مر تاريخ الجنس البشري خلال مراحل تطوره المختلفة بنقاط مفصلية مهمة غيرت مجراه ومساره بشكل أساسي. إحدى تلك النقاط المفصلية كانت انتقال أفراد الجنس البشري من حياة الصيد والجمع قبل أكثر من عشرة آلاف عام، إلى حياة الزراعة وتدجين الحيوانات. ورغم أن هذا التحول حدث في مناطق مختلفة ومتباعدة من العالم، إلا أن منطقة الشرق الأوسط تعتبر أولى المناطق التي شهدت هذا التحول الاجتماعي. وكنتيجة طبيعية للاعتماد على مصدر غذائي ساكن حركيا مثل المحاصيل والنباتات، اضطر الإنسان للتخلي عن حياة التنقل والترحال، واللجوء إلى التجمع والحياة في مستعمرات ثابتة، تشكلت في بداياتها من قرى صغيرة، نمت وتطورت لاحقا لتصبح مدنا وعواصم كبرى.
وحاليا تقدر الأمم المتحدة أن أكثر من نصف البشر يعيشون حاليا في مناطق حضرية، وأن عدد سكان المدن سيزيد بأكثر من مليار نسمة بنهاية العقد الحالي، مع التوقع باستمرار ازدياد هذه النسبة خلال العقود القادمة، ضمن ما يعرف بظاهرة التمديُن، وبالتبعية تركت هذه الظاهرة بصمتها على الحالة الصحية لقاطني المدن، حيث أدى التمدين المتسارع في فترة وجيزة، إلى زيادة في الوفيات الناتجة عن الأمراض المزمنة المرتبطة بنوعية ونمط الحياة.
وهذا ما حدى بمنظمة الصحة العالمية لتخصيص فعاليات يوم الصحة العالمي عام 2010، لتعزيز إدراك الوعي الشعبي والرسمي بقضية تأثير التمدين -أي الحياة في المدن-على صحة الأفراد والمجتمع ككل. وفتحت شعار “ألف مدينة وألف حياة”، إذ أطلقت المنظمة حينها حملة دولية دارت حول محورين رئيسيين؛ الأول محور الألف مدينة، وهدف إلى زيادة المساحات المتاحة من الأماكن العامة لغرض تدعيم النشاطات الصحية المختلفة، سواء كانت هذه الأماكن حدائق لغرض ممارسة الرياضات المختلفة، أو مبانٍ عامة لغرض تثقيف الجمهور صحيا، أو تنظيف الأرصفة والشوارع وإزالة ما قد تحمله في طياتها من مخاطر صحية، أو ربما حتى إغلاق أجزاء من المدينة وقصر استخدامها على المشاة، لخفض الناتج من عوادم السيارات، وتشجيع الأفراد على ممارسة المشي لقضاء احتياجاتهم اليومية. أما المحور الثاني، أو محور الألف حياة، فهدف لجمع ألف قصة لأشخاص بذلوا جهودا، تركت أثرا ملموسا في تحسين الظروف الصحية المعيشية للأفراد القاطنين في مدنهم.
وتتجه حاليا أصابع الاتهام تجاه ظاهرة التمدين بأنها تقف خلف الانتشار الوبائي للأمراض المزمنة غير المعدية بين أفراد الجنس البشري، وهي طائفة الأمراض التي تتسبب حاليا في 70 بالمئة من وفيات الجنس البشري، أي ما يعادل 41 مليون شخص سنويا. وترتبط الأمراض المزمنة بشكل خاص بما يعرف بعوامل الخطر، والتي كما يدل اسمها، هي العوامل والظروف التي تزيد من احتمالات الإصابة بمرض ما. مثل حجم ومقدار النشاط البدني والرياضي، ومستوى التوتر المزمن في الحياة اليومية، ونوعية وطبيعة الغذاء، بالإضافة إلى المحددات الاجتماعية للحالة الصحية، مثل الظروف الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، وهي جميعها عوامل خطر تزيد من حدتها ومن وطأتها الحياة في المدن العصرية.
وتندرج أمراض التمدين تلك لحد كبير أيضا، ضمن ما أصبح يعرف في عالم الطب بأمراض الثراء أو أمراض الأغنياء، التي تضم طائفة متنوعة من الأمراض الأخرى، مثل الأمراض السرطانية، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض المناعة الذاتية، والربو الشعبي، وإدمان الكحوليات، والاكتئاب، وطيفا آخر من الأمراض النفسية. وتتشابك العلاقة بين بعض تلك الأمراض، بحيث يصبح بعضها سببا أو نتيجة لبعض آخر، مثل السمنة التي تنتج جراء الإصابة ببعض الأمراض، وتتسبب هي نفسها في مجموعة أخرى. والملاحظ أن الاتجاه الحالي هو نحو تفاقم أمراض الثراء، وخصوصا في الدول الصناعية بسبب زيادة متوسط العمر والاعتماد على تقنيات الرفاهية بشكل أكبر، وكنتيجة لزيادة أعداد قاطني المدن. وتختلف أمراض التمديُن عن أمراض الأغنياء، في كون عبئها الأكبر يقع في الواقع على كاهل الفقراء من سكان المدن، الذين بالإضافة لإصابتهم بأمراض الأغنياء بسبب حياتهم في المدن، نجد أنهم أيضا أكثر عرضة لقائمة أطول وأكثر تنوعا من الأمراض.