عادت ليبيا مجدداً إلى دائرة الأزمة، بعد انفراجة مؤقتة لم يكتب لها النجاح في نهاية المطاف، كحال مراحل الانتقال السابقة كافة، ولا تزال هناك حالة من التشويش بشأن مصير العملية السياسية في ظل التطورات الهائلة والمعقدة في المشهد الليبي الذي دخل منعطفاً ضبابياً، ويطفو على سطح هذا المشهد تحديات حدوث عملية انتقال سلس للسلطة المؤقتة ما بين حكومة (تصريف الأعمال) برئاسة عبدالحميد الدبيبة، ورئيس الوزراء المكلف من البرلمان فتحي باشاغا، بينما في العمق هناك قضايا لا حصر لها ستتداعى بمرور الوقت وبالتبعية ستزيد المشهد تعقيداً أكثر مما هو عليه.
إن أقل ما يوصف به الوضع السياسي الليبي هو نمطية عمليات الانتقال السياسي، باعتباره حالة “تكرارية”، وصل تعدادها إلى أكثر من ست مراحل منذ سقوط النظام السابق في 17 فبراير 2011، بما يجعله وضعاً استثنائياً في تجارب الانتقال السياسي عموماً، لكن في واقع الأمر ينطوي هذا التوصيف على تشخيص جدلي، فمن منظور مقاربة المعايير السياسية لعمليات الانتقال1، والممارسة الفعلية في ضوء التجربة الليبية على مدار اثني عشر عاماً، يمكن القول إن هناك تكرارية في “مشروعات الانتقال السياسي” في ليبيا انتهى معظمها إلى الفشل، حيث لم يحدث أن عبرت ليبيا مرحلة الأزمة إلى مرحلة الاستقرار . وبالتالي لا يخرج الوضع الليبي عن كونه حالة ممتدة من “اللا استقرار متعدد المراحل”، تختلف كل مرحلة في أبعادها وسماتها عن غيرها من حيث مرجعياتها السياسية، ووضعها الأمني، ومعادلات موازين القوى الداخلية والخارجية التي تعكسها تحالفات النخب السياسية وفقاً لشبكات المصالح التي تعبر عنها.
وثمة إشكالية أخرى، تتمثل في مقاربة الهدف الجوهري لعملية الانتقال السياسي ذاتها، فمشروعات الانتقال السياسي المتعاقبة كافة في ليبيا تمحورت حول عملية “إعادة بناء السلطة” وليس عملية “إعادة بناء الدولة الوطنية”، وهناك فارق شاسع بين الأمرين، يظهر في الممارسة السياسية أيضاً، في سياق عدد من المؤشرات، فعلى سبيل المثال، تنحصر القواعد الإجرائية التي يتم تضمينها في “خرائط الطريق” في تحديد آليات الوصول إلى السلطة، بالتركيز على قضية الانتخابات دون غيرها من القضايا التي تتعين معالجتها على التوازي مع معالجة أزمة عدم استقرار السلطة، لدرجة أن الإشارة الوحيدة لوضع دستور دائم للبلاد وفقاً للمشروع الانتقالي الذي قدمه البرلمان (10 فبراير 2022 ) وضعت على سبيل التهيئة للعملية الانتخابية، بل إن التعديل (الثاني عشر) للإعلان الدستوري2 الذي يحدد قواعد هذه العملية يعطي انطباعاً بأن نقطة الوصول إلى هذه المحطة السياسية مشكوك فيها، وقد تتم العودة إلى وضع “إعلان دستوري مؤقت”. يضاف إلى ذلك العديد من القضايا كالمصالحة الوطنية التي أثبتت التجربة العملية أنها تهدف إلى عملية “تأمين السلطة” أكثر من كونها استراتيجية لطي صفحة الانقسام الاجتماعي التي تكرست ما بعد ثورة (17 فبراير).
أولاً، قواعد اللعبة تتغير
تكشف التفاعلات السياسية الراهنة في المشهد الليبي، في مرحلة ما بعد 24 ديسمبر 2021، تاريخ الاستحقاق الانتخابي الذي لم يتم التزامه، عن أن قواعد “اللعبة السياسية” التي اتبعت في أغلب المراحل السابقة تتغير، في ضوء عدد من المؤشرات ومنها:
- مرحلة انتقال مركبة: ففي السابق كانت هناك حدود فاصلة ما بين المراحل الانتقالية وفقاً للتصور السائد، فقد كانت هناك مرحلة فجر ليبيا، تبعها مرحلة الصخيرات، التي انتهت بانتهاء معركة طرابلس والتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار (أكتوبر 2020) ثم اتفاق جنيف للحوار الوطني الشامل والتوصل إلى تشكيل سلطة تنفيذية موحدة (المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية) في إطار ما يعرف بمسار “برلين” الذي لا يزال قائماً لكنه وصل إلى مرحلة “الارتباك” في ضوء النزاع الحالي ما بين مشروعي “خريطة طريق” التي وضعها البرلمان في 10 فبراير 2022 التي تمهد بدورها لمرحلة انتقال جديدة، معتبراً أن المرحلة السابقة فشلت وانتهت صلاحيتها السياسية بعدم الوصول إلى انتخابات (24 ديسمبر 2021)، مقابل مشروع “خريطة الطريق” الجديدة أيضاً التي أعلنها “الدبيبة” والتي تتبنّى إجراء انتخابات في غضون المرحلة الانتقالية التي تمتد حتى يونيو 2022 باعتباره التاريخ الذي تعتمده الأمم المتحدة كسقف زمني لانتهاء المرحلة الانتقالية3. وهو ما يشكل سابقة، أن يحدث نزاع ذو طابع سياسي بين مرحلتين لا يفصل بينهما صراع مسلح. حتى إن كان الصراع المسلح محتملاً في المدى المنظور كأحد السيناريوهات التالية، إلا أنه لن يكون في مستوى الصراعات السابقة أو على مسرحها نفسه.
- تحالفات الكبار: كما سلفت الإشارة، فإن أحد مظاهر المراحل الانتقالية ومحدداتها هو عامل التحالفات السياسية، وما ينضوي خلفها من شبكات مصالح وقوى مسلحة وشبه مسلحة متعددة الأنماط، التي غالباً ما كانت عبارة عن تحالفات جهوية ( شرق – غرب ) وفقاً لما أفرزته خريطة ( الصراع الثوري المسلح)، لكن التحالف الراهن ما بين القائد العام للجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، ورئيس الوزراء المكلف فتحي باشاغا، بالإضافة إلى أن البرلمان يعكس “تحالفاً ثلاثياً” ما بين كبار اللاعبين في المشهد السياسي الليبي، ويسعى هذا التحالف إلى استقطاب “المجلس الأعلى للدولة” إلا أن الأخير يعطي إشارات متناقضة حول مسألة التقارب، وعلى الأرجح يسعى إلى لعب دور “الربع المعطل” بالنسبة إلى هذا التحالف، حيث يؤكد تأييده لمسار جديد لكنه يتشدد حيال الإجراءات التي يتم اتباعها في هذا المسار، فقد وافق البرلمان بالإجماع على تكليف “باشاغا”، وكانت القيادة العامة أول المؤيدين، لهذا القرار، ثم أبدى خالد المشري تأييداً لعملية تكليف حكومة جديدة، لكنه طعن في سلامة هذا التكليف4. ومن المتوقع أن تميل موازين القوى بالتدريج إلى هذا التحالف، حيث يشكل خطوة نوعية في كسر حاجز التحالفات الجهوية.
- تفكك معسكر الغرب: كأحد التداعيات الرئيسية للتحالفات الجديدة، حيث إن عملية “الاستقطاب” يتم تحمليها حالياً على طرفين متنافسين من معسكر الغرب (فتحي باشاغا وعبدالحميد الدبيبة)، ففي السابق، ومنذ عام 2014 مع ظهور الجيش الوطني الليبي، كان التنافس حاداً ما بين معسكر الغرب بقيادة “مصراته” التي تمثل الثقل السياسي في غرب ليبيا، و”عملية الكرامة” التي تمثل الثقل السياسي والعسكري في شرق البلاد وجنوبها بشكل نسبي، لكن في المرحلة الحالية، وبحكم انتماء كلا الطرفين إلى معسكر الغرب، بل وإلى مركز الثقل في “مصراته” التي تمثل مسقط رأسهما، يلقي بتداعياته على تفكك هذا المعسكر، وهو ما بدا على سبيل المثال في حالة الانقسام ما بين فئات سياسية وفصائل مسلحة في عملية تأييد “باشاغا” مقابل تأييد “الدبيبة”، ومن الواضح أن “مصراته ” تتجه إلى الحياد لاسيما فيما يتعلق بعامل الاستقطاب الأمني، بالنظر إلى المخاوف من انعكاس الانقسام على الحالة الأمنية فيها ما قد يفقدها الكثير من الأوراق، خاصة أنها تمثل مركز ثقل “اقتصادياً” أيضاً، وبالتدريج يتحول الثقل إلى كل من “الزاوية” و”الزنتان”، وكلتاهما تشهد انقساماً في قاعدة تأييد أي من الطرفين، يحتمل خروجه عن السيطرة في أي وقت.
- صراع “التمكين” : لا تزال حكومة “باشاغا” قيد التشكل، ويفترض أن يقدمها للبرلمان بحلول (25 فبراير 2022) لنيل الثقة، وفي حال تم تفادي عقبة المجلس الأعلى للدولة، فإن باشاغا سيسعى إلى تمكين حكومته في طرابلس، وهو ما يعني أنه لا يريد أن يحدث “ازدواج حكومي”، وهو أمر غير وارد في العاصمة طرابلس، في أن تشهد حكومتين في الوقت نفسه، وهو أمر كان شائعاً في مرحلة الانقسام الجهوي الحاد ( شرق – غرب)، لكن من الواضح أن “باشاغا” يدرك أن تمكين الحكومة لابد أن يكون في العاصمة، وبالتالي على الأرجح رفض مقترح “سرت” كبديل، لأنه يعني في الوقت ذاته العودة إلى حالة الازدواج الحكومي في ظل عدم تسليم “الدبيبة” للسلطة، وربما يهم الحكومة المكلفة أن تبقى في العاصمة لاعتبارات أخرى تتعلق بالاعتراف السياسي بعد استئناف معظم الدول نشاطها الدبلوماسي من هناك أيضاً، في المقابل من الواضح أن “الدبيبة” لا يسعى إلى القبول بفكرة الازدواج، حيث لم يعترف برئيس الوزراء المكلف باعتباره سيشكل حكومة “موازية”.
ثانياً، سمات الوضع الراهن في ليبيا: ما بين الارتباك والمواقف الرمادية
لا يزال من الصعوبة بمكان التنبؤ بالسيناريو التالي في المشهد الليبي، إذ لا يمكن القياس على المراحل السابقة، لكن تظل هناك العديد من الدروس المستفادة من الخبرة الليبية التي تشكلت عبر أكثر من عقد من الزمن، في ضوء ذلك هناك قواسم مشتركة دالة على أن المرحلة الحالية في ليبيا هي مرحلة مرتبكة، ستشهد بعض مظاهر المراحل السابقة، بشكل أو آخر، لكن سيكون لها سماتها الخاصة أيضاً، إلا أن الاحتمالات الأرجح أن الأشهر التالية حتى انتهاء المدى الزمني لمرحلة الانتقالية حتى يونيو 2022 كمرحلة بينية ستكون مرحلة مرتبكة إلى حد كبير، ومن أبرز مظاهرها ما يلي:
- تقاسم ضعف: مهما كانت موازين القوى تميل إلى طرف على حساب الآخر، إلا أن الأطراف كافة باتت في مأزق، كما تنطوي تحركات الجميع على تناقضات في الوقت ذاته، فـ”الدبيبة” في مأزق كونه يستند إلى المدى الزمني للمرحلة الانتقالية كمبرر للاستمرار، وهي نقطة ضعف باعتبارها فترة قصيرة للغاية لتنفيذ مشروعه الجديد، كما أنه يناقض نفسه، بوثبه إلى الأمام حينما يعلن مشروعاً للانتخابات (خريطة طريق موازية) سيحيله إلى البرلمان الذي دخل معه في معترك السجال حول مشروعية سلطته بالأساس. على الجانب الآخر، يواجه البرلمان مأزقاً في التقارب مع المجلس الأعلى للدولة، فالأخير شهد انقساماً بشأن الموافقة على خريطة الطريق التي أحالها إليه البرلمان، ما اضطر رئيسه خالد المشري إلى التراجع وإظهار موقف أكثر تشدداً تجاه البرلمان رغم أجواء التقارب التي حملت نوعاً من التفاؤل لدى الفريق المؤيد لحكومة “باشاغا” خاصة أن المشري انتقد خطاب “الدبيبة” بشأن هذا التقارب، كذلك فإن “باشاغا” في مأزق التحالف مع معسكر “الكرامة” الذي لا يزال لديه قاعدة معارضة متشددة تجاهه سياسياً وأمنياً وربما تصطف هذه القاعدة إلى جانب “الدبيبة” خشية تضرر مصالحها من هذا التحالف، فالمعروف أن القيادة العامة تستهدف تقويض ظاهرة “المشلنة” في الغرب.
- تجدد ظاهرة الاستقطاب المؤسسي: فالمؤسسات الموحدة لن تشهد انقساماً بين حكومتين، بقدر ما ستكون طرفاً في عملية الاستقطاب إلى أي من الفريقين، وبدورها ستشكل عامل حسم، خاصة المصرف المركزي، والمؤسسة الوطنية للنفط، كمؤسسات اقتصادية رئيسية، ويتوقع أن تحدد موقفها وفقاً لاعتبارين، أولهما: مصير قيادة المؤسسة، خاصة أن هناك نيات لتغيير المناصب السيادية بالتوافق ما بين مجلسي النواب والدولة، وهو ما سيتوقف على مدى قوة التقارب بين المجلسين من عدمها، وعلى الأرجح ستميل قيادة هذه المؤسسات إلى (الصديق الكبير، مصطفى صنع الله) إلى مواقف مجلس الدولة، بناء على السوابق في هذا الشأن، والاعتبار الثاني: يتعلق بالموقف الدولي، على اعتبار أن جانباً كبيراً من عمل هذه المؤسسات يرتبط بالعالم الخارجي. في السياق ذاته هناك إشكالية استقطاب في المؤسسات المنقسمة بطبيعة الحال، مثل المؤسسة العسكرية، فلا يزال من غير الواضح تماماً ما ميول “رئاسة أركان” غرب ليبيا، على الرغم من أن المؤشرات تعكس ميلها إلى “الدبيبة” خاصة مع ظهور الفريق محمد الحداد في احتفال عسكري مع “الدبيبة (18 فبراير 2021) 5، فإن هذا المؤشر غير كاف، خاصة أن حكومة “باشاغا” لم تتشكل بعد، وبالتالي فإن موعد تسليم السلطة من الناحية العملية لم يحدد بعد، بل على العكس من ذلك كان خطاب “الحداد” في الاحتفال موضوعياً إلى حد كبير حيث تمحور حول “دعم توحيد المؤسسة العسكرية لمواجهة المخاطر التي تستهدف ليبيا” و”عدم المراهنة على الأشخاص لأنهم زائلون وقد انتهى إلى الأبد حكم الفرد الواحد والديكتاتورية” كما طالب بضرورة “العمل من أجل بناء الدولة المدنية وصولاً إلى الانتخابات وتحقيق الأمن والاستقرار”. وهو خطاب يعكس ملمحاً جديداً في سياق منعطفات الأزمات، وبالتالي فإن رهانات “الحداد” على مواقف القيادة العامة تمنحه الأولوية، فالمتوقع أن يكون هناك وزير دفاع في حكومة باشاغا، وحسم هذا المنصب بما له من دلالات وظيفية في المرحلة المقبلة سيكون له دور مهم.
- الارتباك الأممي: ظهرت مؤشرات الارتباك الأممي في تحركات البعثة الأممية التي أعطت هي الأخرى إشارات متناقضة، ما بين قبولها بتكليف حكومة “باشاغا”، لكنها في الوقت ذاته تؤيد عملية إجراء الانتخابات في وقت أسرع لتجديد مشروعية السلطة والمؤسسات، والحفاظ على الزخم الانتخابي. وبالتبعية أدى ذلك إلى تبدل ردود أفعال الأطراف أيضاً، ففي بداية الأمر انتقد البرلمان موقف البعثة الأممية من “خريطة الطريق” الجديدة، وبعث برسالة بهذا المضمون إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، لكن بعد جولات ستيفاني وليامز، مستشارة الأمين العام في ليبيا ما بين الأطراف، تبدلت المواقف حيث وجهت حكومة “الدبيبة” سهام النقد إلى البعثة الأممية بعد أن كانت تعتبر مواقفها مؤيدة لها، والعكس من جانب البرلمان، ويعتقد أن البعثة الأممية تسعى إلى إظهار عدم الانحياز لأي طرف. وفي واقع الأمر فإن البعثة هي الأخرى تقاسم الأطراف السياسية حالة الضعف، خاصة أن منصب “المبعوث الأممي” شاغر من الناحية الإجرائية، بسبب عدم توافق مجلس الأمن على الشكل الإجرائي لطبيعة عمل المبعوث الأممي ، نتيجة انعكاس الاستقطاب الدولي على المشهد الليبي أيضاً، وفي ظل الفيتو الروسي على “وليامز”، وربما ستنتهي فترة التمديد للبعثة الأممية (إبريل 2022) دون أن تسفر عن جديد، لكن تشكيل بعثة جديدة في المستقبل، سيزيد من عامل الارتباك في المشهد أيضاً، وستواجه أي بعثة جديدة معضلة البدايات في مشهد مرتبك ومعقد.
- ارتباك دولي: ظهرت مواقف بعض القوى الدولية والإقليمية حيال التطورات الليبية الأخيرة، فقد دعمت روسيا بشكل واضح موقف البرلمان6، في المقابل فإن الولايات المتحدة لم تؤيد “الدبيبة” لكن اعتبارها أن عملية تغير الحكومة ليست أولوية ترجمت سياسياً كنوع من الدعم له، وفي الوقت ذاته تحاول إظهار موقف الحياد بدعوة الأطراف إلى الحفاظ على الهدوء، وبشكل عام يبدو أن واشنطن ليس لديها ثقة بالعملية السياسية الليبية، ووفقاً لتقديرات في الدوائر الرسمية فإنه يمكن تحقيق الجانب الفني من عملية الانتخابات لكن لا تتوافر إرادة سياسية وهو ما يؤكد هشاشة العملية السياسية من المنظور الأمريكي7. أما على المستوى الإقليمي، فقد نضجت مواقف الفاعلين الرئيسيين، حيث بادرت مصر إلى تأييد خطوة البرلمان في تكليف حكومة جديدة، لكنها في الوقت ذاته أكدت التواصل مع الأطراف كافة، وهي خطوة تعكس الاستفادة من درس حكومة “الوفاق”، وربما ترى القاهرة أن تأييداً مطلقاً لطرف يفتح الباب لحالة استقطاب داخلي، لاتريده مصر التي أصبح لها ثقل في غرب البلاد، كما هي الحال في شرقها. كذلك اتضح الموقف التركي، في إطار تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان، التي تتأرجح ما بين استمرار التواصل مع الأطراف كافة شأنها شأن الموقف المصري، لكنه في الوقت ذاته أبدى معارضة لموقف البرلمان من الشروع في إطلاق مرحلة انتقال جديدة حيث سيطول أمدها، وهو موقف معروف بناء على عدم تأييد أنقرة لمواقف رئيس البرلمان بشكل عام.
- مواقف رمادية: وفقاً لخريطة ردود الأفعال والمواقف على هذا النحو، حيال الأزمة السياسية المتجددة في المشهد الليبي، يبدو أن هناك لاعبين آخرين لم تظهر مواقفهم بعد في المشهد، ولا يزال أغلب هذه الأطراف في موقع المتفرج، على سبيل المثال لا يوجد موقف حاسم لقوى برلين، التي تشكل مرجعية مهمة في المسار الحالي، صحيح أن أغلب تلك القوى تدعو الأطراف الليبية إلى الحفاظ على الهدوء والسلم، لكن ذلك لا يعد موقفاً تكتيكياً يمكن البناء عليه في المستقبل، كقيادة وساطة، أو أي دور آخر يعكس ملمح الانخراط في الأزمة، وبالتالي هناك حياد سلبي، قد يسمح بمفاقمة الأزمة التي تتدحرج وربما تخرج عن السيطرة في المستقبل، وكان من اللافت للنظر في هذا السياق إشارة وزيرة الخارجية الألمانية (آنالينا بيربوك) خلال زيارتها إلى القاهرة ( 11 فبراير 2022 ) بانشغال بلادها التي تحتضن مسار “برلين” بالأزمة الأوكرانية كأولوية. الطرف الآخر في المنطقة الرمادية نفسها هو المجلس الرئاسي، الذي يتجنب الانخراط المباشر هو الآخر، على الرغم من محاولة الظهور كلاعب لدور الوسيط، أو “رجل الإطفاء” للحرائق في مشاهد أخرى، لكن المتصور أن “الرئاسي” لا يمثل مركز قوة يعادل مراكز القوى الفعلية المؤثرة في المشهد على الأرض، وفي حال ظهور انحيازاته سيتعرض لمأزق فعلي، على اعتبار أنه جزء من السلطة التنفيذية التي أطاح البرلمان أحد رأسيها، ومن الوارد أن يواجه هذه الأزمة في يوينو 2022 مع انتهاء الصلاحية الزمنية لمرحلة الانتقال الحالية رسمياً.
ثالثاً، مآلات مستقبل العملية السياسية الليبية
هناك منظوران للعملية السياسية، أحدهما ضيق وهو منظور استقرار السلطة، وهو يواجه تحدياً واضحاً كما سلفت الإشارة إليه، في الأحوال كلها، فتمكين أي من الحكومتين سيكون له كلفته، ولا يعتقد أن مشهد تسليم السلطة الذي حدث في مارس 2021 بشكل سلمي وارد في ظل التطورات الحالية، وفي ضوء محصلة التفاعلات المعقدة التي تمت الإشارة إليها سالفاً فإن استقرار أي سلطة انتقالية يتطلب بالضرورة استقراراً نسبياً لمعادلة الداخل والخارج، وهو سياق غير متحقق في المرحلة الحالية.
أما العملية السياسية بمفهومها الأشمل التي تنطوي على التعاطي مع الملفات المؤجلة مثل توحيد المؤسسة العسكرية، وإنهاء حالة الانقسام الاجتماعي المتجذرة، وإنهاء حالة الوجود العسكري الأجنبي بمظاهرها كافة، بالإضافة إلى ضبط الأوضاع الأمنية باحتكار الدولة للسلاح ومواجهة ظواهر الهجرة غير الشرعية والإرهاب وضبط الحدود .. إلخ، وهي الملفات المحورية التي تلقي بتداعياتها على أي عملية سياسية، ودون تحقيق اختراق حقيقي فيها ستظل أي عملية سياسية غير مستقرة بغض النظر عن مسمياتها انتقالية أو ما بعد الانتقالية.
وفقاً لهذا التصور، من المؤكد أن الموقف السياسي الراهن لم يغادر خانة المنظور الضيق لعملية الانتقال السياسي، التي تتمحور حول “السلطة” بل لم تغادر ليبيا مربع الصراع على السلطة الانتقالية، وعليه فالمتوقع أن يكون الصراع على سلطة “ما بعد الانتقال” أعنف، ولا توجد ضمانات على أنه يمكن الانتقال إلى المرحلة التالية بشكل سلس حتى في حال تجاوز عقبة “التمكين” لأي من الحكومتين (باشاغا – الدبيبة). بالنظر إلى العديد من الاعتبارات، ومنها:
- تراجع الثقة بالعملية السياسية بشكل عام: بعد إهدار فرصة 24 ديسمبر 2021، وذلك على مستوى القواعد الجماهيرية التي تعتبر أن هناك حالة من احتكار “النخبة”، للعملية السياسية، وأن أي انتقال سياسي هو انعكاس لمصالح تلك النخب بغض النظر عن مواقف الشعب الذي أبدى رغبته الحقيقية في تجديد مشروعية الأطراف كافة من خلال الإقبال الهائل على بطاقات الانتخابات (أكثر من مليوني بطاقة) في حالة غير مسبوقة، وبالتالي فإن الاختبار الحقيقي لأي حكومة هو كيف يمكن استعادة ثقة الشارع، وهي معضلة في الحالة الليبية في واقع الأمر، في ظل تنامي ظاهرة “المال السياسي” في إطار “لعبة الاستقطاب” حيث يغدق “الدبيبة” الأموال في المنح والقروض وزيادة المرتبات وتوزيع قطع الأراضي8، وفي المقابل فإن “باشاغا” لم يدخل هذا السباق بعد، بينما لا يزال في مرحلة المراهنة على تشكيل حكومة تسعى إلى القيام بدورها في معالجة الاختلالات التي تسببت فيها حكومة “الدبيبة”، خاصة أن العديد من وزرائها متهم في قضايا فساد، كما أن أوجه الإنفاق الحكومي طُعن عليها بالفساد أيضاً.
- متوالية المعارك المؤجلة: التي ستظهر في المرحلة المقبلة، ومنها: معركة المناصب السيادية، وتشكيل المفوضية العليا للانتخابات، وفق التعديل الدستوري الأخير، والمجلس الأعلى للقضاء، وهي معركة قائمة ما بين تعيين رئيس التفتيش القضائي وفق توجه البرلمان بدلاً من رئيس المحكمة العليا أيضاً، وبمرور الوقت ستتوالى المعارك في ملف الاستفتاء على الدستور، فلا يزال هناك عدم توافق بين المجلسين على طبيعة الإجراءات التي وردت في التعديل الدستوري، ناهيك عن معترك التطبيق. كذلك هناك معركة مؤجلة مع تيار النظام السابق، الذي يدرك أنه إحدى القوى المستهدفة من التطورات الجارية لإقصائه بعيداً عن المشهد، بعد حضوره الأخير والمؤثر في الفترة السابقة، خاصة وأن هذا التيار وتحديداً تيار “سيف الإسلام القذافي” أدلى بدلوه ورفض خريطة الطريق التي قدمها البرلمان، لكنه لم يصطف بعد مع جبهة “الدبيبة” التي تتشابه معه في الموقف نفسه، ويعتقد أن هذا الاصطفاف غير وارد في المرحلة الحالية.
خلاصة
يمكن القول إن المشهد الليبي دخل في منعطف ضبابي، يغلب عليه طابع “التوتر” بشكل عام، والمؤكد أن مصير العملية السياسية سواء في حدودها الضيقة أو الواسعة دخلت نفقاً مجهولاً لن تتضح معالمة قبل حسم معضلة “تمكين” حكومة “باشاغا” كخطوة أولى باعتبارها الأوفر حظاً إذا ما قورنت بحكومة “الدبيبة”، لكنها لن تبدد حالة “التوتر”، فالمعترك الفعلي في تمكين “خريطة الطريق” التي اعتمدها البرلمان في 10 فبراير الجاري، والتي تواجه تحديات عديدة، مع زيادة الاستحقاقات المحملة عليها بإضافة عبء الاستفتاء على الدستور في ظل غياب توافق الحد الأدنى على تمرير هذا الاستحقاق. ووفقاً للخبرة الليبية لا يمكن وضع تصور مستقبلي اعتماداً على البدايات بقدر ما يتعين الانتظار إلى النهايات.
وعلى المدى المنظور ستختبر التحالفات الجديدة، ما بين الشرق والغرب، على وقع التعامل مع الملفات المؤجلة والحاسمة لعملية الانتقال السياسي، من حيث تقويض ظواهر الفوضى، خاصة المظاهر المدعومة من الخارج، أو شبكات المصالح المحلية، وتسود حالة من التفاؤل بأن الحكومة الجديدة قد تنجح في لعب دور في مواجهة هذه الظواهر، انطلاقاً من سوابق “باشاغا” في هذا الصدد إبان حكومة “الوفاق “، لكنها سوابق لا يمكن البناء عليها أيضاً. فقد تغلغلت هذه الشبكات في العمق الليبي، إلى درجة باتت معها تمثل “الدولة العميقة” للحالة الليبية، بعد استئصال دولة النظام السابق. كذلك فإن التحالفات الجديدة لم تنضج بعد بالقدر الكافي وبالتالي لا يزال من المبكر الحكم على مصيرها، وإذا ما كانت تحالفات تكتيكية ومؤقتة، أم يمكن البناء عليها في المستقبل.
المراجع
1- Christine Bell and Robert Forster, Transitional Management: Comparative Guide to Tasks, Timing, Issues, Political Settlements Research Programme (PSRP), UK, 2021.
2- نص التعديل الدستوري الثاني عشر، بوابة الوسط الليبية، في 10 فبراير 2022، https://bit.ly/3pnovKf
3- ويليامز: آخر يونيو هو تاريخ تسليم السلطة وإجراء انتخابات ليبيا، موقع: العربية.نت، 10 يناير 2022، https://bit.ly/3JGupOg
4- المشري: قرار تكليف باشاغا غير سليم، موقع سكاي نيوز عربية، 16 فبراير 2022، https://bit.ly/34Ub8dh
5- الحداد يؤكد ضرورة العمل من أجل الدولة المدنية، موقع ليبيا أوبزيرفر، 17 فبراير 2022، https://bit.ly/35dFwPq
6- زاخاروفا: روسيا تأمل أن تتمكن الحكومة الليبية الجديدة من حشد المجتمع حولها، موقع روسيا اليوم، 14 فبراير 2022، https://bit.ly/3LLteih
7- Libya: Transition and U.S. Policy, Congressional Research Service, January 3, 2022.
8- الدبيبة يعلن توزيع قطع أراضٍ وإعطاء قروض وزيادة مرتبات، بوابة أفريقيا الإخبارية، 19 فبراير 2022، https://bit.ly/3BDu4Jo