رغم مرور عام كامل، لاتزال “حرب غزة” دون تسوية أو قف لإطلاق النار يلوح في الأفق، بل تزداد احتمالات اندلاع حرب أوسع نطاقًا في المنطقة. ومع استمرار هذا الصراع الدموي، تزداد الحاجة للتقييم وطرح التساؤلات حول تكلفته الإنسانية والأمنية الباهظة، والتحديات الاستراتيجية وآثارها على صعيد التفاعلات “الإسرائيلية-الفلسطينية”، وإلى أين يتجه؟ ثم تداعياته الجيوسياسية، بما في ذلك الديناميكيات المتطورة بين إسرائيل ومحيطها الإقليمي، والتحولات المحتملة في المستقبل في طبيعة العلاقة بين تل أبيب والولايات المتحدة الأمريكية، فضلًا عن زيادة عزلة إسرائيل الدولية.
حدود المسؤولية عن الصراع الجاري:
- لا شك في أن التأثيرات الواسعة لهذا الصراع الجاري في الأمن الإقليمي، وليس في إسرائيل أو الشعب الفلسطيني فقط، تسلط الضوء على أهمية فهم واستيعاب الأسباب الأساسية لهذا الصراع؛ لأن طبيعة العلاقة التي تربط بين إيران وحركة حماس (التي بدأت هجوم 7 أكتوبر على إسرائيل)، وكذلك استمرار النظام الإيراني في توظيف “الورقة الفلسطينية” لخدمة أجندته الإقليمية ومصالحه الاستراتيجية، لا ينفيان المسؤولية الكبرى لإسرائيل -خاصة حكومتها الحالية- عن المأزق الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية، ولا ينفيان كذلك أن ما يحدث الآن هو في جوهره يعبر عن مآزق كبير وصلت إليه القضية الفلسطينية، أدى إلى انفجار جولة جديدة من النزاعات والتصعيدات المستمرة التي تندرج ضمن سياق صراع طويل وممتد يعود بجذوره إلى عام 1948.
- وبالتالي، تخطئ العديد من الأطراف، سواء حكومات رسمية أو منظمات دولية أو حتى وسائل إعلام ومحللون، بالتركيز على سبب واحد فقط، وإغفال أصل الصراع. ذلك أنه وبغض النظر عن حدود المسؤولية المباشرة لإيران عما يحدث الآن، فإن الواقع بموجب القانون الدولي يشير إلى أن إسرائيل كدولة احتلال لابد أن توضح الشروط اللازمة لإنهاء هذا الاحتلال، وهو ما لم تفعله الكثير من الحكومة الإسرائيلية المتعاقبة ذات التوجهات اليمينية التي لا تعترف بالدولة الفلسطينية.
- بل إن وجود وزراء متطرفين، أمثال وزير الأمن القومي بن غفير أو وزير المالية سموتريتش، في قلب المشهد السياسي الراهن، يشير إلى أن الطبقة السياسية الحالية في إسرائيل تشكل عبئًا كبيرًا على أي محاولة لتأسيس علاقات إقليمية مستقرة بين إسرائيل ومحيطها الجغرافي؛ لأن حالة الغضب واليأس بين الفلسطينيين، نتيجة لغياب أي أفق للتسوية السلمية، تعمل على تغذية الدعم لـ”حماس” وغيرها من الفصائل الرافضة لوجود إسرائيل ذاته.
التكلفة الإنسانية للصراع:
- تسببت الحرب في أضرار إنسانية هائلة دمرت حياة الفلسطينيين، وسبل عيشهم بالكامل في غزة والضفة معًا وإنْ بدرجة مختلفة، وأشعلت شرارة موجة جديدة من تدفق اللاجئين والنازحين الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، في المنطقة، وما يعنيه ذلك من ضغط هائل على هياكلها الأمنية والاجتماعية والاقتصادية.
- آلاف الضحايا: بحلول سبتمبر 2024، واجه الفلسطينيون في غزة حصيلة قاتمة من المذبحة: ما لا يقل عن 41431 قتيلًا و95818 جريحًا، و1.9 مليون نازح من إجمالي عدد السكان المقدر بنحو 2.2 مليون نسمة. ولا تشمل هذه الأرقام الأعداد الكبيرة من المفقودين.
- تحطيم قطاع غزة: دُمرت معظم مباني غزة؛ بسبب القصف العنيف الذي ينافس تدمير المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية. ففي يوليو، قدرت دراسة استقصائية، أجريت باستخدام صور الأقمار الصناعية، أن 63% من مباني غزة تضررت، بما في ذلك 215.137 وحدة سكنية. ومع انتشار القصف والعمليات البرية، كان 86% من مباني غزة تحت أوامر الإخلاء الإجباري بحلول أغسطس، الأمر الذي جعل منطقة المواصي، وهي شريط رملي مزدحم بالخيام في الجنوب، الملاذ الآمن الوحيد المعلن.
- أوضاع إنسانية أشد بؤسًا: أصبحت الحياة يائسة بعد بضعة أشهر من بدء الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة، حيث أغلقت إسرائيل المعابر الحدودية إلى القطاع، وسارع الفلسطينيون إلى البحث عن الغذاء والمياه والأدوية والمال والمأوى، معتمدين على حزم المساعدات التي كانت بطيئة في الوصول. وأفاد مكتب منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في سبتمبر بأن 46% من عمليات تسليم المساعدات تعرقلت أو حُرمت تمامًا من وصولها إلى الفلسطينيين المحتاجين.
- وفي خضم تدهور الوضع، وفي غياب وقف إطلاق النار في الأفق، أحيت منظمات الإغاثة تحذيرات سابقة من المجاعة الوشيكة، وحذرت منظمة اللاجئين الدولية الإنسانية في سبتمبر من تزايد خطر المجاعة؛ بسبب استمرار الاضطرابات في توصيل المساعدات والقصف والتشريد.
- تردٍّ أمني وإنساني في الضفة الغربية: كذلك، تكبد الفلسطينيون الذين يعيشون في الضفة الغربية خسائر فادحة، عقب السابع من أكتوبر، حيث أغلقت القوات الإسرائيلية الضفة، ومنعت العمال من الانتقال للعمل داخل إسرائيل، وأجرت عمليات مكثفة على نحو متزايد؛ للعثور على عناصر المقاومة المشتبه بهم واحتجازهم وقتلهم.
- توسعت عمليات القمع الإسرائيلي في الضفة، حيث قُتل أكثر من ( 700) فلسطيني في الضفة الغربية والقدس الشرقية منذ اندلاع الحرب، وفقًا لوزارة الصحة التابعة للسلطة الفلسطينية في رام الله.
- منذ السابع من أكتوبر 2023، وفقًا لتقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية، الصادر في 25 سبتمبر 2024، هدمت السلطات الإسرائيلية 1725 مبنًى وشردت 4450 فلسطينيًا في الضفة، وهو ضعف معدل النزوح في الفترة السابقة التي استمرت قرابة العام.
- كذلك، فإن ثلث الفلسطينيين في الضفة الغربية عاطلون عن العمل، حيث أُغلقت الشركات وتم تعليق تصاريح العمل في إسرائيل بعد السابع من أكتوبر.
- اتهامات بقمع الأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال: من ناحية أخرى، واجهت إسرائيل اتهامات متزايدة بشأن إساءة معاملة الفلسطينيين المعتقلين منذ بداية الحرب ووفاتهم، وذلك بعد أن ظهرت لقطات مصورة لجرائم وحشية مزعومة مختلفة. وقد أفادت الأمم المتحدة بأن ثلاثة وخمسين فلسطينيًا لقوا حتفهم، في أثناء احتجازهم منذ السابع من أكتوبر، ودعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى إجراء تحقيقات في هذه التقارير، فضلًا عن تقارير سابقة عن استهداف المدنيين بشكل عشوائي أو متعمد.
- إهدار قرارات محكمة العدل الدولية: في مايو2024، قضت محكمة العدل الدولية بإلزام إسرائيل بحماية المدنيين وتلبية الاحتياجات الأساسية، لكن المحكمة تفتقر إلى آلية إنفاذ في غياب تحرك الأمم المتحدة، أو ضغط القوى الكبرى على إسرائيل.
- تحديات أمام جهود الإغاثة الإنسانية: تواجه الجهود الإنسانية في الحرب تحديات هائلة، بدءًا مما تقرر إسرائيل تمريره، ثم بعد ذلك تحديات تتعلق بالقدرة على تسليمها للسكان بأمان. باختصار، تم تقسيم غزة فعليًا إلى قسمين بواسطة القوات الإسرائيلية. فالعبور من الشمال إلى الجنوب يتطلب إذنًا من إسرائيل، كما هو الحال بالنسبة للانتقال إلى أي من نقاط التقاط المساعدات الإنسانية. ومع ذلك، تحولت هذه الطرق التي تحددها وتمنحها إسرائيل، خاصة في الجنوب، إلى ملاذات للناهبين والعصابات الإجرامية. وقد طلبت منظمات الإغاثة، مثل INARA، مرارًا وتكرارًا طرقًا آمنة بديلة دون جدوى. وكانت هناك محاولة لاستخدام قوة شرطة غزة في وقت سابق من هذا العام لتأمين الطرق، لكن إسرائيل قصفتها. وفي الآونة الأخيرة، استخدمت منظمة أخرى، وهي ANERA، حراسة أمنية قصفتها إسرائيل.
- في محاولة للفت أنظار زعماء العالم المجتمعين في الجمعية العامة للأمم المتحدة السنوية في 23 سبتمبر 2024، وحثهم على التحرك، لخص رؤساء وكالات الإغاثة الرئيسية التابعة للأمم المتحدة الوضع في غزة على النحو التالي: “أكثر من مليوني فلسطيني محرومون من الحماية، والطعام، والمياه، والصرف الصحي، والمأوى، والرعاية الصحية، والتعليم، والكهرباء، والوقود – الضروريات الأساسية للبقاء على قيد الحياة”.
- موجة جديدة من تدفق اللاجئين: مع استمرار الصراع دون توقف محتمل حتى بداية 2025 على أقل تقدير، أُشعِلت شرارة موجة جديدة لتدفق آلاف النازحين واللاجئين من اللبنانيين والسوريين، فضلًا عن الفلسطينيين. في هذا السياق، تسببت الحملة العسكرية الإسرائيلية على حزب الله في نزوح أكثر من مليون شخص، بالإضافة إلى تدفق أكثر من 100 ألف لبناني وسوري نحو الحدود السورية مع لبنان، فيما الأوضاع مرشحة لمزيد من التدهور مع تطور “الغزو البري” الإسرائيلي للبنان خلال الأيام والأسابيع القادمة.
- تشير هذه المعطيات إلى ضغط هائل يتصاعد على الهياكل الأمنية والاجتماعية والاقتصادية في منطقة تبدو أكثر هشاشة؛ ذلك أن المنطقة العربية، التي لا يتجاوز عدد سكانها أكثر من 5% من سكان العالم، باتت تحوز بين جنباتها نحو 50% من اللاجئين والنازحين على مستوى العالم. صحيح أن تلك الحالة هي حصيلة صراعات سابقة وحالية، غير الصراع الذي اشتعل بعد 7 أكتوبر 2023، لكن تداعيات هذا الصراع الجاري تعمّق تلك الحالة وترسخها.
السياسة الإسرائيلية بعد عام من 7 أكتوبر.. المزيد من الاتجاه نحو اليمين:
- بعد مرور عام على أحداث السابع من أكتوبر 2023، لم تتجه إسرائيل إلا إلى اليمين، ولم تدم أي جهود لبناء الوحدة بين الساسة الإسرائيليين -بما في ذلك من خلال دخول بيني غانتس في البداية إلى الائتلاف الحاكم- طويلًا.
- من بين 250 من الرهائن لدى “حماس” في غزة، لايزال أكثر من مئة في الأسر، ويُفترض أن نصفهم تقريبًا ماتوا. وقد منعت الأصوات المتطرفة، مثل بن غفير وسموتريتش، أي تقدم في تأمين صفقة الرهائن، وسوف يستمرون في القتال من دون كلل؛ لضمان استمرار حالة الحرب.
- وقد نجحوا في تكريس ممارسات عدائية أسهمت في تآكل وإضعاف شرعية السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، خاصة مع توسع الاستيطان وإلغاء سريان تطبيق قانون فك الارتباط عن شمال الضفة، وتصاعد عنف جماعات المستوطنين ضد القرى والمدنيين الفلسطينيين. الآن، بلغ العنف في الضفة مستويات لم تشهدها منذ الانتفاضة الثانية، ولايزال مستقبل علاقة إسرائيل بغزة غير مؤكد أكثر مما كان عليه في الثامن من أكتوبر.
- من ناحية أخرى، برز النزوح أيضًا كقضية رئيسية بالنسبة للبلاد، فقد اضطر نحو 75 ألف إسرائيلي إلى النزوح عن منازلهم في الشمال بالقرب من الحدود اللبنانية؛ بسبب صواريخ حزب الله والخوف من الهجوم عبر الحدود الذي انطلق من غزة. وعادت المظاهرات الحاشدة في الشوارع ضد الحكومة حتى قبل حلول الذكرى السنوية للسابع من أكتوبر، الأمر الذي أظهر الانقسامات حول زعامة نتنياهو واستمراره في منصبه، وإدارة الحرب، والفشل في استعادة كل الرهائن.
- على هذا النحو، هيمنت القضايا الأمنية على العام الماضي في إسرائيل، وهو أمر ليس مفاجئًا؛ ذلك أن “إسرائيل” التي كانت تشعر بالأمان بشكل متزايد في جوارها، بعد توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية، أصبحت الآن تواجه العديد من التهديدات. ويشعر الإسرائيليون الآن بالقلق إزاء الحاجة إلى جيش أكبر، وهو ما يعني بدوره فرض ضرائب أعلى، ويقابل امتنانهم للمساعدة التي تقدمها الولايات المتحدة رغبتهم في تصنيع المزيد من الأسلحة في الداخل والهروب من الاعتماد المفرط على واشنطن.
- ورغم الفشل التاريخي الذي لحق بمؤسسات الاستخبارات والأمن، إلى جانب المسؤولية السياسية لحكومة نتنياهو، فقد أثبت رئيس الوزراء الإسرائيلي أنه ماهر كما كان دائمًا في الحفاظ على تماسك ائتلافه، وتلاشت آمال العديد من الإسرائيليين في إجراء انتخابات مبكرة.
- لقد تضرر اقتصاد إسرائيل، الذي تعرض بالفعل لضربة خلال الإصلاحات القضائية المثيرة للجدل قبل السابع من أكتوبر؛ بشدة بسبب الحرب، ولن يؤدي فتح جبهة ثانية مع حزب الله إلا إلى إلحاق المزيد من الضرر به. لكن على الرغم من كل الاضطرابات، يواصل نتنياهو انتشال نفسه من القاع، ويستعيد شعبيته، إذ تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أنه في حين لا يستطيع رئيس الوزراء بالضرورة إعادة تشكيل الائتلاف، فإنه لايزال يحصل على أكبر عدد من الأصوات من أي حزب إذا أجريت الانتخابات اليوم، ولن يؤدي اغتيال زعيم حزب الله حسن نصرالله وأي نجاحات أخرى على الجبهة الشمالية إلا إلى تعزيز أرقامه بشكل أكبر.
- في المقابل، يعاني اليسار الإسرائيلي ضعفًا شديدًا أو شبه انهيار. وتُظهِر استطلاعات الرأي العام أن وجهات نظر الإسرائيليين لم تزدَدْ إلا تشددًا ضد جيرانهم، إذ يعتقد 66% من اليهود الإسرائيليين أن الجانب الآخر “يريد ارتكاب إبادة جماعية ضدهم”. كذلك، أصبحت وجهات النظر اليمينية راسخة ومقبولة على نحو متزايد، خاصة بعد أن وجدت الأصوات الهامشية للقوميين اليهود أنفسهم الآن في مواقف مريحة ونفوذ شديد في الحكومة.
- إن إسرائيل، التي تسببت في الكثير من الدمار باسم حقها في الدفاع عن النفس، أصبحت أقل أمنًا من أي وقت مضى، وأصبحت احتمالات عودة المواطنين الإسرائيليين إلى المنطقة الشمالية في المستقبل المنظور منعدمة تقريبًا. ولم تسفر محاولات التفاوض على وقف إطلاق النار في غزة، وأخيرًا في لبنان، عن أي نتيجة، وتضاءلت احتمالات الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين الذين تحتجزهم “حماس”، فيما بلغ عدد النازحين بسبب الصراع الآن مئات الآلاف.
- صحيح أن إسرائيل أحرزت تقدمًا على جبهات القتال واستعادة الردع، لكن مع ذلك، تُظهِر متابعة النقاش العام في الصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية أن المجتمع الإسرائيلي لم يتعافَ بعد من أثر الصدمة التي تسببت فيها هجمات “حماس” المباغتة صباح السابع من أكتوبر.
- في الوقت الراهن، تتبدى حاجة إسرائيل الملحة لخطة طويلة الأمد؛ من أجل إعادة تأهيل صورتها الدولية التي تضررت، والحفاظ على دعم الولايات المتحدة، وتأمين التعاون الإقليمي، وإعطاء الشعب الإسرائيلي الأمل في مستقبل خالٍ من الحروب التي لا تنتهي. لكن المفارقة أن قادة إسرائيل لا يكترثون لكل ذلك، ولا يقدمون أي أفكار حول مسار واضح إلى الأمام؛ لاستئناف عملية السلام أو الرخاء لإسرائيل في المنطقة.
- وتبين العملية العسكرية الإسرائيلية المستمرة في جنين وغيرها من مخيمات الضفة الغربية أن إسرائيل لم تعد تثق بالسلطة الفلسطينية حتى كشريك أمني. بل يمكن القول إن أحد تداعيات السابع من أكتوبر على الساحة الفلسطينية يتمثل في تراجع أهمية السلطة الفلسطينية أكثر فأكثر لدى قيادة ” تل أبيب”، التي لم تعد تكترث بدورها لفكرة أن يكون لها شريك فلسطيني في الأمن والتفاوض في الضفة الغربية؛ لأن مسألة التفاوض لا تشكل أهمية في الأمد القريب، لدى اليمين الحاكم.
“حماس” بعد عام من 7 أكتوبر.. محطَّمة ولكن بعيدة عن الانتهاء
- في أكتوبر 2024، باتت ألوية “حماس” في وسط وشمال وجنوب قطاع غزة تواجه مستويات متفاوتة من التدهور. ومع ذلك، لايزال من المبكر جدًا تقييم مدى انهيارها أو حجم خسائرها، سواء على مستوى القيادات والعناصر، أو على مستوى العتاد العسكري والسلاح. فالبيانات في معظمها، حتى تلك الصادرة من الجيش الإسرائيلي، تعدّ تقديرية.
- لقد كان ملحوظًا تراجع مستويات النشاط المسلح لحركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى منذ يوليو 2024، الأمر الذي يشير إلى فعالية الإجراءات التي اتخذتها القوات الإسرائيلية على الأرض، من تقسيم القطاع إلى محورين رئيسيين بممر نتساريم، وتحطيم عدد ضخم من شبكة الأنفاق التي يستخدمها عناصر حماس للتنقل بحرية، وإعادة تنظيم صفوف الألوية المختلفة. ولا يبدو أن قيادات ألوية “حماس” المختلفة يمكنهم التواصل مع بعضهم بعضًا أو مع المقرات العليا، نظرًا لعدم وجود دفاع منسق ضد العمليات الإسرائيلية.
- على سبيل المثال، وعلى النقيض من أداء “حماس” المضاد للتقدم الإسرائيلي في خان يونس، خلال الحملة الأولى هناك بين ديسمبر 2023 وأبريل 2024 (حيث نظمت الحركة عمليات دفاعية قوية ومنظمة)، بدت هجمات “حماس”، خلال الحملة الإسرائيلية الثانية في خان يونس، صيف عام 2024، قائمة على الفرصة المتاحة ومهاجمة الأهداف السهلة، وتفتقر إلى التعقيد التكتيكي. ولم يبد أن هذه الهجمات تستند إلى خطة حملة منسقة، عبر مستويات قيادية متعددة.
- وتؤكد التقارير العامة للجيش الإسرائيلي هذا الحكم، فقد ذكر الجيش في يوليو أنه لم يواجه “مقاومة كبيرة” عند دخول خان يونس. ويتوافق تقرير الجيش الإسرائيلي هذا مع المعدل المنخفض للهجمات في خان يونس خلال شهر يوليو، فقد أعلنت “حماس” مسؤوليتها عن 31 هجومًا فقط من الهجمات التي استهدفت القوات الإسرائيلية في خان يونس خلال شهري يوليو وأغسطس 2024، مقارنة بـ 72 هجومًا خلال شهري فبراير ومارس. كذلك، فشل لواء خان يونس في تنفيذ إحدى مهامه الرئيسية -منع الجيش الإسرائيلي من إنقاذ الرهائن الإسرائيليين- في صيف عام 2024 عندما استعاد الجيش جثث 6 رهائن إسرائيليين من خان يونس.
- أيضًا، يشير معدل الهجمات المنخفض الأخير لـ”حماس” والعمليات غير المتطورة في رفح إلى أن عناصر الحركة في رفح يعانون بشدة، ولم يعودوا يعملون كوحدة عسكرية فعالة، إذ انخفض المعدل الأسبوعي لهجمات “حماس” هناك بشكل مطرد منذ دخول الجيش الإسرائيلي رفح في مايو 2024. فيما لم تعد الهجمات تبدو ذات أهداف تكتيكية أو عملياتية واضحة، ما يشير إلى انهيار في القيادة والسيطرة.
- وبالنظر إلى ألوية “حماس” في وسط قطاع غزة وشماله، فإنها تواجه على الأرجح مستويات متفاوتة من التدهور، والأمر شبه المؤكد أن هذه الألوية فقدت القدرة على الوصول إلى كميات كبيرة من الأسلحة والصواريخ والأفراد وشبكات الأنفاق؛ إذ نفذ الجيش الإسرائيلي عملية حرق وتجريف واسعة النطاق للمنطقة الشمالية، حكم فيها قسمًا كبيرًا من شبكة الأنفاق المستخدمة؛ لتسهيل التعاون والتنقل تحت الأرض لوحدات “حماس” بين الألوية في شمال قطاع غزة وجنوبه، فضلًا عن أنه عزل ألوية الحركة في مدينة غزة وشمالها فوق الأرض بواسطة ممر نتساريم، الذي يقيّد على نحو مماثل قدرة الألوية على إعادة البناء من خلال إعاقة إعادة توزيع المقاتلين والإمدادات بشكل كبير.
- إلا أنه، وفي المقابل، وبحسب بعض التقديرات، فإن لواء “حماس” المركزي في وسط القطاع من المرجح أنه لايزال يحتفظ بأكبر نسبة من قوته الأصلية بين الألوية الخمسة النظامية للحركة؛ نظرًا لأن الجيش الإسرائيلي لم “يطهّر” بشكل منهجي القطاع الأوسط بالكامل. ومن المرجح أن تعمل القدرات المتبقية للألوية على تسريع إعادة بناء ألوية خان يونس ورفح، إذا فشلت إسرائيل في تدشين وتعزيز هيكل سلطة بديل في القطاع.
- لاتزال فصائل المقاومة الأصغر حجمًا والمتحالفة مع “حماس” تقصف بشكل متكرر مواقع الجيش الإسرائيلي وتنفذ هجمات معزولة بالأسلحة الصغيرة. وقد أعلنت ثلاث ميليشيات أصغر حجمًا، وعلى رأسها “سرايا القدس” التابعة لحركة الجهاد الإسلامي في خان يونس، ضعف عدد الهجمات التي أعلنتها “حماس” في خان يونس في يوليو وأغسطس 2024؛ ما يدل على استمرار أهمية هذه الجماعات الأصغر حجمًا. ورغم أن هذه الميليشيات أصغر حجمًا وأقل تنظيمًا من “حماس”، فإنها لاتزال قادرة على تعطيل الجهود الإسرائيلية أو الدولية لإنشاء سلطة سياسية يمكن أن تحل محل “حماس”.
- ومع ذلك، حتى بافتراض هزيمة “حماس” عسكريًّا في القطاع، بعد عام من المعارك والقصف المستمر. فإن هذا لا يعني تفككها أو انهيارها بالكامل، أو حتى انعدام فرص تجددها وإعادة بنائها مرة أخرى. فالهزيمة في العلم العسكري هي تأثير عسكري مؤقت يتطلب جهودًا إسرائيلية أو دولية إضافية تهدف إلى منع إعادة تشكيل قوات العدو، من خلال اعتراض إمداداته؛ من أجل منع تجديد صفوفه.
- تتطلب مهام إعادة البناء الكثير من الوقت والموارد، وتشمل الاستبدال الواسع النطاق للأفراد والمعدات والإمدادات. وبالنظر إلى الوضع في القطاع حاليًا، فإن العديد من الشروط اللازمة لإعادة البناء -بما في ذلك الملاذات الآمنة النسبية للتدريب والإمدادات الكافية- غير موجودة. وستحتاج “حماس” إلى استعادة قدراتها على تصنيع الأسلحة المحلية من خلال المواد المهربة. هنا، يمكن القول، إن الحركة تفتقر إلى الملاذات الآمنة لتدريب المجندين الجدد؛ بسبب التفوق الجوي الإسرائيلي الحالي وتدهور شبكة الأنفاق. لكن في حالة وقف إطلاق النار دون وجود بديل سياسي وأمني لـ”حماس”، فسوف تتمكن الحركة من تدريب مجندين جدد، وربما إعادة بناء ترسانة أسلحة قادرة على تهديد إسرائيل مرة أخرى.
- في الواقع، ربما تتمكن بقايا “حماس” من إعادة بناء صفوفها في ظل الظروف المناسبة، ومن المرجح أن يستمر هؤلاء المقاتلون الباقون في شن هجمات من آن لآخر على القوات الإسرائيلية. لكن هذه الهجمات لن تكون فعّالة، ما لم يمنح رفع الضغوط الإسرائيلية “حماس” الفرصة لإعادة بناء تنظيمها العسكري. كذلك، من شأن توقف الغارات الجوية الإسرائيلية وحرية حركة البضائع والأفراد حول قطاع غزة أن يمكن المقاتلين المتبقين من شن هجمات أكثر فعالية وتنظيمًا على القوات الإسرائيلية. وسوف يعمل مقاتلو “حماس” الباقون على قيد الحياة كإطار يضمن الاستمرارية في جميع أنحاء الحركة، ويدفع باتجاه إعادة بناء قدرتها.
آفاق الصراع بين إسرائيل وحزب الله:
- على الرغم من شدة الحملة الجوية الإسرائيلية وعمليات الاغتيال التي تستهدف قادة حزب الله، فإن الاستسلام للهجوم والدعوة إلى وقف إطلاق النار يتعارضان مع طبيعة المنظمة. والواقع أن مستوى الضرر الذي لحق بحزب الله لايزال غير واضح حتى الآن. فقد زعم المسؤولون الإسرائيليون أن نصف الصواريخ الموجهة بدقة التي يمتلكها حزب الله قد دُمرت في الغارات الجوية، وأن المنظمة في حالة من الفوضى، لكن الأدلة حتى الآن لا تدعم هذا الزعم.
- فقد صعّد حزب الله من هجماته الصاروخية على إسرائيل بمعدل يومي متزايد، وهو يضرب أهدافًا عسكرية إسرائيلية في عمق أكبر داخل إسرائيل، مقارنة بما كان عليه الحال من قبل. كذلك، بدأ حزب الله استخدام أنظمة صاروخية أكبر حجمًا لم يستخدمها من قبل في الصراع الذي استمر عامًا واحدًا. ولايزال مقاتلو حزب الله يهاجمون أهدافًا ـ مثل الدبابات الإسرائيلية وتحركات القوات ـ على طول الخط الأزرق، وهو ما يشير إلى أن كوادر الحزب ظلت متمركزة في جنوب لبنان على الرغم من الهجوم الجوي. وفي الثاني من أكتوبر، نفذ حزب الله كمائن عدة ضد قوات النخبة الإسرائيلية، ما أسفر عن مقتل ثمانية جنود وإصابة العديد من الآخرين في اليوم الأول من القتال البري في جنوب لبنان.
- إن أحد الأمور المهمة التي ساعدت على إبقاء القتال تحت عتبة الحرب الشاملة هو أن حزب الله لم يبدأ بعد استخدام أنظمة الأسلحة الأكثر تقدمًا، خاصة ترسانته من الصواريخ الموجهة بدقة. ففي الخامس والعشرين من سبتمبر، أطلق الحزب صاروخًا واحدًا من طراز “قادر 1” يعمل بالوقود السائل باتجاه مقر وكالة الاستخبارات الإسرائيلية الموساد بالقرب من تل أبيب، وقد اعترضت أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية الصاروخ، كما توقع حزب الله من دون شك. وكان إطلاق الصاروخ بمنزلة تحذير لإسرائيل من أن حزب الله لم يستخدم سوى الصواريخ القديمة غير الموجهة لضرب الأهداف الإسرائيلية. ويرجع السبب وراء عدم لجوء حزب الله حتى الآن إلى أنظمة أكثر تطورًا إلى إيران، التي لا تريد لحزب الله، وهو أحد المكونات الرئيسية لبنيان الردع لديها، أن يتورط في حرب ضخمة ومدمرة مع إسرائيل؛ من أجل “حماس” في غزة. إن حزب الله يشكل أصلًا بالغ الأهمية بالنسبة لطهران، ولا يجوز لها أن تهدره على هذا النحو. وإذا بدأ حزب الله في إطلاق صواريخه من طراز فاتح 110، على سبيل المثال، على تل أبيب ومناطق أخرى من إسرائيل، فإن هذا من شأنه، دون أدنى شك، أن يؤدي إلى اندلاع حرب شاملة. وقد أدى الحذر الإيراني إلى بعض الإحباط بين كوادر حزب الله الذين يفضلون استخدام الأنظمة الأكثر تقدمًا لإلحاق الضرر والألم الحقيقي بإسرائيل.
- الواقع أن الوضع الحالي متقلب للغاية، حيث تتأرجح المنطقة على حافة صراع واسع النطاق. وتسعى إدارة بايدن جاهدة إلى تجنب الأعمال العدائية الأوسع نطاقًا قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، التي لم يتبق عليها سوى أسابيع قليلة، مدركة أن مثل هذا الصراع من شأنه أن يحمل عواقب سياسية وعسكرية واستراتيجية واقتصادية كبيرة، ليس فقط على المنطقة بل وعلى مستوى العالم. وأعلن الرئيس بايدن أن مجموعة الدول السبع ــ كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ــ وافقت على فرض عقوبات جديدة على إيران، عقب الهجوم الصاروخي في وقت سابق من هذا الأسبوع.
- حتى قبل التوغل البري للجيش الإسرائيلي في لبنان، كُشف النقاب عن أن قوات العمليات الخاصة الإسرائيلية نفذت، على مدى العام الماضي، عشرات الغارات عبر الحدود اللبنانية، زاعمة أنها هاجمت ما يقرب من ألف موقع لحزب الله، حيث جمعت معلومات استخباراتية، وسعت إلى تفكيك البنية التحتية ومخازن الأسلحة التابعة للجماعة المسلحة. وقد زعمت إسرائيل أن هذا كان ضروريًا؛ لمنع حزب الله من تنفيذ عملية مماثلة لتلك التي خططت لها “حماس” في السابع من أكتوبر.
- لكنَّ هناك هدفًا آخر، بات الآن جزءًا من أهداف الحرب الرسمية لإسرائيل، هو دفع قوات حزب الله إلى الخلف بما يكفي لإنشاء منطقة عازلة تسمح للسكان الإسرائيليين بالعودة إلى منازلهم في شمال البلاد.
- ومع التوسع الإضافي للحملة العسكرية الإسرائيلية في لبنان، فإن هناك احتمالًا حقيقيًا لتوسع مهمة الجيش الإسرائيلي، وهو التطور الذي قد يؤدي إلى احتلال قواته أجزاء من جنوب لبنان. وقد يؤدي مثل هذا السيناريو إلى انخراط حزب الله في حملة حرب عصابات مطولة، ستكون له اليد الأعلى فيها؛ لأنه هو الخبير بالأرض، وبالاعتماد على مجموعة من التكتيكات غير المتماثلة لكبح القوة العسكرية الإسرائيلية. تشمل هذه الأساليب الصواريخ الموجهة المضادة للدبابات، والعبوات الناسفة البدائية، ومجموعة من التكتيكات التقليدية الأخرى التي تستخدمها حركات التمرد مثل الكمائن، والهجمات الخاطفة، ونشر القناصة في التضاريس الصعبة.
- وبصرف النظر عن خيارات إسرائيل بشأن الحملة في لبنان ومستقبلها، من المرجح أن يؤدي مثل هذا السيناريو إلى زيادة النزوح والمزيد من التدهور في الأوضاع الإنسانية في لبنان. ووفقًا للحكومة اللبنانية، نزح ما يقدر بنحو 1.2 مليون شخص في جميع أنحاء البلاد، وقد صرح مسؤولون من الأمم المتحدة بأن وتيرة النزوح منذ أواخر سبتمبر تجاوزت “أسوأ السيناريوهات”. ومع استمرار تصعيد الصراع، وإذا تحققت التوقعات بحرب إقليمية أوسع نطاقًا، فإن التأثير في السكان المدنيين والبنية الأساسية في لبنان سيكون مدمرًا وربما كارثيًا.
إيران و”محور المقاومة” واحتمالات توسع نطاق الصراع:
- بعد مرور عام على 7 أكتوبر، تواجه إيران مشهدًا إقليميًا مملوءًا بالتحديات. فخلال العقد الماضي، كان جوهر السياسة الخارجية الإيرانية يتمثل في فواعل من تسميهم “محور المقاومة”، ويسمح هؤلاء الوكلاء لطهران باستعراض القوة مع قدر من الحصانة الداخلية لها، إذ مادامت إيران غير متورطة بشكل مباشر في أعمال العنف التي ترتكبها هذه الجماعات، فإنها تفلت من المساءلة. على هذا، فإن طهران تجني الفوائد، لكنها نادرًا ما تدفع الثمن. ومن بين الوكلاء الأهم لإيران، “حماس” وحزب الله، وكلاهما ضعف بشدة على يد إسرائيل منذ هجمات السابع من أكتوبر.
- بعد السابع من أكتوبر، تضامنًا مع “حماس”، أعلن حزب الله، مع جماعة الحوثي، ووكلاء إيران في العراق، إطلاق هجمات على إسرائيل، فيما سمّوه “جبهة إسناد غزة”. على الأرجح، كانوا يأملون أن تؤدي هذه الضربات والتهديد بحرب إقليمية إلى إيجاد ضغوط دولية على إسرائيل؛ للموافقة على تسوية تسمح لـ”حماس” بالبقاء في غزة، لكن هذا لم يحدث. في المقابل، قُتل أربعة وربما خمسة من قادة الصف الأول في الحزب، وهم حسن نصرالله، وخليفته هاشم صفي الدين، وقبلهما، فؤاد شكر، وإبراهيم عقيل، وعلي كركي، بالإضافة إلى معظم قادته من الدرجة الثانية. ونظرًا لهذه الخسارة في الأفراد، إلى جانب الضربات التي لحقت بالبنية التحتية وضعف الثقة المرتبط بها، فسوف تكون مهمة إعادة بناء القدرات العسكرية للحزب شاقة وستستغرق سنوات.
- الأمر الآخر أنه سيكون على إيران ألا تستبدل قادة حزب الله وحسب، وإنما استبدال الأدوار التي لعبها في الإقليم أيضًا. فخلال العقد الماضي، برز “حزب الله” كذراع إقليمية “للحرس الثوري”، حيث قدم الدعم اللوجستي والتدريب والقيادة للميليشيات في العراق وسوريا واليمن. وعندما قُتل سليماني في أوائل عام 2020، توسع دور “حزب الله” في المنطقة بشكل أكبر. ومع تعرض الحزب لأضرار جسيمة الآن، بات من الضروري على “فيلق القدس” ألا يستبدل قيادة “حزب الله” في لبنان فحسب، وإنما أيضًا الدور الذي لعبه في جميع أنحاء المنطقة.
- أيضًا، فإن التوغل البري الإسرائيلي الوشيك يعني أن حزب الله قد يرى نفسه مطرودًا من أجزاء من لبنان. لكن المنظمة لم تُدمَّر، ويُعتَقَد أنها لاتزال تمتلك آلاف الصواريخ في ترسانتها، وإنْ كانت قد تضاءلت. وسوف يبذل الإيرانيون قصارى جهدهم؛ لإعادة بنائه. لكن في المستقبل المنظور، سوف يتضاءل دور حزب الله على الساحة الإقليمية.
- تستعد إيران لتلقّي رد عسكري إسرائيلي، وإن كان الجانبان قد يسعيان إلى منع التصعيد الحاد والحرب الإقليمية، لكن الحملات العسكرية قد تكون لها ديناميكيتها الخاصة. وفي بعض الأحيان، تجد الأطراف نفسها منساقةً إلى تبعات لم تكن تتمناها. وقد شهد هذا العام بالفعل أول هجمات إيرانية مباشرة على إسرائيل، مع هجماتها في أبريل وأكتوبر، وإن كانت الدفاعات الجوية الإسرائيلية قد نجحت في صد التهديد في المرتين.
- من المرجح أن توظف إيران وكلاءها الأبعد عن إسرائيل ضمن أدواتها للضغط، وكورقة تحول دون توسع جبهة الصراع، أو انخراطها في حرب شاملة مع إسرائيل. فبالنسبة للحوثيين المتمركزين في اليمن، فقد أطلقوا حملة غير مسبوقة لتهديد الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن، قصفوا خلالها عشرات السفن والبوارج العسكرية والتجارية. وأطلقوا هجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة على إسرائيل. وعلى الرغم من أن هذا النشاط تراجع بشكل ملحوظ منذ قصفت تل أبيب ميناء الحديدة لأول مرة في يوليو 2024، فإنهم عادوا إلى استهداف السفن في البحر الأحمر وخليج عدن مرة أخرى منذ بداية أكتوبر 2024، بالتزامن مع الضربة الإيرانية لإسرائيل. وأعلن الحوثيون في 2 أكتوبر استهداف إسرائيل بثلاثة صواريخ “كروز”، وأكدوا استعدادهم للمشاركة في عمليات عسكرية مشتركة لدعم فلسطين ولبنان. قبل أيام، أرسلت الجماعة بريدًا إلكترونيًا إلى مسؤول تنفيذي في شركة شحن يونانية تحذره من أن سفن الشركة معرضة لخطر الهجوم؛ بسبب انتهاك حظر العبور الذي فرضه الحوثيون على الرسو في الموانئ الإسرائيلية. وتشير التحذيرات إلى أن الجماعة توسع من نطاق أهدافها، من خلال استهداف السفن التي لا تربطها صلة بإسرائيل، ما يزيد من المخاطر التي يتعرض لها الشحن التجاري في البحر الأحمر. كذلك، أعلن المتحدث العسكري باسم جماعة الحوثي، العميد يحيى سريع، مسؤوليته عن مهاجمة ناقلة النفط التي تحمل علَم بنما “كورديليا مون” وناقلة البضائع السائبة التي تحمل علَم ليبيريا “مينوان كوريج”.
- بالإضافة إلى ذلك، حذرت كتائب حزب الله العراقية، وهي وكيل آخر يشكل جزءًا من “محور المقاومة” الإيراني، من أن “حرب الطاقة” قد تكون لها عواقب وخيمة على مستوى العالم، الأمر الذي قد يؤدي إلى تعطيل إمدادات 12 مليون برميل من النفط يوميًا، وهو رد ضمني على التهديد بضربات إسرائيلية على البنية التحتية للطاقة الإيرانية. فضلًا عن ذلك، شنت تل أبيب ضربات في العاصمة السورية دمشق، وهو دليل آخر على أن الحملة العسكرية الإسرائيلية في جميع أنحاء المنطقة لا تظهر أي علامات على التراجع في أي وقت قريب.
- جاء التطور الأخير بعد أن أشار الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى أن إدارته تدرس إمكانية شن غارات جوية إسرائيلية على منشآت النفط الإيرانية؛ ما يتسبب في ارتفاع أسعار النفط بنسبة 4%، مع تزايد المخاوف من أن تشكل التوترات المتصاعدة تحديًا كبيرًا أمام صادرات النفط من دول المنطقة.
- لقد أشار الرئيس بايدن إلى أنه يعارض اعتزام إسرائيل ضرب المنشآت النووية الإيرانية، وهو التكتيك الذي استخدمته تل أبيب في الماضي ضد العراق (مفاعل أوزيراك في عام 1981) وسوريا (الكبر في محافظة دير الزور في عام 2007). ومن دون الدعم اللوجستي الأمريكي، سيكون من الصعب على إسرائيل مهاجمة البنية التحتية النووية الإيرانية بنجاح، خاصة الأهداف الصلبة والمدفونة على عمق كبير. في الوقت نفسه، نقلت طهران رسالة إلى الولايات المتحدة، عبر قطر، تفيد بأن “مرحلة ضبط النفس الأحادي الجانب قد انتهت”، محذرة من أن أي هجوم إسرائيلي سيقابَل “برد غير تقليدي” يستهدف البنية التحتية الإسرائيلية.
- أما بالنسبة للفواعل الموالية لإيران في العراق، فلايزال من غير الواضح ما إذا كانت ستستجيب بشكل أكثر تنسيقًا وقوة في المستقبل أم لا، وهو ما قد يشمل استهدافًا متجددًا للمصالح الأمريكية، لكن هذا ربما يكون احتمالًا أكثر ترجيحًا إذا تورطت طهران وتل أبيب بشكل أكبر في صراع مفتوح.
تحدي “إدارة التصعيد” في المنطقة:
- في الوقت الراهن، هناك تحدٍ بارز أمام الدبلوماسية الأمريكية، يتمثل في كيفية الموازنة بين دعمها لإسرائيل، والحفاظ على العلاقات مع دول الشرق الأوسط الأخرى ومعالجة القضية الفلسطينية. ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر الذي يواجه واشنطن والعواصم العربية الفاعلة يتمثل في “إدارة التصعيد”، حيث تشعر الدول العربية بقلق أكبر إزاء تصاعد الحرب، مقارنة بالعمليات الجارية ضد “حماس”، فيما يشكل تصعيد الصراع والحرب المباشرة مع إيران مصدر القلق الأكبر.
- صحيح أنه لا يوجد تعاطف كبير مع النظام الإيراني في دول الخليج أو في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لكن هذا لا يترجم إلى أي اهتمام بالانضمام إلى حرب ضد طهران. لهذا، سيظل الداعم الرئيسي لحرب كبرى مع إيران هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كثيرًا ما دافع عن القضاء على “النظام الإيراني”، بوصفه “السبيل الحقيقي الوحيد لمعالجة التهديدات التي تواجهها إسرائيل”.
- في الآونة الأخيرة، خاطب نتنياهو “الشعب الفارسي النبيل” بشكل مباشر، ونصحه بأنه “عندما تتحرر إيران أخيرًا -وسوف تأتي تلك اللحظة أسرع كثيرًا مما يتصور الناس- فسوف يصبح كل شيء مختلفًا”. ومن المؤكد أن دول الخليج لا ترحب بهذه التلميحات إلى تغيير النظام، والتي شهدت عن قرب نتائج الجهود الأمريكية في العراق، وتفضل التعامل مع طهران وفق ضوابط حسن الجوار، بدلًا من الفوضى التي من المرجح أن تمتد لسنوات.
إسرائيل والرأي العام داخل الولايات المتحدة الأمريكية:
- لقد ظلت إدارة الرئيس جو بايدن، طوال العام الماضي، ثابتة في دعمها الكامل لإسرائيل، لكن تصاعد أعداد القتلى في غزة، وظهور المعارضة الشديدة لإسرائيل داخل الجامعات الأمريكية وبعض مناطق البلاد، قد أديا إلى تعقيد بعض الحسابات.
- لقد تسببت الحرب في غزة في خسارة إسرائيل الدعم الذي تقدمه العديد من شرائح المجتمع الأمريكي، وهو الدعم الذي لن تتمكن إسرائيل من استعادته بسهولة، حيث أظهر الحراك المؤيد لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية، بما في ذلك جامعات النخبة، أن ثمة تحولًا ما لدى الرأي العام الأمريكي تجاه السردية الإسرائيلية الخاصة بالصراع مع الفلسطينيين.
- تاريخيًا، ظل الدعم الأمريكي لإسرائيل محل إجماع من جانب الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لكن ردود الفعل التي أبدتها العديد من الجامعات الأمريكية الرائدة، التي تشكل بوتقة الزعماء المستقبليين، تشير إلى أن تغيرًا ما قد يطرأ في المستقبل على طبيعة العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية لتصبح أكثر انفتاحًا على النقد، ومن ثم تتحول مسألة الدعم غير المشروط لإسرائيل من محل إجماع الحزبين الجمهوري والديمقراطي، إلى مسألة أكثر التصاقًا بالجمهوريين، ومحل جدل داخل دوائر الحزب الديمقراطي.
- لقد أدت الحرب إلى تفاقم الانقسام في السياسة الأمريكية. فتاريخيًا، كانت إسرائيل تتمتع بدعم واسع النطاق من الحزبين، لكن هذا لم يعد الحال مع المزيد من التقدميين والناخبين الأصغر سنًا الذين يشككون في هذا المبدأ الأساسي للسياسة الخارجية الأمريكية. ومن المؤكد أن حرب غزة أدت إلى تفاقم هذا التحول، وسوف تستمر في التأثير في سياسات الدعم الأمريكي لسنوات قادمة.
- ورغم أن الدعم الجمهوري لإسرائيل لايزال قويًا، فقد طرأ تحول واضح بين الديمقراطيين الذين انقسموا الآن بشأن العلاقة الخاصة. من بين التغييرات التي قد تنشأ عن الأزمة التي أحاطت بالشرق الأوسط، على مدى العام الماضي، تسارع وتيرة ديناميكية جديدة بين الولايات المتحدة وإسرائيل تعمل على إضعاف الروابط غير القابلة للكسر المزعومة بين البلدين.
تكريس حالة ضعف المنظمات الدولية مع تساؤلات حول المردود العملي للتعاطف الدولي:
- كشفت مسارات الصراع طوال العام الماضي -ولاتزال- عن حالة العجز التي وصلت إليها المنظمات الدولية، وضعف قدرتها على حل النزاعات، أو على الأقل عدم قدرتها على أن تلعب دورها الطبيعي الذي أنشئت من أجله، وهو منع النزاعات بين الدول وتسويتها. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وقفت الأمم المتحدة، ووكالتها المتخصصة، عاجزة عن لعب حتى الدور الإنساني المنوط بها. وحينما صدر أمر محكمة العدل الدولية بضرورة وقف العدوان الإسرائيلي فورًا على مدينة رفح في قطاع غزة، 24 مايو، بحكم أن الشروط مستوفاة لاتخاذ إجراءات طارئة جديدة في قضية اتهام إسرائيل بالإبادة الجماعية، لم تلتزم تل أبيب بالأمر، بل تمادت في أفعالها العدوانية، ولم تحاول القوى الكبرى ممارسة الضغط عليها، الأمر الذي أسهم في مزيد من فقدان المنظمات الدولية مصداقيتها.
- والأسوأ بالنسبة للسلطة الفلسطينية المحاصرة في الضفة الغربية، و”حماس” في غزة، أن التعاطف العالمي غير المسبوق والتضامن والاهتمام بالقضية الفلسطينية لم يتجسد في تغيير جوهري للواقع على الأرض. فباستثناء الاعتراف الرمزي من عدد من البلدان بفلسطين كدولة، وبعض التصريحات القاسية ضد إسرائيل، والإجراءات الشعبية الواسعة النطاق في العالم الغربي لدعم غزة، لم يحقق السابع من أكتوبر حتى الآن التحول الذي ربما كان يأمله بعض الفلسطينيين، من حيث الدفع قدمًا باتجاه الحرية وتحقيق الاستقلال.
إسرائيل والعالم:
- لقد كانت إحدى أهم نتائج الصراع، الذي دار العام الماضي في الشرق الأوسط، هي زيادة عزلة إسرائيل، التي أصبحت الآن موضع انتقاد روتيني في مختلف المحافل الدولية، خاصة من جانب دول الجنوب العالمي.
- في الوقت نفسه، فإن التظاهرات الواسعة النطاق التي شهدتها كبريات المدن الغربية الرئيسية؛ لتنادي بإيقاف الدعم لإسرائيل وبضرورة وقف إطلاق النار في قطاع غزة، تشير إلى أن القضية الفلسطينية خرجت، بشكل أوضح عن ذي قبل، من حيز الفضاء العربي والإسلامي إلى فضاء أوسع وأرحب، هو الفضاء العالمي، وبات الرأي العام العالمي أكثر ارتباطًا ومعرفة بطبيعة الصراع، وأطرافه، وحجم المسؤولية التي تقع على كل طرف. وما دامت الحرب مستمرة في الشرق الأوسط، فمن المرجح أن يزداد الرأي العام الغربي استقطابًا.
إلى أين يتجه الصراع بعد عامه الأول؟
- بعد مرور عام، يبدو أن ما أصبح واضحًا هو عدم وجود نهاية فورية في الأفق للصراع، وسيشهد العام القادم مجموعة من التطورات المتوقعة لن تفضي إلى أية تسوية ذات مغزى، سواء على جبهة غزة أو على جبهة لبنان. في غضون ذلك، سوف تستمر الصراعات في غزة ولبنان وفق مستويات متفاوتة من الكثافة، ومن غير المرجح أن توقف “حماس” أو حزب الله هجماتهما. وسوف يمنع استمرار الصراع، حتى على مستوى منخفض، أي إعادة إعمار كبيرة في غزة، ويجعل من الصعب للغاية على السكان العودة إلى ديارهم في شمال إسرائيل وجنوب لبنان. وقد يظل الرهائن الإسرائيليون الأحياء المتبقون يرزحون في أيدي “حماس” لبعض الوقت في المستقبل. أما في الولايات المتحدة، فسوف يحاول الرئيس الجديد الموازنة بين دعمه لإسرائيل وإبعاد القوات الأمريكية عن حرب كبرى مع إيران.
- تأسيسًا على الاستخلاصات السابقة، يمكن الإشارة إلى ما يلي:
- قد يبدو صحيحًا أن حملة إسرائيل على غزة ربما تكون في طور التراجع، لكن دون وضوح بشأن متى وكيف ستنتهي، فضلًا عن الصراع الإقليمي الأوسع المتصاعد الذي أشعله هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر.
- تحول تكتيكات القتال في غزة: مادام الرهائن الإسرائيليون لدى “حماس” باقين دون الإفراج عنهم أو مبادلتهم بأسرى فلسطينيين في السجون الإسرائيلية، ومادام قادة “حماس” الرئيسيون، وخاصة يحيى السنوار، طلقاء، فالمتوقع أن تظل عناصر الصراع في غزة مستمرة، ومعها تستمر الأزمة الإنسانية.
- مع ذلك، سيتحول القتال في قطاع غزة، بشكل أكثر وضوحًا، من العمليات العسكرية الإسرائيلية الواسعة النطاق، التي سادت معظم العام الماضي، إلى غارات أكثر استهدافًا داخل المناطق التي يحاول فيها الجناح العسكري لـ”حماس” إعادة تشكيل خلاياه، خاصة شمال القطاع. على النقيض من ذلك، سيتركز المزيد من القتال التقليدي للجيش الإسرائيلي على الجبهة الشمالية ضد حزب الله في لبنان، كما هو حادث بالفعل منذ أكثر من أسبوعين.
- بعد مرور أحد عشر شهرًا على هجوم 7 أكتوبر 2023، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، أن 60% من مقاتلي “حماس” قُتلوا أو جُرحوا، في أثناء الحرب في غزة. ورغم أن هذا الرقم قد يبدو كبيرًا، فإنه يشير إلى أن تل أبيب لم تقترب بعد من تحقيق أهدافها من الحرب. وفي ظل تلك التقديرات الإسرائيلية التي تشير إلى بقاء 40% من مقاتلي “حماس” في ساحة المعركة، سيكون من المشكوك فيه أن توافق تل أبيب على إنهاء الحرب إلى أن يتم إضعاف “حماس” بشكل أكبر. وحتى بافتراض التوصل إلى اتفاق قصير الأجل بشأن الرهائن المتبقين، فلا توجد طريقة تسمح لنتنياهو بالسماح لهذا العدد من مقاتلي “حماس” بالبقاء، ويكون قادرًا على القول بشكل موثوق به إن الحرب قد تم كسبها أو إن إسرائيل أصبحت في مأمن من هجوم كبير آخر لـ”حماس”.
- لقد انتهت إسرائيل، إلى حد كبير، من العمليات القتالية الكبرى، بعد “تطهير” مدينة غزة وخان يونس ورفح. يعني هذا، في ضوء التقديرات الإسرائيلية، أن ما يقرب من نصف مقاتلي “حماس” إما اندمجوا مع السكان المدنيين، أو لايزالون يختبئون بين المباني وشبكة الأنفاق المنتشرة في مختلف أنحاء غزة. وعليه، فمن المرجح أن تنخرط تل أبيب في عمليات “إعادة التطهير” في مختلف أنحاء قطاع غزة لفترة طويلة من الزمن.
- إذا استمرت العمليات العسكرية، فمن غير المرجح أن تكون هناك إعادة بناء كبيرة للبنية التحتية المدنية المدمرة، وسوف يستمر نزوح المدنيين. ونظرًا لحجم الدمار، فسوف يستغرق الأمر سنوات عديد؛ لإعادة بناء المساكن والمرافق والبنية التحتية الحيوية الأخرى.
- انعكاسات الخلاف المصري-الإسرائيلي: مع استمرار الخلاف بين تل أبيب والقاهرة حول إدارة الحدود ومعبر رفح البري، واستنكاف الأطراف الدولية والإقليمية كافة عن الاعتراف بالاحتلال الإسرائيلي للقطاع، لن تجد إسرائيل شركاء يدعمون إعادة إعمار القطاع، وستستمر في إدارة الشؤون الإنسانية والحياتية للقطاع بالحد الأدنى. لهذا، من غير المتصور أن يتم حل الملف الإنساني في القطاع بشكل جاد أو بطريقة ذات مغزى، ما لم يحدث أمران:
- أولهما: أن توافق إسرائيل على الانسحاب من محور فيلادلفيا، وبالتالي التوافق مع القاهرة حول السيطرة على معبر رفح، ووجود طرف فلسطيني عند الجزء الفلسطيني من الحدود، يمكن التعامل معه، وتمرير شاحنات المساعدات والسلع والبضائع من مصر إلى القطاع.
- ثانيهما: أن يكون لدى إسرائيل استراتيجية للخروج من القطاع، تؤمّن انخراط فواعل إقليمية ودولية في أعمال إعادة إعمار غزة، وإمدادها بالمساعدات الإنسانية بشكل دائم ومستمر.
- من دون ذلك، ستستمر إدارة هذا الملف بأسلوب التوافقات المحدودة والمتقطعة، التي ستُبقي القطاع على حافة المجاعة، وشفا الانهيار لفترة طويلة قادمة.
- غزة كبؤرة فاشلة: في ظل الأوضاع السابق الإشارة إليها، من المرجح أن تتحول غزة إلى بؤرة فاشلة. ويبدو أن كل المقترحات المتعلقة بحكم غزة بعد وقف إطلاق النار، التي تتراوح بين سيطرة السلطة الفلسطينية وعودة حكم “حماس” إلى الاحتلال الإسرائيلي الطويل الأمد، غير قابلة للتنفيذ. وبعض هذه المقترحات غير مقبول لدى الإسرائيليين أو الفلسطينيين، في حين أن بعضها الآخر، مثل قوة عربية أو دولية تعمل كقوات لحفظ السلام، غير قابل للتنفيذ إلى حد كبير. والنتيجة الافتراضية هي أن لا أحد سيحكم غزة حقًا. في مثل هذا السيناريو، سوف تشن “حماس” تمردًا منخفض المستوى ضد القوات الإسرائيلية، فيما ستضرب القوات الإسرائيلية مرارًا وتكرارًا زعماء الحركة ومقاتليها؛ لمنع الجماعة من إعادة تشكيل نفسها (وفي الوقت نفسه تقتل العديد من المدنيين).والنتيجة المحتملة هي أن غزة سوف تصبح مصدرًا دائمًا للصراع الإقليمي، مع أزمات صغيرة متكررة وعنف منخفض المستوى. وسوف يستمر أهل غزة في المعاناة، وإن كان ذلك في ظل اهتمام دولي أقل، في حين يتراوح الوضع الإنساني من السيئ إلى الأسوأ، وربما الكارثي.
- الضفة الغربية: يشير الجمع بين التردي الاقتصادي في الضفة الغربية، على خلفية الحرب في غزة (حيث فقد الاقتصاد الفلسطيني 144 ألف وظيفة في الضفة، و148 ألفًا من العمال المتنقلين من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلي)، والتداعيات المتوقعة لقرار إسرائيل إلغاء فك الارتباط مع شمال الضفة، إلى أن احتمالات “انفجار” الأوضاع في الضفة تتزايد يومًا بعد الآخر.
- الجبهة اللبنانية: ربما يشهد العام القادم، 2025، تراجعًا في حدة الصراع ليتحول إلى صراع منخفض الكثافة، بين حزب الله وإسرائيل، وبعد أن تكون الأخيرة قد نجحت في أن تفرض بالقوة منطقة عازلة، سواء باحتلال شريط حدودي داخل الأراضي اللبنانية، أو من خلال فرض هذه المنطقة بقوة النيران من وراء الحدود. في الحالة الأخيرة، ستكون تل أبيب قد تجنبت كلًا من: استنزاف “حرب العصابات” الذي كانت ستتعرض له قواتها في حال احتلت شريطًا حدوديًا داخل الأراضي اللبنانية، وكذلك الإشكاليات السياسية والدبلوماسية؛ من جراء هذا الاحتلال لجزء من الأراضي اللبنانية.
- الجبهة السورية: في حين ظل نظام الرئيس بشار الأسد من بين أقل الأعضاء نشاطًا فيما يسمى “محور المقاومة” منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023 -ما يعكس رغبة الحكومة السورية في تجنب الانخراط في مواجهات عسكرية نشطة مباشرة مع إسرائيل- استمرت البلاد في العمل كقناة لتدفقات ثابتة من الأسلحة والإمدادات الإيرانية إلى حزب الله. ومن المرجح، في حال نجاح إسرائيل في فرض منطقة عازلة في الجنوب اللبناني (وحتى قبل ذلك)، أن يحاول حزب الله وميليشيات موالية لإيران استخدام الجبهة السورية كمنصة لانطلاق الهجمات ضد إسرائيل. وبالتالي، ستزيد تل أبيب من ضرباتها الموجهة للعمق السوري، وزيادة تسخين جبهة سوريا، من دون أن يؤدي ذلك إلى انخراط نظام الأسد بأي معنى في مواجهة مع إسرائيل.
- احتمالات تراجع الاهتمام الأمريكي: قد يتراجع الاهتمام الأمريكي بتقديم رؤية أو حل أو مزيد من المبادرات لتسوية الصراع. وما لم يندلع صراع إقليمي واسع النطاق مع إيران، فلن تنخرط الولايات المتحدة في نشاط كثيف مع إسرائيل في هذا الشأن؛ أي أنه ستكون لدى أية إدارة أمريكية قادمة -سواء ديمقراطية أو جمهورية- دوافع، وربما أقل؛ للانخراط بكثافة في حلحلة المواقف. ذلك أن تسوية الصراعات المنخفضة الكثافة تتطلب تدريبًا نشطًا، وبرامجَ مساعدات لدعم السلطة الفلسطينية، وتدخلًا دبلوماسيًا للمساعدة على تأمين زعامة جديدة وذات كفاءة، مع رحيل عباس عن السلطة، والضغط على إسرائيل، لتجنب “الضربات الوقائية” غير الضرورية، وغير ذلك من الخطوات الصعبة. وستستغرق هذه الخطوات وقتًا طويلًا، وستتطلب جهدًا سياسيًا شاقًا، وسوف تفشل العديد منها، حتى مع أكثر المسؤولين مهارةً وانتباهًا. وليس من المستغرب، عند هذه النقطة، ألا تكون الإدارة الأمريكية القادمة حريصة على محاولة تشكيل المنطقة. والأرجح أنها ستعمل وفق منطق إدارة الأزمات، في حال اندلاعها.