أثارت زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، يوم الثلاثاء الموافق 2 أغسطس، تايوان غضب الصين وعدَّتها خرقاً خطِراً للسيادة ومغامرة غير محسوبة وحذرت من عواقب وخيمة لها، بينما أكدت الولايات المتحدة مجدداً على لسان كبار مسؤوليها بمن فيهم الرئيس بايدن وبيلوسي نفسها، أنْ لا تغيير على موقفها من سياسة الصين واحدة، وأن الزيارة جاءت لإظهار تأييد ديمقراطيتها ودعمها، وتعزيز التعاون المشترك معها؛ الأمر الذي لم تقبل به الصين، وعدَّته مجردَ ذرٍّ للرماد في العيون، وأطلقت على الفور تدريبات عسكرية عِدَّة في محيط تايوان؛ الأمر الذي يُنذر بتصعيدٍ خطِر ليس في العلاقات بين واشنطن وبكين فقط، وإنما في منطقة شرق آسيا برمتها أيضاً.
والسؤال المطروح الآن: ما حدود التصعيد المتوقع بين البلدين، وهل ستتخذ الصين ما عدَّته “لعباً بالنار” ذريعة لغزو تايوان أو التحرك عسكرياً ضدها؟ وماذا سيكون رد الفعل الأمريكي إذا ما أقدمت بكين على مثل هذه الخطوة الخطِرة التي من شأنها أن تنسف الاستقرار “الهش” في تلك المنطقة الحيوية من العالم؟
المشكلة
العلاقة بين الصين وتايوان مثيرة للجدل، وتمتاز بالتعقيد بحكم جذورها التاريخية وارتباطها بالحرب الأهلية عام 1949، التي اندلعت بعد أن واجه الحزب القومي الوطني الذي كان يحكم الصين معارضة شديدة من الحزب الشيوعي الصيني، وسرعان ما تحول الخلاف بينهما إلى صراعٍ مسلحٍ انتهى بهزيمة الحزب القومي وانقسام الصين إلى كيانين أو دولتين منفصلتين، حيث هربت عناصر الحكومة المهزومة إلى تايوان وشكّلوا حكومة هناك، فيما أسس الشيوعيون في الصين بزعامة ماو تسي تونغ، جمهورية الصين الشعبية.
وقد حظيت تايوان باعتراف الغرب ودعمه، ولكنه اعتراف محدود للغاية، حيث تعترف باستقلالها 22 دولة فقط من أصل 196 دولة حول العالم، ومعظم من يعترف بها دول صغيرة ليس لها أي تأثير في السياسة الدولية. والحقيقة أن الصين نجحت خاصة في السنوات الأخيرة، في إقناع عدد من الدول بسحب اعترافها.
وتُعدّ الصين تايوان جزءاً لا يتجزأ منها وتدّعي السيادة عليها، لذا فهي حساسة جداً من أي سياسة أو تحرك أو حتى أي إيماءات يبدو أنها تُعامِل الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي بوصفها دولة مستقلة.
في المقابل تعترف الولايات المتحدة واقعياً وليس قانونياً بتايوان وتتبنّـى في الوقت نفسه منذ عام 1979 سياسة الصين موحدة، ولكنها تؤكد أن توحيد البلدين لابد أن يكون من خلال الحوار وليس القوة. ففي أكتوبر 2020، وخلال لقاء تلفزيوني نظمته شبكة “سي إن إن” (CNN) التلفزيونية، ردَّ الرئيس الأمريكي، جو بايدن، على سؤال عما إذا كانت بلاده مستعدة للدفاع عسكرياً عن تايوان إذا تعرضت الجزيرة لهجوم صيني بالقول: “نعم لدينا التزام بهذا الشأن.”
وفي 23 مايو 2022، جدد بايدن خلال زيارته لمنطقة شرق آسيا تأكيده أن بلاده سترد عسكرياً في حال هجوم الصين على تايوان.
وقد أعاد التأكيد في مكالمته يوم الخميس الماضي مع الرئيس الصيني، بأن الولايات المتحدة ملتزمة بالدفاع عن تايوان، حتى مع إصراره على عدم وجود تغيير في سياسة “الغموض الاستراتيجي”، التي بموجبها لا تتخذ الولايات المتحدة أي موقف واضح بشأن هذه القضية، وأنها تتمسك بـ”سياسة الصين الواحدة”، حيث لا ترفض واشنطن كما لا تقبل ادعاءات بكين بشأن السيادة على تايوان، ولا تعترف باستقلالها أيضاً.
أهمية الزيارة
تكتسب زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان أهمية خاصة لأسباب عدة، أهمها:
أولاً، هذه أول زيارة لمسؤول أمريكي رفيع المستوى منذ عام 1997. فبيلوسي تُعدُّ وفق الدستور الأمريكي ثالث أكبر سلطة في البلاد بعد الرئيس ونائبه.
وهذا ما يفسر ردّ الفعل الصيني العنيف؛ فقد سبق وزار مشرعون ومسؤولون أقل مستوى تايوان ولم تكن بكين تثير الكثير من ردود الأفعال، بينما تُعدُّ زيارة بيلوسي بحكم موقعها كزعيمة لمجلس النواب الأمريكي وترتيبها القيادي في النظام الأمريكي، خطوة خطِرة وغير مقبولة؛ وكما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو لي جيان: إن “مكانتها باعتبارها المسؤولة الأمريكية رقم (3) تعني أن الرحلة حساسة للغاية”.
ثانياً، تأتي الزيارة قبيل أشهر من الانتخابات النصفية، ومن ثم فإن لها بُعداً داخلياً مهماً. وبرغم أن الزيارة حظيت بدعم من الحزبين في الكونغرس، خاصة أن الهدف منها كما أعلنت بيلوسي هو إظهار الدعم لتايوان وتأكيد التزام أمريكا الثابت بدعم ما سمته “الديمقراطية النابضة بالحياة في تايوان”؛ فإن مثل هذه الخطوة قد تخدم الديمقراطيين الذين يعانون تراجع شعبيتهم وسط توقعات بخسارتهم في الانتخابات النصفية في نوفمبر المقبل، وقد تخدم بيلوسي نفسها إذ تسعى إلى إعادة انتخابها بينما تواجه تحديات في هذا السياق.
ثالثاً، تأتي الزيارة ضمن جولة مهمة تقوم بها نانسي إلى المنطقة لتعزيز علاقات واشنطن بحلفائها في شرق آسيا وجنوب شرقها، وتأكيد التزاماتها التحالفية معها. وقد شملت المحطة الأولى في الرحلة لقاءات مع القادة في سنغافورة ومن ثم ماليزيا التي انطلقت منها بيلوسي إلى محطتها الثالثة، تايوان، وسط ترقب كبير خاصة أنها أبقت على احتمال توقفها بتايبيه لغزاً حتى اللحظة الأخيرة. وتشمل الجولة زيارتين مهمتين لأهم حلفائها في شرق آسيا وهم اليابان وكوريا الجنوبية.
موقف البيت الأبيض
لم يعارض البيت الأبيض الزيارة بشكل صريح، ولكنه كما يبدو لم يكن متشجعاً لها خاصة في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها العلاقات بين البلدين، لاسيَّما أنها تأتي في وقت حساس جداً بالنسبة إلى أمريكا أيضاً، حيث تحتاج مساعدة الصين في قضايا إقليمية ودولية عدة؛ ما يجعل من الصعب المضي قُدُماً في التعاون معها في ملفات مهمة، مثل: الحرب في أوكرانيا، حيث تحاول الإدارة الأمريكية استمالة الصين وتغيير موقفها بشأن الصراع، ولذلك فقد حذر الرئيس بايدن علناً من أن الجيش الأمريكي شعر بأن الزيارة “ليست فكرة جيدة الآن”.
وقد حذر المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي، من ذلك ومن قيام بكين بالرد بـ”الاستفزازات العسكرية”، مثل إطلاق الصواريخ على مضيق تايوان أو اختراق منطقة تحديد الدفاع الجوي التايوانية، ولكنه شدد على أن بيلوسي لها “الحق” في زيارة تايوان وأن الزيارة لا تشير إلى أي تغيير في السياسة الأمريكية. وهذا الموقف طبيعي حيث يوجد فصل تام في السلطات في الولايات المتحدة، وليس للسلطة التنفيذية أي صلاحية على الكونغرس في مثل هذه الأمور.
موقف الصين
منذ البداية أعلنت الصين رفضها الزيارة وحذرت منها بشدة، وعدَّتها استفزازاً سياسياً، وقد وجه الرئيس شي جين بينغ، تحذيراً إلى بايدن بشأن تايوان في محادثةٍ هاتفية يوم الخميس الماضي قائلاً: “أولئك الذين يلعبون بالنار سيهلكون بها”. وقد أعلنت الصين حتى قبل تأكيد الزيارة تمارين عسكرية في بحر الصين الجنوبي.
وما إن حطت طائرة بيلوسي في مطار سونغ شان في العاصمة التايوانية تايبيه حتى انتفضت الصين بمسؤوليها كلهم وأجهزتها منددةً بالزيارة ومعتبرة إياها “انتهاكاً خطِراً لسيادة الصين وسلامة أراضيها”، واستدعت وزارة الخارجية الصينية سفير الولايات المتحدة لدى بكين، نيكولاس بيرنز، للاحتجاج على الزيارة، وحذرت من “تأثير خطِر” على الأساس السياسي للعلاقات الصينية-الأمريكية، كما حذرت من أن الزيارة “تقوض بشكل خطِر السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان، وترسل إشارة خاطئة إلى القوات الانفصالية بشأن استقلال تايوان”.
وكرر الجيش الصيني التهديد بعواقب وخيمة، وقال المتحدث باسمه، تشاو لي جيان: إن الجيش “لن يقف مكتوف الأيدي أبداً” رداً على مثل هذا “التدخل الجسيم في الشؤون الداخلية للصين”؛ ما قد يُفهم منه التلويح بإمكانية استخدام القوة العسكرية.
إذاً هل تغزو الصين تايوان؟
لطالما كانت مسألة غزو الصين تايوان مثار قلق حقيقي ليس لتايبيه أو واشنطن فقط، وإنما لدول المنطقة الأخرى أيضاً، لاسيَّما اليابان وكوريا الجنوبية. وقد تزايدت في السنوات الأخيرة الخشية من غزو صيني للجزيرة في ظل تنامي التوتر في بحر الصين الجنوبي.
وجاءت الحرب الروسية على أوكرانيا أواخر فبراير من هذا العام لتثير المخاوف من احتمال قيام الصين بخطوة في هذا الاتجاه مستغلة انشغال واشنطن والغرب عموماً بأوكرانيا والمواجهة مع روسيا وملفات أخرى.
وسط هذا الركام كله من الأحداث الشائكة، تأتي زيارة بيلوسي لتصب الزيت على النار ولتثير الحديث عن هذا الخيار بشكل أكبر، حيث جددت هذه الخطوة ورَدّ الفعل القوي الرافض من قبل بكين، التكهنات بأن تايوان يمكن أن تصبح نقطة اشتعال عسكرية عاجلاً وليس آجلاً.
وقد سبق وتعهدت الحكومة الصينية مراراً وتكراراً بالسيطرة على الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي، وهددت باللجوء إلى القوة أيضاً إذا لزم الأمر ولا يستبعد المسؤولون الأمريكيون والتايوانيون القيام بذلك، بل وقد سبق وتحدثوا عن جداول زمنية مختلفة للغزو، حيث توقعوا حدوث ذلك في عام 2025 بينما تحدثت تقارير استخباراتية عن إمكانية القيام بذلك بحلول عام 2030.
ومع وجاهة تلك العوامل كلها، إلى جانب خطورة موقف التصعيد المستمر منذ أشهر وليس بعد زيارة بيلوسي فقط؛ فإنه يبدو أن الصين لن تغزو أو تتخذ خطوة عسكرية ضد تايوان في هذه المرحلة أو حتى في غضون سنة أو سنتين من الآن، وذلك لأسباب عدة من أهمها:
أولاً، الخشية من رد فعل الولايات المتحدة كما حدث في حالة غزو روسيا أوكرانيا؛ إذ يُمثل رد الفعل القوي من الغرب رادعاً قوياً لهجوم صيني محتمل على تايوان.
ومن ثم فإن هناك حذراً شديداً من جانب الصين خشية العواقب المترتبة على مثل هذه الخطوة، حيث يمكن أن تفجر صراعاً إقليمياً شاملاً أو حرباً غير مضمونة النتائج بالنسبة إليها.
ثانياً، هذه مبادرة من الكونغرس، الذي هو جزء من النظام الأمريكي ويمثل الذراع التشريعية له، ولا يحق للرئيس منع رئيسة مجلس النواب أو أي عضو آخر من القيام بمثل هذه الخطوة.
وتدرك الصين أن بيلوسي لا تمثل سياسة أمريكا، لاسيَّما مع تأكيد البيت الأبيض أنه لا تغيير في سياسة واشنطن من مسألة تايوان، وقد سعى المسؤولون الأمريكيون قبل الزيارة وخلالها وبعدها، إلى طمأنة الصين بأن بلادهم لا تزال ملتزمة بمبدأ الصين الواحدة.
ثالثاً، الأوضاع الداخلية في الصين، حيث يسعى الرئيس الصيني شي جين بينغ، إلى توطيد حكمه بعد المؤتمر العشرين للحزب الذي سينعقد هذا العام، ويكتسب أهمية كبيرة بوصفه محطة مهمة يسعى الرئيس عبرها إلى إعادة انتخابه وتكريس النهج والممارسة التي يتبعها في قيادة الصين، في وقت تواجه فيه إدارته تحديات كبيرة في الداخل والخارج، حيث تسببت سياسة “صفر كوفيد” التي أصرت عليها الحكومة الصينية في حدوث تباطؤ اقتصادي واستياء شعبي، ترافق مع استمرار الخلافات التجارية الحادة مع واشنطن.
وفي ظل هذه الظروف سيكون من الصعب على الصين القيام بخطوة من شأنها أن تقلب الأوضاع رأساً على عقب، داخلياً وخارجياً.
رابعاً، الغزو سيضر بالمصالح الاقتصادية للأطراف كلها دون استثناء. فأي حرب سوف تؤدي إلى اضطرابات اقتصادية للصين وتايوان والدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة، فضلاً عن أنها ستهدد التجارة والملاحة العالميتين، بالنظر إلى حجم التجارة البحرية التي تمر عبر مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، ولذلك سيحرص الجميع على عدم التصعيد.
ومن ثم فإن خيار الغزو أو الحرب هو السيناريو الأسوأ على الإطلاق للأطراف كلها، ويبدو أن أياً من الأطراف وفي مقدمتها الصين -برغم تهديداتها المتكررة- لا ترغب فيه.
خامساً، هناك عوائق تتعلق بالقدرات أيضاً، فالصين قوة كبرى، ولكنها مع ذلك تفتقر إلى القوة العسكرية والقدرة على شن غزو برمائي واسع النطاق لتايوان في المستقبل المنظور.
فتايوان وبرغم صغرها (عدد سكانها 23 مليون نسمة)، ليست دولة ضعيفة، ولديها قوة دفاعية محتملة كبيرة تبلغ 450 ألف عنصر، فضلاً عن العدد الاحتياطي الذي يبلغ نحو مليون ونصف عنصر، وباستخدام النسبة التقليدية من ثلاثة إلى واحد من المهاجمين إلى المدافعين (وفقاً لنظريات الحرب)، المطلوبة للقيام بالغزو؛ فإن الصين ستحتاج إلى أكثر من 1.2 مليون جندي إذا ما قررت اجتياح الجزيرة، بكل ما يترتب على ذلك من صعوبات لوجستية قد تجعل أي خطوة عسكرية محفوفة بالمخاطر، فضلاً عن أنها غير مضمونة النتيجة خاصة مع وجود التزام أمريكي قوي للدفاع عن تايوان، وتوقع دعم غربي مطلق لها في حالة وقوع الحرب.
هذا لا يعني بالطبع أنه لا توجد خيارات أخرى لدى الصين غير الغزو للضغط على تايوان. فقد تفرض بكين حظراً اقتصادياً ومالياً على تايوان، أو حتى حصاراً بحرياً، أو تحاول تغيير النظام؛ ولكن لا يتوقع بالمقابل أن تقف واشنطن مكتوفة الأيدي وهي تملك من الإمكانات التي تردع مختلف هذه السيناريوهات أو الخيارات.
ولا يتوقع أن تتردد في ذلك ليس بالضرورة من باب التزامها الدفاع عن تايوان، ولكن أيضاً من أجل مصالحها في تلك المنطقة، فسيطرة الصين على تايوان ستقوض ليس فقط المصالح الأمريكية، بل وربما الوجود العسكري هناك وستكون قواتها البحرية أكثر عرضة للتهديد من الصين إذا ما كانت تسيطر على تايوان ومضيقها والمناطق المحيطة بها.
وأخيراً وليس آخراً، فإن مسألة غزو تايوان تبقى قائمة طالما استمر التوتر الإقليمي في منطقة بحر الصين الجنوبي، ولكن ربما تكون الحالة الوحيدة-في ظل كل المعطيات المذكورة-، التي يمكن فيها أن تلجأ الصين لتحرك عسكري لضم تايوان بالقوة، هي إذا أعلنت الجزيرة الاستقلال، حيث سنَّت الحكومة الصينية منذ سنوات قانوناً يخولها استخدام القوة في حال أعلنت تايوان استقلالها.
وهذا أمر بالطبع مستبعد، ولا يلقى أي دعم حتى من أقرب حلفاء تايبيه، وهي الولايات المتحدة التي أكدت أنها تعارض الاستقلال؛ ما يعني في النهاية أن الوضع في تايوان سيبقى كما هو لسنوات قادمة.