Insight Image

خطاب الكراهية لدى تيار الإسلام السياسي.. الإشكاليات والتجليات

28 فبراير 2021

خطاب الكراهية لدى تيار الإسلام السياسي.. الإشكاليات والتجليات

28 فبراير 2021

يقول سيد قطب، المُنظر الأول للعنف في جماعة الإخوان المسلمين، في إحدى مقالاته التي كتبها فور انضمامه للجماعة عام 1953 عقب عودته مباشرة من الولايات المتحدة داعياً إلى تربية النشء على الكراهية:

“أبناءنا في المدارس يجب أن تُربى مشاعرهم وتُفتح أذهانهم على مظالم الرجل الأبيض وحقارته.. ويجب أن تكون أهداف التربية عندنا هي التخلص من نفوذ الرجل الأبيض وحقارته”[1].

هذا الخطاب الذي يقوم على نشر الكراهية الذي أسس له سيد قطب وغيره من قيادات جماعة الإخوان المسلمين، أصبح هو السائد في كل أدبيات وممارسات جماعات العنف الديني القُطري والمُعولم حتى الآن؛ فعنف هذه الجماعات وإرهابها ليس سوى النتاج الأخير والحصاد المر للتربية على الكراهية التي تقوم بها تيارات الإسلام السياسي.

ولعل قدرة جماعات التطرف والتطرف العنيف على استيعاب هذا المعنى “التربية على الكراهية” هو الذي يفسر سبب قيامها بتوظيف الأطفال، والمراهقين، والشباب في العمليات الإرهابية بعد ترسيخ الكراهية والحقد في نفوسهم، مثل عمر عبد المطلب فاروق المنتمي لتنظيم القاعدة، والذي حاول تفجير طائرة أمريكية في ديترويت الأمريكية  ليلة عيد الميلاد سنة 2010، وكان عمره آنذاك 23 عاماً، وصولاً إلى عبد الله أنزروف (18 عاماً) اللاجئ الشيشاني الذي قام بذبح مدرس فرنسي في جريمة بشعة  شهدتها فرنسا في 16 أكتوبر 2020، بعد ما تربى على الكراهية في ظل انتمائه  لجمعية مرتبطة بالإسلام السياسي، وتتبنى أفكار جماعة الإخوان المسلمين، وهي جمعية “الشيخ أحمد ياسين” التي قامت الحكومة الفرنسية بحلها بعد أربعة أيام من وقوع الجريمة[2].

يمكن تشبيه “خطاب الكراهية” – ووظيفته في حالة التطرف العالمي الراهن – بالوقود الذي ينضج بفعله العنف تجاه الآخر، فهو التنظير لـ “العنف المقدس” الذي يمثل التجلي الظاهر له؛ ومن هنا أصبح البحث في خطاب الكراهية أكثر إلحاحا في ظل تصاعد موجات التطرف عالمياً، والذي تقتات عليه وتعيش منه جماعات وحركات عديدة في مختلف أنحاء العالم، حتى غدا كما يصفه المثقف السعودي الراحل راشد المبارك “1935-2015” بأنه “خبز عالمي”[3].

وقد غدا خطاب الكراهية تحدياً وتهديداً كبيراً أمام المجتمع العالمي والمجتمعات الوطنية، مع توسع مجالاته؛ فهو يتسع لكل “آخر”، من الجندر، أي موقف الرجل من المرأة، إلى الآخر المذهبي والفكري والديني والحضاري، بما قد يجعلنا على مشارف حرب عالمية ثالثة، حسب وصف وثيقة “الأخوة الإنسانية العالمية” الصادرة في أبوظبي بتاريخ 4 فبراير 2019، والتي تشير إلى هذه الحقيقة المؤلمة في ما يلي:

“إنَّ التطرُّفَ الدِّينيَّ والقوميَّ والتعصُّبَ قد أثمَرَ في العالَمِ، سواءٌ في الغَرْبِ أو الشَّرْقِ، وهو ما يُمكِنُ أن نُطلِقَ عليه بَوادِر «حربٍ عالميَّةٍ ثالثةٍ على أجزاءٍ»، بدَأَتْ تَكشِفُ عن وَجهِها القبيحِ في كثيرٍ من الأماكنِ، وعن أوضاعٍ مَأساويَّةٍ لا يُعرَفُ – على وَجْهِ الدِّقَّةِ – عَدَدُ مَن خلَّفَتْهم من قَتْلَى وأرامِلَ وثَكالى وأيتامٍ”[4].

في هذا السياق، تسعى هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على مفهوم الكراهية في خطاب تيار الإسلام السياسي، وتنقسم، لهذه الغاية، إلى ثلاثة محاور رئيسية يتناول أولها مفهوم الكراهية ومدلولاته، فيما يحدد ثانيها إشكالية الكراهية وخصوصيتها لدى تيار الإسلام السياسي، بينما يرصد ثالثها تجليات الكراهية ومظاهرها في خطاب الإسلام السياسي.

أولاً: مفهوم الكراهية

الكراهية شعور سلبي كامن قد تتعدد عناصره من الغضب، والنفور، والازدراء، والاستعلاء إلى التمييز والرغبة في العنف وأحياناً إبادة الآخرين. وتكمن خطورة الكراهية في تحولها لخطاب يدعو إلى العنف ويراهن عليه، ويتفاعل به الفرد مع العالم والآخر، وكذلك في تحولها إلى نسق وثقافة وفكر أيديولوجي أو إيماني تتشكل منه مواقف المؤمنين به وتصوراتهم وممارساتهم السلبية والخطيرة تجاه مجتمعاتهم أو العالم الخارجي، وهي بعض السمات التي يتسم بها خطاب الإسلام السياسي المعاصر في درجاته ومراحله المختلفة.

 وسنناقش في هذا المحور إشكاليتين رئيسيتين يعترضان، عموما، الباحث عند دراسة خطاب الكراهية، وعند جماعات الإسلام السياسي خاصة، وذلك على النحو التالي:

1-1 الكراهية… المفهوم والمدلولات

لا يوجد مصطلح ضابط متفق عليه في القانون الدولي لمفهوم الكراهية، لكن مدلول المفهوم واضح، ويمكن تلمسه في النزعات والممارسات التمييزية والعدائية تجاه الآخر والمختلف؛ على سبيل المثال، يُعرِّف مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي جريمة الكراهية بأنها “جريمة جنائية تُرتكَب في حق شخص أو ممتلكات أو مجتمع ويكون دافعها، كلياً أو جزئياً، هو تحيُّز الجاني ضد عرق أو دين أو إعاقة أو ميول جنسية أو أصل عرقي/قومي[5].

وتبدو الكراهية عملية متراكمة ومنتج نهائي لكتلة من المشاعر غير العقلانية والمعاني التي تتجلى في خطابات تتجسد في التطرف والعنف ومواقف غير تسامحية ولا إنسانية أو ازدرائية وحادة أو عنيفة تجاه الآخر، متنكرة للقيم الإنسانية المشتركة، وهو ما نراه يقترب من تعريف “مبادئ كامدن لحرية الرأي والتعبير” الذي عَرَّف الكراهية بأنها:

“حالة ذهنية تتسم بانفعالات حادة وغير عقلانية من العداء والمقت والاحتقار تجاه المجموعة المستهدفة”[6].

وقد تتعدد مظاهر الكراهية وتختلف حسب الزمان والمكان، وإن اتفقت فقط في موقفها من الآخر المختلف، داخلياً أو خارجياً، حيث يتمايز قاموسها من منطقة لأخرى، ومن بيئة إلى أخرى، فهي في الخطاب الأصولي ذي الإسناد الديني تركز على الأوصاف الدينية السلبية، كالكفر والفسوق والكبائر والمعاصي في وصف الآخر، وتتجسد في مبدأ الولاء والبراء عند جماعات التطرف والإرهاب، بينما تلتزم في الأيديولوجيات السياسية مفردات ذات طابع سياسي سلبي، مثل الخيانة والعمالة والوكلاء وصنائع الاستعمار والآخرين. وتركز مظاهر الكراهية لدى النزعات الشعبوية واليمينية على الهوية النقية للذات، في التمييز على أساس العنصر واللون، والصور النمطية السلبية للآخرين، كالموقف من السود والمهاجرين لدى جماعات اليمين في الغرب، أو الربط بين الإسلام والإرهاب عند اليمين المتطرف، وكذلك الربط بين المسيحية والاستعمار والحروب الصليبية والعداء المؤبد مع الآخر عند جماعات التطرف الإسلامي.

1-2 توجه عربي ودولي لتجريم الكراهية

ألزمت الشرعة الدولية، ممثلة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الدول بحماية المجتمعات من مخاطر الكراهية، ودعتها لتطوير التشريعات الوطنية لتجريم هذه الظاهرة، لكن من دون أن يشكل ذلك أي انتقاص من حرية التعبير تحت ذريعة التشدد في القوانين لحماية المجتمع والفئات المستهدفة بـ “خطاب الكراهية”[7].

ومن هنا زادت التوجهات نحو تطوير التشريعات الوطنية والإقليمية والدولية، لتجريم خطاب الكراهية، والتحريض على العنف والإرهاب خلال العقد الأخير. وشمل هذا مختلف دول العالم ومناطقه؛ فعلى المستوى العربي كانت تونس والإمارات من أولى الدول التي اتخذت هذا المنحى، فقد نص الدستور التونسي الصادر عام 2014 في فصله السادس على أن:

“تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها.”[8]

ويعاقب قانون مكافحة الإٍرهاب التونسي التكفير بالسجن مدة لا تقل عن سنة ولا تتجاوز خمس سنوات، لكن العقوبة قد تصل إلى 20 عاماً أو المؤبد إذا تسبب التكفير في إلحاق أضرار بدنية بالشخص المستهدف، أما إذا تسبب في وفاته فإن العقوبة هي الإعدام، ويعتبر المشرع التونسي أيضاً “الدعوة إلى التباغض بين الأديان والأجناس والمذاهب جريمة إرهابية”>

وتعتبر دولة الإمارات العربية المتحدة من التجارب الرائدة عربياً وإقليمياً في تجريم الكراهية والتمييز، إذ أصدرت في 15 يوليو 2015 المرسوم بقانون رقم 2 بشأن مكافحة التمييز والكراهية الذي يقضي بتجريم الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان ومقدساتها، ومكافحة أشكال التمييز كافة، ونبذ خطاب الكراهية عبر مختلف وسائل وطرق التعبير[9].

وفي خضم انتشار أعمال الإرهاب والعنف في السنوات الأخيرة، قامت بعض الدول الأوروبية باتخاذ إجراءات للحد من تصاعد نبرة خطاب الكراهية وانتشار أعمال العنف الناتجة عنه، فقد أقر البرلمان الفرنسي يوم 14 مايو 2020 قانوناً لمحاربة خطاب الكراهية على شبكة الإنترنت، وألزم هذا القانون منصات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث بإزالة أي محتوى يحرض على الكراهية، والعنف، والعنصرية، والتعصب الديني في غضون 24 ساعة، وإلا ستقع تحت طائلة التعرض لغرامة تصل إلى 1,25 مليون يورو[10].

كما انتبهت شركات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لخطورة خطاب الكراهية، بعد أن تحولت إلى ساحة مفتوحة تستخدمها حركات التطرف والإرهاب، مثل تنظيمي القاعدة وداعش، وبعد أن تصاعد خطاب اليمين المتطرف والشعبوي في كل اتجاه غرباً وشرقاً. وأعلن، في هذا الصدد، موقع “تويتر” في بيان أصدره في 3 ديسمبر 2020 عن توجهه لتوسيع إجراءات مكافحة خطابات الكراهية القائمة على الاختلافات العرقية، من خلال: “حظر استخدام اللغة التي تحط من كرامة الإنسان على أساس العرق أو الأصل القومي”[11].

ثانيا: إشكالية الكراهية وخصوصيتها لدى تيار الإسلام السياسي

اتسم خطاب تيار الإسلام السياسي في كثير من جوانبه بالكراهية، الأمر الذي أدى إلى تنامي خطورة هذا التيار على المجتمعات والدول التي يتواجد فيها، ورغم أن تيارات أخرى تبنت بدرجة أو بأخرى خطاب الكراهية، فإن هذه التيارات، أو بعضها، ما لبث أن تراجع عن ذلك فيما استمر تيار الإسلام السياسي في تمسكه بهذا الخطاب.

  • خصوصية خطاب الكراهية لدى تيارات الإسلام السياسي:

تستمد دراسة مضامين الكراهية في خطاب تيار الإسلام السياسي خصوصيتها من ثلاثة أسباب رئيسية يمكن تحديدها على النحو التالي:

أ – شمولية خطاب الكراهية لدى تيارات الإسلام السياسي مقارنة بغيره من التيارات الأخرى القومية أو اليمينية، فبينما تركز التيارات الأخرى على كراهية جماعات محددة يتسع خطاب الكراهية لدى الإسلام السياسي ليشمل الآخر المختلف دينياً ومذهبياً وأيدولوجياً وعلى المرأة، والآخر المختلف على أساس النوع، والجندر، والمذهب، والفكر، وعلى الملة والنحلة معاً، وعلى كل ما هو غربي أو داع له، فكلاهما كُفر وحرام، كما كتب الراحل عبد القديم زلوم، الأمير الثاني لـ “حزب التحرير الإسلامي” في مقتبل الثمانينيات[12].

ب – يمثل خطاب الكراهية لدى تيارات الإسلام السياسي الجسر الذي يربطها بجماعات التطرف والإرهاب، حيث تعد الكراهية، كمبدأ وجوهر ورؤية، جامعاً ورابطاً مهما بين جماعات الإسلام السياسي وجماعات الإرهاب والتطرف العنيف، فهذا الخطاب يتيح لهذه الجماعات التحول بين درجاتها من الدعوة والتجنيد للعنف الفردي والجماعي إلى ممارسة الإرهاب، كما تمثل خطابات الكراهية لدى تيارات الإسلام السياسي الأساس الذي تبني علية جماعات الإرهاب والتطرف رؤيتها لشرعية ممارساتها العنيفة. كما تتيح هذه الرؤية لهذه الجماعات التنسيق والتحالف في ما بينها على غرار ما شهدنا في فترات عديدة من الصراع مع الأنظمة في سوريا وفي مصر وفي العراق وفي تونس بعد عام 2011.

فعلى سبيل المثال، عندما سقط حكم الإخوان المسلمين في مصر، وجدنا تحالفاً وتنسيقاً باسم “التحالف الوطني لدعم الشرعية” يضم بعض قيادات من الجماعة الإسلامية المصرية الذين عادوا عن مراجعاتهم، ورحبوا بالعنف والمواجهة، يشن حربا على دولة ما بعد 30 يونيو سنة 2013، ولاحظنا نشاطاً كبيراً للعنف في سيناء من قبل جماعة أنصار بيت المقدس – داعش سيناء في ما بعد –، قال عنه القيادي الإخواني محمد البلتاجي إنه لن يتوقف حتى عودة الرئيس المخلوع محمد مرسي إلى الحكم[13].

ونجد التنسيق نفسه في الحالة السورية، فبعد تأجج صراعات الجهاديين في سوريا، حدث “تحالف مصلحة” بين الإخوان المسلمين و”جبهة النصرة” في كثير من الأحيان، حيث نقلت الأخيرة الأسلحة وقدمت الدعم الإغاثي لأعضاء فيلق الشام الممثل لجماعة “الإخوان” في سوريا، في المقابل، وافق “الإخوان” على عدم الترويج لنشاطهم العقائدي أو الديني في الجمعيات أو المؤسسات الدينية أو المساجد التي تديرها جبهة النصرة، التي عُرفت لاحقاً بـ “هيئة تحرير الشام”. كما أتاح هذا التحالف لجماعة الإخوان الحفاظ على وجودها في سوريا في الوقت الذي تم فيه القضاء على جماعات أخرى. كذلك عاد هذا التحالف بالنفع على “هيئة تحرير الشام” أيضاً؛ إذ حصلت على دعم الإخوان في حربها ضد الجماعات الجهادية التي عارضتها، مثل “جند الأقصى” و”خلايا داعش”، وضمنت حياد الإخوان في صراعها مع الفصائل الثورية الأخرى، بما في ذلك “درع الفرات” و”أحرار الشام” وحركة الزنكي[14].

ج – شكل خطاب الكراهية واحداً من أهم عوامل فشل الإسلامويين، وهو ما بدا واضحاً في حالة مصر عندما تولوا الحكم، فقد كان هذا الخطاب أهم دوافع الثورات والاحتجاجات التي قامت وأسقطت حكم الإخوان في مصر عام 2013، حيث استشعرت مصر خطر هذا الخطاب، واستنفرت قواها وشعبها ومؤسساتها ضد الجماعة ورئيسها وسياساته التي تجلت فيها الكراهية ضد الآخر الديني والسياسي والفكري، وهو ما بلغ أوجه عام 2013 في مهاجمة البطريركية – مقر البابوية الأرثوذكسية – والاعتداء عليها، ومن قبل في تمرير الدستور دون أدنى اعتبار لانسحاب ممثلي الكنائس الثلاث منه واعتراضاتهم عليه سنة 2012 .

  • الإسلام السياسي وإشكالية التعارض الظاهري بين تجريم الكراهية والحق في التعبير

ثمة تعارض شكلي يره البعض بين منع أو تقييد خطاب الكراهية من جهة والحق في حرية الرأي والتعبير من جهة أخرى. وتسعى جماعات الإسلام السياسي إلى توظيف هذا التعارض من أجل تحجيم توجهات الدول والمؤسسات لتقييد خطابها الذي يحض على الكراهية، غير أنه لا يمكن الاعتداد بما تروجه جماعات الإسلام السياسي من أن تقييد خطابها المحرض على الكراهية يتعارض مع حرية الرأي والتعبير، إذ أن هذه الجماعات تمارس ازدواجية واضحة في خطابها وسلوكها.

فمن ناحية، تتبنى خطاباً يحض على ارتكاب العنف، وتسارع – من ناحية أخرى – إلى إدانة هذا العنف والتبرؤ منه عندما يقع. وأبرز مثال على هذه الازدواجية، إعلان مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا تبرؤه من أعضاء النظام الخاص بعدما قاموا باغتيال رئيس وزراء مصر محمود فهمي النقراشي في 28 ديسمبر 1948، وذلك برغم أن هؤلاء الأعضاء نفذوا رغبة البنا بعدما حل النقراشي الجماعة في 3 ديسمبر 1948 أي قبل أسابيع قليلة من اغتياله، وهو ما وصفه زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في كتابه” الحصاد المر” خيانة وشذوذاً وجبناً غير مبرر[15].

وفي سياق الرد على اعتداد تيار الإسلام السياسي بحرية الرأي والتعبير، يمكن الإشارة إلى ثلاثة أحداث عنف قام بها هذا التيار – بشقيه السني والشيعي – وترتبت على خطاب الكراهية: –

  • فتوى الخميني في 14 فبراير 1989 بإهدار دم الروائي البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي، بسبب كتابه “آيات شيطانية”، حيث حض الخميني “مسلمي العالم على المسارعة إلى إعدام المؤلف وناشري الكتاب” حتى “لا يجرؤ أحد بعد ذلك على إهانة مقدسات الإسلام”، وأفتى بأن من سيقتل رشدي سيكون مصيره الجنة، وحدد مكافأة قدرها 2,8 مليون دولار لمن يقوم بذلك.
  • اغتيال متطرفين إسلاميين المفكر المصري فرج فودة في 8 يونيو سنة 1992، بعد إصدار فتوى بتكفيره في ضوء مواقفه وآرائه المناهضة للإسلاميين، وما ترتب على ذلك من حملة كراهية ضده أطلقتها جماعات الإسلام السياسي في هذه الفترة[16].
  • الاعتداء على الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ ومحاولة اغتياله في أكتوبر سنة 1995 من قبل متطرفين إسلاميين، لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة، بسبب روايته “أولاد حارتنا” التي أثارت جدلاً شديداً، في ضوء اعتراضات على “تطاوله على الذات الإلهية”[17].

ثالثا: تجليات الكراهية في خطاب تيار الإسلام السياسي

يتجلى خطاب الكراهية بوضوح في عدد من القضايا التي سعى منظرو تيار الإسلام السياسي إلى حسم مواقف التيار منها، وذلك على النحو التالي:

3-1 مفهوم الوطن

يرى منظرو الإسلام السياسي أن الدولة الإسلامية هي المُعبرة وحدها عن الأمة. كما يرى أن إقامة هذه الدولة شرطا لاستئناف الحياة الصحيحة، حيث يقول تقي الدين النبهاني، مؤسس حزب التحرير الإسلامي: “إن المجتمع الإسلامي يعيش حياة غير إسلامية، ويعيش وفق طراز من العيش يتناقض مع الإسلام”[18].

ولا يرى سيد قطب أيضا أن الأمة قائمة بحد ذاتها، أو حاضنة للدين ولغيره من اختيارات العقائد والأفكار، بل يرى الدين منشئاً للأمة وقواماً عليها، حيث يقول: “هذا الدين جاء لينشئ أمة ذات طابع خاص متميز متفرد‏.‏ وهي في الوقت ذاته أمة جاءت لقيادة البشرية، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإنقاذ البشرية مما كانت تعانيه من القيادات الضالة، والمناهج الضالة، والتصورات الضالة “[19].

كما لا يعتمد سيد قطب إلا وصف “الوطن الإسلامي”، و”دار الإسلام” كتعبير عن علاقة الأمة ببعضها، ويعتبر الرابطة الوطنية من العقائد المغايرة، بل والمضادة للإسلام وليست مقبولة في” الوطن الإسلامي”، وأن على أصحابها أن يتحرجوا من ذكرها حيث أنهم يريدون إحلال هذه الروابط الاجتماعية أو الوطنية أو القومية محل العقيدة الدينية[20].

وجاءت، ارتباطاً بهذا، انتقادات أيمن الظواهري لمفهوم الوحدة الوطنية، حين يقول: “إن تقديس الوحدة الوطنية ثمرة خبيثة من ثمرات سايكس بيكو التي قسّمت الأمة المسلمة لأسلاب متفرقة نهباً لتركة الدولة العثمانية”[21].

وفق هذا الحضور السلبي لمفهوم الوطن والوحدة الوطنية لدى منظري تيار الإسلام السياسي، يمكننا تفهم حالة مرشد الإخوان الراحل محمد مهدي عاكف حين أهان مصر، واعتبر أن جماعته أكبر منها في حوار له تم تسجيله مع أحد الصحافيين المصريين[22].

3-2 مفهوم المواطنة والموقف من غير المسلمين 

يتبنى تيار الإسلام السياسي، في ضوء هذا المنظور السلبي لفكرة الوطن، عدداً من المفاهيم التي تصطدم وتهدد السلم والهوية الوطنية للمجتمعات، من قبيل الانتماء إلى العقيدة والفهم المنغلق لمرجعيتها، المعروفة بالولاء والبراء. وكلها مفاهيم تعادي مفهوم التعايش المدني والاجتماعي، وتكتفي بـ ” الجماعة المسلمة” كبديل لمفهوم المواطنة. كما ترفض كل ما قد يخالف تصورها المنغلق للعلاقة بين الجماعة الوطنية والشريعة والأمة، من قبيل الديمقراطية والتسامح.

ولا يقبل منظرو الإسلام السياسي، من البنا والمودودي حتى الآن، أيا من القيم الاجتماعية أو المدنية أو الحداثية بما فيها الديمقراطية أو المواطنة إلا في إطار من الشريعة والمرجعية الدينية، إذ يقول المودودي مثلا: “إن الحكومة في الدولة الإسلامية لا يُسير دفتها إلا الذين يؤمنون بمبادئها، وإن جاز لها أن تستخدم غير المؤمنين لشؤونها الإدارية، إلا أنه ليس لها أن تقلدهم في نظامها مناصب القيادة والحل والعقد”[23]. ويضيف مؤكداً على التمييز بين المسلمين وغير المسلمين في الدولة الإسلامية بالقول: “إن الدولة الإسلامية مضطرة إلى أن تميز بين المسلمين وغير المسلمين تمييزاً واضحاً، وتحدد صراحة الحقوق التي تخولها غير المسلمين والتي لا تستطيع أن تخولهم إياها”[24].

3-3 العلاقة مع العالم والغرب

لا يتخيل تيار الإسلام السياسي في طرحه وخطابه العلاقة بالعالم إلا علاقة صراعية، حتى إن تم توظيف هذه العلاقة أحياناً في أغراض خاصة من قبل بعض جماعاته، فالكامن والمستمر هو الرغبة في الحرب والانتصار، وتفسير كل الإشكاليات الاجتماعية والسياسية مع الغرب في سياقات ماضوية تستند لعصور الخلافة التاريخية، وإلى النظرة التآمرية إلى هذا العالم أو السعي لأستاذيته كما كان يقول حسن البنا، أو اعتباره الشيطان الأكبر والدعوة بالموت لأمريكا وإسرائيل على غرار شعار الخميني ومن تبعه حتى الآن.

وقد استمرت هذه الرؤية على مدار سنوات وعقود وعبر عنها العديد من منظري تيار الإسلام السياسي، لعل أكثرهم وضوحاً في الإخواني سعيد الغامدي الذي أكد على رفضه الحوار والانفتاح الثقافي على الغرب، معتبراً أن هذه الأمور بمثابة “حيل منصوبة تلحق صاحبها المسلم بالملحدين والمرتابين والمقلدين لأوروبا”[25]. كما يرفض الغامدي بعض القيم التي نشأت في الغرب مثل العلمانية التي يقول إنها هي “الشرك الأكبر في هذا العصر”[26]، والديموقراطية الغربية التي وصفها بأنها “جاهلية وشرك يقوم فيه البشر بالحاكمية والتشريع الذي هو حق لله[27].

وتتضح هذه النظرة الرافضة للغرب في رسالة اللاجئ الشيشاني الشاب عبد الله أنزروف التي تركها عقب قتله المدرس الفرنسي صامويل باتي، في أكتوبر 2020، حيث قال “بسم الله الرحمن الرحيم… إلى ماكرون زعيم الكفار، أعدمت أحد كلاب الجحيم التابعين لك الذي تجرّأ واستخفّ بالنبي محمد”. هذه باختصار ملابسات واقعة قتل المدرس باتي على إثر نقاش أثاره في المدرسة التي يعمل فيها بين الطلاب وعرض فيه مجموعة من الصور المسيئة للإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم[28]. ويتجلى في هذه الرسالة خطاب الكراهية الذي دأبت جماعات الإسلام السياسي على بثه ونشره وسط الجاليات المسلمة التي تعيش في الدول الغربية.

3-4 الشك في الآخر وتخوينه

لا يرى تيار الإسلام السياسي الآخر إلا ضداً أو عدواً، سواء الآخر الداخلي الوطني أو الآخر الخارجي البعيد، ومن هنا كان إصرار جماعة الإخوان المسلمين على اتهام الكنيسة القبطية في مصر بالخيانة لمجرد تأييدها للثورة ضد حكم الإخوان عام 2013، وهذا ما رصدته منظمات حقوقية مصرية مستقلة حينها، حيث وقع 44 هجوماً على كنائس ومؤسسات مسيحية في الشهور الأولى بعد سقوط حكم الإخوان، وحرض قادتهم ضد قيادات الكنيسة قائلين إنهم يعطون أنصارهم انطباعاً بأن الأقباط يقفون مع الجيش لعزل الرئيس الإسلامي محمد مرسي من الحكم[29].

وكثيرة هي الحوادث التي يمكن تلمسها في هذا الاتجاه سواء في مصر وتونس، أو في اليمن والعراق، مع الإسلام السياسي السني والشيعي المسلح، حيث اغتيال المعارضين، واستهداف المعارضات المدنية ورفض الاختلاف معها وتهميش التسامح السياسي من أجندتها.

5- ازدراء المرأة

تتبنى جماعات الإسلام السياسي موقفاً ازدرائياً من المرأة بدت ملامحه بوضوح في تصريحات أطلقها نائب تونسي قريب من حركة النهضة الإسلامية؛ ففي شهر ديسمبر 2020، وصف النائب محمد العفاس المرأة بأنها “سلعة“، وهاجم المنظمات التي تدافع عن حقوق النساء وحريتهن، مشيراً إلى أنها “تجعل من المرأة سلعة رخيصة مكشوفة لكل من هبّ ودبّ” وهو ما استنكرته المنظمات والجمعيات النسوية في بياناتها، منددة بما تضمنته الكلمة من تعبيرات مهينة وبشعة وتمييزية للنيل من كرامة المرأة كمواطنة كاملة الحقوق والواجبات، معتبرةً ذلك تنكراً لما يقر به الدستور والقوانين عن مكانة المرأة التونسية ودورها في المجتمع[30].

 خاتمة:

ما زالت مجتمعاتنا ترزح تحت نظرة أيديولوجية، لا تعترف بحق الاختلاف للمسلمين أو غير المسلمين، بل ما زالت المجتمعات المسلمة بفضل هذه الثقافة التي بثتها تيارات الإسلام السياسي أسيرة نظرة الاستعلاء على العالم وتعتقد في أستاذيته، دون تعايش وتسامح وتفاعل حقيقي أقرته النصوص الإسلامية كما عرفته حضارتها.

وبعد سقوط تجارب الإسلاميين في الحكم، خاصة في مصر، رغم مصارعتهم البقاء بالسلاح في ليبيا وسوريا والعراق، وغيرها، فإنهم يواصلون العمل على نشر خطاب الكراهية في الجسد الوطني لدول عدة من خلال ممارساتهم الكلامية والتواصلية، بدءاً من الشماتة في الموت إلى الشماتة في المرض، وحتى الشماتة في ما يرونه مصائب الأوطان، بل والترحيب أحياناً بالخطر الخارجي عليها، خاصة بعد أن صارت تركيا قبلة رمزية للإسلاميين، مما كرس كراهيتهم لمجتمعاتهم.

ولفهم تأثير خطاب الكراهية لدى الإسلام السياسي الذي يتبادل أدواره وينسقها مع التيار الجهادي العنيف في مراحل مختلفة في العالم العربي، يمكن النظر إلى حالات العنف والإرهاب التي تشهدها هذه المنطقة التي تحتفظ وحدها بأربعة أخماس العمليات الإرهابية في العالم منذ عقدين، وتنشط فيها الفتاوى التكارهية ضد المعارضين والرافضين لفكر الإسلامويين وتوجهاتهم.

المراجع

[1]  سيد قطب، “عدونا الرجل الأبيض”، مجلة الرسالة، عدد رقم 1009، 3 نوفمبر 1953.

[2]  د. عماد بوظو، “المسؤولية القانونية عن خطاب الكراهية”، موقع قناة الحرة، 28 أكتوبر 2020، على هذا الرابط.

[3]  د. راشد المبارك، التطرف خبز عالمي (دمشق، دار القلم، الطبعة الأولى، 2006)

[4] يمكن مراجعة نص وثيقة الأخوة الإنسانية على بوابة حكومة الإماراتية على هذا الرابط.  

[5] Michael Shively, Study of Literature and Legislation on Hate Crime in America, June 2005, https://www.ncjrs.gov/pdffiles1/nij/grants/210300.pdf

[6]  يمكن مراجعة مبادئ كامدن لحرية الرأي والتعبير التي صدرت عام 2009 على الرابط التالي:

https://www.article19.org/ar/resources/camden-principles-freedom-expression-equality/

[7]  شيماء الهواري، “مفهوم الكراهية في الشرعية الدولية”، موقع المركز الديموقراطي العربي، 17 أكتوبر 2017،  https://democraticac.de/?p=50107

[8] يمكن مراجعة نص الدستور التونسي على هذا الرابط

[9] أنظر نص المرسوم بقانون رقم 2 لسنة 2015 بشأن التمييز والكراهية، ويمكن مراجعة نصه  على هذا الرابط.

[10]  “البرلمان الفرنسي يصادق على قانون تجريم خطاب الكراهية على الإنترنت”، موقع فرانس 24، 14 مايو 2020، على هذا الرابط

[11]  “تويتر تتخذ إجراءات جديدة ضد خطابات الكراهية”، موقع سبوتنيك، 3 ديسمبر 2020، على هذا الرابط

[12]  عبد القديم زلوم، الديمقراطية نظام كفر يحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها، طبعة حزب التحرير سنة 1992، يمكن مطالعته على هذا الرابط

[13] انظر تصريحات محمد البلتاجي وتهديده باستمرار العنف في سيناء حتى عودة محمد مرسي، العربية نت، بتاريخ 8 يوليو سنة 2013 ويمكن مراجعتها على هذا الرابط

[14]  سلطان الكنج، “التحرّك المقبل للإخوان المسلمين في سوريا”، موقع تشاتام هاوس عربي، أكتوبر 2018 على الرابط التالي: https://syria.chathamhouse.org/ar/research/2018/the-muslim-brotherhoods-next-move-in-syria

[15]  أيمن الظواهري، الحصاد المر: الإخوان المسلمون في ستين عاماً ( د. م، منشورات منبر التوحيد والجهاد، 1988).

[16] أحمد عبد الحكيم، “قصة المناظرة التي قتلت المفكر المصري فرج فودة”، موقع إندبندنت عربية، 10 يونيو 2019، على الرابط https://bit.ly/2NCEWlO

[17]  “في ذكرى ميلاده.. تعرف على أسباب محاولة اغتيال الاديب نجيب محفوظ”، صحيفة اليوم السابع، 11 ديسمبر 2019، على الرابط  https://bit.ly/37nVG7j

[18]  تقي الدين النبهاني، الدولة الإسلامية (بيروت، دار الأمة، الطبعة السابعة، 2002) ص 238.

[19]  سيد قطب، خصائص التصور الإسلامي، (القاهرة، دار الشروق، د. ت) ص 6.

[20] سيد قطب، المستقبل لهذا الدين، طبعة منبر التوحيد والجهاد، نسخة إلكترونية ص 8، ويمكن الاطلاع عليها على الرابط

 http://www.ilmway.com/site/maqdis/MS_26593.html

[21] أيمن الظواهري، مجموعة أبحاث ورسائل وتوجيهات، طبعة منبر التوحيد والجهاد، سنة 2010، ص 5، يومكن الاطلاع عليها على الرابط http://www.ilmway.com/site/maqdis/index.html

[22]  “بالفيديو.. مهدي عاكف: «طُز» فى أى شخص يرفض الحكم الإسلامي بمصر”، صحيفة الشروق المصرية، 11 أغسطس 2012، على هذا الرابط

[23] أبو الأعلى المودودي ، حقوق أهل الذمة، كتاب المختار، بدون تاريخ ص 7، 8. على هذ االرابط

[24]  المصدر السابق، ص 8.

 [25]  سعيد الغامدي، الانحراف العقدي في أدب الحداثة، دراسة نقدية شرعية ( د.م، دار الأندلس الخضراء، الطبعة الأولى، 2007) ص 15

[26]  د. سعيد الغامدي، حزب البعث، طبعة إليكترونية، ًص 128، ويمكن الاطلاع عليها على هذا الرابط

[27]  د. سعيد الغامدي، الانحراف العقدي في أدب الحداثة مصدر سابق، ص ص 21-78.

[28]  د. عماد بوظو، المسؤولية القانونية عن خطاب الكراهية، مصدر سابق.

[29] “ازدياد العنف ضد الأقباط في مصر”، موقع دويتشه فيله الألماني، 23 يوليو 2013.  https://bit.ly/3u4dWfP

[30]  “خطاب الكراهية الإخواني يستهدف المرأة ويثير غضب التونسيين”، موقع كيوبوست، 10 ديسمبر 2020، على هذا الرابط 

المواضيع ذات الصلة