لم يكن الإرهاب، باعتباره تحديًا عالميًّا كبيرًا، أمرًا
جامدًا، وإنما ظلَّ يتكيف ويتطور باستمرار، ولاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 التي
غيّرت وجهَ التاريخ وشكّلت محطة تحول رئيسية في تطور ظاهرة الإرهاب، إذ كانت هذه
الأحداث التي نفّذها تنظيم القاعدة، مؤشرًا إلى ظهور ما يُعرَف بالإرهاب عبر
القارات أو الإرهاب المعولَم؛ حيث بات إرهاب التنظيمات الإرهابية يتجاوز النزعة
المحلية المركزية إلى اللامركزية العالمية. وقد دفع هذا التطور الهائل في طبيعة
ظاهرة الإرهاب صانعي السياسات والخبراء الأمنيين، إلى العمل باستمرار من أجل رصد اتجاهات
الإرهاب والتهديدات الناشئة عنه.
ويتعمق هذا التحليل في المشهد الحالي المعقَّد لظاهرة الإرهاب،
مُسلّطًا الضوء على أبرز العوامل المحفِّزة لاستمرار التنظيمات الإرهابية وأنشطتها
الإرهابية، وفي مقدمتها التطور التكنولوجي الهائل، وتطوّر طبيعة الأيديولوجيات
المتطرفة، والتغيّرات والمستجدات الجيوسياسية التي شهدها العالم في السنوات
الأخيرة؛ وذلك بهدف تقديم رؤى يمكن أن تفيد السياسات والاستراتيجيات والإجراءات
التي تهدف إلى مكافحة الإرهاب وضمان سلامة وأمن مجتمعاتنا في عصر تتلاشى فيه
الحدود بين المساحات المادية والرقمية.
أولًا: ملامح المشهد الحالي للإرهاب
برغم تراجع أنشطة التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيمَا
القاعدة وداعش، خلال الأعوام الماضية، فإنه ما زالت هناك بعض البؤر الرئيسية التي
توجد فيها هذه التنظيمات؛ حيث تتفاوت أنشطتها وتتراوح ما بين أنشطة تحدث على فترات،
وأنشطة مستمرة متنامية، والأغلب أن هذه التنظيمات ما زالت موجودة وقادرة على أن
تشكّل تهديدًا خطيرًا.
وفي هذا الإطار تراجعت بوضوح أنشطة تنظيمَيْ القاعدة وداعش
في العراق وسوريا، لكن ذلك لا يعني أنه تمّ القضاء على التنظيمَيْن، فتنظيم
القاعدة ما زال موجودًا في العراق ويقوم بتنفيذ هجمات إرهابية من حين لآخر، كما أن
هناك بعض التنظيمات التابعة له موجودة في سوريا، وخاصة في محافظة إدلب، مثل تنظيم
حراس الدين، بالإضافة إلى هيئة تحرير الشام التي تدين بالولاء لتنظيم القاعدة، وإن
سعت الهيئة إلى النأي بنفسها في السنوات الأخيرة عن تنظيم القاعدة.
وبرغم تراجع أنشطة القاعدة وداعش في منطقة الشرق الأوسط،
فإن فروع التنظيمَيْن في القارة الأفريقية حققت نوعًا من التمدد الملحوظ، بل
استطاعت أن ترسخ وجودها، سواء في منطقة الساحل الأفريقي أو في منطقة غرب أفريقيا،
حتى أصبحت القارة من أكثر مناطق العالم التي شهدت عمليات إرهابية في السنوات
القليلة الأخيرة.
إلى جانب ذلك يوجد تنظيمَا القاعدة وداعش في أفغانستان
وباكستان، ففيما بات الأول يحظى بنوع من الحضور الهادئ بعد سيطرة حركة طالبان على
الحكم في أفغانستان، فإن الثاني يناهض بشدة حكم الحركة ويعمل على زعزعته. وفي
باكستان ينشط تنظيم تحريك طالبان من خلال شنّ هجمات ضد الدولة الباكستانية.
وبرغم تراجع أنشطة التنظيمات الإرهابية في الدول الغربية،
سواء في الولايات المتحدة أو القارة الأوروبية بشكل ملحوظ خلال الأعوام القليلة
الأخيرة، فإن ذلك لا يمنع من وجود بعض الخلايا النائمة أو ما يُعرَف بـ
“الذئاب المنفردة” التي يمكنها تنفيذ بعض الهجمات الإرهابية في أوقات
معينة.
ثانيًا: عوامل محفِّزة على تنامي أنشطة الإرهاب
قد يدفع الاستعراض السريع السابق لملامح المشهد الحالي للإرهاب البعض إلى الاعتقاد بأن هناك تراجعًا ملحوظًا في أنشطة التنظيمات الإرهابية على المستويَيْن الإقليمي والدولي، وبرغم أن هذا الأمر قد يكون دقيقًا، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا، وغير دقيق أبدًا فيما يتعلق بالقارة الأفريقية التي تشهد تناميًا مستمرًا للتنظيمات الإرهابية وأنشطتها، إلا أن المهم هو أن هناك مجموعة من العوامل التي يمكن اعتبارها “عوامل محفِّزة” لاستمرار التنظيمات الإرهابية وتنامي أنشطتها، وهو ما سيتم تناوله في الجزء التالي.
أ- السياق الجيوسياسي والتهديدات الإرهابية
ثمة متغيرات على الساحتين الدولية والإقليمية، تدفع للقول بأن النظام الدولي يعيش شبه حالة من التعددية القطبية، من بينها الحرب الروسية-الأوكرانية، والتنافس بين الولايات المتحدة من جهة، وكل من الصين وروسيا من جهة ثانية، التي أخذت أبعادًا مختلفة، سواء سياسية أو اقتصادية؛ حيث اشتعل صراع على النفوذ والتمدد، وأخذ مظاهر عديدة، كان من بينها السعي إلى نشر النفوذ في مناطق جديدة، ومن ذلك التوسع الصيني في منطقة الشرق الأوسط، الذي كان من أبرز مظاهره وساطة بكين في التقارب السعودي-الإيراني، والتمدد الروسي في أفريقيا وغيرهما. وفي ظل هذه المتغيرات تظل الحرب على الإرهاب موضع تساؤل، خاصة مع انشغال الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، بالصراع مع روسيا والصين، وتراجع جهوده في مكافحة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية. وسنوضح فيما يلي تداعيات هذه المتغيرات التي شهدتها الساحتان الإقليمية والدولية على الإرهاب.
1- الشرق الأوسط
يمثّل التقارب الإيراني-السعودي، وعودة سوريا إلى الحضن
العربي، عاملَيْن مهمَّيْن في انحسار أنشطة التنظيمات الإرهابية في المنطقة، فمن
ناحية يساعد التقارب بين الرياض وطهران على تهدئة النزاعات التي اشتعلت لفترة
طويلة واستغلتها التنظيمات الإرهابية، كما في سوريا والعراق واليمن، والمثال
الأبرز هنا، هو إفادة بعض التقارير بأن إيران تشجّع الحوثيين
على الإبقاء على الهدنة في اليمن[1] الأمر الذي يسهم في تحقيق
نوع من الهدوء والاستقرار الذي يسمح بتوجيه الجهود إلى مواجهة التنظيمات الإرهابية
هناك. كما أن الدفع
العربي نحو استقرار سوريا يساعد في دعم قدرات الدولة السورية وترسيخ أركانها؛ بحيث
تكون قادرة على بسط سيطرتها على مساحة البلاد كافة والتعامل مع التنظيمات
الإرهابية الموجودة في بعض المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة. غير أن تحقيق هذا
الهدف يتطلّب بذل جهود كبيرة لتقريب وجهات النظر بين تركيا وسوريا لإيجاد حلول
للمعضلات التي تواجه تطبيع العلاقات بين البلدين ومن ثم تعزيز قدرات الدولة
السورية على مواجهة التنظيمات الإرهابية الموجودة في بعض مناطقها، ولاسيما في محافظة
إدلب.
2- آسيا
برغم أن المستجدات الإقليمية كانت دافعًا نحو انحسار الأنشطة
الإرهابية، إلا أن المستجدات في القارة الآسيوية ربما تكون حافزًا نحو تنامي
الأنشطة الإرهابية، ولاسيما في جنوب القارة؛ حيث تواجه باكستان أوضاعًا اقتصادية
صعبة، ويستمر وجود القاعدة وداعش في أفغانستان.
ويبدو الوضع في أفغانستان محفّزًا على تنامي الأنشطة الإرهابية في ظل استمرار وجود تنظيم القاعدة في البلاد، وبرغم أن التنظيم لا يشكّل حاليًّا أيَّ تهديد يُذكر، ربما بسبب علاقته بحكومة طالبان التي سمحت باستمرار وجوده في البلاد مع تقييد قدرته على الانطلاق لتنفيذ أيِّ عمليات خارجية، وبرغم التقارير الاستخباراتية التي تفيد بأن تنظيم القاعدة غير قادر على تهديد العدو الأكبر له -وفقًا لأدبيات التنظيم- الولايات المتحدة حتى عام 2024[2] ، فإن ذلك لا يعني أن التهديد الذي يمثّله التنظيم قد انتهى، فالتنظيم يمتلك فروعًا خارجية مؤثرة، كما في سوريا وفي بعض الدول الأفريقية، ويستطيع التواصل معها والتأثير فيها ودفعها إلى تنفيذ عمليات خارجية، فضلًا عن خلاياه النائمة في العديد من دول العالم، ولاسيما الدول الأوروبية.
وإلى جانب تنظيم القاعدة، هناك أيضًا تنظيم داعش، ممثَّلًا في ولاية خراسان التي تناهض حكومة طالبان وتعمل على زعزعة حكمها من خلال شنِّ مجموعة من الهجمات التي تستهدف منها التأكيد أن البلاد غير قادرة على تحقيق الأمن، فبرغم فشل التنظيم في توسيع رقعة المنطقة التي يسيطر عليها في أفغانستان، وتصدّي حركة طالبان له واستهداف بعض قياداته، إلا أنه ما زال قادرًا على تنفيذ هجمات نوعية، من بينها استهداف حكام مقاطعات تابعِين لطالبان، وتنفيذ هجمات خارج الحدود في باكستان[3] وإيران[4]،
وبالإضافة إلى ذلك، تشير
بعض التقارير إلى أن التنظيم يتلقّى دعمًا من فروع أخرى لداعش في سوريا والعراق
والصومال[5]، فضلًا عن أنه يقود عناصر
التنظيم في المالديف[6].
على الجانب الآخر، يوجد تنظيم تحريك طالبان في باكستان،
الذي يرى البعض أنه استقوى بصعود طالبان-أفغانستان إلى السلطة؛ حيث اتجه التنظيم إلى
توسيع وتصعيد عملياته ضد باكستان، التي أسفرت عن مقتل المئات من قوات الأمن
والمدنيين.
3- أوروبا
تبدو الأوضاع في القارة الأوروبية محفِّزة على حدوث
أنشطة إرهابية؛ حيث الحرب الروسية-الأوكرانية وتصاعد اليمين المتطرف، خاصة مع
النجاحات الانتخابية التي حققتها الأحزاب القومية واليمينية المتطرفة؛ حيث شهدت
الحكومات الأوروبية خلال السنوات السابقة انتقالًا نحو اليمين، كانت بدايته من
إيطاليا[7]. ويلقي هذا التحول بظلاله
على انتخابات البرلمان الأوروبي المقبلة، المقرَّر عقدُها في يونيو 2024؛ حيث تُظهِر
استطلاعات الرأي أن اليمين يتجه نحو تحقيق مكاسب كبيرة، فمن المتوقَّع أن
يصبح حزب المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين اليمينيين، ثالث
أكبر مجموعة في البرلمان الأوروبي بـ 89 مقعدًا، كما أنه من الممكن أن تحقق مجموعة
الهوية والديمقراطية اليمينية المتطرفة مكاسب كبيرة، فتفوز بـ 77 مقعدًا[8]. ويزيد صعود اليمين المتطرف
في أوروبا من احتمالات وقوع عمليات إرهابية، خاصة مع ارتباطه بملفات عدة، على
رأسها: الهجرة، وكراهية الأجانب، والعنصرية.
من زاوية أخرى، تمثِّل ظاهرة المقاتلين اليمينيين في الحرب الروسية-الأوكرانية تهديدًا للداخل الأوروبي خلال السنوات المقبلة، فعلى الرغم من أن الأعداد لا تبدو كبيرة، إلا أن العناصر الذين انخرطوا في الحرب اكتسبوا مهارات قتالية جديدة تُمكِّنهم أكثر من التخطيط لهجمات إرهابية، ليس على مستوى دولهم الأصلية، ولكن على مستوى الاتحاد الأوروبي؛ نتيجة لتشبيك العلاقات فيما بينهم، وخاصة أن بعض الدراسات توصَّلت إلى أن الاتحاد الأوروبي لم يُبْدِ اهتمامًا كبيرًا بتلك العناصر[9].
4- أفريقيا
تشهد القارة الأفريقية تصاعدًا في الأنشطة الإرهابية،
فبحسب مؤشر الإرهاب العالمي، هناك خمس دول أفريقية بين أبرز عشر دول تتعرض
للإرهاب، وهي: بوركينافاسو، ومالي، والصومال، ونيجيريا، والنيجر، كما شهدت منطقة
الساحل الأفريقي 43٪ من نسبة الوفيات من جراء العمليات الإرهابية خلال عام 2022[10].
وثمة متغيرات عدَّة في الداخل الأفريقي تعزّز النشاط
الإرهابي وتزيد من طبيعة نشاط ووجود التنظيمات الإرهابية، من بينها: ضعف الاستقرار
السياسي والأمني، وتراجع الأوضاع الاقتصادية، وتزايد وتيرة الانقلابات وأحدثُها
انقلابا النيجر والجابون اللّذَان وقعا في يوليو وأغسطس 2023 على التوالي، واللذان
يكملان سلسلة الانقلابات التي شهدتها منطقَتَا غرب ووسط أفريقيا خلال السنوات الثلاث
الماضية[11].
ولانقلاب النيجر أهمية خاصة بخلاف الانقلابات الأخرى
التي شهدتها منطقة الساحل؛ حيث تمثّل النيجر آخر معقل للديمقراطية في منطقة الساحل[12]، فضلًا عن كونها حائط الصد
الأكبر ضد الجهاديين في المنطقة، ومن ثم فإن أيَّ تدهور سياسي وأمني فيها من شأنه
أن يؤثر في منطقة الساحل كلها، فضلًا عن أنه يغيّر خريطة التوازنات الخارجية في
المنطقة، ففي عهد الحكومة السابقة “حكومة محمد بازوم”، كانت النيجر
الحليف الأكبر للغربيين والولايات المتحدة في المنطقة، وهذا ما تجلّى في وجود
قواعد أمريكية وفرنسية على أراضيها، وتنامي الدعم الدولي لها خلال السنوات الماضية[13] الذي كان من أبرز مظاهره،
تخصيص الاتحاد الأوروبي أكثر من 500 مليون يورو لتحسين الحوكمة والتعليم والنمو
المستدام في البلاد بين عامي 2021 و2024، وإطلاق مهمة تدريب عسكري بقيمة 27 مليون
يورو، كما قدمت فرنسا للبلاد حوالي 120 مليون يورو مساعدات تنموية في عام 2022،
بالإضافة إلى إدانة المسؤولين في النيجر في عام 2022 وصول عناصر فاغنر إلى مالي[14].
وبعد وقوع الانقلاب هناك مخاوف غربية من أن ينحاز النظام الجديد في النيجر إلى روسيا، وما عزّز ذلك تصريحات قائد فاغنر، يفغيني بريغوجين، قبل مقتله، المُرحِّبة بانقلاب النيجر، وعَرْضِه خدمات مقاتليه لإحلال النظام[15]، وعلى الرغم من عدم وجود مؤشرات قوية إلى الآن بخلاف تلويح بعض مناصِري الانقلاب في نيامي بالأعلام الروسية، إلا أنه عندما يقرّر الغرب تحييدَ النظام الجديد في النيجر، سيسهم ذلك في الاتجاه نحو روسيا.
ب- الطبيعة المتغيرة لأيديولوجيات واستراتيجيات الجماعات
المتطرفة
تسهم الطبيعة المتغيرة للأيديولوجيات المتطرفة بدور مهم في ظهور وتصاعد الإرهاب؛ حيث توفّر الإطار والدافع للأفراد والجماعات للانخراط في أعمال العنف، ويشكّل فَهمُ تطوّر هذه الأيديولوجيات أمرًا بالغ الأهمية لمكافحة الإرهاب بشكل فعال، ونستعرض فيما يلي بعض الجوانب الرئيسية للطبيعة المتغيرة للأيديولوجيات المتطرفة وعلاقتها بصعود الإرهاب:
1-أيديولوجيات هجينة: على مدى العقود الماضية كان التطرف الديني هو المحرك الأبرز والأكبر للنشاط الإرهابي، ولكن ظهر على الساحة مزيج متنوع من الأيديولوجيات المتطرفة، سواء تلك الأيديولوجيات المتعلقة بالقومية، والانفصالية، أو بسياسات اليمين المتطرف واليسار المتطرف، ونشطاء البيئة، الأمر الذي من شأنه تغذية التطرف العنيف، ويصعب معه التنبؤ بالتهديدات ومكافحتها. وقد يتم تهجين بعض الأيديولوجيات والمزج بينها بشكل متزايد؛ حيث تَجمع بعض الجماعات المتطرفة بين التطرف الديني وأيديولوجيات اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف، ما يخلق تهديدات جديدة يصعب التنبؤ بها.
2- التطرف في العالم الافتراضي: أصبح الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي منذ سنوات عدة أدوات قوية لنشر الأيديولوجيات المتطرفة؛ حيث توفّر تلك المنصات مساحة للمتطرفين لنشر الدعاية، وتجنيد الأتباع، وتسهيل التطرف، كما تساعد أيضًا على نشر وجهات النظر المتطرفة بشكل كبير، وربط الأفراد ذوي التفكير المماثل في جميع أنحاء العالم.
3- توزيع المهام بين العالمي والإقليمي والمحلي: مع مرور الوقت تتنوع وتتغير استراتيجيات المجموعات الإرهابية، وتحوّل تركيزها من القضايا المحلية إلى القضايا العالمية أو العكس، فتعطي بعض الجماعات الأولوية للأجندات الدولية، في حين تركّز مجموعات أخرى على الأهداف الإقليمية أو المحلية، ما يُصعِّب ويعرقل جهود المكافحة؛ حيث تذهب تلك المجموعات إلى مناطق تواجه فيها إجراءات أقل لمكافحة الإرهاب.
4- استغلال المظالم: تعمد المجموعات الإرهابية والمتطرفة الآن، ومنذ عقود، على استغلال المظالم، سواء في قضية محلية أو في قضية إقليمية ودولية، مثلما يحدث الآن في الأزمة الروسية-الأوكرانية، وذلك من أجل نشر السخط بين الأفراد، ومن ثم سهولة تجنيدهم بعد ذلك واستخدامهم في تنفيذ عمليات إرهابية.
5- معركة الخير والشر: الثابت لدى المجموعات الإرهابية والمتطرفة، مع تنوع أيديولوجياتها وانتماءاتها، هو اللعب على وتر المظالم، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية… إلخ، وتصوير نشاطها على أنه صراع بين الخير والشر، في وقت لا تُوجد، ولن تُوجد، حكومة مثالية قادرة على إشباع رغبات الشعب كاملة، الأمر الذي يوفّر لهذه المجموعات مدخلًا أثبت فاعليته على مرِّ التاريخ في عمليات الاستقطاب.
6- تنامي عدة ذئاب منفردة: أسهم التغيّر في أيديولوجيات واستراتيجيات الجماعات المتطرفة في زيادة هجمات الذئاب المنفردة[16] فضلًا عن الهجمات صغيرة النطاق وضعيفة الأثر؛ حيث يسهم التواصل في العالم الافتراضي بتحضير المتطرفين لهجمات بشكل مستقل، الأمر الذي يصعِّب على السلطات اكتشاف مثل هذه العمليات.
7- الرعوية الشعبوية والنظام الهرمي: لفت مؤشر الإرهاب العالمي 2023، النظر إلى تطوّر نهج التنظيمات الإرهابية النشطة، وتبنّيها الرعوية الشعوبية والنظام الهرمي، فتنظيم القاعدة كان مثالًا للنظام الأول باعتماده على مظلوميات المواطنين من الضرائب والفساد ونقص الموارد كمدخل للاستقطاب، أما تنظيم داعش بتبنّيه النظام الهرمي، فقد عَمَد إلى ضم العناصر بالتهديد واستخدام العنف والوحشية[17].
ج- إرهاب الميتافيرس: مخاوف الاستغلال من قبل الإرهابيين
واكبت التنظيمات الإرهابية طوال العقود الماضية التطورات التكنولوجية والعلمية، ومع ظهور الميتافيرس، هناك العديد من الاستخدامات السلبية المحتمَلة لها، وعلى رأسها الاستغلال من قِبَل المجموعات الإرهابية، في مجالات عدة، على رأسها[18]:
1- التجنيد والاستقطاب: تسهم الميتافيرس في توسيع وتسهيل قدرة المجموعات الإرهابية والمتطرفة على التجنيد، إذ يساعد الدمج بين الواقع المعزز والذكاء الاصطناعي، قيادات المجموعات الإرهابية على عقد اجتماعات مع المؤيدين لهم في غرف افتراضية يحدث فيها نوع من الخلط بين الواقع والعالَم الافتراضي. كما توفّر الميتافيرس وسيلة لخلق مجتمع افتراضي ربما يشمل قصصًا تاريخية يجسِّدها أو يستحضر فيها رموزَ التطرف والإرهاب وتجسيدها في صورة مثالية، وكل ذلك يسهِّل من عمليات الإغواء للمتعاطفين والمؤيدين.
2- التخطيط للعمليات ومعسكرات تدريب افتراضية: توفّر الميتافيرس فرصًا للتخطيط والتنسيق لتنفيذ عملية إرهابية في العالم الافتراضي قبل تنفيذها في الواقع؛ حيث يمكن إعداد خطة محكَمَة في العالم الافتراضي لتنفيذ عملية إرهابية والتحايل على الأجهزة الأمنية ورسم خطط سير العناصر الإرهابية وهروبها من أجهزة المراقبة، ومن ثم التدرّب على كيفية تجنّب إجراءات المكافحة وعقد خطط بديلة في حالات الطوارئ. كما توفّر هذه التقنية فرصة للتدريب القتالي من خلال تقنيات، مثل «VR»، بالإضافة إلى التدرب على مجالات، مثل الرماية والمراقبة وخطف الرهائن… إلخ.
3- تسهيل عمليات تمويل الإرهاب: للوصول إلى الميتافيرس، يُطلَب من الأفراد أن يكون لديهم محفظة عملات مشفَّرة، الأمر الذي يزيد المخاوف بشأن استخدام العملات المشفَّرة في تمويل الإرهاب، وخاصة مع صعوبة الكشف عن هوية مستخدمها حال إجرائه تحويلات فورية، فضلًا عن توفير القدرة على إجراء تحويلات عبر الحدود من دون أي إشراف من قبل أيّ سلطة حكومية أو بنك. ومن الأمثلة على ذلك، إعلان الولايات المتحدة في عام 2020 عن تفكيكها ثلاث حملاتِ جَمعِ تبرعات على الإنترنت بالعملات المشفَّرة لصالح مجموعات إرهابية[19].
4- شنّ هجمات افتراضية: هناك نمط جديد من الهجمات يمكن أن يظهر مع الميتافيرس، يتمثّل بإلحاق أضرار في الواقع المعزّز بما ينعكس على الواقع المادي؛ حيث يمكن للإرهابيين من خلال الميتافيرس مهاجمة أحداث في الواقع المعزّز، مثل إحياء ذكرى عملية إرهابية، الأمر الذي يُحدِث ضررَيْن: معنوي ومادي، فيترك أثرًا نفسيًّا لدى الضحايا من ناحية، ويتسبب بخسائر مالية من ناحية أخرى.
خاتمة:
بناء على المعطيات السابقة، يمكن تحديد أبرز ملامح النشاط الإرهابي خلال السنوات المقبلة، فعلى المستوى الجغرافي، من المرجَّح استمرار أفريقيا على رأس المناطق الأكثر عُرضة للنشاط الإرهابي خلال السنوات المقبلة، فضلًا عن أنه من المحتمَل أن يشهد جنوب آسيا ارتفاعًا في وتيرة وحجم العمليات الإرهابية، وخاصة في باكستان. ومع تصاعد حكومات اليمين المتطرف وانخراط عناصر يمينية في الحرب الروسية-الأوكرانية، سيتصاعد عنف المجموعات اليمينية في أوروبا، الذي يلقي بظلاله على نشاط السلفية الجهادية ويزيد من استقطابها لعناصر في الغرب. وعلى مستوى الشرق الأوسط، فإن التغيّرات الجيوسياسية الحالية ومعالجة الخلافات الكبرى في المنطقة، ربما تدفعان إلى انخفاض وتيرة العنف وليس القضاء عليه. وعلى مستوى التنظيمات الإرهابية، ستلجأ التنظيمات الإرهابية والمتطرفة نحو المزيد من التوسع في استخدام التكنولوجيا لاستقطاب عناصر جديدة، مع محاولة تطوير إمكانياتها لتنفيذ هجمات سيبرانية عالية التهديد.
المراجع
[1] Henry Rome, Grant Rumley,
What Beijing’s Iran-Saudi Deal Means—and What It Doesn’t, The Washington
Institute, Brief Analysis, Mar 15, 2023:
[2] PROSPECTS FOR AL-QA’IDA IN
AFGHANISTAN AND GLOBALLY THROUGH 2024, National Intelligence Council (U.S.),
September 16, 2022:
[3] ISIS Affiliate Claims Responsibility
for Deadly Attack at Rally in Pakistan, The New York Times, July 31, 2023:
https://www.nytimes.com/2023/07/31/world/asia/pakistan-bombing-isis.html
[4] MW Weekly: Paraguayan
Military Kills Marxist Guerrilla Leader; Islamic State Attacks Iranian Shrine;
Al-Shabaab Besieges Hospital in Somalia, Militant Wire, OCT 29, 2022:
https://www.militantwire.com/p/mw-weekly-paraguayan-military-kills
[5] The Growing Threat of the
Islamic State in Afghanistan and South Asia, U.S. Institute of Peace, June 7,
2023:
https://www.usip.org/publications/2023/06/growing-threat-islamic-state-afghanistan-and-south-asia
[6] Treasury Designates
Leaders and Financial Facilitators of ISIS and al-Qa’ida Cells in Maldives,
U.S. Department of the Treasury, July 31, 2023:
[7] Europe swings right — and
reshapes the EU, politico, JUNE 30, 2023:
https://www.politico.eu/article/far-right-giorgia-meloni-europe-swings-right-and-reshapes-the-eu/
[8] Right wing set for big
gains in 2024 EU election, polling shows, politico, AUGUST 9, 2023:
https://www.politico.eu/article/european-election-2024-polls-right-wing-big-gains/
[9] Christian Kaunert, Alex
MacKenzie, and Sarah Léonard، Far-right foreign fighters and Ukraine: A blind spot
for the European Union?, sage journal,
March 19, 2023:
[10] Global Terrorism Index
2023, Institute for Economics & Peace (IEP):
https://www.economicsandpeace.org/wp-content/uploads/2023/03/GTI-2023-web.pdf
[11] Niger coup: List of
recent military takeovers in West and Central Africa, reuters, July 27, 2023:
https://www.reuters.com/world/africa/recent-coups-west-central-africa-2023-07-26/
[12] ‘Last bastion of
democracy in the Sahel’: Uncertainty in Niger prompts concern among allies,
France 24, July 27, 2023:
[13] Méryl Demuynck, Mathis
Böhm, Unravelling the Niger coup and its implications for violent extremism in
the Sahel, ICCT, Aug 04, 2023:
https://www.icct.nl/publication/unravelling-niger-coup-and-its-implications-violent-extremism-sahel
[14] Danielle Paquette,
Russian mercenaries have landed in West Africa, pushing Putin’s goals as
Kremlin is increasingly isolated, washington post, March 9, 2022:
https://www.washingtonpost.com/world/2022/03/09/mali-russia-wagner/
[15] Russia’s Wagner boss
appears to hail Niger coup, tout services, Aljazeera, 28 Jul 2023:
[16] THANA HUSSAIN,The growing
threat of lone-wolf terrorism, Observer
Research Foundation (ORF), DEC 20 2022:
[17] نهال
أحمد السيد، أفريقيا في تقرير مؤشر الإرهاب العالمي (2023)، مركز المسبار للدراسات
والبحوث، 31 يوليو 2023:
[18] Gabriel Weimann and Roy
Dimant, The Metaverse and Terrorism: Threats and Challenges, the International
Centre for Counter-Terrorism (ICCT), Issue XVII, Volume 2, June 2023:
[19] عباس مصطفى صادق، تمويل الإرهاب في عصر
العُملات المشفَّرة، التحالف العسكري لمحاربة الإرهاب، 22 مايو 2022:
https://www.imctc.org/ar/eLibrary/Articles/Pages/article22052022.aspx