا”، بوصفها غير مرحّب بها؛ لتعاملها مع “أطراف فاقدة للشرعية”،[5] في إشارة إلى حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة. علاوة على ذلك، أكد حماد رفضه لما وصفه بتدخّل البعثة الأممية في مناقشات مجلس النواب بشأن ميزانية صندوق الإعمار، مؤكدًا أن ذلك يُعدّ “انتهاكًا للسيادة الوطنية”، وأن مجلس النواب هو المخوّل بإقرار الميزانيات.
ولا شكّ في أن موقف مجلس النواب وحكومة الاستقرار يُهدّد بإجهاض الخريطة الطريق الأممية المزمع إعلانها في منتصف أغسطس المقبل. إضافةً إلى ذلك، عكس توجّه مجلس النواب، منذ مطلع مايو 2025، في البدء بفتح باب الترشح لرئيس وزراء جديد، بدلًا من رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، الدلالات الآتية:
- التجاهل المقصود للخطة الأممية ومساراتها، وإعادة تسلّم زمام المبادرة السياسية بشكل أحادي؛ حيث تفضّل البعثة الأممية تأجيل مسألة تشكيل حكومة جديدة، واختيار رئيس وزراء جديد، إلى ما بعد الانتخابات.
- فرض مسار سياسي محلّي وحصري ينطلق من داخل المؤسّسات الليبية – مجلس النواب والغرفة الثانية له المجلس الأعلى للدولة، دون الرجوع إلى المجتمع الدولي، أو التوصيات الفنية للجنة الاستشارية العشرين، استنادًا إلى حجة السيادة الوطنية في اتخاذ القرارات السياسية.
أما بالنسبة للقوى السياسية في غرب البلاد، فلم يصدُر من المجلس الرئاسي أو حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة الدبيبة، حتى تاريخه، موقف رسمي بشأن خريطة الطريق الأممية الجديدة. وقد يرجع ذلك إلى أسباب عدة، أبرزها أنه لم تُعلَن تفاصيل الخريطة بصورة كاملة بعد (متوقّع في أغسطس 2025). ومن ثم، فربما ينتظر الطرفان الكشف عن البنود الكاملة عن الخريطة قبل إصدار موقف رسمي منها. ولكن يرجَّح أن يكون المواقف مبنيًّا على أساس تقييم رئيس المجلس الرئاسي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية لمدى توافق خريطة الطريق مع مصالحهم، ومدى قدرة الخريطة على إنهاء حالة الجمود السياسي دون إقصائهم من المشهد السياسي. ومع ذلك، فإنّ الانقسامات الأخيرة بين أعضاء المجلس الرئاسي (محمد المنفي، وعبدالله اللافي، وموسى الكوني)، وتباين الرؤى بينهم، تُعزّز من احتمالات عدم توافقهم على خريطة الطريق الأممية المستقبلية.
رابعًا- البيئة الأمنية المضطربة في طرابلس، وانعكاساتها على خريطة الطريق الأممية الجديدة:
تفجّرت في العاصمة طرابلس مجدَّدًا موجة عنف غير مسبوقة؛ إثر مقتل عبدالغني الككلي، المعروف باسم “غنيوة”، قائد جهاز دعم الاستقرار، وأحد أبرز أمراء الحرب في غرب ليبيا. ولم يكن هذا الحدث مجرد اغتيال لزعيم ميليشياوي، بل هزّة عميقة طالت جوهر التوازن الهشّ، الذي حافظ على حالة “اللاحرب – اللاسلم” في البلاد طيلة السنوات الأخيرة. علاوة على ذلك، عكس هذا الحدث حقيقة عدم تبنّي حكومة الدبيبة مؤسّسات حقيقية بقدر ما استوعبت الميليشيات الكبرى ومنحتها غطاء رسميًّا وموازنات، لتضمَن بقاءها. وعليه، كان “الاستقرار النسبي” في غرب ليبيا مؤقتًا، ومرهونًا بتوافقات غير معلنة بين أمراء الحرب. فضلًا على ذلك، عكس اغتيال قائد جهاز دعم الاستقرار الفشلَ النسبي للمقاربة الدولية، التي فضّلت التهدئة الظرفية على الإصلاحات الجذرية.
وفيما يبدو على أنه توظيف لهذه الفوضى الأمنية، لفرض واقع جديد يخدم مصالح القوى السياسية، أصدر رئيس المجلس الرئاسي الليبي، محمد المنفي، قرارًا بحظر المظاهر المسلحة طرابلس، تزامنًا مع إعلان رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة، استعداد وزارة الداخلية تولّي كافة المهام الأمنية في العاصمة، ضمن خطة شاملة تهدف إلى إنهاء وجود التشكيلات المسلحة الخارجة عن مؤسّسات الدولة.
ويبدو أن هذه التطورات تهدف إلى إعادة هيكلة القوى الأمنية في العاصمة لصالح رئيس حكومة الوحدة الوطنية. فرغم الطابع العشوائي الظاهري للاشتباكات المسلحة في طرابلس، يبدو أنها تستهدف إقصاء أي تشكيلات مسلحة قد تُشكّل تهديدًا لنفوذ الدبيبة في المرحلة المقبلة، حيث تأتي هذه القرارات بعد اجتماعه الأخير مع أمراء الحرب وقادة ميليشيات موالية لسلطته من مسقط رأسه مصراتة. كما تأتي هذه التطورات في سياق يغيب فيه الإطار القانوني الشامل والشفاف للتعامل مع التشكيلات المسلحة؛ ما يجعل الأمر يبدو وكأنه مناورة لإعادة توزيع الأدوار والنفوذ، وليس إرساء لدولة القانون. وقد تُنذِر قرارات المنفي والدبيبة بتداعيات خطيرة على الوضع الأمني في طرابلس؛ إذ قد تؤدي إلى تفاقم الانقسامات بين الميليشيات “المُدمجة”، التي يتم إقصاؤها، ما يُنذر باشتباكات مستقبلية أكثر عنفًا.
وفي ضوء ما سبق، يبدو أن الميليشيات المسلحة المرتبطة بحكومة الدبيبة قد تشكل عائق كبير أمام خريطة الطريق الأممية الجديدة، ففي حين تهدف خريطة الطريق الأممية إلى تشكيل حكومة موحدة جديدة، فإن نفوذ الميليشيات المرتبط بالدبيبة قد يشكّل عقبَة أمام تسليم السلطة أو قبول أي ترتيبات جديدة لا تضمَن مصالحها. ومن المتوقع أن الخطة الأممية الجديدة قد تتضمّن بند تفكيك الميليشيات أو دمجها في جيش وطني موحد، وهو الأمر الذي سترفضه ميليشيات ذات النفوذ الواسع في الغرب، حيث سترى في ذلك تهديدًا لوجودها ومكتسباتها.
علاوة على ذلك، فإن مسألة استمرارية وجود ميليشيات تابعة بشكل أو بآخر لحكومة الوحدة الوطنية تطرح تساؤلات حول مدى حيادها أو قدرتها على أن تكون طرفًا مقبولًا لتطبيق خريطة طريق شاملة وعادلة. من جانب آخر، تشكّل لغة السلاح تهديدًا مستمرًا لعمل البعثة، وتقلّل من قدرتها على العمل بفاعلية في طرابلس، وتطرح تحديات على استقلالية ونزاهة التصويت الانتخابي في المستقبل.
خامسًا- سيناريوهات محتمَلة لخريطة الطريق الأممية الجديدة في ليبيا:
في حين تبدو خريطة الطريق الأممية الجديدة بارقةَ أملٍ لمعالجة القضايا الخلافية، التي عطّلت إجراء الانتخابات الوطنية منذ عام 2021؛ إلا أن المعطيات، التي ناقشتها هذه الورقة، تُظهر الوضع السياسي والأمني المتشابك والمعقّد، الذي قد يَطرح تحديات جسيمة نحو إنفاذ هذه المبادرة. ومن شأن الفشل في معالجة هذه التحديات أن يقود إلى سيناريوهات أكثر تعقيدًا لكلٍّ من المشهد السياسي والأمني الليبي.
والواقع أنّ التحدي الأكبر الذي قد يحدِّد نجاح المبادرة من فشلها هو مدى قبول القوى السياسية الليبية لمخرجات اللجنة الاستشارية العشرين والخريطة الأممية الجديدة؛ وبناءً على ردود الأفعال الأولوية من مجلس النواب، التي أشارت إلى رفض قاطع، بل ودَعت “لطرد البعثة” من الأراضي الليبية، عوامل تهدّد بإجهاض المبادرة الأممية؛ فمجلس النواب هو الجهة التشريعية الوحيدة في البلاد، وتمريره للمبادرة أمرٌ جوهري لإنفاذها، وتحديدًا إذا ما تعلّق الأمر بالقوانين الانتخابية، وإعادة تشكيل السلطة التنفيذية. ومن جانب آخر، فتح مجلس النواب باب الترشح لرئيس وزراء جديد يعكس توجّه المجلس نحو إقصاء المسار الأممي من المشهد السياسي، وإبقاء القرار السياسي على الصعيد المحلّي، مدعومًا بمزاعم السيادة الوطنية. وعلى الصعيد الأمني، تُشكّل الفوضى الأمنية المتجدّدة في طرابلس، والنفوذ التي تمتلكه الميليشيات المسلحة “التابعة” لحكومة عبدالحميد الدبيبة، تحدّيًا لأي محاولة تشكيل حكومة موحدة أو إجراء انتخابات حرة ونزيهة، إضافة إلى الخطوات الأخيرة للدبيبة، التي قد تفسَّر على أنها محاولة لإعادة هيكلة القوى الأمنية لصالحه، تعزّز من الانقسامات المحتملة بين الميليشيات، وتُنذر باشتباكات أكثر عنفًا. وأخيرًا، فإنّه رغم الدعم الدولي المعلن للمبادرة، إلا أن غياب آلية واضحة للضغط، أو الضمان على تنفيذ بنود الخريطة، يجعلها عرضة للتعطيل من قِبَل الأطراف الليبية. كما أن التباين في مواقف القوى الإقليمية الفاعلة في الشأن الليبي يهدِّد بإعادة تدوير النزاع، بما يخدم مصالح متضاربة، لا تلتقي بالضرورة مع منطق الدولة الوطنية، أو استقرار ليبيا.
في ضوء كل ما سبق، يمكن بناء سيناريوهات عدة لمستقبل خريطة الطريق الأممية الجديدة في ليبيا على النحو الآتي:
السيناريو الأول- نجاح محدود للمبادرة:
قد تنجح البعثة الأممية إلى ليبيا في إنفاذ بعض بنود خريطة الطريق الأممية الجديدة، خصوصًا تلك البنود التي قد تحظى بزخم ودعم دولي، والأهم تلك التي لا تتعارض بشكل مباشر مع مصالح القوى السياسية الليبية؛ كبعض الإصلاحات المؤسّسية البسيطة، إلا أن القضايا الخلافية والجوهرية على غرار توحيد المؤسّسات السيادية، وتفكيك سلاح الميليشيات ستظل معلّقة. وسيدفع هذا السيناريو باستمرارية حالة “اللاحرب – اللاسلم” من الناحية الأمنية، أما على الصعيد السياسي فستستمر حالة الجمود السياسي دون تحقيق اختراق حقيقي نحو الوصول لانتخابات وطنية نزيهة.
ويبدو أن سيناريو النجاح المحدود للخريطة الأممية ضعيف الاحتمال حاليًّا؛ في ظل الرفض القاطع لمجلس النواب وحكومته للمبادرة الأممية، وفي ظِلّ الخبرة السابقة لمآلات المبادرات الأممية في ليبيا.
السيناريو الثاني- فشل المبادرة الأممية، وعودة الفوضى الأمنية إلى مربع الصفر:
في ظِلّ المعارضة الصريحة لمجلس النواب للمبادرة الأممية فور إعلانها، واستمرارية تمسّك حكومة الوحدة الوطنية بضرب شرعية مجلس النواب، وفيما يُرى على أنه تجاوز رئيس المجلس الرئاسي لصلاحيته الممنوحة له بموجب الاتفاق السياسي، وتجاهله لبقية أعضاء المجلس، وإقراره لمختلف القرارات بشكل أحادي؛ تتزايد احتمالات تصاعد الخلافات والانقسامات السياسية حول شرعية المؤسّسات الليبية القائمة وتوزيع السُّلطة بشكل غير مسبوق، ومن شأن ذلك أن ينعكس على الوضع الأمني الهشّ، حيث قد يدفع ذلك بعودة الاشتباكات المسلحة مع محاولات الأطراف لفرض نفوذها بالقوة.
ويبدو أنّ هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا؛ في ظِلّ المؤشرات التي تعكس زيادة درجة الاستقطاب السياسي بين الأطراف الرئيسة للأزمة الليبية، وحشد الميليشيات الموالية لحكومة الدبيبة لدعم استمرارها في المشهد السياسي.
السيناريو الثالث- تكثيف الضغوطات الدولية
في هذا السيناريو، ومن خلال مجلس الأمن، قد يدفع المجتمع الدولي نحو إنفاذ خريطة الطريق الأممية من خلال أدوات أكثر حزمًا، قد تشمل عقوبات دولية ضدّ معرقلين العملية السياسية، إلا أن تحقُّق هذا السيناريو يعوّل بشكل كبير على وجود إرادة دولية موحدة وقوية، وهذا لا يتوقع في المدى المنظور، وتحديدًا في ظِلّ الانقسامات الحادة التي تواجهها القوى الكبرى في مجلس الأمن، وحالة الاستقطاب التي يشهدها العالم بعد الأزمة الأوكرانية، ولكن إذا ما تحقق هذا السيناريو، من شأنه أن يدفع القوى السياسية الليبية على القبول بالخريطة الأممية مما يمهد تحقيق خطوات ملموسة في الوصول للانتخابات الوطنية.
خاتمة:
تُشكّل خريطة الطريق الأممية الجديدة خطوة نوعية لكسر حالة الجمود السياسي، التي تمرّ بها الأزمة الليبية، لكنها تصطدم بواقع مملوء بالتعقيدات السياسية والأمنية؛ وبالتالي يبقى مصير هذه المبادرة مرهونًا بقدرة القوى السياسية الليبية على تغليب المصلحة الوطنية العليا، ووجود الإرادة السياسية الداخلية لمعالجة الأسباب الجذرية للقضايا الخلافية والانقسامات المؤسّسية، والانخراط بشكل جادّ في حوار وطني يُفضي إلى بناء دولة موحدة ومستقرة.
ويظل ملف الميليشيات قضية جوهرية في حلحلة الأزمة الليبية؛ فمن غير معالجة هذا الملف بدعم من المجتمع الدولي بشكل جدّي، سواء عبر دمج الميليشيات في المؤسّسات الأمنية للدولة أو نزع سلاحهم، ستظل العملية السياسية مهدَّدة من قِبَل الميليشيات المسلحة. وأي جهود سياسية لحل الأزمة ستبقى رهينة الفوضى الأمنية.
ويتوقف مستقبل المبادرة الأممية على مدى قدرة المجتمع الدولي على الضغط الفاعل لتأمين بيئة سياسية أمنية تضمَن إجراء انتخابات عادلة، وعلى مدى استعداد الفاعلين الليبيين لتقديم تنازلات حقيقية لصالح الدولة الوطنية. أما في حال استمرار التصلّب في المواقف، فإن الخريطة الجديدة قد تلقَى المصير ذاته، الذي واجهته المبادرات السابقة؛ ما يعني أن ليبيا ستظل غارقة في حالة اللااستقرار، وعرضة لمزيد من التفكّك والتدويل.
[1] Habib Lassoued, “UN to unveil time-bound roadmap amid political paralysis in Libya,” The Arab Weekly, June 25, 2025, https://shorturl.at/unbEF.
[2] الأمم المتحدة، “الممثلة الخاصة: ليبيا تمرّ بمنعطف حاسم.. والليبيون يريدون حوكمة مسؤولة تعكس إرادتهم”، 24 يونيو 2025، https://shorturl.at/vy0wC.
[3] United Nations Support Mission in Libya (UNSMIL), “UNSMIL announces the establishment of the Advisory Committee,” February 4, 2025, https://shorturl.at/M7VE6.
[4] “ما رسائل اجتماع برلين لفرقاء الأزمة السياسية في ليبيا؟”، الشرق الأوسط، 22 يونيو 2025، https://shorturl.at/seRqz.
[5] “حكومة الاستقرار تطالب بـ”طرد البعثة الأممية من ليبيا فورًا”، الشرق الأوسط، 25 يونيو 2025، https://shorturl.at/CwTF7.