صدَرت المراجعة الوطنية الاستراتيجية 2025 [1](Revue nationale stratégique – RNS 2025) في منتصف شهر يوليو 2025، باعتبارها وثيقة مرجعية محورية تُعيد رسم خريطة التهديدات التي تواجه فرنسا، وتحدّد المسار الاستراتيجي الواجب اتّباعه لحماية الدولة ومصالحها الحيوية. وتندرج هذه المراجعة في إطار رؤية متكاملة تقوم على الاستباق والتعبئة، وتشمل إجراءات تنفيذية أبرزها زيادة الموازنات الدفاعية؛ بهدف تسريع عملية إعادة التسلّح الوطني وتعزيز قدرات الصمود المجتمعي؛ استعدادًا لمواجهة أزمات ونزاعات كبرى محتمَلة حتى أفق عام 2030.
وترتكز المراجعة على هدفين رئيسيّين، هما:
- إجراء تحليل دقيق للبيئة الدفاعية والأمنية لفرنسا، على الصعيدَين الوطني والدولي.
- تحديد التحديات الاستراتيجية والعملياتية والقدراتية، التي ستُواجِه الدولة خلال السنوات المقبلة، في ضوء التحولات الجيوسياسية والتكنولوجية المتسارعة.
وجاء تحديث هذه الوثيقة في عام 2025؛ استجابةً لتطورات كبرى غير مسبوقة، في مقدّمتها الحرب المستمرة في أوكرانيا، وتصاعُد التوترات في الشرق الأوسط، إلى جانب تراجع الحضور الأمريكي على الساحة الأوروبية. وفي هذا السياق، أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال كلمته للقوات المسلحة، في 20 يناير 2025، عن ضرورة إعادة ضبط توجهات السياسة الدفاعية الوطنية ومسار إعادة التسلّح، حيث تساءل:
“هل بلغ دفاعُنا أقصى قدراته؟ هل هو مهيَّأ لمواجهة أخطار العالم؟ […] إن أردنا التحكم في مصيرنا، فعلينا أن نتحلّى بأفضلية الخيار الأوروبي.”
وبناءً على هذا التوجيه السياسي، تم تكليف الأمانة العامة للدفاع والأمن القومي (SGDSN) – وهي هيئة تابعة لرئاسة الوزراء – بمهمة تحديث المراجعة الوطنية الاستراتيجية، بعد أن كان آخر إصدار لها قد نُشر في عام 2022.
وتُقدّم تلك الدراسة القصيرة للقارئ العربي التهديدات المحدِقة بفرنسا على الصعيدَين الوطني والدولي من وجهة النظر الفرنسية الرسمية، ومن خلال تلك المراجعة، وكيف تخطّط الدولة الفرنسية لمجابهة تلك التحديات.
ما هي التهديدات المحدِقة بفرنسا 2025-20230؟
تتناول المراجعة تحليلًا شاملًا للتطورات المتّصلة بالتهديدات والمخاطر التي تُواجه كلًّا من فرنسا وأوروبا، مع التركيز على محور استراتيجي جديد يتشكّل من التقارب المتزايد بين كلٍّ من الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية؛ ما يرفع من احتمالية توسُّع النزاعات عالميًّا.
فعلى الصعيد الدولي، تشمل التهديدات ما يلي:
- تصاعُد الأعمال العدائية الروسية، مثل التهديدات النووية، والهجمات السيبرانية، وعمليات التخريب، وحملات التضليل الإعلامي.
- تراجُع الدعم الأمريكي لأوروبا، منذ انتخاب الرئيس دونالد ترامب.
- التهديد الأمني الذي تُمثّله إيران في الشرق الأوسط.
- تصاعُد النشاط الصيني؛ في إطار تنافسها مع الولايات المتحدة، لتصبح القوة العالمية الأولى بحلول 2049.
- احتمالية تعدُّد مسارح الأزمات في منطقة الهندو-باسيفيك، خصوصًا مع استمرار كوريا الشمالية في تطوير برنامجها النووي.
- احتدام التنافس بين القوى العالمية في القارة الأفريقية.
على المستوى الوطني، ترصد المراجعة التهديدات التالية:
- عودة خطر الإرهاب الجهادي.
- اتساع نطاق الجريمة المنظمة.
- تصاعُد الهجمات السيبرانية الإجرامية.
- تزايد ظواهر الاحتجاج العنيف، واعتماد خصوم الدولة على الاستراتيجيات الهجينة العدائية.
ويُضاف إلى ذلك التحديات المرتبطة بكلٍّ من الطاقة والاقتصاد والموارد الطبيعية، في سياق يشهد انهيارًا متسارعًا في التنوع البيولوجي.
ما الذي يجب فعله لمجابهة تلك التحديات؟
تهدف استراتيجية 2025-2030 الواردة في تلك المراجعة إلى تجهيز فرنسا ماديًّا ومعنويًّا؛ من أجل:
- مواجهة نزاع كبير محتمَل في قلب أوروبا، بالتنسيق مع الحلفاء والشركاء، حيث تنطلق المراجعة من سيناريو مرجعي مفاده أن على فرنسا وأوروبا أن تتحلّيا بقدرة متزايدة على الدفاع الذاتي؛ من أجل ردع روسيا عن تنفيذ أي عدوان مستقبلي على القارة الأوروبية.
- إدارة تداعيات الأنشطة العدائية، التي قد تستهدف، مباشرةً، الأراضي الفرنسية.
وفي هذا السياق، تنصّ المراجعة على زيادة في موازنات الدفاع من أجل تسريع إعادة التسلّح، وتعزيز صمود الأمة الفرنسية، بما يؤهّلها للتعامل مع سيناريو حرب عالية الحِدّة.
كما تُشدِّد المراجعة على ضرورة تعبئة الشعب الفرنسي بأكمله، ولاسيّما الشباب، عند الضرورة.
وتُعرِّف المراجعة الصمود بأنه إرادة وقدرة الدولة على مقاومة آثار عدوان أو كارثة كبرى، ومن ثمّ حتمية تحمُّل الصدمة، واستعادة وظائفها الحيوية بسرعة.
ومن أجل تحقيق ذلك، حدّدت المراجعة الاستراتيجية الجدّية لفرنسا أربع أولويات كبرى، وهي:
- حماية الأراضي الفرنسية القارّية والبحرية، وتأمين المواطنين والرعايا الفرنسيين في الخارج.
- الدفاع عن أوروبا، والمساهمة في استقرار جوار الاتحاد الأوروبي.
- ضمان أمن المصالح الفرنسية وشركائها خارج أوروبا، من خليج غينيا إلى المحيط الهندي مرورًا بالقرن الأفريقي.
- الإسهام في استقرار منطقة الهندو-باسيفيك.
كما حدّدت المراجعة أحد عشر هدفًا استراتيجيًّا حتى 2030 لتحقيق أهدافها، وهي:
- الردع النووي: ضمان امتلاك قوة نووية مستقلّة، سيادية وفاعلة.
- الصمود المجتمعي: إشراك المواطنين والمجتمع المدني في تعزيز التماسك الوطني أثناء الأزمات الكبرى.
- اقتصاد مهيَّأ للحرب: مواءمة القدرات الاقتصادية والصناعية لخدمة احتياجات الجيش والأمن الداخلي، وضبط الدَّين العام لتعزيز السيادة المالية.
- الأمن السيبراني: تحصين البنية الرقمية للدولة، وجعل الهجمات السيبرانية مكلِفة على منفّذيها.
- الارتباط عبر الأطلسي: تثبيت موقع فرنسا كحليف موثوق به؛ في إطار ركيزة أوروبية معزَّزة داخل الناتو.
- تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية: دعم تطوير التكنولوجيا والجاهزية والقدرات التشغيلية ومتانة البنية الطاقية الأوروبية.
- شراكات دولية فاعلة: إقامة شراكات إقليمية؛ لتعزيز التعدّدية القطبية والتعاون الدولي.
- الاستقلالية الاستراتيجية: تطوير أدوات الدولة في الرصد، والتحليل، والسيادة في اتخاذ القرار.
- القدرة على المواجهة الهجينة: تطوير قدرات الدولة في ميادين الهجوم الهجين (الفضاء السيبراني، والمعلوماتي، والقانوني، والاقتصادي، والعسكري).
- تفوّق العمليات العسكرية: تعزيز إعادة التسلّح التي بدأت منذ عام 2017؛ لضمان التفوّق في نزاعات عالية الحدّة، مع إشراك الأمة كافة في الاستعداد.
- الابتكار والتفوق العلمي: دعم التميز الأكاديمي والعلمي والتكنولوجي؛ لتسريع الابتكار في خدمة السيادة الفرنسية.
ويُمثّل الهدف الحادي عشر نقلة نوعية في مقاربة فرنسا لتحديث سياستها الدفاعية؛ عبر التركيز على الريادة المعرفية والتكنولوجية.
خاتمة
لا شكّ أن المراجعة الوطنية الاستراتيجية لعام 2025 تُمثّل نقلة نوعية في الكيفية التي تنظر بها فرنسا إلى بيئتها الأمنية والاستراتيجية، وسط مشهد دولي يتّسم بالاضطراب وتصاعد المخاطر وتراجع الضمانات التقليدية.
ولم تقتصر باريس في هذه الوثيقة على تشخيص التهديدات، بل أرسَت إطارًا عمليًّا واضحًا يستند إلى أربع أولويات رئيسية، وأحد عشر هدفًا استراتيجيًّا متكاملًا، يجمع بين الردع النووي، والجاهزية العملياتية، والاستقلالية الاستراتيجية، والتفوّق التكنولوجي.
وتؤكد الرؤية التي تطرحها الوثيقة على أن نقطة الانطلاق تتمثّل في الإيمان بضرورة تعزيز الاعتماد على الذات، والاستفادة من العمق الاستراتيجي للدول؛ في ظل عالم يشهد إعادة تشكيل لتوازناته.
[1] Revue Nationale Stratégique 2025, République francisée, juillet 2025.