Insight Image

في الموقف من الأوطان والوطنية.. إشكالات تصور الأمة عند الإسلام السياسي والتطرف العنيف

05 مايو 2021

في الموقف من الأوطان والوطنية.. إشكالات تصور الأمة عند الإسلام السياسي والتطرف العنيف

05 مايو 2021

مقدمة

كما كان التقليد والانغلاق يناهض التجديد- دائماً- ظلت حركات التطرف والإسلام السياسي عائقاً نحو النهضة والتقدم، حين حولت سؤال النهضة الأول إلى سؤال للهوية وللمرجعية وللإيمان، وهو ما حدث منذ صعود تياراته لاستعادة الدولة والخلافة العثمانية في العصر الحديث على إثر سقوطها في عشرينيات القرن الماضي، وحتى الآن، حيث تتابعت درجات وموجات التطرف لتصل للمستوى الأكثر عنفاً والأكثر انغلاقاً مع الوقت، وظلت دولة الأمة- الخلافة طموحها وهدفها الوحيد.

بدأ تاريخ النهضة العربية بما يعرف بـ “صدمة الحداثة” التي وقعت مع دخول الحملة الفرنسية مصر سنة 1798 وما بعدها طوال القرن التاسع عشر، حيث أدرك العرب والمسلمون الفجوة الحضارية الواسعة بينهم وبين الغرب، ووُلد مع هذا الوعي بالصدمة سؤال النهضة الذي كانت صياغته: لماذا تخلّف المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟.

كان هذا السؤال بداية تفجر مسألة النهضة في الوعي العربي في القرن التاسع عشر، وأخذت تتكرر تعبيراته ومحاولات الإجابة عليه فكرياً ومادياً عبر منجزات متوالية، من قيام التعليم المدني، وإنشاء المؤسسات، ووضع الدساتير والقوانين، والاهتمام بالترجمة في العلوم المختلفة، وإنشاء الطرق وغير ذلك من المنجزات.

وقد سبقت النهضة العربية الوليدة حينها تجارب أخرى كثيرة زمنياً مثل النهضة اليابانية، الذي كان سؤالها عن فجوة التقدم والتأخر بالنسبة لليابان، حيث كانت فرص وشروط النهضة المصرية على سبيل المثال في حينه أفضل، ربما باستثناء وقوع مصر في قلب العالم القديم وصراعاته بينما كانت اليابان على طرفه حسب شارل عيساوي[1].

ونذكر على سبيل المثال أن دخل الفرد المصري كان سنة 1913 أعلى من نظيره الياباني، كما كان نصيبه من التجارة الداخلية ضعف الأخير، وشهدت مصر رابع شبكة سكك حديدية في العالم أقوى من تلك التي امتلكتها اليابان، آنذاك، وعرفت سابع دستور في العالم [2].

وبدأت مصر نهضتها في بداية القرن التاسع عشر، وتحديداً عام 1834 مع بدء إيفاد البعثات للدراسة في الخارج، بينما تأخرت النهضة اليابانية عنها عقوداً حتى تولي الإمبراطور الميجي الحكم (بين عامي 1868-1912) الذي أرسل أكثر من بعثة للاستفادة حينها من التجربة المصرية. ومن قبل تمت ترجمة كتاب اللورد كرومر عن مصر إلى اللغة اليابانية عام 1911[3].

وطوال عقود استلهمت النهضة والحداثة أشكالاً ومضامين عديدة، لا تخالف الأصالة، ولا تؤثر على مسائل الاعتقاد والإيمان، حيث تعرف حدود المقدس وحدود التاريخ، مؤمنة بتطور الزمان والمكان، فتم التمكين لمفاهيم كالدولة والوطن والمواطنة والتشريع وتم تنظيم الشؤون العامة، حين تم إنشاء النظارات لأول مرة في عهد الخديوي إسماعيل، في أغسطس سنة 1878[4].

على الجانب الآخر، ومنذ عشرينيات القرن العشرين، بدأ الإسلاميون ينشطون، مركزين على الدفاع عن الهوية والمرجعية، والشكل واللباس كعلامة عليها، ومدافعين عن الماضي وركوده في وجه أي تحديث فكري أو سياسي، وعجزت الحركات الإسلامية – التي نشأت منذ هذا التاريخ – عن إيجاد أرضية مشتركة بين الإسلام والحداثة، ليس على مستوى مبادئ الإيمان، أو الطقوس أو القيم المرتبطة بالدين، وإنما على مستوى الأدوار السياسية، والاجتماعية، والتشريعية التي نهض بها الإسلاميون في المجتمع، تلك الأدوار التي رُوج لها أنها جزء لا يتجزأ من جوهر الدين.

فرضية الدراسة:

تفترض هذه الدراسة أن تصور الإسلام السياسي لمفهوم الأمة تحديداً، يفسر كثيراً من مواقفهم تجاه الأوطان، ويشرح أسباب اتساع تأثيراتهم أممياً في بعض الفترات نحو بلدان ودول أخرى، وممارساتهم في إعاقة مسار النهضة العربية الحديثة، وفي إرهاق دول المنطقة ومجتمعاتها، لما احتوته هذه التصورات من أزمة وقصر نظر يعادي حركة التاريخ ويرهق منجزاته إن تحققت – كما سنوضح.

وستتناول هذه الدراسة تصور الإسلام السياسي لمفهوم الأمة في صراعه ضد مفهوم الوطن الحديث، بل ازدرائه أحياناً، كما يتكرر عند منظري السلفية الجهادية وبعض قادة جماعة الإخوان المسلمين، حين يتحدثون عن الوطن باعتباره مرحلة ووسيلة نحو الخلافة ليس إلا.

وانطلاقاً من ذلك تنقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة محاور رئيسية على النحو التالي:

أولا: مقومات تصور الأمة عند تيار الإسلام السياسي

يقوم تصور الأمة لدى تيار الإسلام السياسي على مجموعة من المقومات التي يمكن تناولها على النحو التالي:

1- اعتماد تفسير واحد لمفهوم الأمة رغم تعدديته:

تعد الأمة تصوراً رئيساً في خطاب الأصوليات الإسلامية المعاصرة، بل لعله التصور الأكثر مركزية في خطاب هذه الجماعات، حيث تحاول احتكار الحديث باسم الأمة عامة، وتخاطب عبرها جموع المسلمين والمتدينين، ليصار إلى تداخل ما بين الديني والسياسي، خاصة وأن لفظ الأمة هو لفظ قرآني ونبوي ورد في نصوصهما كثيراً، فقد استعمل لفظ “الأمَّة” في القرآن ستة استعمالات، يمكننا تحديدها في ما يلي:

  • الأول: استعمال “الأمَّة” بمعنى الفترة القصيرة والبرهة من الزمن – كما: في قوله تعالى: “ولئن أخَّرنا عنهم العذابَ إلى أمَّةٍ معدودةٍ”[5]، ونظيره قوله تعالى “وقال الذي نجا منهما وادَّكر بعد أمَّة”.[6]
  • الثاني: استعمالها بمعنى “الجماعة من النَّاس”، وهو الاستعمال الغالب، كقوله “ووجد عليه أمَّة من الناس يسقون”[7]، وقوله تعالى: “ولكلِّ أمَّة رسول”[8] إلى غير ذلك من الآيات.
  • الثالث: استعمال مفردة “الأمَّة” بمعنى الإمام والرجل الذي يقتدي به ويأتمه الناس كقوله تعالى: “إن إبراهيم كان أمَّة”.
  • الرابع: استعمال مفردة “الأمَّة” بمعنى الشريعة والطريقة، كقوله تعالى: “إنا وجدنا آباءنا على أمَّة”[9]، وقوله “إن هذه أمَّتكم أمَّة واحدة”[10] إلى غير ذلك من الآيات.
  • الخامس: استعمال كلمة أمة بمعنى الجماعة المتفقة على دين واحد. والآيات التي تثبت ذلك كثيرة “وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً”[11]، ويعتقد الطبري أن هذا هو المعنى الأصلي لكلمة أمة مع أنه يقبل تفسير الأمة في بعض المواضع كمرادف للجماعة من الناس أو للصنف من الناس.
  • السادس: استعمال كلمة كلمة أمة بمعنى أي جماعة فرعية من أهل دين معين على غرار ما ورد في الآية التالية: “ولتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّة يَدعونَ إلى الخَيرِ وَيَأمرونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ”[12]، أو في الآية: “كُلمَا دَخَلَت أمَّة لعَنَت أختَهَا”[13]. ففي الآية الأولى، تعني (من) في كلمة (منكم) التبعيض؛ مما يعني فرعيتها.

وهكذا تشترك في لفظ الأمة معان عدة، وهي ظاهرة معروفة في مختلف اللغات، تشمل التاريخي والفردي والجمعي والزمني، ولكن المعنى السائد والغالب في الفهم الإسلاموي – كما أشرنا سابقاً – هو تصور الأمة أنها جماعة المسلمين الواحدة.

 لذا كان تصور الإسلام السياسي والأصوليات المتطرفة، القائم على تفسير واحد لمفهوم الأمة، على أنها تعني المسلمين في كل مكان في العالم، واعتبارها الرابطة الممكنة الوحيدة، يخالف صحيح القرآن، ووقائع التاريخ وتطوراته، ويعيق أي تصحيح له.

وهنا تصح ملاحظة الدكتور ناصيف نصار أنه: “لم يدرس مفهوم الأمة مجردا عن مفهوم الطريقة أو الملة عند المفسرين، حيث غلب على أذهانهم الارتباط القائم بين الجماعة والشريعة، فأهملوا الاهتمام النظري بماهية الأمة قبل ورود الشرع، إلا أنهم ميزوا في هذا السياق بين ما أسموه أمة الدعوة، وهي الأمة التي بعث فيها رسول، وما أسموه أمة الإجابة، وهي مجموع المؤمنين بهذا الرسول”[14].

وهكذا تتعدد دلالة لفظ “الأمة” كثيراً في القرآن وتفاسيره، على العكس من أحاديثه التي روجها ووظفها دعاة الإسلام السياسي الذين حولوها إلى وطن ديني أو “وطن إسلامي” يكون المطية والتمهيد إلى “دولة إسلامية”. كما يتخيلها ويحكم فيها المتطرفون، وكما هو النموذج الاستبدادي الديني، يجسده “نظام الولي الفقيه” في إيران، أو “خلافة داعش”، أو غيرهما.

2- الاصطدام بمفهومي الوطن والدولة:

خلافاً لمفهوم “الدولة” بالمعنى المعاصر، لم يرد في القرآن ولا في السنة النبوية مفردة “الدولة” مطلقاً بأي معنى يقارب أو يقترب من مفهومها الحديث بالمعنى المؤسساتي والتشريعي.

وهنا يعادي تصور الإسلام السياسي التاريخ ويرفض الصيرورة التاريخية والحقيقة الاجتماعية والسياسية، فقد كان من أركان بيعة “الإخوان”، حسبما يوصي مؤسس الجماعة حسن البنّا في “رسالة التعاليم” في توظيف الأمة لصالح الخلافة بقوله: “إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية بتحرير أوطانها وإحياء مجدها وتقريب ثقافاتها وجمع كلمتها حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوحدة المنشودة” [15].

وهنا يصطدم تصور الأمة بمفهوم الوطن، وحضور غير المسلمين فيه. كما يتباين استعمالياً مع استخدام مفاهيم الدولة والوطن في العصر الحديث، مما يجعل ولاء عناصر الجماعة وتنظيماتها وارتباطاتها الدولية لغير الوطن أو الدولة، وهو ما كان محل التحفظ دائماً من كل الوطنيين والأنظمة على حد السواء.

نعم، لا يمكننا نفي أو رفض كون أحد تصورات “الأمة” أنها رابطة دينية وإيمانية تربط بين المؤمنين بدين أو اعتقاد معين أياً كان هذا الدين أو الاعتقاد، ولكن تأويل هذا التصور سياسياً وأيديولوجياً وشمولياً الذي يتجاوز الوطن والواقع والسياق، يبقى هو المشكلة الرئيسية فيه، خاصة أن تسييس لفظة “الأمة” بشحناته الإيمانية والوجدانية يعيق التفكير فيه والتعاطي معه، ويضع مفهوم الوطن في حرج، يفصل مع تطويره ويميز بين مواطنيه.

ويلاحظ أن تجاهل الخطاب الأصولي لتنوع مفهوم الأمة صاحبه اكتفاء بترديد شعار الأمة والدولة الواحدة، معتبراً الدولة القطرية المعاصرة سبة تاريخية وصنيعة استعمارية، سواء تلك التي أنتجها اتفاق سايكس بيكو سنة 1916، أو تلك التي لم ينتجها هذا الاتفاق، وبقيت كما هي – مثل مصر وإيران – واعتبارها نشازاً تاريخياً يستحق الرفض والتعالي والعمل على استعادة نموذج الدولة الواحدة للأمة الواحدة في صدر الإسلام وما قبل فتنه الصغرى والكبرى[16].

ولم يتحول مفهوم “الأمة” ويحضر بهذا الإشكال الكبير إلا بعد ظهور الدول الوطنية بعد اتفاق سايكس بيكو، وسقوط خلافة العثمانيين، حيث تم استخدامه رفضاً لمفاهيم مدنية ملتصقة بفكرة الدولة الوطنية كالمجتمع والشعب، وصار هو وحدة التنظيم الإنساني في التصور الأصولي المضاد للحداثة أو الداعي لأسلمتها، وهو تصور مختلف وبعيد عن تصور الدولة-الأمة القومية الحديث الذي يعد مفهوماً سياسياً وقانونياً يرادف مفهوم الشعب والوطن[17].

وعليه، بدأ الطرح الإسلاموي المعاصر في العصر الحديث، مقطوعاً ومنفصلاً عن أحداث التاريخ وتفاصيله وعن الواقع الحديث لدوله ومجتمعاته، وكان كثير من منظريه – مثل سيد قطب – يهربون من التاريخ وتفاصيله مركزين على العقيدة في تسويق وتمكين إيمانهم بأفكار الحاكمية أو الدولة الإسلامية أو الخلافة، والاستئناس – فقط – بمقتطفات تمجيدية عاطفية في الغالب[18].

ويبدو الاصطدام بين مفهومي الأمة والوطن لدى تيار الإسلام السياسي واضحاً، حيث يجعل هذا التيار الأمة هي الإطار الأوسع ويرفض مفهوم الوطن، فيما أن هذا الأخير يرتبط بمفهومي الجنسية والسيادة الوطنية في فضاء جغرافي سياسي محدد، حيث يُنتج المفهوم الأول قيمة المواطنة، فيما ينتج الثاني هوية تحمي حدود الوطن ومواطنيه. ويحصر الوطن بهذا المعنى تصور الأمة فيه، أو يجعله متدرجاً ويكون للوطن الأولوية الرئيسية فيه، مع عدم معاداته الروابط الثقافية أو الدينية الأخرى ما لم تكن ضداً أو خطراً على الوطن أو مواطنيه.

3- التأكيد على تماسك الأمة رغم ما شهدته من انقسامات في الواقع

ظل تصور الأمة القديم في الفكر الأصولي الإسلامي المعاصر مركزياً لديه ومهيمناً ويشكل بصمة من بصمات قاموسه المعاصر، وذلك رغم أن هذا التصور يعيش مفارقة تاريخية وحالة من التباين الاستعمالي، إذ عرفت الأمة الإسلامية في تاريخها انقسامات وصراعات وطوائف وثورات وانتفاضات وصراعات شعوبية وطبقية كانت خلفية وتفسيراً لظهور كثير من الفرق والطوائف في ما بعد.

وهو ما يعبر عنه د. خليل أحمد خليل بقوله: “إن تاريخ المجتمعات العربية لا يمكنه بحال أن يكون تاريخ ذلك الركون السلطوي والبنى الفوقية، ولا بد للمؤرخين حتى ينصفوا التاريخ الاجتماعي للعرب، من كتابة التاريخ العام للصراع في كل مستوياته، وبشكل خاص في مستويات القوى التحتية التي تنتج الاقتصاد والثقافة والصراع الطبقي”[19].

وقد تجاهل تيار الإسلام السياسي ما شهدته “الأمة الإسلامية” – كما يسميها – من انقسامات حادة أثناء محاولته رسم الصورة الذهنية الكلية الجميلة للتاريخ الإسلامي المطلوب استعادته. وهنا تبرز إشكالية عميقة ومعيقة في تصور الأمة الجمعوي والكلي لدى الأصولية المعاصرة، وهي أن القسمة والانقسام كانت الطابع السائد غالباً على التاريخ الإسلامي بعد العصر الأموي الأول، الذي شهد بعده خلافتين أموية وعباسية، ثم ثلاث خلافات في العصر الفاطمي. كما لم يخضع لحكم حاكم واحد ودولة واحدة مطلقاً، وتلقب بـ “أمير المؤمنين” العديد من حكام مناطقه.

كما تجاهلت التنظيرات والخطابات الأصولية المعاصرة التراث الكلامي الواسع الذي ركز على قسمة “الأمة” بين الفرق وبين الصراع على الصواب داخل كل فرقة، أكثر مما ركز على وحدتها، في تركيزه على “الفرقة الناجية” و”الطائفة المنصورة” دون الفرق الأخرى، وتمييز الاعتقاد الصحيح عن غيره، وكيف كان الخلاف النظري والعملي والصراع الإيماني والتكفيري فيما بينها حاداً داخل إطار الأمة التي احتكرت كل فرقة الحديث باسمها.

 ثانياً: بين دلالة مفهوم الوطن الحديث وتصور الأمة

ظهر تعبير “الوطن” في اللغة والأدب العربي والإسلامي بمعنى مكان النشأة والتربية وموطن الأحبة، أي أنه أقرب لمعنى السكن المحلي[20]، وتحدث أبو بكر عثمان بن الجاحظ، الذي توفي 255 هجرية عنه في رسالته المعنونة “الحنين إلى الأوطان” في القرن الثالث الهجري[21].

كان تصور الأمة الديني هو الفضاء الحاكم لعلاقات الأفراد والمجتمعات، بينما كان تصور الوطن هامشياً رومانسياً، لا تترتب أي حقوق عليه، ويختص بالأفراد والمجموعات فقط، مما جعله غير حاضر في التاريخ الإٍسلامي للخلافة والحكم. كما لم يكن له تلك الدلالات الحديثة المتعددة الإنسانية والسياسية والقانونية الحالية المرتبطة بمفاهيم الجنسية والمواطنة والمساواة.

ويمكن تعريف مفهوم “الوطن” الحديث بأنه فضاء جيوسياسي محدد ينتمي إليه مواطنوه، وتتحدد به هويتهم وجنسيتهم، ومواطنتهم حيث تتساوى فيه حقوقهم، فيتحولون من مجرد رعايا ضمن أمة أكبر تقوم على العنصر الديني أو الطائفي فقط، إلى مواطنين وشخصية اعتبارية وقانونية لا تمييز ضدها، وعلى هذا الأساس الجديد نشأت الدول الوطنية العربية الحديثة، ونظمت أمورها وتشريعاتها وإدارات حكمها.

وقد بدأ ظهور “الوطن” بالمفهوم الحديث، ودلالته السياسية والاجتماعية – على الراجح – مع الموسوعي اللبناني المعلم بطرس البستاني (1819-1883)، حين سبق لطرح شعار “الدين لله والوطن للجميع”. كما أسس الرائد المصري رفاعة الطهطاوي (1801-1873 ميلادية) أسس لهذا الشعار، الذي تمت ترجمته مع الثورة العرابية فيما بعد، ومع جريدة “مصر” وخلال ثورة 1919 وغيرها بشعار “مصر للمصريين” في تجاوز واضح – وإن لم يعرف شكل الصراع حينها – للتصور الديني للأمة كرابطة سياسية تربط مصر بالخلافة العثمانية.

وأكثر الطهطاوي من الإلحاح على مفهوم الوطن والأوطان والحديث عن إخوة الوطن بموازاة إخوة الدين المنفصلة عنها، وهو ما تجلى في دعوات الاستقلال والتنمية والتحديث التي شملتها كل المجتمعات والدول في العالمين العربي والإسلامي، وهو ما آثار عليه كثير من المتطرفين المعاصرين، ومن منظري الجهاديين، شأن المصري الدكتور هاني السباعي الذي رأى أن تأسيس الطهطاوي لمفهوم الوطن والمواطنة هو تهديد للهوية الإسلامية وحرب عليها[22].

ولعل ما فعله رفاعة الطهطاوي أنه رفض توظيف السياسة في الدين، وتوظيفه لقهر المواطن المختلف والتمييز بين المواطنين لأسباب دينية، قائلا: “إن الملوك إذا تعصبوا لدينهم، وتدخلوا في قضايا الأديان، وأرادوا قلب عقائد رعاياهم، فإنهم يحملون رعاياهم على النفاق، ويستعبدون من يكرهونهم، على تبديل عقيدته، وينزعون الحرية منه، فلا يوافق الباطن الظاهر، فمحض تعصب الإنسان لدينه لإضرار غيره لا يعد إلا مجرد حمية، وأما التثبت بحماية الدين لتكون كلمة الله هي العليا فهو المحبوب المرغوب”[23].

ويضيف الطهطاوي مؤكداً على مفهوم الوطن والولاء له قائلا: “ولا يبعد العاقل عن الوطن إلا طلب العلا، وقد جرت العادة أن البعيد عن الوطن، الذي قضى فيه جزءاً من شبابه، يتشوق إليه، سواء كان من أهل البدو أو من أهل الحضر، فأهل البدو يتأسفون على فراق نجد، ويحنون إليها حنين المتأسفين على «غوطة دمشق»، وقصور مدينة السلام، وتحف الجزيرة”[24].

ويكاد يلامس الطهطاوي بقوة مفهوم المواطنة والمساواة بين المواطنين ويؤسس لها كونها أبرز سمات المجتمعات المتمدنة بقوله: “ابن الوطن المتأصل به، أو المنتجع إليه، الذي توطن به واتخذه وطناً، ينسب إليه، تارة إلى اسمه فيقال: مصري، مثلاً، أو إلى الأهل فيقال: أهلي، أو إلى الوطن فيقال: وطني، ومعنى ذلك أنه يتمتع بحقوق بلده، وأعظم هذه الحقوق الحرية التامة في الجمعية التأنسية، ولا يتصف الوطني بوصف الحرية إلا إذا كان منقاداً لقانون الوطن ومعيناً على إجرائه، فانقياده لأصول بلده يستلزم ضمناً ضمان وطنه له التمتع بالحقوق المدنية، والتمزي بالمزايا البلدية؛ فبهذا المعنى هو وطني وبلدي، يعني أنه معدود عضواً من أعضاء المدينة، فهو لها بمنزلة أحد أعضاء البدن، وهذه أعظم المزايا عند الأمم المتمدنة” [25].

وهكذا أسس الطهطاوي لمفهوم الوطن فكرياً وتربوياً، ثم تمكن المفهوم في ما بعد بجهود مدرسة الإصلاح الإسلامي التي تزعمها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وآخرون من اتجاهات مختلفة، مثل عبدالله النديم وأديب إسحاق ومارون نقاش وغيرهم، ثم زاد في ما بعد مع بزوغ تيار الوطنية الليبرالية المصرية مع أحمد لطفي السيد وجيله[26].

ولقد صعد الاتجاه الوطني في الفكر العربي الحديث مع نشأة الدولة الحديثة في مصر وتونس، وغيرهما قبل وبعد الاستقلال، عند الحريين التنويريين والوطنيين الليبراليين بشكل رئيس، حيث غدا الحديث عن “الوطن أولاً” واعتبار الروابط الدينية روابط ممكنة ومحتملة للتعاون والترابط، ولكن لا تعني تبعية للعثماني ولا وحدة اندماجية كليانية بين كيانات الأمة.

في هذا الإطار، لم يستجب كثير من النخب الفكرية – مثل طه حسين ولطفي السيد وغيرهم – لدعوات الوحدة العربية التي رفعت من قبل القوميين، بدءاً من نجيب عازوري سنة 1916 مروراً بساطع الحصري أو منظري حزب البعث الصاعد منذ أربعينيات القرن الماضي، بتصورات مختلفة قليلاً على أساس للقومية وحدودها[27].

 وفي جدل مشهور وقع سنة 1939 بين طه حسين وساطع الحصري حين دعاه الأخير لاعتناق فكرة القومية العربية الوحدوية، فكان رده أن ما بين المصريين والعرب وحدة ثقافية فقط، ولا يمكن ان تكون سياسية كاملة! وقال لطفي السيد:” إن المصريين أمة والعرب أمة والترك أمة” في تحرر كبير من مفهوم الأمة الإسلامية الواحدة ذات الرابط الديني العابر الذي صار سائداً فيما بعد[28] .

وربما ليس لمختلف الدول العربية منجز أهم من تأسيس الدول الوطنية الحديثة، رغم الحملات عليها من الأصوليات الإسلامية السياسية، ومن بعض متطرفي الفكر القومي والبعثي في أدبياتهم، بنسبتها فقط لاتفاق سايكس بيكو سنة 1916 وحشرها في صورة المؤامرة الدولية للتقسيم، رغم أن كثيراً منها تأخر تأسيسه لعقود بعيدة خلال القرن العشرين، ورغم كل الدعاوى والأنظمة الوحدوية التي قامت بين مصر وسوريا حينا وبينهما وبين ليبيا حينا آخر وغيرها مما فشل جميعا، فقد انتهت مقولة الوحدة الاندماجية بين دول عربية تماما، ليظل المنجز الأهم هو الدولة الوطنية.

ولهذا، يرتبط مفهوم الوطن بالتعايش، وهو الثابت الآن في وعي الشعوب والمجتمعات، وقد استقر كانتماء وكهوية ليست متأخرة عن هويتها الدينية ولكن تستوعبها وتتصالح معها، وترفض الكراهية التي يروجها المتطرفون، من جماعات الإسلام السياسي والتطرف، داخل الأوطان ضد المختلفين دينيا أو فكريا، وبقي الوطن والدول الوطنية هي الحقيقة التي يعيشها العرب والمسلمون وتقبل التطوير والتقدم، وليس دعاوى الإسلام السياسي اللاتاريخية.

ثالثاً: مخاطر توظيفات مفهوم “الأمة” عند تيار الإسلام السياسي

بسبب من قصدية الطرح السياسي وغايته السلطوية والدولتية لدى خطاب الإسلام السياسي، تجاهلت خطاباته وأدبياته العديد من الأسئلة المهمة للواقع والتاريخ معاً، وكان تركيزه على الأمة التي تقوم على رابطة العقيدة والدين فقط كرابطة أزاحت سواها، حيث يصيح المسلم ألا انتماء إليه لغير الإسلام، وتكون تحية العلم ومحبة الوطن علامات وثنية وطاغوتية، لا ينتسب إليها، حيث لا يكون النسب – وفق هذا التصور – إلا للإسلام مقدماً على سواه.

وهناك مجموعة من المخاطر التي التي تترتب على توظيف التيار السياسي لمفهوم “الأمة” ومن أهمها ما يلي:

1-مساواة الوطنية بالكفر:

يساوي الإسلاميون المتطرفون بين الوطنية والكفر، كجزء من حملتهم عليها، حيث تنازع الوطنية ومفهوم الوطن الحديث مفهومهم للأمة وللخلافة، خاصة وأن الوطن والوطنية ترسختا، وكانتا محل قبول عام منذ نشأة الدول الوطنية خلال القرن العشرين وقبله في بلدان العالم الإسلامي.

وعلى سبيل المثال، يقول محمد عبد السلام فرج في رسالته “الفريضة الغائبة” مساوياً بين الأفكار الوطنية وبين الكفر، إن “هؤلاء الحكام إنما ينتهزون فرصة أفكار هؤلاء المسلمين الوطنية في تحقيق أغراضهم غير الإسلامية وإن كان ظاهرها الإسلام، فالقتال يجب أن يكون تحت راية مسلمة وقيادة مسلمة ولا خلاف في ذلك”[29].

وهنا يلتقي ويتطابق تصور الأمة عند الإسلام السياسي في محاولة احتكاره الحديث باسم المسلمين في كل مكان، وفي اتكائه على الرابطة الدينية دون سواها، ومبتلعاً مفاهيم كالشعب والوطن والسيادة وغيرها، فهو يصارع شركاء الوطن والمختلفين معه، دينياً أو فكرياً، رغبة في السيطرة عليه.

2-اختزال التاريخ والاجتماع في العالم العربي والإسلامي:

يختزل الأصوليون التاريخ الإسلامي في الخلافة الواحدة، متجاهلين حضور الخلافات والممالك المستقلة فيه، حيث يختزلون تنوعاته الاجتماعية والطائفية والدينية في وحدة واحدة تحتكر الحديث باسم الأمة ذي الصبغة الدينية فقط.

لذا من المهم التفريق بين حضور “تصور ومفهوم الأمة” في الخطابين الإسلامي والديني بالعموم كحضور روحي طبيعي، كونها- أي هذه الأمة- المخاطبة بالشريعة- الأوامر والنواهي- وحدة دينية تتلقى أوامر الشرع، وليست وحدة سياسية تؤسس لقيام سلطة فقط للمتحدثين باسمها.

وليس أدل على ذلك من نشوء الخلاف في التاريخ الأول للأمة، والحضور العميق للانقسامات فيها، ورغم تمايز الطوائف وتبلورها وتأسيس الكثير منها لدول مستقلة وقوية، بل وخلافة أيضا- نموذج الخلافة الفاطمية، أو سيطرتها وتحكمها في الخلافة نفسها أحيانا كالدولة البويهية في القرن الرابع الهجري فقد استمر الجميع باسم الأمة ويخاطبها كذلك[30].

3-تقديم الولاء لمصلحة الجماعات على الأوطان:  

برغم رفض الإسلام السياسي وخطابه لمفاهيم الوطنية والقومية العربية كما يفهمها أصحابها، إلا أنه حاول أسلمتها وتوظيفها، وذلك كجزء وتكتيك مرحلي يحقق أهدافه، فهو يستوعبها ويتجاوزها في آن واحد، فيكون الوطن والدولة الوطنية حلقة تقود للقومية التي يتم استيعابها في دائرة الأممية الإسلامية الأكبر ككل.

وهنا يبدو مفهوم الوطن قابلا للإزاحة أمام تصور الأمة الواسع، وأمام مصلحة الجماعة الأصولية والمتطرفة التي تتحدث باسمها، فتكون مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الوطن، وما تدعيه من مصلحة للأمة مقدماً على مصلحته كذلك.

وهكذا، يمكننا القول إن الوطن والدولة الوطنية- حتى تاريخه- لم تأخذ حقها من التمكين في أيديولوجيات الإسلام السياسي السني والشيعي على السواء، ومن هنا تتجاوز ولاءات وبيعات عناصر جماعة الاخوان المسلمين في مصر أو الإمارات أو غيرهما من الدول حدود هذه الدول[31]، كما تتجاوز حدود وولاءات ميليشيات إيران حدود أوطانها، ليكون “حزب الله” مثلاً جزءا من إيران في لبنان وليس جزءا لبنانياً أصيلاً، كما صرح الناطق الرسمي باسم الحزب إبراهيم الأمين يوما ما: ” نحن لا نقول إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران”[32].

4-نزع الشرعية عن الأوطان والحكومات:

كان توظيف تصور الأمة لدى تيار الإسلام السياسي أساساً من أجل حشد الجماهير، وتفعيل الولاءات والسلطة والدعاية الدينية، لكن الأهم والأخطر هو نزع الشرعية عن الأوطان وأنظمتها، من أجل التمكين لنموذجه الديني السياسي، أو استعادة الخلافة والدولة الإسلامية الواحدة التي تشمل الأمة الواحدة حسب تصوره.

ولأهمية تصور الأمة الأصولي وتقدمه، نجده مقدم على ما سواه في رسائل حسن البنّا، الذي يلح في أن يسبق الموقف من الوطنية[33]، فيقول عن الفروق بين تصوره للأمة والوطنية تحت عنوان “حدود وطنيتنا”: “ما وجه الخلاف بيننا وبينهم؟ هو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم”[34].

ويضيف مستهجناً مفهوم الوطنية الحديث، الذي يقف عند حدود الجغرافيا والأرض والمصلحة الوطنية، إن “دعاة الوطنية فقط ليسوا كذلك، فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، ويظهر ذلك الفارق العملي فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوي نفسها على حساب غيرها، فنحن لا نرضى ذلك على حساب أي قطر إسلامي، وإنما نطلب القوة لنا جميعاً، ودعاة الوطنية المجردة لا يرون في ذلك بأساً، ومن هنا تتفكك الروابط وتضعف القوى ويضرب العدو بعضهم ببعض”[35] .

5-تغليب العقيدة والغاية الدينية على سواها:

يعرف سيد قطب “الأمة” اعتماداً على الرابطة الدينية والعقيدة فقط، حيث لا تكون الأمة إلا بهما، رافضا أي رابطة أخرى، قائلاً: “الأمة هي المجموعة من الناس تربط بينها آصرة العقيدة. وهي جنسيتها. وإلا فلا أمة، لأنه ليست هناك آصرة تجمعها… والأرض، والجنس، واللغة، والنسب، والمصالح المادية القريبة، لا تكفي واحدة منها، ولا تكفي كلها لتكوين أمة، إلا ان تربط بينها رابطة العقيدة”[36].

ويرفض البنا أن تكون النهضة والتنمية غاية النضال الوطني في مرحلة ما بعد الاستقلال من المستعمر ويرى أن هناك دور آخر للجماعة المسلمة، هو مواصلة النضال من أجل هداية البشرية وسيادة الأرض، حيث يقول: “إن الوطنيين فقط، جل ما يقصدون إليه هو تخليص بلادهم، فإذا ما عملوا لتقويتها بعد ذلك اهتموا بالنواحي المادية كما تفعل أوربا الآن، أما نحن فنعتقد أن المسلم في عنقه أمانة عليه أن يبذل نفسه ودمه وماله في سبيل أدائها تلك هداية البشر بنور الإسلام، و رفع علمه خفاقاً في كل ربوع الأرض، لا يبغي بذلك مالا ولا جاهاً وسلطاناً على أحد ولا استعبادا لشعب، وإنما يبغي وجه الله وحده و إسعاد العالم بدينه وإعلاء كلمته، وذلك ما حدا بالسلف الصالحين رضوان الله عليهم إلى هذه الفتوح القدسية التي أدهشت الدنيا “[37].

ويرد البنّا على التخوف من موقف الأقليات غير المسلمة في المجتمع المسلم، بأن الإسلام “كفل الروابط بين الجميع ما داموا متعاونين على الخير (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)، فمن أين يأتي التفريق إذاً؟”[38] .

هكذا كفل حسن البنّا للمختلف دينياً كل شيء بشرط وحيد هو تعاونه على الخير، ولكنه لم يقل ما موقفه من حرية عباداتهم وبناء دور معابدهم وما يتعلق بسائر حقوقهم المدنية والسياسية، فالأمة هي جماعة المسلمين الغالبة، وهنا فارق مهم بين التصور الحديث للأمة الذي يكفل حقوق المواطنة المتساوية وبين تصور الإسلاميين الذي يستمد مرجعيته فقط من تصور الدين لجماعته.

ويؤكد البنّا على هذه الغائية الدينية الأممية المتجاوزة للوطن ورابطته، في كل عمل، حيث يرى أن تحرير الوطن لا يقف عند حدود الوطن واسترداد مجده، كما هي عند دعاة الوطنية، حيث يقول: “عند الإخوان المسلمين بعض الطريق فقط أو مرحلة منه واحدة ويبقى بعد ذلك أن يعملوا لترفع راية الوطن الإسلامي على كل بقاع الأرض ويخفق لواء المصحف في كل مكان”[39].

6- غائية الحاكمية وازدراء الوطن:

كان أبو الأعلى المودودي (1903- 1979م) أكثر اهتماماً بالدولة من الأمة على العكس من حسن البنّا الذي بدأ دعوياً حركياً، فالأول في السياق الهندي والباكستاني، اهتم بالدولة بشكل أكبر، حيث اخترع “الحاكمية” وأحيا مفهوم وحكم (الدار) الفاصل والحاكم على الحكومات، وصاغ الحاكمية كديمقراطية إلهية، يبقى سيف اختيارها محدوداً تماماً بما تحدده شريعة الله، في مقابل السيادة الشعبية أو الديمقراطية والمواطنية[40].

كما نجده كذلك أكثر صلابة وحسماً في رفض تصور الوطن الحديث القائم على الاجتماع والتعايش المشترك والجنسية وفكرة الوطن والمواطنة المساواتية، حيث يقول: “الحقيقة أن الإسلام ليس نحلة كالنحل الرائجة، وأن المسلمين ليسوا بأمة كأمم العالم، بل الأمر أن الإسلام فكرة انقلابية ومنهاج انقلابي، يريد أن يهدم نظام العالم الاجتماعي بأسره، ويأتي بنيانه من القواعد، ويؤسس بنيانه من جديد، حسب فكرته ومنهاجه العلمي”[41].

وهنا نود أن نضيف أن تصور الأمة المتعارض مع مفهوم الوطن والمواطنة، عند البنا والمودودي و قطب والخميني وغيرهم من منظري الإسلام السياسي السني والشيعي على السواء، يتعارض مع واقع الانقسام التاريخي المستمر الذي شهدته الدول العربية[42]، كما أنه يتعارض في أحاديته مع اتساع مفهوم “الأمة” القرآني نفسه، الذي جعله يشير أحياناً للفرد الواحد الصالح الذي يصح أن يقتدى به، وأحياناً كمرادف للشعب، ومنه مجلس الأمة في الإشارة لمجلس النواب أو الشعب المنتخب في الدول الحديثة.

 

خاتمة: صراع الوطن والتطرف

تمايز المتطرفون بمعاداتهم لفكرة الوطن والدولة الوطنية، فالوطن مقولة وثنية عندهم! وقومية مقيتة، والدول الوطنية صنائع استعمار، إذ كان إيمانهم بمفهوم الأمة الديني فقط، كرابطة سياسية ووحيدة، وتوظيفه تمهيداً لإعادة الخلافة الإسلامية الواحدة المتوحدة في التاريخ الإسلامي، رغم أنها لم تكن كذلك في فترات التاريخ المختلفة، التي عرفت الخلافات المتنازعة وإمارات المؤمنين والطوائف والممالك المستقلة

فالخلافة ودار الإسلام التي تمثلها الدولة الإسلامية هي المعبرة وحدها عن الأمة وشرط استئناف حياتها الصحيحة وإيمانها الصريح، وفق مفهوم الولاء والبراء، كما يجب على المسلم في هذه الحالة الهجرة إليها، وقد شاهدنا ذلك مجسداً قبل سنوات قليلة في هجرات المقاتلين الأجانب لأرض تنظيم داعش في سوريا والعراق، حتى بلغ عددهم 40 ألف مقاتل، كان ربعهم على الأقل من المتحولين الجدد للإسلام، أصحاب الإيمان الغض والعفوي الحماسي الذي شدتهم فكرة دار الإسلام المحاصرة من مختلف دور ودول الكفر والطاغوت[43].

وفي سبيل ذلك يعادي هذا التيار- حسب درجات تطرفه- مفاهيم الوطن والوحدة الوطنية، لتكون عنده كفراً محضاً ووثنية معاصرة ينبغي قتالها، وهو ما يعبر عنه أيمن الظواهري بقوله: “إن تقديس الوحدة الوطنية ثمرة خبيثة من ثمرات سايكس بيكو التي قسّمت الأمة المسلمة لأسلاب متفرقة نهباً لتركة الدولة العثمانية، ثم عشّشت هذه السياسة الغازية المجرمة في عقولنا، حتى أصبحت صنماً مقدساً فيجب على المسلم طِبقاً لها في كل قُطر أن يتحد مع أبناء قطره وبلده حتى لو كانوا من أعدى أعداء الإسلام وأخبث خلق الله من الخونة وبائعي المبادئ والقيم”[44].

كذلك، لا يعتمد سيد قطب إلا وصف “الوطن الإسلامي” و”دار الإسلام” كتعبير عن علاقة الأمة، ويعتبر الرابطة الوطنية من العقائد المغايرة بل والمضادة للإسلام التي يراها تدعو للإحلال مكانه، وليست مقبولة في” الوطن الإسلامي” وأن على أصحابها أن يتحرجوا من ذكرها فيقول واصفاً لهم: ” لم يعودوا يحجمون، أو يتحرجون، من التصريح بهذه الحقيقة: وهي أنهم إنما يقررون (عقائد)؛ ويريدون أخذ الناس بها في واقع الحياة؛ وأنهم يريدون إحلال هذه العقائد الاجتماعية أو الوطنية أو القومية محل العقيدة الدينية”[45] .

والفارق بين هذا التصور الديني السياسي وغيره من تصورات الأمة الوطنية أو اللغوية أو العرقية، أنه يتوسع في توظيف معتقداته الراديكالية عملياً وسياسياً، في وعي لا تاريخي، لا يقنع بغير المفاصلة الإيمانية عبر وظيفة “الولاء والبراء” وعلى الإيمان السياسي المحبوس في التفكير التآمري والصراعات والحروب الدينية والطائفية، وغير الصراعي المتعايش والمتصالح مع التاريخ والاجتماع وسياقاتهما الجديدة أو الحديثة، ويزيح من الوعي وينزع الشرعية عن كل الدول المؤسسات والمفاهيم الوطنية عند الجماهير، وقد يتطور الأمر لمحاربتها والهجوم عليها متى سنحت له الفرصة.

ومن خطورة توظيفاته كذلك، اصطدام خطاب الإسلام السياسي، نتيجة تصوره الماهوي والعاطفي للأمة، بفكرة السلم الأهلي والهويات الوطنية لمجتمعاتها، عبر كل أنواع التكفير، الديني والسياسي والوطني، فكل ما هو سواه، ويخالف رؤيته أو مرجعيته، مدنس ومرفوض، وهو ما ينتج خاصة النظرة الدونية للأقليات، ويهدد مبادئ التعايش المدني والاجتماعي.

 ونتيجة هذا التصور المنغلق والتمييزي يكتفي الإسلام السياسي هوياتياً بـ” الجماعة المسلمة” كبديل ومضاد معاد لمفاهيم الوطن والمواطنة، رغم أن الاجتماع تحمل ويتحمل دائما تعدد جماعاته داخل المجتمع الواحد، ورغم أن التاريخ عرف الدول القطرية والإمارات والطوائف وكل التنوعات داخل الأمة منذ القديم.

  المراجع

[1] نقلا عن: مسعود ضاهر، “النهضة العربية والنهضة اليابانية: تشابه المقدمات واختلاف النتائج”، سلسلة عالم المعرفة، عدد 252، الكويت، الطبعة الأولى، ديسمبر سنة 1999، ص 16 وما بعدها.

[2]  المصدر السابق. وأنظر أيضاً: د. محمد كمال، “ميجي في مصر”، المصري اليوم، 24 سبتمبر 2018، على الرابط https://www.almasryalyoum.com/news/details/1326093

[3] مسعود ضاهر، مصدر سابق، ص 79 وما بعدها.

[4]  لتاريخ الوزارات والنظارات في مصر أنظر: يونان لبيب رزق، تاريخ الوزارات المصرية 1878 – 1953 (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى، 1975).

[5]  سورة هود- آية 9

[6]  سورة يوسف – آية 45.

[7]  سورة القصص- آية 25.

[8]  سورة يونس- آية 47

[9]  سورة الزخرف- آية 22

[10]  سورة الأنبياء- آية 92.

[11]  سورة هود- آية 118.

[12] سورة آل عمران- آية 104.

[13]  سورة الأعراف- آية 38.

[14] ناصيف نصار، مفهوم الأمة في القرآن الكريم،  18 يونيو 2014، على الرابط: https://islamonline.net/7617

[15] حسن البنّا، مجموع الرسائل، “رسالة التعاليم: ركن العمل”، على الرابط: https://bit.ly/3sj19Vt

[16] انظر: هاني نسيره، “سايكس بيكو في وعي المتشددين العرب بين الوحدة والقسمة”، جريدة الشرق الأوسط، 27 يونيو 2016، على الرابط: https://bit.ly/2Pn3XlI

[17]  انظر حول ذلك: محمد جابر الأنصاري، تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1994).

[18] انظر على سبيل المثال: سيد قطب، هذا الدين (القاهرة، دار الشروق، 2001).

[19] انظر تقديم د. خليل أحمد خليل لـ برنارد لويس، أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرمطية، (بيروت: دار الحداثة، الطبعة الأولى، 1980) ص 23.

[20]  نقلا عن ابن منظور، لسان العرب، مادة وطن.

[21]  انظر في ذلك: أبو بكر عثمان بن الجاحظ، الحنين إلى الأوطان، (بيروت: دار الرائد العربي، الطبعة الثانية، 1982).

[22] هاني السباعي، “دور رفاعة الطهطاوي في تخريب الهوية الإسلامية”، موقع منبر التوحيد والجهاد، على الرابط: http://www.ilmway.com/site/maqdis/MS_19962.html

[23] انظر: رفاعة الطهطاوي، مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، (القاهرة، مطبعة الرغائب المصرية، الطبعة الثانية، 1912) ص 406.

[24] رفاعة الطهطاوي، المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين، تقديم د. منى أبو زيد (القاهرة، دار الكتاب المصري، 2012) ص 199 وما بعدها.

[25] المصدر السابق، ص 199 وما بعدها.

[26] لمزيد من التفاصيل انظر: سلامة موسى، “تاريخ الوطنية المصرية”، مجلة  الهلال، عدد 3، 1 يناير 1928، على الرابط: https://www.ida2at.com/salama-mousa-history-of-egyptian-nationalism/

[27] هاني نسيره، الأيديولوجيا والقضبان.. نحو أنسنة الفكر القومي العربي (القاهرة، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الطبعة الأولى، 2002) ص 27 وما بعدها.

[28] انظر: المصدر السابق.، ص33- 34.

[29] . محمد عبد السلام فرج، الفريضة الغائبة، طبعة إليكترونية، بدون تاريخ، ص 14، يمكن مطالعتها على هذا الرابط: http://www.ilmway.com/site/maqdis/MS_36014.html

[30]  انظر للمزيد: لويس ماسينيون، المتنبي بإزاء القرن الإسماعيلي، ترجمة وتعليق د. إبراهيم عوض، طبعة خاصة لدى الباحث، سنة 1988

[31] انظر حول ذلك: “الإخوان المسلمون في الإمارات.. الحسم في مواجهة أطماع الجماعة”، بوابة الحركات الإسلامية، 8 أكتوبر 2018، على الرابط: https://www.islamist-movements.com/2980

[32]  أنظر: تصريح لإبراهيم الأمين، الناطق باسم حزب الله، جريدة النهار اللبنانية، 5 مارس 1987.

[33] حسن البنا، مجموعة الرسائل، نسخة إليكترونية، ص 15 وما بعدها، على الرابط: https://bit.ly/3clf4ox

[34] المصدر السابق نفسه، ص 5

[35] المصدر السابق نفسه، ص 5

[36] سيد قطب، هذا الدين، طبعة إليكترونية، منبر التوحيد والجهاد، بدون تاريخ، ص 53، يمكن الاطلاع عليها على هذا الرابط: http://www.ilmway.com/site/maqdis/MS_26592.html

[37] حسن البنا، مجموعة الرسائل، ص 6، نسخة إليكترونية يمكن مطلعتها على الرابط التالي: https://bit.ly/3tOwQpR

[38] . المصدر السابق نفسه، ص 6.

[39]  المصدر السابق نفسه، ص 6.

[40] أبوالأعلى المودودي، نظرية الإسلام السياسية (د. م، دار الفكر، 1967) ص 31.

[41] أبوالأعلى المودودي، الجهاد في سبيل الله، طبعة إليكترونية، بدون تاريخ، ص 3، يمكن الاطلاع عليها على هذا الرابط  https://bit.ly/3t2xzD8

[42] انظر حول الخلافات التاريخية: د. خالد كبير علال، التعصب المذهبي في التاريخ الإسلامي (القاهرة، دار الرؤية، الطبعة الأولى، 2014(

[43] انظر في ذلك: هاني نسيرة، سرداب الدم: نصوص داعش دراسة نقدية وتحليلية (القاهرة، دار صفصافة، الطبعة الأولى، 2015) ص 30 وما بعدها.

[44] أيمن الظواهري، مجموع أةبحاث ورسائل وتوجيهات، طبعة إلكترونية، موقع منبر التوحيد والجهاد،2010، ص 5، يمكن الاطلاع عليه من هذا الرابط: https://bit.ly/3u3AsF7

[45] سيد قطب، المستقبل لهذا الدين، طبعة منبر التوحيد والجهاد، مصدر سابق، ص 8.

المواضيع ذات الصلة