Insight Image

في ظلال زيارة بايدن للمنطقة: نحو عقدٍ دولي جديد للعلاقات الخليجية-الأمريكية

13 يوليو 2022

في ظلال زيارة بايدن للمنطقة: نحو عقدٍ دولي جديد للعلاقات الخليجية-الأمريكية

13 يوليو 2022

مقدمة

تأسست العلاقات الخليجية-الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية باللقاء الذي عُقد على متن الطراد الأمريكي “كوينسي” بين الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس فرانكلين روزفلت، في فبراير 1945. وبُعيد تأسيسها، استندت العلاقات السعودية-الأمريكية إلى عقدٍ “ثنائي” يتلخص في الأمن مقابل الطاقة (Feierstein, 2022). ووفقاً لهذا العقد، توفر الولايات المتحدة ضماناتٍ أمنية اتفاقية وعملية لأمن منطقة الخليج العربي، مقابل تعهد السعودية باستمرار تدفق النفط (وفيما بعد الغاز الطبيعي) إلى أسواق الاستهلاك الرئيسية في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية وحلفائهما في آسيا. وبُعيد تتابع استقلال إمارات ودول الخليج العربي الأخرى، أصبح هذا العقد بمثابة الإطار العام للعلاقات الخليجية-الأمريكية، وتحوّل، من ثم، إلى عقدٍ دولي.

وقد تعرض عمودا هذا العقد مؤخراً إلى الاهتزاز الشديد. وبرغم محاولات معالجة التصدع، فإن الممارسة، ولاسيما أثناء الحرب الروسية الأوكرانية منذ فبراير الماضي، أبانت عن أن الاتفاق القديم في حاجة إلى إعادة هيكلة، إذا أراد الطرفان (دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة) الاستمرار في شراكتهما الاستراتيجية.

وتُحاول هذه الورقة إثبات أنّ معيار نجاح زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للمنطقة منتصف الشهر الجاري هو إعادة هيكلة هذا الاتفاق الدولي بين بلاده ودول الخليج العربية بشكلٍ أو بآخر، وربما التوصل لاتفاق جديد يؤسس لمستقبل العلاقات بين الطرفين.

أولاً- الظروف والمتغيرات التي تدفع في اتجاه إعادة هيكلة العلاقات الخليجية-الأمريكية:

منذ بداية الألفية الثالثة، تراكمت عدة متغيرات كانت تدفع في اتجاه إعادة هيكلة العلاقات الخليجية-الأمريكية، وتحديث العقد الدولي الذي تستند إليه أو حتى استبداله كليةً بآخر جديد.

فقد بدأت تظهر فجوة ملحوظة في العلاقات الأمريكية-الخليجية مع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ثم الانسحاب منه وتركه نهباً للنفوذ الإيراني، وازدادت مع اندلاع الانتفاضات العربية عام 2011، التي اعتقدت دول الخليج أنّ الولايات المتحدة تؤيدها، وسوف توجه أبواقها الخطابية ضدها. ثم وصلت هذه الفجوة إلى ذروتها مع توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة بين طهران والدول الست الكبرى المعروفة بالاتفاق النووي الإيراني عام 2015 من دون التشاور مع دول المنطقة، أو أخذ مصادر قلقها من التهديدات العسكرية الإيرانية المتنوعة في الاعتبار. وبعد فترة قصيرة من الهدوء النسبي في العلاقات بين دول الخليج والولايات المتحدة بُعيد انسحاب الأخيرة من الاتفاق النووي الإيراني عام 2018، زادت الفجوة بينهما مرة أخرى بعد قرار إدارة بايدن إعادة التفاوض لإحيائه منذ إبريل 2021. وبصفةٍ عامة، ثمة تباين في التصورات، ومن ثم في السياسات، بين الطرفين عن طبيعة التدخل الإيراني في الشرق الأوسط، ولاسيما في اليمن وسوريا ولبنان، حيث ترى غالبية دول الخليج أن التدخل الإيراني المباشر وغير المباشر في هذه الدول يزيد من العنف والتطرف، وبالتالي فإن إيران هي سبب تفاقم الصراعات في دول المنطقة؛ بينما ترى واشنطن أن طهران تتدخل لتحقيق مصالحها الخاصة، وأنها ليست أساس كل المشاكل. ثم أضاف الانسحاب الأمريكي غير المنظم من سوريا وأفغانستان، وأخيراً الحرب الروسية-الأوكرانية فجوةً إلى فجوة وصدعاً إلى صدع في العلاقات الخليجية-الأمريكية (Goldenberg & Dalton, 2015; Feierstein, 2022).

أسست هذه المتغيرات جميعاً لما استقر لدى صناع القرار في دول مجلس التعاون الخليجي بأنه انسحاب أمريكي غير مستند لقراءة استراتيجية من المنطقة، أو قلة اهتمام بقضاياها وصراعاتها لمصلحة التركيز على منطقة المحيطين الهندي والهادي (حمزاوي، 2022).

وكانت الحرب الروسية-الأوكرانية، بالإضافة إلى أنها من أهم المتغيرات التي تدفع في اتجاه إعادة توجيه العلاقات الخليجية-الأمريكية، لحظةً كاشفة لحالة التصدع في هذه العلاقات، ولضرورة رأبه بأسرع ما يمكن حتى لا تنهار العلاقات بين الطرفين بالكلية. فربما كانت من الوقائع القليلة منذ تأسييس العلاقات الخليجية-الأمريكية التي لا تقف فيها دول الخليج العربية إلى جانب الولايات المتحدة، برغم إلحاح الأخيرة على ذلك، بل وطلبها المساعدة لإعادة الاستقرار إلى أسواق الطاقة العالمية بزيادة الإنتاج النفطي الخليجي، وهو الطلب الذّي لم يجد آذاناً صاغية في العواصم الخليجية (المنشاوي، 2022؛ Feierstein, Saab & Young, 2022). فقد فضلت دول الخليج العربية اتباع سياسة تقوم على التحوّط الاستراتيجي تجاه طرفي الصراع في أوكرانيا؛ أي بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة (قارن: منصور والدسوقي، 2022). ومن ثم، واصلت دول الخليج انخراطها مع روسيا (وأوكرانيا) في المجالات السياسية والاقتصادية بل والعسكرية، مع محاولة الحفاظ على شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. ثم وسّعت دول الخليج مفهومها للتحوّط الاستراتيجي بتنويع شركائها، وفي مقدمتهم الصين والهند وتركيا ومصر.

وكانت الحرب لحظة كاشفة لمزيد من تدهور الثقة في الولايات المتحدة، سواء من الناحية الاقتصادية أو من الناحية الأمنية. فقد أدى تجميد الأصول الروسية إلى الخشية من أن تختلق الولايات المتحدة (والدول الغربية) أية ذرائع لفعل الشيء نفسه بخصوص الأصول العربية. ونفس الأثر السلبي خلفه عدم استجابة دول الخليج للطلب الأمريكي بزيادة المعروض من النفط في الأسواق العالمية. وثمة اقتناع بأن الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة لم تستطع ضمان الأمن الأوكراني؛ فقد شنت روسيا عمليتها العسكرية الخاصة على أوكرانيا وكبدت الأخيرة خسائر فادحة في الأرواح والمعدات والأراضي. وكانت شكوك دول الخليج فى جدية تعهدات الولايات المتحدة الأمنية قد تنامت مع الموقف المتردد الذى تعاملت به واشنطن مع تعرض السعودية والإمارات لهجمات الحوثيين حلفاء إيران (حمزاوي، 2022؛ فهمي، 2022أ). ولكنّ الحرب كشفت عن أهمية المنطقة والوزن الاستراتيجي لدول الخليج العربية بشكل خاص، وقادت إلى إعادة تقييم لمعالجة التوترات في العلاقات الخليجية-الأمريكية؛ انطلاقاً من أن المصالح الأمريكية قد تتضرَّر أكثر في حال استمرار هذه التوترات (فهمي، 2022).

ثانياً- ظهور البدائل للدور الأمريكي في منطقة الخليج:

وعلى خلفية التصدع في العلاقات الخليجية-الأمريكية، أظهرت الصين وروسيا استعدادهما لتوسيع علاقاتهما بدول مجلس التعاون؛ الأمر الذي عزز استراتيجية التحوّط التي جعلتها الأخيرة أساساً لسياساتها الخارجية، والقائمة أساساً على تنويع الشركاء، والحياد الاستراتيجي تجاه الصراع بين القوى الكبرى.

فقد أدرجت الصين، منذ العام 2015، دولَ مجلس التعاون ضمن استراتيجيتها الكبرى “مبادرة الحزام والطريق”، التي غدت الركيزة الرئيسة للسياسة الصينية تجاه المنطقة، والمحور الرئيس للعلاقات بين دول المجلس والصين. ومنذئذٍ، هناك تصاعد ملحوظ للسياسة الصينية في المنطقة عبر تواتر زيارات المسؤولين الصينيين لدولها بهدف تعزيز التنسيق والتشاور معها بشأن مشروعات المبادرة، توجت بزيارة الرئيس الصيني للمنطقة في يناير 2016. وشكّلت المبادرة أبرز دوافع بكين لإصدار وثيقة “سياسة الصين تجاه الدول العربية”، لأول مرة، في يناير 2016، وتوقيع اتفاقيات تعاون اقتصادي، بل وتأسييس شراكات استراتيجية شاملة بين دول مجلس التعاون والصين (Andersen & Jiang, 2018). وقد نبه البعض إلى أنّ انخراط هذه الدول في مشروع الحزام والطريق من شأنه تكريس هوة الشقاق بينها وبين الولايات المتحدة، وأنّها قد تُطالب بالاختيار بين الولايات المتحدة أو الصين (Mashino, 2020).

وتُعد الصين الشريك التجاري الأول لدول مجلس التعاون، وسوقاً رئيسية للصادرات النفطية الخليجية. وعلى الرغم من ضآلة الدور الأمني للصين في منطقة الخليج، إلا أن هذا الدور يتوقع له النمو في المستقبل، عن طريق وجودها العسكري في البحر الأحمر عبر قاعدة جيبوتي، ومبيعاتها للسلاح، ولاسيما الصواريخ الباليستية والطائرات من دون طيار، لدول المنطقة في ضوء إحجام الطرف الأمريكي عن إتمام بيع المعدات العسكرية المتقدمة لدول الخليج. وترى الولايات المتحدة أن مبيعات السلاح الصينية تهدد مصالحها الاستراتيجية وسلامة قواتها ومعداتها في المنطقة، فضلاً على توازن القوى الإقليمي. والواقع أنّ المصالح الصينية المتنامية في دول الخليج سوف تستدعي إن عاجلاً أو آجلاً إطاراً دفاعياً مع هذه الدول لتأمينها (Feierstein, 2022). بل إنّ البعض يتوقع أنّ الدور الأمني الصيني مرشح مستقبلاً لتقديم بديل للضمانات الأمنية الأمريكية، حتى وإن استمر اليوم على تحفظه المعهود (حمزاوي، 2022)

وبالنسبة لروسيا، فقد وسّعت علاقتها السياسية والاقتصادية والعسكرية بدول مجلس التعاون، فضلاً عن أقطارٍ أخرى مؤثرة إقليمياً كمصر والجزائر ولاسيما في القطاع الدفاعي، ومتّنت شراكتها الاستراتيجية مع إيران، وطورت علاقاتها بإسرائيل، ولم يعد دورها مقصوراً على سوريا وليبيا (حمزاوي، 2022).

وكما في حالة الصين، فإن لروسيا وجوداً أمنياً في منطقة الشرق الأوسط منذ تدخلها العسكري في سوريا عام 2015 لدعم نظام بشّار الأسد، في نفس الوقت الذي تلكأت فيه الولايات المتحدة في دعم المعارضة المسلحة الموالية لها هناك. وبرغم أن العمليات العسكرية الروسية استهدفت في معظمها المدنيين من السنة العرب، إلا أن قوة عزمها بالوقوف إلى جانب حلفائها حاز على إعجاب النخب السياسية في المنطقة، ولاسيما في ظل تدهور ثقة هذه النخب في الضمانات الأمنية الأمريكية، وتخلي واشنطن عن أقرب أصدقائها في المنطقة (حسني مبارك) في أعقاب انتفاضة الربيع العربي. وقد ترسّخ الوجود العسكري الروسي في الشرق الأوسط عبر قاعدتي حميميم وطرسوس في سوريا. ولولا حالة عدم الاستقرار السياسي في السودان، لكان لموسكو موطئ قدم، عبر قاعدة بحرية، على سواحل البحر الأحمر. وهذا من شأنه، إن تم، أن يعزز النفوذ الروسي في الطرق الملاحية التجارية الحيوية. وثمة شراكة استراتيجية ترسخت بين بعض دول المجلس ومصر من ناحية وروسيا من ناحية أخرى بالعمل معاً في ليبيا. وبالإضافة إلى أن عضويتها في مجموعة أوبك بلس OPEC+ ، وهي كونستريوم حاكم فى تحديد أسعار الطاقة العالمية، تتيح لها تنمية علاقاتها الاقتصادية مع دول مجلس التعاون، تنظر الأخيرة إلى روسيا على أنها تخدم خياراتها الاستراتيجية في تنويع مصادر السلاح، وتنويع الشركاء. وقد قامت روسيا بالفعل بعقد عدة صفقات عسكرية مع دول المنطقة (فهمي، 2022أ؛ Feierstein, 2022).

وعلى الرغم من أنّ دور روسيا في المنطقة يعتمد إلى حدٍ كبير على نتيجة حربها في أوكرانيا، ثمة إعجاب عربي “دفين” بدور المتحدي للهيمنة الأمريكية (والغربية) الذي تقوم به روسيا، وتبرير للحرب بأنها دفاع عن الأمن القومي الروسي. كما أنّ نجاح روسيا في تحقيق أهدافها من الحرب، سوف يزيد بالقطع من نفوذها في المنطقة والعالم (المنشاوي، 2022).

بعبارة محددة، عندما تحط طائرة بايدن في المنطقة سوف يكتشف بنفسه أنّ الأرض أخذت تتغير في الشرق الأوسط، وأنّ ما يقود هذا التغيير هو الصراع على القوة بين بلاده وكلٍ من روسيا والصين (Tisdall, 2022)).

ثالثاً- زيارة بايدن للمنطقة وآفاق العلاقات الخليجية-الأمريكية:

في زيارته للمنطقة (13-16 يوليو)، يستهدف الرئيس بايدن إعادة تأكيد نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة بعد إهمالها لسنوات، ومناقشة عدة ملفات، لعل أهمها المفاوضات النووية لإحياء خطة العمل المشتركة الشاملة مع إيران، والأمن الإقليمي، والتطبيع مع إسرائيل، والصراعات الإقليمية في اليمن وسوريا، وحرب أوكرانيا، وأزمة الطاقة العالمية، وبدرجة أقل القضية الفلسطينية وغيرها. بيد أن أهم ما يمكن التباحث حوله في جدة (16 يوليو) مع القادة السعوديين وسائر القادة الخليجيين هو كيفية إعادة ضبط العلاقات الخليجية-الأمريكية (Tisdall, 2022).

في دراسة مهمة لمعهد الشرق الأوسط بالولايات المتحدة، استنتج الدارسون أن إعادة ضبط العلاقات الخليجية-الأمريكية تتطلب استراتيجية جديدة؛ لأنّ تضاؤل نفوذ الولايات المتحدة وتدهور ثقة الشركاء الإقليمين بالضمانات الأمنية الأمريكية يعودان لعدد من العوامل التي لا رجعة فيها (Feierstein, Saab & Young, 2022).

ويرى الدارسون أن ثمة مصالح تجمع الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون قد تكون أساساً تبنى عليه هذه الاستراتيجية الجديدة أو ينظم حولها العقد الجديد لعلاقاتهما. وفي مقدمة هذه المصالح الاستقرار الإقليمي، ومنع الانتشار النووي، وحرية التجارة الدولية والنظام الاقتصادي الليبرالي الدولي. ضف إلى ذلك أنّ دول الخليج لاتزال تُفضل الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة ( فهمي، 2022 أ؛Feierstein, Saab & Young, 2022).

ماذا عن معالم العقد “الدولي” الجديد للعلاقات الخليجية-الأمريكية؟ في صحيفة الـ”واشنطن بوست”، في 8 يوليو الجاري، تحدث الرئيس بايدن عن أهم هذه المعالم بتأكيده أنّ هدفه من زيارة السعودية هو “تعزيز شراكة استراتيجيّة… تستند إلى مصالح ومسؤوليّات متبادلة” (Biden, 2022). ولعل ذلك يستجيب لما نادى به نفر من المحللين والممارسين السياسيين من ضرورة تغيير النظرة الأمريكية لدول الخليج من توابع إلى شركاء، يفترض إشراكهم في أية تسوية لصراعات المنطقة، ولاسيما الملف النووي الإيراني، والتوقف عن سياسة الإملاءات والمواعظ السياسية. ويجب أن تستند هذه الشراكة إلى آلية مؤسسية للتواصل والتنسيق المستمرين بين الجانبين الأمريكي والخليجي، وعقد لقاءات متعددة الأطراف كي يتوصلوا لحلول تنهي الصراعات الإقليمية (حسين، 2022؛ Goldenberg & Dalton, 2015). وبخصوص الملف النووي الإيراني، الذي اعتبرت إدارة بايدن أنّ ثمة أولوية استراتيجية لإحيائه لإبعاد خطر امتلاك إيران للسلاح النووى، فإنّ المطلب الأساسي لمعظم قادة دول الخليج هو ألا تكون النتيجة النهائية للمفاوضات النووية تعزيز نفوذ إيران فيها، وأن يتضمن تجميد برنامجها للصواريخ الباليستية، والحد من تهديداتها اللامتماثلة للأمن الإقليمي (حسين، 2022).

بيد أنّ الرئيس الأمريكي يريد أنْ يُدرج دول مجلس التعاون، ولاسيما السعودية، في استراتيجيته للمواجهة العالمية مع روسيا والصين (Biden, 2022)، الأمر الذي يُعد تكراراً لسوء الفهم وسوء التصور جميعاً من جانب واشنطن للموقف السياسي الراهن لدول المجلس تجاه صراع القوة على النظام الدولي. فلم تتفهم الولايات المتحدة، بعدُ، أنّ دول مجلس التعاون، وخصوصاً السعودية، اختارت التحوّط الاستراتيجي تجاه هذه المسألة، وتقوم سياساتها الخارجية الراهنة على أساس تنويع الشركاء، وتتجنب أن تكون طرفاً في المنافسة على قيادة النظام الدولي.

وربما يكون من أهم معالم العقد الجديد للعلاقات الخليجية-الأمريكية تأسيس عمودها الأول (الأمن) على قاعدة هيكلية للأمن الجماعي، تُشارك فيه دول المنطقة وتدعمه الولايات المتحدة وينهض على التشاور المستمر بين الطرفين، بدلاً من الاتفاقات الأمنية الثنائية بين الأخيرة ودول مجلس التعاون التي لم تؤتِ أكُلَها في تقوية القدرات الأمنية الجماعية (Saab, 2022). وفي هذا الخصوص، توقعت مجلة “ناشيونال إنترست” (Rezaei, 2022) أن يناقش الرئيس بايدن مع دول مجلس التعاون ومصر والأردن مسألة إنشاء حلف في المنطقة على غرار حلف شمال الأطلسي “الناتو”؛ يستهدف مواجهة إيران، وإحباط التهديدات الأمنية اللامتماثلة التي تمثلها التنظيمات المتحالفة مع طهران أو الجماعات الإرهابية، والحؤول دون تمدد النفوذ الأمني الصيني و/أو الروسي إلى المنطقة. وتبدو الظروف الإقليمية والدولية مهيأة لظهور هذا الحلف؛ فالاتفاقات الإبراهيمية للسلام بين إسرائيل وعدة دول عربية أنتجت بنية تحتية أمنية أولية لمثل هذا الحلف، ولاسيما إنشاء “تحالف الدفاع الجوي للشرق الأوسط MEAD” الذّي يضم عدة دول عربية وإسرائيل لمواجهة إيران، وجعلت التنسيق العسكري والأمني بين العرب وإسرائيل ميسوراً. كما أنّ متغيرات إقليمية أخرى قد تُيسر إنشاء هذا التحالف، وأهمها إعادة توجيه السياسة التركية تجاه الشرق الأوسط، والتخرصات بأن يكون من نتائج القمة تعبيد طريق التطبيع بين السعودية وإسرائيل (بي بي سي عربي، 2022؛ Echols, 2022). دون الحديث عن أنّ الظروف الدولية التي أنتجتها الحرب-الروسية الأوكرانية، وخصوصاً لجهة ترسيخ شراكة استراتيجية واقتصادية طويلة الأجل بين روسيا والصين وإيران، تدفع إلى إيجاد مثل هذا الهيكل الأمني دفعاً.

وإذا كان متعذراً أن يرى الناتو الأوسطي النور قريباً، كما يرى كثير من المراقبين، وفي ضوء تحفظ عدة دول عربية، ومنها دول خليجية، فلا أقل من أن تدعم الولايات المتحدة جهود دول مجلس التعاون في إعادة تشكيل تحالفاتها العربية، ولإيجاد صيغ مبتكرة للأمن الجماعي، ولاسيما من جانب مصر والسعودية والإمارات (فهمي، 2022أ).

وأخيراً، وليس بآخر، وفي ضوء مقاومة دول الخليج لجهود تسييس مصالحها الاقتصادية في قطاع الطاقة كي تخدم المساعي الأمريكية والغربية لمواجهة تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، وفي ضوء تحوُّل الولايات المتحدة إلى منافس لهذه الدول في سوق الطاقة العالمية (Feierstein, Saab & Young, 2022)، فيجدر بقمة جدة المرتقبة التفكير في آلية مبتكرة، على غرار أوبك بلس، للتنسيق بين الطرفين لتحقيق الهدف المشترك المتمثل في استقرار أسواق الطاقة العالمية.

المراجع

  1. بي بي سي عربي (2022، 11 يوليو). السعودية: لابيد يكشف عن “رسالة سلام وأمل يحملها الرئيس الأمريكي” إلى قادة المملكة. https://www.bbc.com/arabic/world-62115963
  2. حسين، ع. (2022أ، 26 يونيو). ماذا يريد العرب من بايدن؟ الشروق.
  3. حمزاوي، ع. “الولايات المتحدة والشرق الأوسط.. استفاقة أمريكية متأخرة”، الشروق. 8 يوليو 2022.
  4. فهمي، ن. (2022 أ، 11 يوليو). ملاحظات حول تقسيم وتشكيل الشرق الأوسط. الشروق.
  5. فهمي، ن. (2022، 11 يونيو). إعادة التوازن: أهداف زيارة “بايدن” المُرتقبة إلى منطقة الشرق الأوسط. مركز “المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة”. https://2u.pw/NTdvY.
  6. المنشاوي، م. (2022). كيف فقدت إدارة بايدن طريقها. الشروق. 8 يوليو 2022.
  7. منصور، ع. ر.، الدسوقي، أ. (2022). التحوّط الاستراتيجي في السياسة الإيرانية تجاه الولايات المتحدة. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
  8. Andersen, L. E. & Jiang, Y. (2018). Is China Challenging the US in the Persian Gulf? DIIS Report 29, Danish Institute for International Studies.
  9. Biden, Joe. (2022, July 9). Why I’m going to Saudi Arabia. The Washington Post.
  10. Echols, C. (2022, July 11). Wait, is there really a new US-led air defense alliance in the Middle East? Responsible Statecraft. https://2u.pw/6UIx8.
  11. Feierstein, G. M. (2022, April 5). Engaging the Gulf Arab States, Addressing Political Challenges. In G. M. Feierstein, B. Y. Saab & K. E. Young. US-Gulf Relations at the Crossroads: Time for a Recalibration. MEI@75, The Middle East Institute. https://2u.pw/Pr12y.
  12. Feierstein, G. M., Saab, B. Y. & Young, K. E. (2022). US-Gulf Relations at the Crossroads: Time for a Recalibration. MEI@75, The Middle East Institute. https://2u.pw/Pr12y.
  13. Goldenberg, I. & Dalton, M. G. (2015). Bridging the Gulf: How to Fix U.S. Relations With the GCC. Foreign Affairs 94(6), 59–67. Goldenberg & Dalton, 2015
  14. Mashino, I. (2020). The Future of the Middle East Caught between US-China and US-Russia Rivalry. MITSUI and CO. Global Strategic Studies Institute Monthly Report, August.
  15. Rezaei, F. (2022, July 9). Will Biden’s Trip Launch a ‘Middle East NATO’? The National Interest. https://2u.pw/ZAfIH.
  16. Saab, B. Y. (2022, April 5). Integrated Deterrence with the Gulf. In G. M. Feierstein, B. Y. Saab & K. E. Young. US-Gulf Relations at the Crossroads: Time for a Recalibration. MEI@75, The Middle East Institute. https://2u.pw/Pr12y.
  17. Tisdall, S. (2022, July 3). A mirage of peace? Joe Biden ventures back into Middle East’s shifting sands. The Guardian.

المواضيع ذات الصلة