في تطور نوعي حَظِي بدعم وترحيب دوليَّين واسعيَن، عُقدت انتخابات المجالس البلدية الليبية في السادس عشر من نوفمبر الجاري، حيث توجه نحو 200 ألف ليبي نحو صناديق الاقتراع؛ في مسعى لكسر حاجز الانقسام والجمود السياسيَّين في أول اقتراع محلي يتم إجراؤه في عموم البلاد، بالتزامن للمرة الأولى منذ 10 سنوات. شملت المرحلة الأولى من الانتخابات 58 بلدية في المناطق الشرقية والغربية والجنوبية، بنسبة مشاركة أولية تجاوزت في المرحلة الأولى 74%[1]، على أن تُجرى المرحلة الثانية من الانتخابات في الأول من يناير العام المقبل. وقد شكّلت نسبة المشاركة العالية في الانتخابات، وجاهزية القوات الأمنية في تأمين مقارها، نموذجًا يمكن العمل به في الانتخابات الوطنية مستقبلًا، واعتُبِرت خطوة مهمة نحو حلحلة الأزمة السياسية، التي طال أمدها.
تناقش هذه الورقة أبرز التحديات الراهنة، التي عرقلت التوصل إلى تفاهمات سياسية في الداخل الليبي حول قوانين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، والتطورات الميدانية التي أسهمت في تعميق الانقسام، كما تناقش مآلات الأزمة في المدى المنظور، في ظل المعطيات الحالية.
أبرز التحديات:
شهدت ليبيا تطورات سياسية متسارعة، خلال الفترة الأخيرة، من شأنها أن تسهم في تفاقم الأزمة السياسية في البلاد، وذلك على النحو الآتي:
-
الهيئات الموازية: في خطوة تعمّق من الانقسامات السياسية، أصدر رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، قرارًا في أغسطس 2024، بدعم من رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة، يقضي بتشكيل “مجلس إدارة المفوضية الوطنية للاستفتاء والاستعلام الوطني”، برئاسة عثمان أبوبكر القاجيجي، الرئيس الأسبق للمفوضية العليا للانتخابات[2]. ومن المزمع أن يتولى المجلس تنفيذ الاستفتاءات والاستعلامات الوطنية، التي يحددها المجلس الرئاسي. ردًا على هذا التطور، سارع مجلس النواب إلى تأكيد بطلان هذا القرار، باعتباره مخالفًا للإعلان الدستوري، واصفًا تلك الخطوة بالخطيرة وغير المبررة.
بهذا القرار، تُعد المفوضية الوطنية للاستفتاء والاستعلام الوطني هيئة موازية للمفوضية الوطنية العليا للانتخابات، وهي الجهة الوحيدة التي تتولى تنظيم وإدارة العملية الانتخابية في ليبيا، بموجب القانون رقم 8 لسنة 2013. ويبدو أن قرار تشكيل المفوضية الموازية يأتي في إطار الصراع المستمر لفرض الإرادات السياسية بين قوى الشرق والغرب، والرغبة في توظيف وجود معظم الناخبين في ليبيا في المنطقة الغربية، ذات الكثافة السكانية الكبرى في الاستفتاءات، التي يقرها المجلس الرئاسي وحكومة الدبيبة.
من جانب آخر، من المستبعد أن يُطبَّق قرار المنفي في المناطق الشرقية، التابعة لنفوذ قائد القوات المسلحة، خليفة حفتر، بالإضافة إلى المناطق الجنوبية وبعض المدن الغربية؛ وبالتالي من شأن هذه الخطوة أن تعزز من الانقسامات الجهوية. ويبدو أنها تأتي في سياق تدوير الأزمة السياسية من جانب مختلف الأطراف؛ لإبقاء الوضع الراهن. فقانونيًا، لا يجوز إجراء أي استفتاء وطني من دون موافقة مجلس النواب.
-
البعثة الأممية إلى ليبيا: لا شك في أن تفاقم حدة الصراعات الجيوسياسية، التي يشهدها العالم بين القوى الكبرى، ينعكس على ملفات عدة في مجلس الأمن، أبرزها الأزمة الليبية. في أكتوبر الماضي، صوَّت مجلس الأمن الدولي على مشروع قرار تجديد مهمة البعثة الأممية في ليبيا لثلاثة أشهر حتى 31 يناير 2025، على أن تمدد البعثة ولايتها تلقائيًا لـ 9 أشهر إضافية، في حال تم تعيين مبعوث أممي جديد إلى ليبيا[3]. ومنذ استقالة عبدالله باتيلي، المبعوث الأممي السنغالي، في أبريل الماضي، ظل المنصب شاغرًا.
تعكس استمرارية شغور المنصب غياب توافق القوى الكبرى والفاعلة في الأزمة الليبية في مجلس الأمن في هذا الملف لتباين المصالح الاستراتيجية والاقتصادية. وبالرغم من محدودية صلاحيات البعثة على أطراف الأزمة، فإنها لها تأثيرًا جوهريًا في بناء أرضية مشتركة للتوصل إلى تفاهمات بين القوى الخارجية والفاعلة في الملف الليبي، والقوى السياسية في الداخل، بالإضافة إلى تحريك جمود العملية السياسية، والبناء على الجهود الدولية والأممية السابقة. وبالتالي، لا شك في أن غياب التوافق على مبعوث أممي حتى الآن يعرقل حلحلة الأزمة.
- التحركات الأحادية: تستمر حدَّة الخلافات بين مجلس النواب ورئيس حكومة الوحدة الوطنية في التفاقم؛ ففي آخر صدام بين الطرفين صوَّت مجلس النواب، في أغسطس الماضي، لمصلحة سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، التي يرأسها عبدالحميد الدبيبة، وإعادة صلاحيات القائد الأعلى للجيش إلى رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح[4]. ويُعد قرار سحب الثقة هو الثاني من نوعه لمجلس النواب؛ ففي العام نفسه من تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، المنبثقة من ملتقى الحوار السياسي، الذي عُقد في جنيف عام 2021، قرر مجلس النواب، بعد أشهر من تشكيل الحكومة، التصويت لمصلحة سحب الثقة منها، وتكليف حكومة، في خطوة اعتُبِرت حكومة موازية للحكومة الشرعية في البلاد. ولم تستطع الحكومة في ذلك الوقت، برئاسة فتحي بآشاغا، حشد شرعية دولية، وفشلت أيضًا في الحصول على الميزانية. وفي مارس 2022، كلَّف مجلس النواب مرة أخرى حكومة جديدة، برئاسة أسامة حماد.
- التمسك بالسلطة: لا شك في أن موقف رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة، يُعقِّد حلحلة الأزمة، وتحديدًا في ظل تحالف القوى السياسية في الداخل المناوئة لحكومته، وتباين المواقف الدولية الفاعلة في الملف الليبي تجاه ذلك، واستمرارية تمسكه بالسلطة؛ حيث يصعب التنبؤ بأي مدى لحكومة الدبيبة أن تتحمل تلك التحالفات، قبل أن تنزلق البلاد لفوضى أمنية.
-
انتخاب خالد المشري لرئاسة المجلس الأعلى للدولة: تُشكِّل عودة خالد المشري لرئاسة المجلس الأعلى للدولة تحولًا في المشهد السياسي بالبلاد، حيث انتخب المجلس الأعلى للدولة، في أغسطس الماضي، خالد المشري رئيسًا له، خلَفًا لمحمد تكالة، الذي تمت الإطاحة به، بعد عام فقط من توليه رئاسة المجلس. وهذه المرة السادسة التي يفوز فيها المشري برئاسة المجلس الأعلى للدولة، بعد أن تولى المنصب لمدة 5 مرات متتالية من 2018 إلى 2022[5].
ويبدو أن فوز خالد المشري بالانتخابات يُكثِّف من الضغوط على حكومة عبدالحميد الدبيبة لتخلِّيها عن السلطة. فقد نجحت حكومة الدبيبة في توظيف مواقف الرئيس السابق للمجلس الأعلى للدولة، محمد تكالة، الرافضة لدعم خريطة الطريق لمجلس النواب، والقوانين الانتخابية، التي أقرتها لجنة 6+6 المشتركة؛ لتمديد فترة بقائها في السلطة.
وعلى النقيض من “تكالة”، يدعم خالد المشري تشكيل حكومة جديدة تقود البلاد للانتخابات الوطنية، وإزاحة حكومة عبدالحميد الدبيبة من المشهد، ويؤيد العمل المشترك مع مجلس النواب؛ لتبنّي خريطة طريق تقود للانتخابات، وفقًا للقوانين، التي أقرتها اللجنة المشتركة بين المجلسين 6+6.
ويبدو أن من بوادر إيجاد الفوضى السياسية لعرقلة أي توافقات مستقبلية بين رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، حول حكومة موحدة والانتخابات الوطنية، رفضَ محمد تكالة نتائج جلسة تصويت المجلس الأعلى للدولة، التي فاز خلالها خالد المشري برئاسة المجلس، معلنًا فوزه برئاسة المجلس الأعلى للدولة، وسط اعتراض المشري. جاء هذا التصعيد في 12 نوفمبر، تزامنًا مع إغلاق متظاهرين من مدينة الزنتان (غرب) صمام حقل الرياينة للنفط والغاز، الذي يُعد أكبر خط نفطي في البلاد[6].
- مؤشرات تحول الموقف المصري تجاه حكومة الدبيبة: ما بدَّد آمالَ حكومة الدبيبة في حصولها على دعم القاهرة، استقبالُ رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، رئيسَ وزراء حكومة شرق ليبيا، أسامة حماد، في مدينة العلمين غربي مصر، حيث سارعت وزارة الخارجية بحكومة الوحدة الوطنية الليبية (التي تحظى بشرعية دولية) إلى إصدار بيان أعربت فيه عن رفضها استقبالَ الحكومة المصرية ما سمَّته “الأجسام الموازية التي لا تحظى بالاعتراف الدولي بشكل رسمي”[7].
- فقد جدد استقبال الجانب المصري عبدالحميد الدبيبة، في يوليو الماضي، بعد انقطاع دام 3 سنوات، الآمالَ لدى رئيس الحكومة بحصوله على دعم الجانب المصري، إلا أن استقبال أسامة حماد بدَّد طموحات “الدبيبة” بتأمين دعم القاهرة السياسي لحكومته. ونظرًا لمحورية الدور المصري في حلحلة الأزمة الليبية، فقد حرص “الدبيبة” على تعزيز العلاقات مع القاهرة من خلال تقديم امتيازات اقتصادية خلال الفترة الأخيرة لمشروعات تجاوزت قيمتها 4.5 مليارات دولار[8]. وكرد فعل على أي تحرك داخلي وإقليمي لدعم شرعية حكومة “حماد” على حساب حكومة “الدبيبة”، قد تواجه البلاد فوضى أمنية تقف وراءها القوى الأمنية، تنذر بالعودة إلى مربع الاقتتال.
الخاتمة:
في ظل التحديات الأمنية والانقسامات السياسية في الداخل الليبي، شكَّل النجاح النسبي، الذي حققته الانتخابات البلدية، بارقة أمل حول جاهزية البلاد لخوض الاستحقاقَين الانتخابيَّين، الرئاسي والبرلماني، ودفع البلاد نحو مرحلة جديدة تكون أكثر استقرارًا وانسجامًا مع تطلعات الشعب الليبي، إلا أن تحقيق ذلك يبقى مرهونًا بوجود الإرادة السياسية لدى جميع الأطراف الفاعلة في الأزمة.
ومع دخول المجلس الأعلى للدولة مرحلة عدم استقرار؛ بسبب خلاف خالد المشري ومحمد تكالة حول رئاسة المجلس، وتزايد المخاوف بتجميد دوره السياسي، يبقى التوافق على قوانين انتخابية تقود البلاد إلى الاستحقاق الوطني مؤجلًا إلى أجل غير مسمى، بالنظر إلى الدور المحوري للمجلس الأعلى للدولة في التوافق على القوانين الانتخابية، باعتباره «الغرفة الثانية للتشريع في البلاد».
[1] “انتخابات بلدية في عموم ليبيا للمرة الأولى منذ 10 سنوات”، موقع الجزيرة، 16 نوفمبر 2024، https://shorturl.at/c2A62
[2]“المنفي يشكل مجلس إدارة مفوضية الاستفتاء والاستعلام الوطني”، بوابة الوسط الليبية، 06 سبتمبر 2024، https://alwasat.ly/news/libya/450600
[3] “رئيس مجلس النواب الليبي يرحب بتجديد مهمة البعثة الأممية”، موقع روسيا اليوم، 31 أكتوبر 2024، https://shorturl.at/C8AtT
[4] “برلمان طبرق يسحب الثقة من حكومة الدبيبة”، موقع الجزيرة، 13 أغسطس 2024، https://shorturl.at/Q5B65
[5] “ليبيا.. المشري يعود لرئاسة المجلس الأعلى للدولة”، موقع العربية، 06 أغسطس 2024، https://shorturl.at/gAyzy
[6] “تصاعد أزمة “الدولة” الليبي بعد إعلان تكالة فوزه”، صحيفة الشرق الأوسط، 12 نوفمبر 2024، https://shorturl.at/UKVVq
[7] “بعد زيارة أسامة حماد.. حكومة الوحدة في ليبيا ترفض استقبال مصر لـ”أجسام موازية”، 11 أغسطس 2024، https://shorturl.at/vYRvN
[8] “بمليارات الدولارات.. 4 شركات مصرية كبرى تشارك في إعادة إعمار ليبيا”، 11 يوليو 2024، https://shorturl.at/pUjnb