شكّل انهيار الخلافة المكانية لتنظيم داعش (مارس 2019)، لحظة مفصلية في تاريخ حركة الجهاد المعولم، فبعد نحو 5 سنوات على إعلانه قيام دولته المزعومة في أجزاء من سوريا والعراق تحت شعار “باقية وتتمدد”، تبددت أحلام “داعش” في الحفاظ على الأراضي التي كانت خاضعة لسيطرته، بفعل الحملة العسكرية التي قادها خصومه وعلى رأسهم التحالف الدولي ضد التنظيم، وحلفاؤه السوريون والعراقيون على الأرض.
ومع سقوط آخر معاقله في قرية الباغوز فوقاني (تتبع إدارياً محافظة دير الزور السورية)، توجهت أنظار التنظيم صوب العائدين من أتباعه وأنصاره باعتبارهم ضمانة لبقاء علامته التجارية/ الجهادية، التي ترتكز على فكرة البقاء والتمدد، في حين أعاد هيكلة مجموعاته القتالية في صورة ولايات أمنية مهمتها شن حرب عصابات استنزافية دون السعي لاستعادة السيطرة على الأرض في المناطق التي انسحب منها.
ومن هذا المنطلق، تحاول هذه الورقة البحثية تقديم تصور موضوعي للتهديد الذي يمثله العائدون من داعش، والجهاديون المحليون الذين يوصفون بـ”الذئاب المنفردة”، في ظل حالة التعافي التي يعيشها تنظيم الدولة الإسلامية، مؤخراً، وانشغال الدول المختلفة بمواجهة جائحة كورونا وتداعياتها.
- تحولات فكرية واستراتيجية وتكتيكية
لا يمكن فصل معضلة الجهاديين العائدين أو المحليين عن التحولات الفكرية والاستراتيجية والتكتيكية التي حصلت داخل تنظيم الدولة الإسلامية، منذ خسارته لمعاقله الرئيسية في سوريا والعراق وليبيا وغيرها، فعلى المستوى الفكري، دخل التنظيم، خلال أعوام 2014، و2016، و2017، في سجال كبير حول قضية التكفير ومناطاته، والتي تمثل مرتكزاً أساسياً للفكر الجهادي، بالتوازي مع خسارته للمعاقل الرئيسية في العراق وسوريا وليبيا وغيرها، وانتهى هذا السجال لصالح المجموعة الأكثر تشدداً داخل داعش والتي تُعرف بـ”تيار اللجنة المفوضة” الذي ينتمي إليه الخليفة الحالي أبو إبراهيم الهاشمي[1].
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن سيطرة هذا التيار على مقاليد الأمور داخلياً، لن تؤدي إلى انعكاسات كبيرة على مستوى العمل التنظيمي وخصوصاً في قضية العائدين[2]، إذ تُجمع تيارات داعش المتصارعة على وجوب استهداف مصالح ورعايا الدول المحاربة له، بغض النظر عن كون هؤلاء الرعايا عسكريين أو مدنيين[3].
ودفعت المتغيرات السابقة في اتجاه تبنّي داعش لاستراتيجية عمل متريثة[4]، تركز على ترميم بنائه الهيكلي الذي تضرر للغاية بفعل الحملات العسكرية والأمنية المتتالية ضده، والسعي لإنشاء قواعد دعم جديدة واستعادة فاعلية شبكاته القديمة في مختلف الدول، مع تبنّي تكتيك قتالي استنزافي يعتمد على طريقة حرب الأشباح/ العصابات، التي تكون المجموعات القتالية (المفارز) فيها محدودة العدد وخفيفة الحركة وقادرة على المناورة وشن الهجمات دون وجود قيود كبيرة عليها.
وحرض التنظيم أنصاره في الدول المختلفة على شن هجمات بأي وسيلة ممكنة[5] سواء عبر إشعال الحرائق أو عمليات الطعن، والدهس.. إلخ. ويكشف هذا عن جزء من التحولات التكتيكية في الفكر الحركي لتنظيمات الجهاد المعولم، والتي أصبحت أكثر تركيزًا على دعوة الجهاديين المحليين لتنفيذ الهجمات، دون السعي لتسريب عناصرها إلى داخل البلاد المستهدفة، أو تحريك شبكاتها الداعمة للقيام بالهجمات الإرهابية، كما تُعطي لمحة عن الدور المتوقع أن يلعبه العائدون والذين سينخرط جزء منهم في شبكات الدعايا والتجنيد والتمويل لداعش، وبالتالي سيكون سعيهم منصبًا على استدامة وتعزيز تلك الشبكات دون التخطيط لتنفيذ هجمات إرهابية إلا في حالات استثنائية.
- تصنيف العائدين
تتميز قضية الجهاديين العائدين بأنها ذات بعد ديناميكي معقد، فحتى الآن لم يتم التوصل إلى حصر بأعدادهم، فضلًا عن عدم وجود آلية موحدة أو فاعلة بشكل كامل للتعاطي معهم، وتتراوح التقديرات السابقة لأعداد المقاتلين والعائدين، ففي حين يقدرهم مركز صوفان الأمريكي بـ30 ألف مقاتل، عاد منهم 7079[6]، يقدرهم المركز الدولي لدراسة الراديكالية بجامعة كينجز كولدج البريطانية بـ41490 مقاتلًا و7366 عائدًا[7].
ويمكن تصنيف العائدين إلى 6 فئات، هي:
- العائدون مبكرًا
وهؤلاء المقاتلين، تركوا داعش قبل انهيار الخلافة المكانية بسبب عدم توافقهم مع أفكاره/ ممارساته، وكانوا يصورون في إعلامه الرسمي بـ”المنتكسين، والفارين من الزحف”، ومع ذلك حرص التنظيم على خطابهم في أكثر من مناسبة وخصص رسائل عديدة لمخاطبتهم وإثارة عواطفهم وإعادة استقطابهم، وكان منها أنشودة عاطفية من إنتاج مؤسسة “أجناد للإنتاج الإعلامي”، بعنوان: “كنت حرًا شامخ الرأس أبيا”، ويُلاحظ أن أناشيد التنظيم تؤدي دورًا اتصاليًا تنظيميًا وليست مجرد أهازيج يرددها عناصره وأنصاره. ولا يمكن الجزم بما صار عليه عناصر هذه الفئة، أو معرفة ما إن كانوا قد تخلوا عن الفكر الجهادي أم لا، وتكمن الخطورة في احتمالية سعي بعضهم لشن هجمات إرهابية في البلدان التي عادوا لها، بدوافع ومبادرات ذاتية.
- العائدون الافتراضيون
ونقصد بهم الأفراد والمجموعات التي تم منعها من السفر للالتحاق بداعش أو غيره من التنظيمات الجهادية، أو تم اعتقالهم وترحيلهم من بلدان “الترانزيت” عندما كانوا في طريقهم للتنظيمات الجهادية، وربما ينفذ أعضاء هذه الفئة هجمات إرهابية بدافع شخصي، أو يسعوا مستقبلًا للالتحاق بساحات القتال، تمامًا كما فعل “ذباح داعش” أو الجهادي جون “محمد إموازي”، الذي قُبض عليه في تنزانيا عام 2009 أثناء توجهه إلى الصومال، قبل أن يعاود الكرة مجددًا في 2012، ويسافر إلى سوريا ويلتحق بتنظيم الدولة الإسلامية[8].
- المنشقون وفاقدوا الإيمان بداعش
كان الخلاف الذي خلقه السجال الفكري الداخلي في داعش، وتعرضه لضغط عسكري وحصار واختراق من قبل أجهزة الاستخبارات المعادية له، من ضمن الأسباب التي أدت لحدوث ارتباك على مستوى قياداته العليا والوسيطة، ونتيجة ذلك عمد التنظيم إلى اتباع مقاربة أمنية استبدادية في التعامل مع المخالفين فكريًا، والمعترضين على قرارته الإدارية أو العسكرية، والمتهمين بالعمالة والجاسوسية حتى دون إدانة، وزج بعدد كبير منهم في سجونه، وتصفية آخرين، وأدى ذلك لفرار وانشقاق العشرات من مقاتليه وقياداته البارزة وفقدانهم الإيمان بالتنظيم ككل[9]، قبل وبعد انهيار الخلافة المكانية.
وقد يشكل عناصر هذه الفئة مصادر استخبارية عالية القيمة، إذا تم تحويلهم لمصادر معلومات، وبالطبع سيساعد هذا أجهزة الأمن والاستخبارات في فهم التنظيم وآلية عمله وهيكله القيادي، وسيساهم في الحد من أنشطته وإحباط مؤامراته الإرهابية.
- الساخطون على قيادة داعش
هناك قطاع من المقاتلين والعائدين، سخطوا على قيادة داعش بسبب اتباع استراتيجيات وتكتيكات خاطئة أدت في نهاية المطاف لهزيمة التنظيم وخسارته لمناطق سيطرته[10]، لكن هؤلاء لم يتخلوا عن الفكر الجهادي، بل لعلهم يصبحون القاعدة البشرية التي تبنى عليها الجماعات الجهادية الخارجة من رحم داعش، مستقبلًا، كجماعة “على منهج أسامة” التي أطلق بعض المنشقون دعوات لتأسيسها في 2019[11].
- العناصر التنظيمية
عمد تنظيم الدولة الإسلامية إلى إخراج عدد من قيادته وعناصره الفاعلة بعيدًا عن معاقل سيطرته، وبناء شبكات دعم إعلامي ولوجيستي في عدد من الدول كتركيا ولبنان والمملكة المتحدة، وألمانيا والسويد.. إلخ[12]، إضافةً لنقله مقاتلين آخرين إلى مناطق نزاع أخرى كأفغانستان وغيرها[13].
ويصنف أفراد هذه الفئة ضمن الأكثر خطورة، لكن من غير المرجح أن يقوموا بتنفيذ هجمات إرهابية في المستقبل القريب، وذلك استنادًا للتجارب الجهادية السابقة[14]، وغالبًا سينصب تركيزهم على تجنيد أفراد جدد وتوفير دعم لوجيستي وإعلامي للتنظيم.
- المعتقلون والمنخرطون في برامج إعادة التأهيل
يشكل معتقلو داعش، أزمة ذات أبعاد مختلفة في دول عدة، خاصةً مع التعقيدات القانونية المتعلقة بإثبات الجرائم التي قد يكونوا ارتكبوها خارج البلاد، بجانب أن مقترح إنشاء محكمة دولية لمحاكمتهم لازال في طور الفكرة البعيدة عن أرض الواقع[15].
في حين، يشكل العائدون المنخرطون في برامج إعادة التأهيل والدمج، جزءًا لا يتجزء من معضلة مواجهة الإرهاب في مرحلة ما بعد الخلافة المكانية، فرغم اعتماد برامج إعادة التأهيل المختلفة على مقاربات متشابهة تركز على نزع التطرف، ثم إعادة التأهيل والدمج في المجتمعات، إلا أنها لا تزال تواجه إشكالية كبرى متعلقة بالكيفية التي يتم بها تقييم تخلي الشخص عن الأفكار المتشددة في ظل مخزون الأفكار التنظيمية التي تبيح للجهادي العائد/ المحلي الكذب على المحققين أو موظفي وكالات إنفاذ القانون[16].
ومما يشكك أيضًا في فاعلية برامج إعادة التأهيل والدمج، أن الجهاديين في بيئات العمل المعادية، يتصرفون وكأنهم تحت المراقبة، وبالتالي لا يقدمون على أي سلوك مريب أو يبادرون للتدرب أو لقاء العناصر التنظيمية، فضلًا عن التخطيط لهجمات إرهابية.
وحال إطلاقهم سراحهم، فإن هؤلاء العائدون سيُنظر لهم من قبل أنصار “داعش” على أنهم أصحاب سابقة جهادية، وسيمثلون مصدر إلهام للعناصر التي لم يسبق لها الالتحاق بالتنظيم، وخاصةً المسلمين الجدد الذين يكونون، في بعض الأحيان، أكثر حماسة وعاطفية للانخراط في العمل العنيف، وربما يساعد مطلقوا السراح في الترويج والدعاية، وتجنيد أشخاص جدد وتسهيل سفرهم إلى ساحات القتال، استنادًا لخبرتهم ودوائر ارتباطتهم السابقة.
- تقييم التهديدات الإرهابية وأبرز التحديات الأمنية
ساهم انتقال المقاتلين إلى الساحات الجهادية في تطوير طرق وآليات الهجرة، وأساليب وتكتيكات القتال، ووسائل التواصل والارتباط بالتنظيمات الإرهابية، ورفع درجة التهديد الأمني الذي يشكله العائدون ونظرائهم من الجهاديين المحليين، الذين يمثلون مأزقًا وتهديدًا أمنيًا عالياً، للعديد من الدول.
لقد طور تنظيم داعش، على سبيل المثال، بنيته الهيكلية وكيّفها للتوائم مع طبيعة الأوضاع الجديدة، فأنشأ، سابقًا، “إدارة العمليات الخارجية” والتي تضم نخبة من مسؤولي العمليات، والأمنيين، والإعلاميين، وعناصر الدعم اللوجيستي، والذين لا زالوا يحتفظون بصلات وثيقة مع العائدين من بؤر التوتر، وخاصةً الأوروبيين منهم[17]، وهو ما يزيد من تعقيدات مواجهة الإرهاب في الوقت الراهن.
وتكمن خطورة الجيل الحالي من الجهاديين في كونه أقل التزامًا بالأيدولوجيا الجهادية، وأكثر ميلًا لممارسة القتل وسفك الدماء، والسرقة والنهب بدعوى الاحتطاب من أموال الكفار[18]، دون الالتزام بالأطر التقليدية الحاكمة للفكر المتشدد، وذلك يرجع لأسباب مختلفة منها التحولات الحاصلة في الحالة الجهادية ذاتها، إضافةً لوجود عدد كبير من غير الأسوياء نفسيا في أبناء هذا الجيل[19]، وبالتالي فإن مبادرتهم لتنفيذ الهجمات الإرهابية ستحدد وفقًا لتعطشهم لسفك الدماء أو السرقة والنهب، دون التقيد بالأطر الأيدولوجية إلى حد كبير.
لقد حرض “داعش” الجهاديين المحليين (الذئاب المنفردة) على تنفيذ الهجمات بأي وسيلة ممكنة، وبث إصدارات مرئية لإكسابهم المهارات اللازمة لذلك في تجسيد لمفهوم “الجهاد مفتوح المصدر” والذي لا يتطلب السفر لتلقى التدريبات داخل معاقل التنظيمات الإرهابية[20].
ومما يفاقم من خطورة التهديد الذي يشكله الجهاديون العائدون/ المحليون، أن أي عملية إرهابية لا تحتاج سوى شخص/ عدد محدود من الأفراد الراغبين في تنفيذها والذين يتمتعون بمهارة وكفاءة كافية لتنفيذ الهجمات، وهو ما يشكل عبئًا إضافيًا على عاتق أجهزة الأمن والاستخبارات.
وعلى نفس الجهة، تبرز التحديات الأمنية والاستخبارية التي تواجه أجهزة ووكالات تطبيق القانون كإحدى الإشكاليات المتعلقة بقضية العائدين والجهاديين المحليين.
وتكمن الأزمة الحقيقية في قضية العائدين والجهاديين المحليين في التحيز التحليلي وهو ميل معظم أجهزة الأمن والاستخبارات لموائمة الحقائق والمعطيات الجديدة مع التصورات القديمة التي تكونت لديهم مسبقًا، وجعلها متوافقة مع ما هو متوقع، إضافةً لعدم كفاءة بعض الأجهزة في مواجهة تحدي “تقييم المخاطر” والذي يهدف إلى الوصول لتقييمات دقيقة للتهديدات في الوقت المناسب.
كما أن تعامل بعض الدوائر الرسمية مع المعضلة الحالية، لازال دون المستوى ما يوحي أنهم يتعاملون باستخفاف مع التهديدات المحتملة، فضلًا عن عدم وجود موارد أمنية واستخبارية كافية لدى بعض الأجهزة لإبقاء كل العائدين في دائرة المراقبة اللصيقة، خصوصًا مع لجوء عدد منها لنمط “منع التعطيل” في مواجهة تداعيات جائحة كورونا[21].
وتشير الخبرة السابقة في مكافحة الإرهاب إلى أن الكشف عن الهجمات الصغيرة يكون أصعب مقارنةً بالهجمات الكبيرة، وهذا يفرض على الأجهزة المعنية أن تتعاون بشكل دائم في ما بينها، وهذا بالتأكيد ليس أمرًا سهلًا بالنظر إلى طبيعة الأجهزة الاستخبارية وتاريخها التنافسي الطويل.
- سيناريوهات مستقبلية لهجمات التنظيم:
رغم حالة الضبابية وعدم اليقين الناشئة عن الوضع المعقد لمعضلة العائدين/ الجهاديين المحليين، حاليًا، إلا أنه لا يزال ممكنًا التنبؤ بالسيناريوهات المستقبلية للعمليات الإرهابية، وذلك بناءً على الخبرات المكتسبة من الهجمات والمؤامرات الإرهابية السابقة، وفي هذا الإطار، يمكن توقع 4 سيناريوهات محتملة، هي:
- الهجمات المنسقة
وهو السيناريو الأكثر دموية، الذي قد يلجأ له داعش في حالات الضرورة، وسيعتمد على تحريك مجموعات عالية التدريب، لتنفيذ هجمات إرهابية منسقة على غرار هجمات باريس (نوفمبر- 2015)، وبروكسل (مارس- 2016). وبالنظر إلى استراتيجية وآلية عمل التنظيم خلال الفترة الماضية، فمن غير المرجح أن يقوم بتنفيذ مثل هذه الهجمات، على الأقل في المدى القريب.
- هجمات عنيفة غير منسقة
على غرار ما حصل في أورلاندو الأمريكية (يونيو- 2016)، ونيس الفرنسية (يوليو- 2016)، يمكن أن ينفذ العائدون/ الجهاديون المحليون، هجمات إرهابية بما يتوافر لديهم من أسلحة وأدوات، وهذا السيناريو الذي دعا له التنظيم في أكثر من مناسبة باعتبار أنه يحقق خسائر كبيرة بإمكانات قليلة.
- هجمات بإمكانات ضعيفة
وهي الهجمات العنيفة التي ينفذها أنصار التنظيم، غالبًا، كحوادث الطعن والدهس وإشعال النيران.. إلخ، لكن أخطر ما في هذه الهجمات هو تحولها لظاهرة عالمية، واكتسابها تأييدًا رسميًا من تنظيم داعش، مما يجعلها تهديدا مزعجًا للأمن.
- الكمون والانتظار
من المتوقع أن تظل العناصر ذات الارتباطات التنظيمية، أو الذين لهم سجل جنائي إرهابي، في حالة كمون وترقب خلال المرحلة الحالية، مع مشاركة بعضهم في الدعايا والترويج لداعش، وتحريض غيرهم على العمليات الإرهابية والانضمام لداعش متى ما تيسر لهم الأمر، حتى تحين الفرصة المناسبة ليصيروا عناصر أكثر فاعلية أو يتمكنوا من السفر إلى ساحة جهادية جديدة.
- خاتمة
مر تنظيم الدولة الإسلامية بعدة تحولات، خلال الأعوام الخمس الماضية، كانت محصلتها أن تحول من فكرة البقاء والتمدد بشكل مركزي إلى اكتساب “بيعات” جديدة وخلق تهديدات إرهابية بصورة غير مركزية واستغلال الصراعات المحلية، مع التركيز على العائدين والجهاديين المحليين كضمانة لبقاء خلافته الافتراضية.
ويوضح عدد الهجمات التي نفذها أنصار داعش، خارج معاقله التقليدية، أن التهديد الإرهابي سيظل قائمًا على مستوى العالم بغض النظر عن أوضاع التنظيم في سوريا والعراق، خاصةً مع القابلية العالية للتكيف وتعديل الأوضاع التي أبداها الجهاديون، خلال الفترات الماضية.
وفي هذا الإطار، تبرز أزمة عدم وجود آلية موحدة وفاعلة للتعامل مع العائدين في الدول المختلفة، بجانب عدم مقدرة بعض الدول على التعامل مع هذا الملف، أو التعاطي معهم بصورة خاطئة قد تفاقم من التهديد الإرهابي الذي يمثلونه.
وخلال العام الجاري، تعافت القدرات العملياتية والتنظيمية لداعش إلى حد كبير، وأثبت، في أكثر من مناسبة، أنه قادر على شن هجمات منسقة ومتزامنة داخل عدة دول، كان آخرها ما سماه بغزوة “لبوا النداء” والتي شن خلالها 83 عملية إرهابية في العراق وسوريا وسيناء وغرب أفريقيا والصومال وباكستان، في الفترة من 22 إلى 29 أكتوبر الماضي، وخلفت تلك الهجمات نحو 350 قتيلًا وجريحًا (وفق إحصاءات التنظيم)[22].
وتوضح المعطيات السابقة، جزءًا من الطبيعية الديناميكية والمعقدة لقضية الجهاديين المحليين والعائدين من بؤر الصراع، والذين يمكن أن يشكلوا وقودًا للموجة القادمة من الإرهاب، والتي قد تكون أكثر دمويةً.
وبناءً على ما تقدم، نقترح التوصيات التالية، كحلول لمعضلة الجهاديين في مرحلة ما بعد الخلافة المكانية:
- اتخاذ إجراءات أمنية احترازية: تشمل التدقيق في ملفات العائدين ومراقبة الإرهابيين المحتملين، ورفع درجات الحذر الأمني وزياة تأمين الأهداف الرخوة التي يسهل استهدافها بهدف قطع الطريق على منفذي الهجمات الإرهابية من هذه العناصر.
- تبادل المعلومات بين أجهزة الاستخبارات ووكالات تطبيق القانون: ينبغي أن تظل قنوات الاتصال بين الأجهزة الاستخبارية ووكالات تطبيق القانون مفتوحة، بشكل مستمر، لتبادل المعلومات حول التهديدات والمؤمرات المحتملة، وعلى تلك الأجهزة أن تضع في اعتبارها وحدة الهدف الذي تسعى إليه، وأن لا تجعل التنافس الاستخباري عائقًا يحول بينها وبين هذا الهدف.
- إجراء تعديلات قانونية وتشريعية: لابد أن تقوم الدول المختلفة وعلى رأسها الدول الأوروبية بإجراء تعديلات قانونية تُجرم حتى محاولات السفر أو تقديم الدعم والتمويل للتنظيمات الجهادية، وتسمح بسحب جوزات سفر المشتبه بهم لمنعهم من مغادرة دولهم، بجانب سن تشريعات تضمن محاكمة العائدين عن أعمال العنف التي قد يكونوا ارتكبوها خارج البلاد.
- طرد الدعاة المتطرفين: رغم تفاقم التهديد الجهادي، في السنوات الماضية، إلا أن بعض الدول لا زالت تمنح دعاةً متطرفين لجوءًا على أراضيها، وتسمح لهم ببث خطاب الكراهية والكلمات التحريضية، والتبشير بالفكر الجهادي من داخلها، وحرمان هؤلاء الدعاة المتطرفين من الملاذات الآمنة، والمنصات التي يستخدمونها في بث الأفكار الراديكالية المضادة لقيم التعايش السلمي.
- التدقيق في أنشطة الجمعيات والمراكز الإسلامية: تُسيطر جماعة الإخوان المسلمين فعليًا على غالبية المراكز والمساجد الإسلامية في الولايات المتحدة والدول الأوروبية[23] وتروج هذه المراكز الخطاب الدعوي الذي تتبناه الجماعة، والذي يُشيد بفكر الجهاد وضرورة اعتباره إحدى الوسائل لمواجهة تسلط الكفار على المسلمين.
وتعد هذه المراكز بخطابها الدعوي والدعائي بمثابة قنطرة يعبر منها الجهاديون من داخل أوطانهم إلى فكر وتنظيمات الجهاد المعولم، وبالتالي لابد للحكومات الغربية أن تقوم بحملة جادة للتدقيق في أنشطة المراكز الإسلامية، وأن تعمل على إبعاد جماعة الإخوان وخطبائها عنها، والاستعاضة عنهم برموز وخطباء مؤهلين يمثلون وجهة النظر المعتدلة.
- تصدير خطاب مضاد للتطرف: من الضروري، أيضًا، مواجهة الفكر والخطاب المتشدد بفكر وخطاب معتدل، ويمكن الاستفادة في هذا الجانب من مؤسسة مثل الأزهر الشريف بهياكلها الدعوية والعلمية المختلفة، والتي قطعت شوطًا كبيرًا في مواجهة والرد على الفكر المتطرف بعدة لغات عالمية، كما ينبغي العمل على إحياء وتعزيز ثقافة التعايش داخل المجتمعات الإنسانية، ودعم الجهود الرامية لتحقيق هذه الغاية وفي مقدمتها منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة الذي يترأسه الشيخ عبد الله بن بَيّه.
- دعم الجاليات المسلمة: لا ينبغي إغفال دعم الجاليات المسلمة في الدول التي يعيشون فيها، إذ يتوجب على حكومات تلك الدول أن تعمل على التواصل الفعال معهم والحرص على التعامل معهم بصورة صحيحة تستوعب خصوصية المجتمعات الإسلامية، بحيث تفوت الفرصة على التنظيمات الجهادية في استغلال الظروف التي يمر بها المسلمون لتوجيههم في خدمة أهدافها.
- الاستفادة من تجارب التعامل مع العائدين/ الجهاديين المحليين، وخاصةً في ما يتعلق بأساليب نزع التطرف وإعادة التأهيل، ومعالجة الثغرات التي تتضمنها برامج إعادة التأهيل لضمان نجاحها.
الهوامش
[1]) أحمد سلطان، الفكر الحركي “الداعشي” بعد البغدادي وأثره في التنظيم، في، داعش ما بعد البغدادي، كتاب المسبار الشهري (الكتاب 159)، الإمارات العربية المتحدة، مركز المسبار للدراسات والبحوث، مارس 2020.
[2]) لا تختلف التيارات الداعشية المتصارعة على مسألة أحكام الديار، بل تتفق على أن كل الديار التي لا يحكمها التنظيم ديار كفر، وأن الولايات المتحدة والدول الغربية بأكملها ديار كفر وحرب لا سلم فيها، لكن الخلاف الجوهري هو حول حكم ديار الكفر الطارئ والمقصود بها المناطق التي كانت تحت سيطرة التنظيم وخسرها أو انسحب منها، إذ يقول تيار “اللجنة المفوضة” بالتوقف والتبين أي التوقف في حكم أعيان القاطنين في تلك الديار، بينما يرى ما كان يُعرف بتيار مكتب البحوث والدراسات أن الحكم عليهم يكون بمقتضى الظاهر، وهذا الخلاف وغيره لم يعد مطروحاً الآن إذ حسمته قيادة “داعش” العليا منذ أواخر عام 2018، وطردت رموزاً من التيار الأخير إلى خارج الجماعة بينما تماهى مَنْ بقي منهم مع ما تقول به قيادة التنظيم، لكن ما زالت بعض الأوساط الصحفية والبحثية مغرمة بنسج القصص المبنية على الطرح السابق دون إدراك للتطورات التي مر بها داعش، وللمزيد يمكن الاطلاع على: أبو خباب المصري وأبو سليمان الشامي، “وثيقة التشجير لمسائل الغلو والإرجاء والتكفير”، لجنة الرقابة المنهجية بالدولة الإسلامية، 2016. وأبو خباب المصري وأبو سليمان الشامي، “مسائل الفرقان بين الحق والبطلان”، لجنة الرقابة المنهجية، 2016.
[3]) أبو محمد العدناني الشامي، “ويحيي من حي عن بينة”، كلمة صوتية، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، مايو 2016.
[4]) أكد المتحدث باسم تنظيم الدولة الإسلامية، أبو حمزة القرشي، على استراتيجية التأني والتريث التي يتبعها التنظيم في كلمته الصوتية الأخيرة التي حملت عنوان “فاقصص القصص لعلهم يتفكرون” (أكتوبر 2020)، موضحاً أن خليفة داعش “أبو إبراهيم الهاشمي” وجه جميع جنوده وأتباعه لاتباع هذه الاستراتيجية، ويوضح ذلك الفوارق بين شخصيتي “الهاشمي” وأبو بكر البغدادي، خليفة داعش السابق، الذي أمر إدارة العمليات الخارجية في تنظيمه بشن هجمات منسقة على فرنسا وبلجيكا في عامي 2015، و2016، وبناءً على ذلك يمكن استنتاج أن التنظيم لن يسعى، خلال الفترة الحالية على الأقل لشن هجمات كبيرة ومنسقة عبر شبكاته في أوروبا، وسيكتفي بتحريض الذئاب المنفردة لتنفيذ هجمات متنوعة، وللمزيد يمكن مراجعة: أبو حمزة القرشي، “فاقصص القصص لعلهم يتفكرون”، كلمة صوتية، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، أكتوبر 2020.
[5] ) “يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا”، افتتاحية صحيفة النبأ الأسبوعية، عدد 257، 22 أكتوبر 2020. إضافة لـ: “حرض المؤمنين”، مركز الحياة للإعلام، إصدار مرئي، يوليو 2020.
[6] ( Barrett, R. (October 2017). BEYOND THE CALPHATE: Foreign Fighters and Threat of Returnees. New York: The Soufan Center. P 11: 13. Available at: https://bit.ly/3oJ8aNI
[7] ) Cook, J. & Vale, G. (2018). From Da’esh to ‘Diaspora’: Tracing the Women and Minors of Islamic State. London: The International Centre for the Study of Radicalization (ICSR). Available at: https://bit.ly/2HQqBiC
[8] ) “وأخيرًا أول صورة واضحة للكويتي المولد “ذباح داعش””، العربية. نت، 27- 2- 2015، على الرابط: https://bit.ly/35RzSPE
[9] ) رفيق الزرقاوي، “دفاعًا وذبًا عن الشيخ الزرقاوي”، مؤسسة الوفاء الإعلامية، نسخة إلكترونية، مايو 2019.
[10] ) أبوعبد الملك الشامي، “زفرات من الدولة الموؤودة”، نسخة إلكترونية، سبتمبر 2017.
[11]) “أمجاد الأمة، جماعة على خطى الإمام المجاهد أسامة بن لادن”، مؤسسة الوفاء الإعلامية، نسخة إلكترونية، مايو 2019.
[12]( Almohammed, A. & Winter, CH. (June 2019). From Battlefront to Cyberspace: Demystifying the Islamic State’s Propaganda Machine. New York: CTC at West Point, Available at: https://bit.ly/3mw0AUO
[13] ) United Nations Security Council. Twenty – Second Report of the Analytical support and Sanctions Monitoring Team Submitted Pursuant to Resolution 2368 (2017) Concerning ISIL (Da’esh), Al- Qaida and Associated Individuals and Entities (S/ 2018/ 705), 6- 17, July, 27, 2018, Available at: https://undocs.org/S/2018/705 .
[14] (Hegghammer, T. (February 2013 ). “Should I Stay or Should I Go? Explaining Variation in Western Jihadists’ Choice Between Domestic and Foreign Fighting. American Political Science Review. pp. 1–15.
[15] ) محكمة دولية لمقاتلي تنظيم داعش الأجانب: المجتمع الدولي متردد أمام المطلب الكردي، صحيفة العرب اللندنية، 17- 7- 2019، ويمكن الإطلاع عليه عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2TB4qQh
[16] ) يبيح الفقه الحركي الذي تتبنه تنظيمات الجهاد المعولم، الكذب على المحققين والقضاة والمسؤولين المختصين بالتعامل مع ملف الإرهاب والتطرف بشكل عام، ويعتبره من الضرورات الأمنية، وللمزيد يمكن الإطلاع على: جليبيب القندهاري، كيف تواجه وتتعامل مع المحققين في المخابرات؟، وهو بحث يُدرس للعناصر الإرهابية ضمن “دورة الأمنيات” في داعش.
[17] ) “منفذ أول عملية اسشهادية في ألمانيا: “أبويوسف الكرار”.. استنفر فنفر، واستنصر فنصر”، صحيفة النبأ الأسبوعية، العدد 40، 26 يوليو 2016.
[18] ) تبيح التنظيمات الجهادية وخصوصًا تنظيم داعش لعناصرها وأنصارها، على سرقة ونهب أموال المدنيين في الدول الغربية بدعوى “الاحتطاب من الكفار”: أي أخذ أموال الكفار واستخدامها في خدمة الجهاد، ودعا مناصرو التنظيم على مواقع التواصل الاجتماعي، خلال الفترة الماضية، للإكثار من عمليات الاحتطاب، وذلك بهدف الاستنزاف الاقتصادي للأعداء والتي تشكل إحدى محاور استراتيجية الاستنزاف التي يتبعها داعش حاليا.
[19] ) بريان مايكل جنكيز، “عندما يسير الجهاديون عائدون إلى أوطانهم: التهديد الإرهابي الذي يشكله المقاتلون الغربيون العائدون من سوريا والعراق”، مؤسسة راند للأبحاث والتطوير، 2014، ص 7.
[20] ) “عليك بهم أيها الموحد”، المكتب الإعلامي لولاية الرقة، إصدار مرئي، ديسمبر 2017.
([21] “الاستخبارات في زمن كورونا… طاقة عمل أقل وتضليلات وهجمات أكبر”، يورونيوز، 24 مارس 2020، ويمكن الإطلاع عليه عبر الرابط التالي: https://bit.ly/2TJ4gWM
[22] ) “حصاد الأجناد: نتائج هجمات جنود الدولة الإسلامية خلال أسبوع (من 5 حتى 11 ربيع الأول 1442)”، صحيفة النبأ الأسبوعية، عدد 258، 29 أكتوبر 2020.
[23] ) L.perry, D. (2020). The Islamic Movement in Britain. London: The International Centre for the Study of Radicalization (ICSR). P 5: 9. Available at: https://bit.ly/3mGELC9
- العناصر التنظيمية