تبدو الولايات المتحدة اليوم وكأنها تعود إلى جذور قديمة في التفكير الصناعي، لكنها تفعل ذلك بروح أمريكية خالصة، حيث تمتزج اعتبارات الأمن القومي بضرورات التجارة والوظائف، واتساع دور الدولة في الاقتصاد. فمع الصعود الصيني اللافت خلال العقدين الماضيين—حين قفزت حصة الصين من الصناعة العالمية من نحو 10% إلى ما يقرب من 35%، مقابل تراجع الولايات المتحدة واليابان وألمانيا—وجدت واشنطن نفسها أمام واقع جديد: قوة تصنيع أولى عالميًّا تزاحم نفوذها وتضغط على مكانتها الاستراتيجية. هذا التحول دفعها إلى إعادة تقييم عميقة لتوجهاتها الصناعية والتجارية، إدراكًا بأن المنافسة لم تعد تدور حول الأسعار والجودة فحسب، بل حول موازين القوة ذاتها.
وفي قلب هذه المراجعة، تعمل الولايات المتحدة على إعادة تشكيل خريطة الاقتصاد العالمي من خلال تحفيز إعادة توطين الصناعات داخل أراضيها، والحد من الاعتماد على المنتجات الصينية، وبناء شبكة تحالفات اقتصادية واسعة تخفف من مخاطر الاضطراب في سلاسل الإمداد. ورغم إدراك واشنطن أنها لا تستطيع تصنيع كل شيء داخل حدودها، فإنها تسعى إلى قدر يكفي لضمان أمنها التكنولوجي والاقتصادي. وعلى هذا الأساس، اندفعت الدولة الأمريكية نحو تدخل مباشر وغير مسبوق منذ عقود في النشاط الاقتصادي، دعمًا للصناعات الحيوية وتمويلًا للشركات التي تراها جزءًا من منظومة أمنها القومي، لتؤسس بذلك مرحلة جديدة تتجاوز ما كان يُعتقد أنه “النموذج الأمريكي التقليدي” للاقتصاد المفتوح.
غير أن هذا التحول كشف سريعًا أن إعادة توطين الصناعات—مهما اتسعت سياساتها—لا يمكن أن تكتمل دون السيطرة على المواد الخام التي تستند إليها التقنيات الحديثة، وهو ما وضع ملف المعادن الحيوية في صدارة التفكير الاستراتيجي الأمريكي والغربي على السواء.
تتعمق الولايات المتحدة وأوروبا في مسار جديد عنوانه “تأمين المواد الأولية” التي تقوم عليها الصناعات الحديثة، بعد أن أدرك الطرفان أن المنافسة التكنولوجية لا تبدأ من خطوط الإنتاج، بل من المناجم التي تُستخرج منها المعادن الحيوية. فمع اعتماد يصل في كثير من الأحيان إلى ما بين 80% و100% على استيراد الليثيوم والعناصر الأرضية النادرة والسكانديوم والإتريوم—معظمها من الصين—تحوّل “أمن المعادن” إلى أحد الأعمدة الرئيسية للسياسات الصناعية الغربية، إدراكًا بأن توقف هذه الإمدادات يعني توقف محركات السيارات الكهربائية، وتعطل إنتاج البطاريات، وشللًا في قدرات الطاقة المتجددة، وحتى في بعض التطبيقات الدفاعية الحساسة.
ولأن القلق تحول إلى معادلة استراتيجية لا يمكن تجاهلها، اندفعت الولايات المتحدة خلال عامي 2024 و2025 إلى اتخاذ خطوات غير مسبوقة عبر تدخل مباشر في ملكية شركات التعدين، في مشهد يعيد رسم حدود دور الدولة في الاقتصاد الأمريكي. ففي يوليو 2025، استثمرت وزارة الدفاع 400 مليون دولار في شركة MP Materials، لتصبح المساهم الحكومي الأكبر فيها بهدف تأمين العناصر الأرضية النادرة. وبعده بثلاثة أشهر فقط، حصلت الحكومة الأمريكية على حصة 5٪ في شركة Lithium Americas، إلى جانب مشاركتها في مشروع مشترك مع “جنرال موتورز” لتطوير أكبر منجم لليثيوم داخل الولايات المتحدة. ثم جاء الاستثمار في شركة Trilogy Metals مقابل حصة 10٪ لتأمين النحاس والزنك كجزء من استراتيجية واسعة لإحكام السيطرة على المعادن المرتبطة بصناعات الغد.
بهذا المشهد، يتأكد أن الغرب بات ينظر إلى المعادن الحيوية بوصفها موردًا سياديًّا لا يقل أهمية عن الطاقة أو الأمن الغذائي. ومن هنا جاءت سياسات التملك المباشر، والاستثمار الاستراتيجي، والتدخل الحكومي المكثف، باعتبارها أدوات ضرورية لضمان قدر أكبر من الاستقلالية وتقليل التعرض لواحد من أخطر أدوات الضغط في الاقتصاد العالمي: سلاح الإمدادات الذي تملكه الصين.
لم تكتفِ الولايات المتحدة بتعزيز حضورها داخل قطاع التعدين المحلي، بل انتقلت خطوة أبعد نحو صياغة شبكة دولية من الشراكات الثنائية تضمن تدفق المعادن الحيوية بصورة مستقرة، وتمنحها نفوذًا مباشرًا في المناطق التي تختزن أهم المواد الخام للصناعات التكنولوجية. وهو نهج صفقي الطابع تبنّته إدارة ترامب في 2025، يقوم على الربط بين الدعم الاقتصادي والاستثمار والبنية التحتية من جهة، وضمان الوصول الأمريكي للمعادن الاستراتيجية من جهة أخرى.
ففي أبريل 2025، أُعلن عن تأسيس صندوق استثمار لإعادة إعمار أوكرانيا، وهو إطار لم يهدف فقط إلى دعم اقتصاد كييف، بل أتاح لواشنطن دخولًا مباشرًا إلى معادن أوكرانيا الحساسة، وعلى رأسها التيتانيوم والعناصر الأرضية النادرة. ثم جاء توقيع الاتفاق الاستراتيجي مع السعودية في مايو 2025، الذي جمع بين التعاون في الطاقة والبنية التحتية وبين شراكات موسعة في مجال المعادن الحرجة، في إشارة واضحة إلى أن واشنطن باتت تنظر لهذه الملفات باعتبارها جزءًا من أمنها القومي الصناعي.
وتواصل هذا النهج في أكتوبر 2025 من خلال اتفاق مع أستراليا لتعزيز سلاسل توريد العناصر النادرة، نظرًا لكونها أحد أكبر المنتجين العالميين لهذه المعادن. كما شملت التحركات الأمريكية شراكات إضافية مع تايلاند وماليزيا واليابان تتعلق بالاستخراج والمعالجة، بما يضمن للولايات المتحدة موطئ قدم ثابتًا في مختلف مراحل سلسلة القيمة الخاصة بالمعادن الحيوية.
يكشف هذا التوسع أن واشنطن تعمل على بناء ما يمكن وصفه بـ ((تحالف معادن عالمي))، يحدّ من تقلبات الأسواق، ويمنحها قدرة أكبر على مواجهة المخاطر الجيوسياسية، ويعيد رسم خريطة السيطرة على المواد التي ستحدد موازين القوة في الاقتصاد العالمي لعقود مقبلة.
وفي الاتجاه المقابل، يتحرك الاتحاد الأوروبي بروح مختلفة لكن نحو الهدف ذاته: تأمين المعادن الحرجة باعتبارها الركيزة المركزية لمستقبله الصناعي والتكنولوجي. فبينما تركز الولايات المتحدة على التوسع في الملكية المباشرة والشراكات الثنائية، يضع الأوروبيون هذه المعادن في قلب استراتيجية متكاملة تمتد عبر عشرات المشاريع التي تشمل الاستخراج، والتصنيع، وإعادة التدوير، والبحث العلمي الرامي إلى تطوير بدائل تكنولوجية تقلّل من الاعتماد على الخارج.
وتُظهر البيانات أن أكثر المعادن أهمية للأوروبيين هي الليثيوم والكوبالت والنيكل والعناصر الأرضية النادرة، وهي المواد التي يتوقف عليها نجاح التحول الأخضر وصناعة البطاريات والسيارات الكهربائية. غير أن ضعف الاحتياطيات داخل دول الاتحاد جعل التركيز الأوروبي ينصبّ بصورة خاصة على مشروعات المعالجة الصناعية، باعتبارها الحلقة الأكثر حساسية في سلسلة القيمة، إلى جانب توسع متسارع في مشاريع إعادة تدوير الليثيوم والنيكل، بما يسمح بتقليل الاعتماد على الواردات الصينية والروسية.
ولا يتوقف الجهد الأوروبي عند حدوده الجغرافية، بل يمتد إلى شبكة واسعة من الشراكات خارج الاتحاد، في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وأستراليا، لبناء مصادر توريد أكثر استقرارًا وموثوقية. وبهذا النهج، يسعى الاتحاد إلى موازنة معادلة صعبة: بناء استقلال استراتيجي في قطاع المعادن الحيوية، مع تجنب الصدام الجيوسياسي الحاد، وتعويض محدودية الموارد الداخلية بتكامل أوسع مع شركاء متعددي الاتجاهات.
وبذلك، يبرز مسار مشترك يجمع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، رغم اختلاف الأدوات وتباين الأساليب: إعادة تشكيل خريطة الشراكات التجارية عالميًّا على أساس أمن المعادن الحرجة. فقد باتت هذه المعادن هي المحرك الخفي للتحالفات الجديدة والسياسات التجارية الناشئة، وهي التي تحدد أين تُبنى المصانع، ومع من تُعقد الاتفاقات، وكيف تُدار سلاسل القيمة في عالم يتجه نحو مزيد من التوتر الجيوسياسي.
ومع كل هذه التحولات، يتضح أن العالم يدخل مرحلة تتجاوز فيها المعادن دورها التقليدي كمُدخلات صناعية لتصبح أداة لإعادة توزيع النفوذ الاقتصادي، وصياغة التحالفات الدولية. فالولايات المتحدة وأوروبا تدركان أن التحكم في الليثيوم والعناصر الأرضية النادرة والنحاس والنيكل سيحدد سرعة تحولات الطاقة، ومستقبل الصناعات التكنولوجية، وموقع كل قوة كبرى في خريطة القرن الحادي والعشرين. وفي ظل منافسة لا تهدأ مع الصين، تتقدم المعادن الحيوية لتصبح معيارًا جديدًا للأمن القومي، وعنصرًا حاكمًا في رسم مسارات التصنيع والتجارة والاستثمار. وهكذا ينفتح فصل جديد في الاقتصاد العالمي، عنوانه أن الدول التي تنجح في تأمين مواردها وتعزيز قدراتها التصنيعية وبناء شراكات موثوق بها ستكون الأقدر على الاحتفاظ بمكانتها، أما من يتأخر اليوم فلن يجد موضع قدم في اقتصاد الغد.