Insight Image

رهانات الإسلاميين وإيران على بايدن: بين المبالغة واحتمالات الصدمة

24 ديسمبر 2020

رهانات الإسلاميين وإيران على بايدن: بين المبالغة واحتمالات الصدمة

24 ديسمبر 2020

أكد جو بايدن، الرئيس الأمريكي المنتخب، في مقابلة تلفزيونية أجريت يوم 24 نوفمبر 2020 مع قناة NBC بعد اختيار بعض أعضاء فريقه الرئاسي أن إدارته “لن تكون نسخة ثالثة لحكم أوباما”، مؤكداً على الاختلاف التاريخي بينهما، قائلاً لمحاوره: “نحن نعيش في عالم مختلف تماماً، عن ذلك الذي عايشناه في فترة أوباما- بايدن، فقد اختلف كل شيء مع ترامب”، كما أشار إلى أنه “قد يعين جمهورياً في إدارته لأنه يريد هذا البلد متوحداً”[1].

بهذا التصريح وغيره، ينفض بايدن الظلال الكثيفة التي تُحيط بصورته وينهي توقعات الكثيرين الذين يعتقدون أنه قد يستنسخ مواقف وسياسات عهد أوباما بالنظر إلى رفقته الطويلة كنائب له بين عامي (2009-2017)، وكونه أحد أبرز العالمين والعارفين بقضايا السياسة الأمريكية لا سيما قضايا منطقة الشرق الأوسط، سواء بما تولاه من مناصب أو ما أداره من ملفات حساسة بشأنها.

فرضية الدراسة:

من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة، تفاعلاً ونقاشاً وتفكيكاً، مع خطابات التوقع المبالغ فيها، بقدوم بايدن، والمرتبطة – دون شك – بسقوط “ترامب”، والتي أطلقتها أصوات ومنصات عديدة في الشرق الأوسط، وخاصة نظام الثورة الإسلامية الحاكم في إيران، وحركات الإسلام السياسي، السُّنية والشيعية على السواء، رهاناً على تغير الأوضاع في المنطقة لصالحها، وضداً على مصالح وسياسات الأنظمة المعادية لها، في ظل”أوبامية جديدة أوثالثة” تتمناها أو تريدها، يؤكد بايدن نفسه أنه لن يكونها لاختلاف اللحظة والتاريخ وغير هذا من سياقات وتطورات.

تفترض هذه الورقة، أن تغييراً ما في المنطقة سيحدث بلا شك مع الإدارة الجديدة، من خلال عودة فاعلة ونشطة للولايات المتحدة قد تحل بعضاً من مشكلاتها المعقدة، لكن الواضح أن إدارة بايدن لن تضع قضايا الشرق الأوسط في مقدمة أولوياتها واهتماماتها، كما كان في الإدارات السابقة، وستتقدم مكانها قضايا وتحديات أخرى ذات أولوية تهدد مصالح الولايات المتحدة عالمياً، خاصة أن الأمر الوحيد الذي يتفق فيه بايدن مع ترامب هو رغبة كليهما في وضع نهاية للتورط العسكري الأمريكي في حروب الشرق الأوسط المعقدة.

ومن المهم التأكيد هنا، أن أي سياسات قد يمارسها بايدن لها ضوابطها الحاكمة والموازية من مصالح الولايات المتحدة المشتركة مع الآخرين، وما يملكه الآخرون من أوراق ضغط ممكنة أيضاً، بالإضافة إلى ما أنتجته إدارة ترامب من واقع جيوسياسي جديد، من أزمات وسياقات وتحالفات جديدة في أغسطس عام 2020، هذا فضلاً عن الخبرة الخاصة التي حصدها بايدن نفسه، بعد عشر سنوات، مرت منذ أحداث ما عُرف بـ “الربيع العربي” عام 2011، التي شهدتها المنطقة.

وتؤكد هذه الورقة الفرق بين خطاب بايدن التبشيري أثناء حملته  الانتخابية واختلافه عن خطابه وممارساته بعد توليه السلطة، فقد اختلف أوباما وترامب في أدائهما الرئاسي والحكومي عن خطابهما الانتخابي ولو جزئياً على الأقل، لذا فإن التفاؤل الشديد بأن إدارة بايدن ستكون انقلاباً جذرياً وكلياً على سياسة سلفه ترامب أمر مبالغ فيه، خاصة مع استحضار اتفاق بايدن مع ترامب في المحددات الرئيسية للمصالح الاستراتيجية المشتركة بين الولايات المتحدة ودول المنطقة، اتحاداً في الهدف واختلافاً في الطريقة والأولويات التي ربما يكون صعباً تبديلها أو تغييرها سريعاً مع الإرث الترامبي الثقيل كما ذكر بايدن نفسه[2].

في ضوء ذلك تسعى هذه الورقة إلى الإجابة عن بعض الأسئلة التي تتعلق بمدى صحة رهان الإسلاميين- سنّة وشيعة- على إدارة بايدن، ومن بينها: هل ستصح رهانات الإسلاميين التي بدأت مبكراً على بايدن أم ستفشل؟! وما هي الأسباب والدوافع لذلك؟ وما هي العوامل الحاكمة للعلاقة بين الإدارة الأمريكية الجديدة والإسلام السياسي في المنطقة؟.

المحور الأول: أبعاد رهانات الإسلاميين على إدارة بايدن

رغم اشتراك تيارات الإسلام السياسي، سنّية وشيعية على السواء، في التفاؤل المبالغ فيه بفوز بايدن وخسارة ترامب، فقد اختلفت أولوياتها لدى الإدارة الأمريكية الجديدة، وإن جمعتهم سمة واضحة هي عدم التركيز على الشعاراتية الكبيرة المزاحة منذ فترة من أولوياتهم التي تتعلق بقضايا، مثل: القضية الفلسطينية، والصراع العربي – الإسرائيلي، التي يبدو أنها لم تعد تشغلهم كمطلب وكأولوية.

ويمكن تلخيص رهان الإسلاميين- سنّة وشيعة- في اعتبار أن بايدن سيكون أوباما آخر، وهو ما بدا في تمحور خطابهم حول التفاؤل بنجاح بايدن والتعبير عن السعادة بسقوط ترامب، وفي إعلان المطالب الخاصة بهم، بدءاً من جماعة الإخوان المسلمين وفروعها وحلفائها في المنطقة والعالم، وصولاً إلى النظام الإيراني والقوى التابعة له.

لكن ينبغي الإشارة إلى أن الإسلاميين قد تجاهلوا أن ثمة فروقاً وتمايزات عديدة ومختلفة بين الإدارتين الديمقراطيتين، إدارة باراك أوباما في فترتيه الرئاسيتين بين عامي 2009 و2017 من جهة، وحقبة جو بايدن المقبلة التي تبدأ في 20 يناير 2021، من جهة أخرى، ليس أن الأخيرة ستأتي بعد حقبة ترامب فقط، بل بعد ما أنتجته إدارة ترامب وما شهدته وشهده العالم معها من تطورات ومسارات أيضاً، فالعالم وتفاعلاته خلال الأعوام الأربعة الماضية اختلف كثيراً عما كان عليه قبل هذه الأعوام.

مصادر تفاؤل الإسلاميين:

تفاءلت تيارات الإسلام السياسي، السُّني والشيعي، على السواء بفوز بايدن وإدارته المزمعة في يناير 2021، باستثناء حزب الله وأمينه العام حسن نصرالله كما بدا في خطابه في 12 نوفمبر 2020، وتنظيم داعش الإرهابي، كما ظهر في المقال الافتتاحي لنشرته الأسبوعية “النبأ” العدد الـ(260) الصادر في 11 نوفمبر 2020. فقد تبنّى التنظيمان رؤية تضمنت عدم التفاؤل بقدوم بايدن أو الترحيب بسقوط ترامب، باعتبار أن الأمر لا يختلف بين الرجلين، وأن سياسة الولايات المتحدة في المنطقة بها ثابت وحيد هو الحفاظ على مصلحة إسرائيل فقط.

في هذا السياق، انهالت على الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، في تجاوزات بروتوكولية، التهاني من مختلف شخصيات الإسلام السياسي وقياداته في العالم العربي، بدءاً من إبراهيم منير القائم بأعمال المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، وصولاً إلى قيادات الحرس الثوري الإيراني والفصائل الموالية لإيران في العراق، وفيما يبدو أنه تعبير عن السعادة بفوز بايدن، أصدر قائد الحرس الثوري إسماعيل قاآني توجيهات لوحدات الحرس بالتهدئة انتظاراً لانفراجة[3].

وربما يكون مصدر التفاؤل الأول لدى تيارات الإسلام السياسي هو السعادة بسقوط ترامب قبل أن تكون بفوز بايدن، وهو ما عبّر عنه الرئيس الإيراني حسن روحاني في تصريحات له خلال اجتماع الحكومة الإيرانية الذي عقد يوم 16 ديسمبر 2020  قال فيها إنه “ليس سعيداً بفوز بايدن، لكنه سعيد برحيل دونالد ترامب عن المنصب”[4].

ويأتي المصدر الثاني من الأمل في حقبة أوبامية جديدة، حيث رأت تيارات وتنظيمات الإسلام السياسي- السُّني والشيعي على السواء- وفي مقدمتهم جماعة “الإخوان المسلمين” وكذلك كثير من قوى المعارضة لأنظمة ودول المنطقة، أن بايدن يمثل مرشحاً مفضلاً لها، تستعيد به حقبة أوبامية جديدة، تشهد ضغوطاً على دول المنطقة، تستعيد بها هذه التنظيمات والقوى حضورها وفاعليتها في المنطقة، وتعود من خلالها إلى العمل السياسي المعارض، وقد تولد هذا الأمل نتيجة تعهد بايدن مراراً وتكراراً بالدفاع عن الحقوق والحريات، وحماية حقوق الأقليات والعرب والمسلمين داخل الولايات المتحدة الأمريكية ومواجهة الاستبداد.

وتعتقد هذه التيارات والتنظيمات أن تعهدات بايدن تناقض سياسات ترامب بشأن التعامل مع الإسلام السياسي، متناسية أن ترامب استهدف جماعات التطرف بتقييد أنشطتها وتقويض نفوذ منظماتها، بعد معاناته على مدار السنوات الماضية من تصاعد عمليات الإرهاب. فقد اعتبر ترامب هذه التيارات والتنظيمات منظمات دينية راديكالية تهدد الولايات المتحدة وحلفاءها بالخارج، وفي هذا الصدد جاء سعيه لتصنيف جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، حسبما صرحت سارا ساندرز، المتحدثة باسم البيت الأبيض، في 30 إبريل 2019، عقب استضافة ترامب للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حينها[5].

في هذا الإطار يمكن استعراض طبيعة رهانات تيار الإسلام السياسي السُّني والشيعي على إدارة بايدن الجديدة وذلك على النحو التالي:

1-رهانات الإسلام السياسي السُّني:

تظل أولويات رهان الإسلام السياسي السُّني الذي سقط من فوق مقاعد الحكم وحسابات التنافس السياسي في كثير من معاقله، هو الطموح للعودة من جديد إلى الحكم، خاصة بعد توجه كثير من فصائله بوضوح في ليبيا وسوريا للعنف منذ عام 2013. وتبدو أولويته هي الضغط على الأنظمة المعتدلة المعادية للتطرف والمجابهة له، في مصر والسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وطلب التدخل من أجل فتح المجال السياسي له من جديد، ما قد يكفل لتنظيماته – وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين وفروعها- العودة للحياة من جديد في البلدان التي أنكرتها وقاست تجاربها، وتم تصنيفها إرهابية في كثير منها بعد أن حكمتها وما زالت تحاول حكمها وتحاول إسقاط دولها وتستهدف السلم الأهلي فيها، خاصة مع ترويجها لمظلوميتها وجهاديتها من جديد.

من هنا، لم تكتفِ جماعة الإخوان المسلمين بالإعراب عن التفاؤل بفوز بايدن وإرسال التهاني له فقط، بل إنها سعت مبكراً إلى تقديم الدعم له، إذ عملت على تجسير قنوات وتشبيك خيوط مع حملته الانتخابية، حيث التقت مسؤوليها عبر منظمات تتبعها في الولايات المتحدة، مثل منظمة “كير”، إذ تعهدت الجماعة خلال لقاء عقد في 26 سبتمبر 2020 بتقديم الكثير من الدعم المادي والتصويتي لبايدن[6].

ومن المهم الإشارة إلى تعدد أبعاد وقضايا الرهان الإخواني، فمنها ما هو متعلق بمصلحة التنظيم وقواعده، وهي الأولوية الرئيسية لديه، من خلال العودة للعمل السياسي وتجاوز تصنيف الجماعة إرهابية أو محظورة في عدد من دول المنطقة، والإفراج عن قياداتها وكوادرها، ومنها ما هو مرتبط بمصلحة حلفائه- تركيا وقطر بالخصوص- وتوطيد علاقاتهم بالإدارة الأمريكية الجديدة، ومنها ما هو مرتبط بدعم فروع التنظيم في بعض بؤر الصراع الملتهبة في المنطقة، وخاصة في ليبيا وسوريا.

في هذا السياق يعول “الإخوان” على أن تمارس إدارة بايدن ضغطاً سياسياً على دول المنطقة في محاولة لإخراج أنفسهم من الأزمة العميقة التي يعانون منها بعد سقوط حكمهم في مصر في يونيو عام 2013. وقد سعت الجماعة مبكراً إلى تحقيق هذا الهدف مستندة إلى مسألتي الديموقراطية وحقوق الإنسان اللتين تروج أنهما يقعان في صدارة خطابها الراهن، كما دعت إلى تفعيل دور الأمم المتحدة في حماية حقوق الإنسان، رصداً ومتابعة وتوصيات، رهاناً على إحداث بعض الأثر- المتوقع- بالتأكيد في ممارسات بعض الأنظمة في المنطقة والعالم.

ويمكن في هذا الإطار، رصد تحرك الإخوان المبكر في الرسالة التي أرسلها القائم بأعمال المرشد العام للجماعة إبراهيم منير إلى بايدن في 8 نوفمبر 2020 لتهنئته بالفوز، والتي خاطبه فيها بقوله إن “الأوان قد آن لمراجعة سياسات دعم ومساندة الديكتاتوريات، وما ترتكبه الأنظمة المستبدة حول العالم من جرائم وانتهاكات في حق الشعوب”[7]. وقد حرص راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية الإخوانية على ترديد هذه النغمة أيضاً حين قال في الثامن من نوفمبر 2020 “إن فوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية يمثل رسالة إيجابية للديموقراطية في العالم”[8].

إلى جانب هذه التصريحات، اتجهت مواقع التواصل الاجتماعي والشخصيات المحسوبة على “الإخوان” إلى ترديد هذه النغمة، وهو ما ظهر، على سبيل المثال، في رسالة الدكتور حسام الشاذلي المستشار السياسي والاقتصادي الدولي، أحد الوجوه المعارضة في الخارج المحسوبة والمروجة لجماعة الإخوان المسلمين الذي قال في بيان أصدره ليهنئ فيه بايدن: “إن آلاف المعتقلين من شباب وفتيات الجامعات المصرية ومن العلماء والأطباء والمفكرين القابعين، في معتقلات السيسي في مصر ومعهم ملايين المصريين الذين يعيشون تحت جحيم القمع والفقر وإرهاب الدولة، يتطلعون إلى وجودكم داخل البيت الأبيض كرئيس أمريكي يساند الحق والعدل ويحمي الحقوق والحريات ويفعل ما هو صحيح فقط لأنه صحيح”[9].

وقد ازداد تفاؤل “الإخوان” بعد تغريدة أنتوني بلنكن، الذي تمت تسميته وزيراً للخارجية ضمن إدارة بايدن المرتقبة، والتي نشرها في 20 نوفمبر2020، وقال فيها “نتشارك القلق بشأن اعتقال ثلاثة من موظفي المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. الاجتماع مع الدبلوماسيين الأجانب ليس جريمة. ولا المناصرة السلمية لحقوق الإنسان”. واعتبر “الإخوان” موقف بلنكن إشارة من الإدارة القادمة على النية للدفع بملف حقوق الإنسان كفاعل في العلاقة المصرية – الأمريكية الجديدة[10]، وذلك برغم أن الموقف الأمريكي هنا متعلق بتيار مدني ومجموعة حقوقية مستقلة، لا يعرف عنها أي ممارسة لعنف أو عمل سياسي في السابق.

كما تراهن تيارات الإسلام السياسي وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، على ما يتمنونه من حدوث تقارب بين تركيا والولايات المتحدة في عهد الإدارة القادمة، خاصة أن أنقرة تعد الراعي الرسمي لمختلف تيارات الإسلام السياسي السُّني الآن، وذلك في ظل حرص الرئيس رجب طيب أردوغان على الظهور بمظهر الزعيم الإسلامي والخليفة الإسلامي الممكن، وذلك كما بدا واضحاً في بعض السياسات التي روجت لهذه الصورة خاصة الخطاب الإعلامي الفني والدرامي.

من جهة أخرى تتوجس جماعة “الإخوان المسلمين” وجماعات الإسلام السياسي السُّني عموماً من المصالحة الخليجية، في ظل شروط الرباعي العربي الصعبة، على قطر التي تؤوي وترعى مختلف تيارات الإسلام السياسي، وتقوم بتمويله ودعمه، فمع إرهاصات لحلحلة هذه الأزمة بين السعودية وقطر في ديسمبر 2020، بدا الموقف الإخواني متردداً ومهووساً ينتظر العواقب ولا يستبشر بحال مختلفة.

2- رهانات إيران والتيار السياسي الشيعي:

منذ الإعلان عن ترشح بايدن لانتخابات الرئاسة الأمريكية، عبرت إيران وحلفاؤها في المنطقة عن حالة من الترحيب والتفاؤل والدعم، التي استمرت بعد فوزه في الانتخابات. ورغم أن هذه الحالة اتسمت بالحذر مع مرور الوقت، فإن طهران أعربت عن سعادتها بسقوط ترامب وعن أملها في مرحلة أمريكية رئاسية مقبلة أفضل لها من حقبة ترامب، وهو ما عبّر عنه الرئيس حسن روحاني في 17 ديسمبر 2020 بوضوح حين قال “ليس لديّ شك في أن الإدارة الأمريكية (الجديدة) ستعود لالتزاماتها وسيتم كسر العقوبات”[11].

إلى جانب هذا التمني، ظل الخطاب الإيراني الرسمي يلح على أن إلغاء العقوبات فوراً يعد مطلباً إيرانياً رسمياً، وأن العودة للاتفاق النووي دون تعديل فيه، هو في صالح الولايات المتحدة والإدارة الجديدة، وذلك كما صرح وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف في 2 نوفمبر 2020 في مقابلة مع قناة “سي بي إس نيوز”، نقلتها وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إرنا”، حين أجاب على سؤال حول تفاؤل إيران ببايدن، قائلاً: “إن تصريحات معسكر بايدن تبعث على الأمل أكثر، ولكن علينا أن ننتظر ونرى”، مضيفاً: “المهم بالنسبة إلينا هو كيف يتصرف البيت الأبيض بعد الانتخابات، وليس الوعود التي تطلق هناك، والشعارات التي تُرفع. المهم هو سلوك أمريكا”. وتعليقاً على تلميح معسكر بايدن أنه في حال فوزه، ستحاول إدارته إعادة التفاوض حول الاتفاق النووي الإيراني، قال ظريف “لو أردنا القيام بذلك، لفعلناه مع ترامب قبل 4 أعوام”، وأكد أن بلاده “لن تفكر تحت أي ظرف من الظروف في إعادة التفاوض حول البنود الواردة في الاتفاق”[12].

إلى جانب ذلك، ترى إيران ضرورة استثناء برنامجها الصاروخي من أي مفاوضات أو تنازلات ممكنة أيضاً، أو ربطه بغيره، وهو ما صرح به الرئيس الإيراني حسن روحاني في 14 ديسمبر 2020 حين قال إن “برامج طهران الصاروخية، التي تعتبرها واشنطن تهديداً للاستقرار الإقليمي، غير قابلة للتفاوض وأن الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن يدرك ذلك جيداً”[13].

المحور الثاني: رؤية بايدن للعلاقة المستقبلية مع إيران

يمكن الإشارة إلى أن بايدن يرفض سياسة ترامب تجاه إيران، ويدعو – بدلاً من ذلك – إلى بذل جهود متعددة الأطراف للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وتوسيع أجندة المفاوضات؛ لمواجهة “دعم الجمهورية الإسلامية للإرهاب”، وبرنامجها للصواريخ الباليستية، وهو في هذا الشأن يقتفي أثر نهج أوباما، وفرضيته الأساسية في ذلك هي إعطاء الأولوية لإشراك نظام خطير، بدلًا من المراهنة على تقويض نظام “بغيض” يتحكم فيه المتشددون والمتطرفون أكثر من ذي قبل.

ويرى بايدن أن إيران استفادت من انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، وأن غياب الولايات المتحدة عن متابعة أنشطة إيران التسلحية، حفزت طهران لتسريع وتيرة هذه الأسلحة، حيث يقول: (برغم مرور أكثر من عامين على سياسة ترامب في “الضغط الأقصى” على إيران، فإن الجمهورية الإسلامية لم تنحنِ وهي أقرب إلى الحصول على التكنولوجيا اللازمة لسلاح نووي مقارنة بما كانت عليه عندما شرعت الولايات المتحدة في إيقاف البرنامج النووي”[14].

من هنا، تعهد بايدن بالعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، في برنامج الحزب الديموقراطي الجديد، الذي صدر في يناير 2020، كما عبر عن ذلك أيضاً في الدراسة المطولة التي نشرها في مجلة “فورين أفيرز” عدد مارس/إبريل 2020، حيث أكد على الالتزام والعودة إلى الاتفاقات العالمية التي خرج منها ترامب، قائلاً “إن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تتمتع بالمصداقية، حين تتخلى عن الاتفاقيات التي تفاوضت عليها، فمن إيران إلى كوريا الشمالية، وروسيا إلى المملكة العربية السعودية، جعل ترامب احتمالات الانتشار النووي، وسباق التسلح النووي الجديد، بل حتى استخدام الأسلحة النووية أكثر إمكانية”[15]. كما تحدث بايدن عن الاتفاق النووي الإيراني ورؤيته لموقف إدارة ترامب وانسحابها من الاتفاق، وما شكّله ذلك من أخطار، قائلاً “لقد أدى الاتفاق النووي التاريخي الذي توصلت إليه إدارة أوباما-بايدن في التعامل مع إيران إلى منع إيران من الحصول على السلاح النووي. ورغم هذا فإن ترامب ألقى الصفقة جانباً، الأمر الذي دفع إيران إلى استئناف برنامجها النووي ليصبح أكثر استفزازاً ما يزيد من خطر اندلاع حرب كارثية أخرى في المنطقة”[16].

شروط حازمة ورد حاسم:

دائماً ما يؤكد بايدن على رؤيته المشروطة والمتوازنة تجاه إيران، والتي تقوم على أن رغبته بالعودة إلى الاتفاق النووي لا تنفي وعيه بهوية نظامها أو ممارساتها وخطابها، وسياستها التدخلية والمخربة في عدد من بلدان المنطقة، فهو لا ينكر زعزعتها للاستقرار في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وسلوكها الديكتاتوري في الداخل، بل يتذكر ما فعله الثوار في الثورة الخمينية من احتجاز الرهائن بالسفارة الأمريكية في طهران عام 1979 لمدة طويلة، فيقول: “الحقيقة أنني لا أخشى أي أوهام بشأن النظام الإيراني، الذي انخرط في سلوكيات مزعزعة للاستقرار في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، والذي أقدم على قمع المحتجين في الداخل، واحتجز الأمريكيين ظلماً. ولكن هناك طريقة ذكية لمواجهة التهديد الذي تفرضه إيران على مصالحنا كما أن هناك طرقاً هدامة. وقد اختار ترامب الخيار الثاني. وكان مقتل قاسم سليماني مؤخراً، قائد قوة القدس في إيران، سبباً في إزالة عنصر خطير ولكنه أثار احتمال اندلاع دورة عنف متصاعدة في المنطقة أيضاً، كما دفع طهران إلى التخلي عن الحدود النووية التي تم فرضها بموجب الاتفاق النووي”[17].

تماهى خطاب بايدن في حملته الرئاسية وبعدها مع البرنامج الجديد للحزب الديموقراطي، الذي أكد على أنه لا ينبغي للولايات المتحدة أن تفرض تغيير النظام على الدول الأخرى، وأن ترفض ذلك كهدف للسياسة الأمريكية تجاه إيران. ويرى الديمقراطيون أن خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني) لا تزال أفضل وسيلة لقطع جميع مسارات إيران نحو القنبلة النووية على نحو يمكن التحقق منه، إذ إن انسحاب إدارة ترامب من جانب واحد من هذه الخطة “عزلنا عن حلفائنا وفتح الباب أمام إيران لاستئناف مسيرتها نحو المزيد من التخصيب، التي كانت خطة العمل الشاملة المشتركة قد أوقفتها”. ولهذا السبب يعتقد الحزب الديموقراطي أن العودة إلى الالتزام المتبادل للاتفاق أمر ملح للغاية، ويلح برنامج الحزب الديموقراطي الذي يطوره الحزب كل أربعة أعوام ليكون مرجعاً لسياسات وتوجهات أعضائه في المرحلة الجديدة، أنه كان من المفترض دائماً أن “يكون الاتفاق النووي بداية وليس نهاية دبلوماسيتنا” مع إيران. ومن ثم يؤيد الديمقراطيون بذل جهود دبلوماسية شاملة لتمديد القيود المفروضة على البرنامج النووي الإيراني والتصدي للأنشطة الإيرانية الأخرى التي تهددها، بما في ذلك عدوانها الإقليمي، وبرنامج الصواريخ الباليستية، والقمع الداخلي”[18].

وهكذا، تقوم رؤية بايدن تجاه إيران على الحرص على الحوار وعدم القطيعة، والعمل على احتواء خطر إيران وإلزامها بالاعتدال، والرد على أي أنشطة عدوانية تقوم بها لزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط ودول الجوار، وفي هذا الصدد، يقول بادين مؤكداً على ذلك “يتعين على طهران أن تعود إلى الالتزام الصارم بالاتفاق النووي. وإذا فعلت ذلك، فسوف أعود إلى الانضمام إلى الاتفاق واستخدام التزامنا المتجدد بالدبلوماسية للعمل مع حلفائنا على تقويته وتوسيعه، في حين سأرد على أنشطة إيران الأخرى المزعزعة للاستقرار”[19].

 المحور الثالث: احتمالات ومؤشرات محتملة لخسارة الرهان على بايدن:

برغم تفاؤل قوى الإسلام السياسي السُّني والشيعي بفوز بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية واعتبارها أن الإدارة الأمريكية المقبلة ستختلف تماماً في تعاملها معها، فإن هناك العديد من العوامل التي قد تتسبب في خسارة تلك القوى رهانها على بايدن، وهو ما يمكن الحديث عنه بالتفصيل في الجزء التالي.

1– عوامل خاصة بالعلاقة بين الولايات المتحدة وإيران:

هناك مجموعة من العوامل التي قد تؤدي إلى خسارة إيران رهانها على بايدن، وتتمثل هذه العوامل فيما يلي:-

أ- أولويات خاصة بالسياسة الأمريكية:

قد لا تكون منطقة الشرق الأوسط، ومشكلاتها المعقدة خاصة في سوريا وليبيا والعراق، من أولويات بايدن في عامه الأول[20]، إذ إن أولوياته ستكون هي الداخل الأمريكي الذي يراه بحاجة إلى الإصلاح بعد ترامب، ومواجهة روسيا التي يرى أنها تستهدف الولايات المتحدة وحلفاءها، وتحديداً حلف الناتو، وقضية الحد من التسلح كما صرح بذلك في محاضرة له في تشاتام هاوس في أكتوبر سنة 2018، حين قال “ينبغي على الغرب أن يتنبه إلى الخطر الذي تشكله روسيا الضعيفة ولكن العدوانية، إن الروس يستخدمون كل وسيلة متاحة لزعزعة الاستقرار وزرع الخصومات”، مضيفاً “في رأيي، إن الهدف الرئيسي لبوتين هو تفكك الناتو والاتحاد الأوروبي، وليس استعادة الاتحاد السوفييتي.. بوتين يفضل التعامل مع دول منفصلة يمكن الضغط عليها أكثر من التعامل مع الغرب الديموقراطي الموحد”[21].

 ب- صعوبات فنية للعودة إلى الاتفاق النووي:

هناك تحديات وصعوبات كبيرة تقف في طريق عودة سهلة لبايدن إلى الاتفاق النووي الإيراني، فالشبكة المعقدة للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على مدى العامين الماضيين تمنحه قدراً كبيراً من النفوذ المحتمل، إذا اختار اللجوء إليها. وحتى الآن لم يتحدث بايدن إلا عما يتعلق بدعم إيران لالتزامات الاتفاق النووي حيث يجب على طهران “الامتثال والالتزام الصارم”. وهنا يكمن التحدي الحقيقي. فبعد خروج ترامب من الاتفاق النووي، بدأت إيران تتراجع عن التزاماتها، ومن ثم ستكون مرحلة التأكد من عودتها لهذه الإلتزامات أمراً صعباً يحتاج إلى جهد كبير.

ومما يشير إلى صعوبة هذه العملية، ما أشارت إليه الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تقريرها الفصلي الصادر في نوفمبر 2020، حيث ذكرت أن إيران خزنت نحو 12 ضعفاً من كمية اليورانيوم المنخفض التخصيب المسموح بها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة، وأوضحت أن هذا المخزون وصل إلى 2442.9 كيلوغراماً في شهر نوفمبر 2020، وأضافت الوكالة أن إيران تواصل تخصيب اليورانيوم، بدرجة نقاء تصل إلى 4.5 في المئة، ما يمثل انتهاكاً لسقف 3.67 في المئة المتفق عليه بموجب الاتفاق النووي[22].

ج- احتمالات نشوب خلاف أعمق بين إيران والولايات المتحدة:

يلاحظ على موقف إيران الرسمي رغم ترحيبه بسقوط ترامب في الانتخابات وتعبيره عن تفاؤله ببايدن، تزمته ولغته العنيفة وتصلبه في مطالبه، فكما أشرنا يتمسك- على الضد من الإدارة الأمريكية- بعدم مناقشة بنود الاتفاق النووي والعودة مباشرة له ورفع العقوبات فوراً، وهو أمر قد يثير خلافاً مع الإدارة الجديدة قد يدفعها إلى التشدد.

إلى جانب ذلك، فإن نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقررة في يونيو 2021 قد تزيد من حدة الخلافات مع الولايات المتحدة خاصة إذا ما نجح فيها تيار المحافظين المتشددين، وهو أمر متوقع في ظل تراجع نفوذ المعتدلين أمثال حسن روحاني، وذلك نتيجة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعانيها الإيرانيون بسبب استمرار العقوبات الأمريكية.

وسيشكل فوز المحافظين بمنصب الرئاسة في إيران، إذا حدث- تغيراً في معادلة ظلت سائدة طوال 23 عاماً مفادها أنه كلما فاز مرشح جمهوري بالرئاسة الأمريكية، فاز التيار المحافظ بالرئاسة في إيران. وعلى العكس، عند فوز مرشّحٍ ديموقراطي بالرئاسة الأمريكية، يفوز تيار الإصلاحيين أو المعتدلين بمنصب الرئاسة في إيران. وعلى سبيل المثال أصبح الإصلاحي محمد خاتمي رئيساً للجمهورية الإيرانية في عام 1997، عندما كان الديموقراطي بيل كلينتون رئيساً للولايات المتحدة. فيما تبوأ الأصولي محمود أحمدي نجاد الرئاسة عام 2005، عندما كان الجمهوري جورج بوش الابن رئيساً لأمريكا، وتَسلّم المعتدل حسن روحاني الرئاسة عام 2013، عندما كان الديموقراطي باراك أوباما يسكن البيت الأبيض.

قد تَتغيّر هذه المعادلة في هذه المرحلة؛ إذ ربّما يصل التيار المحافظ ممثلاً في اللواء حسين دهقان المستشار العسكري للمرشد الذي أعلن ترشحه رسمياً [23]، إلى السلطة، خاصة مع تراجع فرص التيار المعتدل في ظل أزمة الاقتصاد الإيراني. ومن ثم فإن فوز المحافظين في انتخابات الرئاسة الإيرانية قد يزيد العلاقات مع الولايات المتحدة تأزماً، الأمر الذي قد ينعكس على الاتفاق النووي وإصرار بايدن على أن تقوم إيران بالالتزام به بشكل صارم.

د- تنامي نزعة إيران التدخلية واستمرار تهديداتها:

في ظل التوقعات بفوز تيار المحافظين في الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقررة في يونيو 2021، يبدو من الصعب أن تتخلى إيران عن طموحاتها الإقليمية، ومن ثم من المؤكد أن تتنامى نزعتها التدخلية في شؤون دول المنطقة وأن تستمر تهديداتها لهذه الدول، وهو أمر من شأنه إثارة خلافات شديدة مع إدارة بايدن.

فعلى العكس من اشتراط بايدن وبرنامج الحزب الديموقراطي وقف إيران لسياستها العدوانية والتدخلية، يلاحظ ازدياد حضور هذه السياسة في ظل تأجيج الصراع بين الأذرع المسلحة الموالية لها وبين القوات الأمريكية في العراق في الشهور الأخيرة. ومن بين هذه الأذرع تبرز ميليشيات الحشد الشعبي التي يقدر عددها بما يتراوح ما بين 75 ألف إلى 150 ألف مقاتل موزعين على 50 ميليشيا، والتي تمتلك مخزوناً كبيراً من الصواريخ غير الموجهة من عيار 107 ملم و122 ملم المصنوعة محلياً في إيران، حيث أطلق مقاتلوها منذ 12 سبتمبر 2018 أكثر من 30 صاروخاً على منشآت أمريكية في العراق، منها السفارة الأمريكية في بغداد، والقنصلية في البصرة، ومرافق التدريب العسكري في التاجي والموصل ونينوى[24].

إلى جانب ذلك فإن هناك من المؤشرات الأخرى على استمرار هذه السياسات الإيرانية، من بينها القدرات التي تمتلكها بعض الأذرع التابعة لإيران مثل حزب الله اللبناني وحركة الحوثيين، فالأول يمتلك ما يقدر بـ 130000 صاروخ قصير المدى، فيما تمتلك الثانية ترسانة من القذائف حتى أنها أطلقت أكثر من 250 قذيفة على السعودية منذ عام 2015[25].

2– عوامل متعلقة بالإسلام السياسي السُّني:

ثمة عوامل رئيسية تمثل مؤشرات محتملة لخسارة تيار الإسلام السياسي السُّني رهانه على إدارة بايدن القادمة تتمثل فيما يلي:

أ- رفض الرأي العام الغربي لتيار الإسلام السياسي السُّني، حيث تنامى تيار أكاديمي وإعلامي غربي واسع، يرفض توظيف قضايا حقوق الإنسان وانتهاكاته من قِبل جماعات التطرف، خاصة بعد معاناة أعوام مع العائدين من “داعش” ومن بؤر الصراع في منطقة الشرق الأوسط. كما أن تجربة التغيير الثوري والاحتجاجي وإسقاط الأنظمة، صار أمراً مرفوضاً ومحل تحفظ خاصة وأنها لم تعد تحظى بالقبول التي كانت عليها عام 2011، سيما وأن قوى الإسلام السُّني نجحت في اختطاف هذه التجارب لصالحها ما أدى إلى حالات من عدم الاستقرار السياسي التي أنتجت أزمات عنيفة في بعض دول المنطقة.

ب- الخبرة التاريخية لتجارب الإسلاميين أنفسهم في الحكم، وخاصة الإخوان المسلمين في مصر، حيث أثبتت هذه التجارب فشلهم الذريع في التعامل مع أمور الحكم وفي إدارة الدول، ولاسيما أنهم انقلبوا على الآليات الديموقراطية التي أوصلتهم إلى الحكم كما حدث في مصر، وهو ما أكدته إدارة أوباما نفسها في تصريحات صدرت في يوليو 2013 حين أعلنت أن “الرئيس مرسي لم يكُن يحكُم بطريقة ديموقراطية وأن ملايين المصريين خرجوا إلى الشوارع والميادين مطالبين بعزله وهُم يرون أن مساندة الجيش للشعب لا تشكِّـل انقلاباً”[26].

ج- أثبتت الخبرة التاريخية أن دعم التغيير الثوري في الدول والأنظمة يحتاج تعقلاً، خاصة بعد ما شهدته بلدان العالم العربي والإسلامي من تحول “الربيع الديموقراطي” الذي وعدت به إلى “ربيع إسلاموي” ثم إلى “داعش” ثم حروب أهلية في كثير من بلدانه.

د- وجود سياق عالمي تغلب عليه النزعات اليمينية والشعبوية، وتيارات الإسلاموفوبيا، وعودة الإرهاب وعملياته في عدد من بلدان الغرب ووسط جالياته المسلمة، ومواجهة أخطار العائدين من داعش، وتوجه دول كألمانيا وفرنسا وبريطانيا للتخلي عن تصورها المعتدل للإسلام السياسي، ورفض التفريق بين ما يسمى “الإرهاب الناعم” و”الإرهاب العنيف”، حيث يمثل الأول حاضنة له ورافداً تحريضياً على ممارساته في كثير من الأحيان.

ذ- أكد برنامج الحزب الديموقراطي الجديد للأربعة أعوام المقبلة وكذلك بايدن على أن أولوية القيم الديموقراطية وحقوق الإنسان تحتاج تمكيناً لها في الولايات المتحدة نفسها بعد حقبة ترامب، كما أكد أن رؤيته تجمع بين المصالح الأمنية والديموقراطية للولايات المتحدة وليس إحداهما فقط. وترتبط دعوة استعادة الولايات المتحدة دورها كشريك وزعيم لـ “العالم الحر” ارتباطاً مباشراً بمواجهة “الارتداد” عن الديموقراطية، ويشير هذا المصطلح إلى مجموعة علل؛ مثل: الفساد، وسوء الإدارة، والاستقطاب السياسي، وصعود قادة شعبويين أجهضوا ديموقراطياتهم. لذلك، سيتّجه تركيز بايدن إلى معالجة المشكلات بالنسبة إلى عدد متزايد من الأنظمة الديموقراطية (مثلًا: المجر، وبولندا، والبرازيل، والولايات المتحدة بطبيعة الحال)، وليس إلى تعزيز الديموقراطية في الأنظمة الموالية للولايات المتحدة، خاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تشهد نزاعات تهدد المصالح الأمنية الأمريكية نفسها، ومصالح حلفائها الإقليميين[27].

ز- العلاقة المتوترة بين بايدن وأردوغان: ففي ظل هذه الحالة من توتر العلاقات، يستحيل على أردوغان التأثير في قرارات بايدن من خلال اتصال هاتفي كما كان يفعل مع ترامب. ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى تسجيل لبايدن في يناير 2020 وتم تسريبه في أغسطس من العام نفسه، وصف فيه أردوغان بـ”المستبد”، مشدداً على ضرورة “تشجيع منافسيه لكي يتمكنوا من مواجهته وهزيمته”[28].

وثمة العديد من التوقعات بأن إدارة بايدن ستعمل على الحد من النفوذ التركي المتنامي والمتمدد، في بلدان عربية أو حتى أوروبية، عن طريق دعم العلاقات مع دول مناهضة للنفوذ التركي، كاليونان وقبرص، وتعزيز الالتزام الأمريكي الدائم بدعم الأكراد في مواجهة داعش، من خلال دعم إقامة كيان كردي مستقل في الشمال السوري، وهذا ما أثار حفيظة تركيا وأحد نقاط الاختلاف الجوهرية بين الجانبين.

خاتمة:

لا شك أن ثمة تغييراً منتظراً، وواقعاً مختلفاً سيعرفه العالم فيما يتعلق بالسياسة الأمريكية في عهد بايدن، لكنه لن يكون انقلاباً على ما سبقه ولن يكون تبرئة ممهورة لتيارات الإسلام السياسي يحقق أمانيها ومطالبها، أو يخلي مسؤوليتها من أخطائها وخطاياها الكبيرة. ولا شك أن سياسة إيران التي تستبق بوضع الشروط، في ظل استمرار سياساتها التدخلية والعدوانية، وحروب الوكالة، والمطالبة باستثناء ملف الصواريخ والعودة للاتفاق النووي دون شروط، ستزيد الأمر صعوبة بالنسبة إليها، وستدفع بايدن إلى مزيد من التشدد تجاهها. ويتجاهل رهان قوى الإسلام السياسي على مواقف حادة من قِبل إدارة بايدن تجاه دول منطقة الشرق الأوسط، المصالح المشتركة بينها وبين العديد من هذه الدول التي تواجه العديد من التحديات الأمنية.


الهوامش

[1] انظر مقابلة جو بايدن مع قناة إن بي سي نيوز الأمريكية، 25 نوفمبر 2020 على الرابط:  https://nbcnews.to/3aFHNUD

[2] المرجع السابق.

[3]  “فوز بايدن.. ترحيب الفصائل العراقية الموالية لإيران يثير “القلق”، موقع قناة الحرة الأمريكية، 9 نوفمبر 2020، على الرابط:      https://arbne.ws/341pkxz

[4]”Iran’s Rouhani says he is happy that ‘lawless’ Trump is leaving office”, Al ARABIYA,

16 December 2020, https://bit.ly/3anpJyi

[5]  “إدارة ترامب تعمل على تصنيف الإخوان المسلمين منظمة إرهابية”، موقع بي بي سي عربي، 30 إبريل 2019، على الرابط: https://bbc.in/3oHkQ6S

[6] “Muslim Brotherhood hopeful for a new Obama era”, Arab Weekly, 6 Nov.2020, https://bit.ly/2KHzvR6

[7] “الإخوان المسلمون تهنئ بايدن بفوزه في الانتخابات الامريكية”، موقع شبكة رصد الإخبارية، 8 نوفمبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/38jfBE0

[8]  “الغنوشي: فوز بايدن رسالة إيجابية للديموقراطية في العالم”، موقع ألترا تونس، 10 نوفمبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/2KHQJxL

[9] انظر صفحة فيسبوك الرسمية للدكتور حسام الشاذلي، على الرابط:

https://www.facebook.com/563965480368140/posts/3323693414395319/

[10] “تفاعل كبير بعد تغريدة أنتوني بلينكن المتعلقة بسجن نشطاء مصريين”، الاتحاد برس، 25 نوفمبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/2KqQmrx

[11] “روحاني: ليس لدي شك في أن الإدارة الأمريكية القادمة ستعود إلى التزاماتها”، موقع إيران إنترناشونال، 17 ديسمبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/3ayWd8L

[12] ” ظريف: سلوك البيت الأبيض بعد الانتخابات مهم لنا وليس الوعود والشعارات”، وكالة الأنباء الإيرانية إرنا، 3 نوفمبر 2020،على الرابط: https://bit.ly/3phjO25

[13] https://www.jpost.com/breaking-news/rouhani-irans-missile-program-is-non-negotiable-652075

[14]Joseph R. Biden, Jr, “Why America Must Lead again? Rescuing U.S. Foreign Policy After Trump”, Foreign Affairs, March/April 2020, https://fam.ag/2LMcY5Y

[15] Ibid

[16] Ibid

[17] Ibid

[18] : PARTY PLATFORMTHE 2020 DEMOCRATIC PLATFORM, https://democrats.org/where-we-stand/party-platform/ p.81-82

[19] Joseph R. Biden, Jr, Why America Must Lead again? Rescuing U.S. Foreign Policy After Trump, Foreign policy in 23 January 2020,

[20] مصطفى زهران، بايدن والإسلاميون، بين الحسم والمواجهة، موقع ذات مصر،16 نوفمبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/3h8zFNe

[21] “سياسة بايدن إزاء روسيا.. القليل من الود والتركيز على قضيتين أساسيتين”، موقع الحرة، 9 نوفمبر 2020، على الرابط:  https://arbne.ws/2LWM6Ar

[22]” اليورانيوم المخصب: مخزون إيران يزيد على “12 ضعفاً” على الحد المسموح”، بي بي سي عربي، 12 نوفمبر 2020، على الرابط: https://bbc.in/3rjAveP

[23] “مستشار عسكري لـ«المرشد» الإيراني يعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية”، صحيفة الشرق الأوسط، 25 نوفمبر 2020، على الرابط: https://bit.ly/3nDa6GL

[24]  Paul Adams, After Trump, what will Biden do about Iran? BBC Website in 18 Nov.2020, https://www.bbc.com/news/world-middle-east-54958361

[25]  خامنئي، جربنا المفاوضات لرفع العقوبات ولم نحصد شيئاً، جريدة الرأي الكويتية، 24 نوفمبر 2020، على الرابط:   https://bit.ly/3nJKRmk

[26] “متى يكون الانقلاب ليس انقلاباً؟ أوباما يواجه وضعاً محيراً في مصر”، وكالة رويترز، 4 يوليو 2013، على الرابط:  https://reut.rs/34toNEI

[27]  دانيال برومبرغ، “حقوق الإنسان في انتخابات الرئاسة الأمريكية”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 29 أكتوبر 2020، على الرابط: https://www.dohainstitute.org/ar/PoliticalStudies/Pages/Human-Rights-in-US-2020-Elections.aspx

[28]  ” وصف أردوغان بـ”المستبد”.. أنقرة غاضبة من انتقادات بايدن، دويتشه فيله، 16 أغسطس ة 2020، على الرابط:  https://bit.ly/3aq50tI

المواضيع ذات الصلة