صدر تقرير “تقييم الأمن الإقليمي لمنطقة آسيا والمحيط الهادي 2025” عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) وسط تصاعد التوترات الجيوسياسية في منطقة الهندو-باسيفيك وتنامي سباق التسلح والتنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى، ولاسيما بين الولايات المتحدة والصين. يأتي التقرير في وقت يتزايد فيه دور التكنولوجيا، وتتصاعد فيه التهديدات غير التقليدية، مع تنامي أهمية البنية التحتية البحرية وتطور أنماط الشراكة الأمنية والصناعية.
ويشكل هذا التقييم الذي تم عرضه على هامش حوار شانغريلا 2025 في سنغافورة ما بين 30 مايو و1 يونيو مرجعًا لصناع القرار والباحثين لفهم الاتجاهات الناشئة في الأمن والدفاع في المنطقة. وتستعرض هذه الورقة أبرز القضايا التي تم مناقشتها في الحوار، والمحاور الرئيسية التي تناولها التقييم هذا العام، وذلك في ضوء التطورات الإقليمية والدولية.
حوار شانغريلا
جاء انعقاد حوار شانغريلا 2025 في سنغافورة بين 30 مايو و1 يونيو ليجسد واقعًا مضطربًا ومفتوحًا على جميع الاحتمالات. هذا اللقاء السنوي الذي ينظمه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) شكل منصة مركزية لتلاقي وزراء دفاع، وقادة عسكريين، ومفكرين استراتيجيين من مختلف دول العالم، بهدف التباحث حول مستقبل الأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادي، التي باتت اليوم محور الثقل الجديد في العلاقات الدولية.
من اللحظة الأولى، بدا أن الصراع الأمريكي–الصيني هو الخلفية المهيمنة على أعمال المنتدى. وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسث أطلق تحذيرات شديدة اللهجة ضد الصين، واصفًا إياها بأنها “تهديد حقيقي ووشيك” على استقرار المنطقة، مع تركيز خاص على تايوان[1]. في كلمته، دعا حلفاء واشنطن الآسيويين إلى رفع الإنفاق الدفاعي، وتسريع جهود الردع، واصفًا المنطقة بأنها “جبهة أولى” في الدفاع عن القيم الغربية. لم تتأخر بكين في الرد، رغم غياب وزير الدفاع الصيني، حيث تولى الأدميرال هو جانغ فنغ قيادة الوفد الصيني، واعتبر تصريحات هيغسث استفزازية، بل ذهب إلى اتهام الولايات المتحدة بـ”زرع الفتنة والانقسام في آسيا”[2]. هذا التراشق اللفظي أكد أنه لا توجد أرضية حقيقية حتى الآن لحوار أمني فعّال بين القوتين الأعظم، بل إن هوة الشك وعدم الثقة تتسع باستمرار.
في خضم هذا الاستقطاب، برز صوت مختلف من باريس. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي ألقى الكلمة الرئيسية، اقترح إقامة “تحالف إيجابي جديد” بين أوروبا وآسيا، يقوم على الدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد، دون الانخراط في الاصطفافات الحادة بين الولايات المتحدة والصين. شدد ماكرون على مفهوم “الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي”، محذرًا من أن أوروبا قد تُستخدم كأداة في نزاعات الآخرين إذا لم تحدد بوصلتها بنفسها. دعوته هذه كانت بمثابة تذكير بأن أوروبا لا تزال تبحث عن موطئ قدم فاعل في منطقة باتت محكومة بقواعد صراع جديدة، تعتمد على التكنولوجيا والردع السيبراني والتحالفات الدفاعية المعقدة.[3]
المنتدى شهد أيضًا تصعيدًا لافتًا بين الهند وباكستان، بعد أن تبادل الوفدان العسكريان الاتهامات والانتقادات العلنية على خلفية التطورات الأخيرة في كشمير، وخاصة “هجوم باهالجام” و”عملية سيندور”[4]. لم يكن الصدام جديدًا، لكنه كشف هشاشة بنية الأمن في جنوب آسيا، وعجز المنصات الحوارية عن نزع فتيل التوتر بين قوتين نوويتين تتقاطع مصالحهما في بؤر ملتهبة وغير قابلة للاحتواء. هذه الاشتباكات الخطابية تعكس عمق العداء بين الطرفين، وتؤكد أن أي تصعيد عسكري محدود قد يخرج بسرعة عن السيطرة.
من جهتها، أعادت أستراليا تأكيد موقعها كحليف استراتيجي في قلب معادلات المحيط الهادي، إذ أعلن وزير دفاعها ريتشارد مارلز عن زيادة ملحوظة في الميزانية العسكرية، مع التركيز على تطوير التحالفات القائمة، لاسيما في إطار الشراكة الثلاثية AUKUS، وعبّر “مارلز” عن قلق بلاده من تسارع التوسع العسكري الصيني، ودعا إلى تعزيز الشفافية وبناء قواعد ثابتة للانخراط العسكري في المنطقة[5]. موقع أستراليا الجغرافي يجعلها في الخط الأول لأي تحولات استراتيجية، وهذا يفسر انخراطها المتزايد في ترتيبات الدفاع الجماعي، رغم ما قد يترتب عليه من مخاطر.
أما العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة، فقد كشفت النقاشات عن فجوة متزايدة في الرؤى. ففي حين طالبت واشنطن الأوروبيين بالتركيز على أمنهم القاري لموازنة النفوذ الروسي، عبّر عدد من القادة الأوروبيين عن رفضهم لعزل أوروبا عن المحيط الهادي. وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، كاجا كالاس، شددت على أن أمن أوروبا لا ينفصل عن أمن آسيا، ودعت إلى دور أوروبي أكثر فاعلية في تشكيل توازنات المنطقة[6]. هذا التباين يعكس تآكل وحدة الرؤية بين ضفتي الأطلسي، ويعزز نزعة الاستقلال المتصاعدة داخل العواصم الأوروبية.
غياب وزير الدفاع الصيني كان من أبرز مفارقات المنتدى، خاصة أن حوار شانغريلا يُعد من المنصات القليلة التي تتيح حوارًا عسكريًا مباشرًا مع الولايات المتحدة. في المقابل، كانت كلمة رئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم لافتة في توازنها، حيث دعا إلى مقاربة إقليمية قائمة على التعاون التنموي والتكامل الاقتصادي، بدل الارتهان إلى الاستراتيجيات الصفرية التي تعمق المواجهة وتقلل من فرص الاستقرار.
يتضح من خلال هذه النقاشات أن منطقة المحيطين الهندي والهادي تعيش لحظة تاريخية فارقة. فالقوى الكبرى تسابق الزمن لتثبيت نفوذها، والتحالفات العسكرية تتزايد، والمجال السيبراني يتحول إلى ساحة صراع موازية، بينما تغيب مؤسسات إقليمية قادرة على إدارة هذه التعقيدات.
المحاور التي تناولها التقييم 2025:
أولًا، الشراكات الصناعية الدفاعية وبناء الاستقلال الاستراتيجي
تسعى الدول في منطقة آسيا والمحيط الهادي بشكل متسارع إلى بناء قدراتها الصناعية الدفاعية وتقليل اعتمادها على الخارج، بهدف تعزيز الاستقلال الاستراتيجي. هذا التوجه نابع من إدراك متزايد للهشاشة التي قد تترتب على الاعتماد الكامل على الموردين الخارجيين في حالات الأزمات أو الحروب. فالمنافسة الجيوسياسية الحادة، إلى جانب صعود النزعة الحمائية في بعض الدول الصناعية الكبرى، جعل من الضروري للدول الآسيوية أن تبحث عن سبل لتعزيز الاكتفاء الذاتي الدفاعي.
وتتنوع أنماط الشراكات الصناعية في المنطقة بين نقل التكنولوجيا عبر اتفاقيات تعويضية، وتأسيس مشاريع تصنيع مشتركة، وتدريب الكوادر الوطنية، والتعاقد على الإنتاج المحلي لمعدات أجنبية التصميم. فعلى سبيل المثال، عملت إندونيسيا على تطوير قدراتها الجوية من خلال شراكتها مع Airbus في إنتاج مروحيات النقل، كما تعاقدت مع Bell Textron على تصنيع مكونات الطائرات محليًّا. أما ماليزيا، فقد دخلت في تعاون استراتيجي مع شركة FNSS التركية لتطوير مركبات قتالية مدرعة، مما مكّنها من توطين قدر كبير من المعرفة التقنية.[7]
تسعى هذه الشراكات إلى تحقيق توازن دقيق بين الاستفادة من الخبرات الأجنبية والحرص على بناء قاعدة صناعية وطنية مستدامة. ومع ذلك، لا تخلو هذه المساعي من تحديات كبيرة. فهناك تفاوت ملحوظ في مستوى الجاهزية المؤسسية بين الدول، إذ تفتقر بعض البلدان إلى الأطر القانونية الفعالة لحماية الملكية الفكرية، أو إلى منظومات تعليم وتدريب فني تواكب تعقيدات الصناعات الدفاعية الحديثة. كما تشكل البيروقراطية وضعف التمويل طويل الأمد عائقًا أمام بناء سلاسل إنتاج متكاملة.
اللافت خلال السنوات الأخيرة هو دخول لاعبين جدد على خط الشراكات الدفاعية، من خارج الدائرة التقليدية للدول الصناعية الكبرى. فدول الخليج العربي، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، باتت شريكة رئيسية لبعض الدول الآسيوية في مشاريع التصنيع الدفاعي، لاسيما في قطاعات الطائرات المسيّرة، والمركبات البرية، وأنظمة الحماية الإلكترونية. وتبرز هنا شركات مثل “إيدج” الإماراتية و”SAMI” السعودية كمحركات رئيسية لهذا التعاون، حيث توفر رأس المال والتكنولوجيا، بينما تقدم الدول الآسيوية الأيدي العاملة والخبرة التشغيلية.
يُعد هذا التحول في طبيعة الشراكات مؤشرًا على بروز نمط جديد من التعاون الجنوبي-الجنوبي، يخفف من وطأة التبعية للموردين الغربيين، ويفتح المجال أمام تطوير صناعات هجينة تمزج بين الابتكار المحلي والاستفادة من التكنولوجيا المستوردة.
ختامًا، يمكن القول إن مستقبل الشراكات الصناعية الدفاعية في آسيا يعتمد على قدرة الدول على الاستثمار الاستراتيجي طويل الأجل، وخلق بيئة تنظيمية محفّزة، وربط الصناعات الدفاعية بالبحث العلمي المحلي. ففي عالم تتسارع فيه وتيرة التغيرات الجيوسياسية والتكنولوجية، لم يعد الاكتفاء بالاستيراد خيارًا مستدامًا، بل أصبح توطين الصناعة الدفاعية مسألة أمن قومي واستراتيجي بالغة الأهمية.
ثانيًا، تحديث الجيوش والتحول في الإنفاق الدفاعي
شهدت العقود الأخيرة تحولًا لافتًا في أولويات الدول الآسيوية تجاه تحديث قواتها المسلحة، ليس فقط من خلال شراء معدات أكثر تقدمًا، بل أيضًا بإعادة هيكلة عقائدها العسكرية، وتحديث أنظمة القيادة والسيطرة، وزيادة الإنفاق الدفاعي، بما يعكس تزايد التهديدات والتنافس الإقليمي.
في مقدمة هذا التحول تأتي اليابان، التي قررت رفع سقف إنفاقها الدفاعي ليبلغ 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027، في سابقة تعد الأولى منذ الحرب العالمية الثانية[8]. يعكس هذا التوجه مخاوف طوكيو المتصاعدة من تصاعد التهديدات الصاروخية الكورية الشمالية، والنشاط البحري المتزايد للصين حول جزر سينكاكو، فضلًا عن شكوك متنامية حول مصداقية الضمانات الأمنية الأمريكية في ظل التغيرات السياسية في واشنطن.
أما كوريا الجنوبية، فقد واصلت تطوير ترسانتها العسكرية بتركيز على القدرات الردعية والضربات الاستباقية، بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي، والغواصات النووية، والطائرات المسيّرة. كما أطلقت برامج تسليح محلية طموحة عززت صناعتها الدفاعية وأتاحت لها دخول أسواق التصدير، لاسيما في الشرق الأوسط وأوروبا.
الهند أيضًا، بوصفها قوة إقليمية صاعدة، تواصل تخصيص ميزانيات ضخمة لتعزيز قدراتها البحرية والجوية، في ظل استمرار المواجهات الحدودية المتقطعة مع الصين وتفاقم التهديدات عبر الحدود الغربية. كما تعمل نيودلهي على تطوير نظم قيادة وتحكم شبكية، وتوسيع اعتمادها على الأقمار الصناعية لأغراض الرصد والاستهداف.
أما دول جنوب شرق آسيا، وعلى الرغم من تفاوت إمكانياتها الاقتصادية، فقد شهدت أيضًا تحولات لافتة في سياسات التسلح. فدول مثل فيتنام وإندونيسيا والفلبين باتت تولي أهمية كبرى لتعزيز قدراتها البحرية والجوية، خصوصًا في ظل النزاعات السيادية في بحر الصين الجنوبي. كما تزايد الاهتمام ببرامج مراقبة المجال البحري، والدفاع السيبراني، والردع المتعدد الوسائط.
تعكس هذه التوجهات مجتمعة تحوّلًا استراتيجيًّا في العقيدة الدفاعية للدول الآسيوية؛ من مجرد الحماية الحدودية إلى تبني مفاهيم “الردع المتقدم”، و”الانتشار المتكامل”، و”المجال المشترك”(Multi-Domain Operations)، بما يشمل الأرض والجو والبحر والفضاء الإلكتروني والفضاء الخارجي.
لكن هذه الطفرات في الإنفاق الدفاعي والتحديث العسكري لا تخلو من تحديات؛ فبعض الدول تعاني من اختلالات في هيكلة قواتها أو ضعف في التنسيق بين الأفرع، أو نقص في الكفاءات التقنية لتشغيل الأنظمة المعقدة. كما أن الإنفاق المتسارع دون استراتيجية متماسكة قد يؤدي إلى تراكم أعباء مالية طويلة الأمد.
في ظل هذه المعطيات، يبرز سؤال جوهري: هل يقود هذا السباق نحو التسلح إلى توازن رادع واستقرار استراتيجي، أم أنه ينذر بمزيد من التصعيد وعدم اليقين؟ الإجابة تكمن في قدرة دول المنطقة على دمج التحديث العسكري في إطار عقيدة دفاعية شاملة، تتكامل فيها القدرات الصلبة مع أدوات الردع غير العسكرية، كالتحالفات الدبلوماسية والسياسات الاقتصادية الدفاعية.
إن تحديث الجيوش الآسيوية ليس مجرد استجابة للواقع الأمني، بل هو تعبير عن طموح استراتيجي أوسع لبناء هوية دفاعية مستقلة، وتوازن إقليمي متعدّد الأقطاب، يتجاوز الاعتماد التقليدي على القوى الكبرى. وفي ظل التوترات المتزايدة، يصبح تحديث القدرات الدفاعية أداة لبناء الاستقلال السيادي، لا مجرد استعراض للقوة.
ثالثًا، نقاط التوتر الاستراتيجي والتنافس بين القوى الكبرى
تمثل منطقة آسيا والمحيط الهادي أحد أبرز مسارح التنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى في العالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين. ولا تكاد تخلو منطقة من مناطقها من بؤر توتر مزمنة أو نزاعات سيادية معلقة، تتخذها القوى العظمى نقاط اختبار لإعادة رسم موازين القوة.
أولى هذه النقاط هي تايوان، التي أصبحت رمزًا للصراع الجيوسياسي بين بكين وواشنطن. فبينما تعتبرها الصين جزءًا لا يتجزأ من أراضيها، وتلوّح باستخدام القوة لاستعادتها عند الحاجة، ترى فيها الولايات المتحدة حليفًا محوريًّا، تسعى لحمايته وتعزيز قدراته الدفاعية. وقد أسهمت صفقات الأسلحة الأمريكية، إلى جانب زيارات رسمية رفيعة، في تصعيد التوتر حول مضيق تايوان، ما يرفع احتمالية الانزلاق إلى مواجهة غير محسوبة.
وثانيها أن النزاع يتواصل في بحر الصين الجنوبي، حيث تتنازع الصين وعدد من دول جنوب شرق آسيا السيادة على جزر وشعاب مرجانية ذات موقع استراتيجي وثروات بحرية ضخمة. وتقوم بكين بتوسيع وجودها العسكري عبر بناء قواعد ومنشآت جوية على الجزر الاصطناعية، ما يدفع بدول مثل الفلبين وفيتنام إلى تعزيز شراكاتها الدفاعية مع الولايات المتحدة واليابان، سعيًا لتحقيق نوع من التوازن.
في المقابل، تسعى الصين إلى بناء منظومة ردع قائمة على حقائق ميدانية جديدة، تعتمد على السيطرة التدريجية، والردع البحري، والتشبيك التكنولوجي، والاستخباراتي. وتعد مناوراتها العسكرية وتحديث أسطولها البحري والجوي جزءًا من استراتيجية تهدف لفرض أمر واقع جديد، في مواجهة ما تعتبره تطويقًا أمريكيًّا.
أما الهند، فهي تخوض بدورها مواجهة استراتيجية مع الصين على الحدود في منطقة لداخ، إضافة إلى تنافسها معها في المحيط الهندي، حيث تتقاطع مصالح نيودلهي مع واشنطن في تعزيز النفوذ البحري ومراقبة الطرق التجارية الحيوية. ويتجلى ذلك في تزايد مشاركة الهند في تحالفات مثل الرباعية (QUAD) مع اليابان وأستراليا والولايات المتحدة، وفي مبادرات أمنية بحرية مشتركة.
هذا التنافس يتخذ أبعادًا متعددة، تشمل السباق في الفضاء السيبراني، وتوسيع شبكات التحالفات، والتأثير في النظام الإقليمي عبر المساعدات والاستثمار والبنى التحتية، كما في مشروع الحزام والطريق من جهة، واستراتيجية الشراكة الأمريكية لتعزيز البنية التحتية من جهة أخرى.
إزاء هذا المشهد، تتخذ بعض الدول الآسيوية موقفًا حذرًا، وتسعى لتحقيق توازن دقيق بين الانخراط مع الولايات المتحدة اقتصاديًّا وأمنيًّا، والحفاظ على علاقات مستقرة مع الصين المجاورة. ويظهر هذا في مواقف دول مثل ماليزيا وإندونيسيا وتايلند، التي تفضّل عدم الانحياز المباشر، بل الاعتماد على التعددية وتفعيل آليات التعاون الإقليمي.
في المحصلة، يبدو أن التنافس بين القوى الكبرى في آسيا والمحيط الهادي لن يهدأ قريبًا، بل سيتّخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا مع تقدم التكنولوجيا وتداخل المصالح الاقتصادية والعسكرية؛ ما يجعل من إدارة التوترات أولوية استراتيجية، ليس فقط لتفادي الصدام، بل لضمان استقرار النظام الإقليمي ككل، وسط عالم تتزايد فيه مخاطر التفكك والتعددية القطبية الصدامية.
رابعًا، التهديدات البحرية وتطور الأمن البحري
تُعد المساحات البحرية الشاسعة في منطقة آسيا والمحيط الهادي من أهم المسارح الاستراتيجية التي تشهد تصاعدًا في التهديدات الأمنية، سواء من حيث القرصنة البحرية، أو النزاعات السيادية، أو الأنشطة العسكرية المتنامية. ويمثل بحر الصين الجنوبي، وبدرجة أقل بحر الصين الشرقي والمحيط الهندي، بؤرًا دائمة للتوتر والتنافس على النفوذ والموارد البحرية وطرق التجارة.
برزت التهديدات البحرية نتيجةً لعوامل متعددة، من بينها توسّع النفوذ البحري الصيني، وتزايد عمليات الحفر والتنقيب غير القانونية، وانتشار ميليشيات بحرية تعمل تحت غطاء خفر السواحل أو أساطيل الصيد المدعومة حكوميًّا؛ ما يزيد من تعقيد البيئة البحرية. كما أن سلوك السفن غير المُعلَن عن وجهتها، وقطع الكابلات البحرية، والتجسس الإلكتروني عبر قيعان البحار، كلها أصبحت أدوات جيوسياسية لتثبيت الهيمنة وتغيير ميزان القوة.
استجابةً لذلك، كثفت العديد من دول المنطقة جهودها في بناء القدرات البحرية، حيث استثمرت في تطوير أساطيلها، وبناء سفن دورية، وتوسيع قواعدها البحرية، فضلًا عن تعزيز التعاون الاستخباراتي واللوجستي مع حلفاء دوليين. على سبيل المثال، شرعت الفلبين في تجديد قواتها البحرية ومراقبة سواحلها الجنوبية والغربية عبر تكنولوجيا متقدمة، فيما زادت اليابان من دورياتها المشتركة مع الولايات المتحدة في بحر الصين الشرقي، ووسعت من تغطيتها الاستخبارية عبر الأقمار الصناعية.
من جهة أخرى، تبرز أهمية الأمن البحري في الحفاظ على سلامة طرق التجارة البحرية، خاصة وأن أكثر من 60% من التجارة العالمية تمر عبر المحيطين الهندي والهادي[9]؛ وبالتالي فإن أي اضطراب في هذه المسارات -نتيجة النزاع أو القرصنة أو الحصار- سيكون له أثر مباشر على الاقتصاد العالمي. لذلك؛ أصبح تعزيز أمن الممرات البحرية أولوية كبرى في الاستراتيجيات الدفاعية للدول.
وقد شهدنا ظهور مفاهيم جديدة في الأمن البحري مثل “المجال البحري المشترك” (Maritime Domain Awareness)، و”الردع البحري المُوزّع”، حيث تسعى الدول إلى بناء قدرات تعتمد على السفن الصغيرة المسيّرة، وأنظمة الإنذار المبكر البحرية، والرصد الشبكي عالي الدقة.[10]
التعاون البحري المتعدد الأطراف يشكل كذلك إحدى أدوات إدارة التهديدات، إذ تشارك دول مثل أستراليا والهند وفرنسا في مناورات مشتركة؛ لتبادل الخبرات وتعزيز القدرة على الاستجابة المشتركة للتهديدات. كما تعمل مبادرات، مثل التحالف من أجل حرية الملاحة (FONOPs) الذي تقوده واشنطن، على فرض حضور دائم في المناطق المتنازع عليها، ما يعتبره البعض رادعًا، ويعتبره آخرون تصعيدًا.
مع تصاعد هذه التهديدات، بات من الواضح أن التحدي البحري في آسيا والمحيط الهادي يتجاوز مسألة السيادة البحرية إلى كونه اختبارًا لاستقرار النظام الإقليمي وقدرة الدول على فرض القانون الدولي البحري. ومع غياب تسوية واضحة للنزاعات، فإن الأمن البحري سيظل في مركز الصراع الاستراتيجي، وستبقى البحار بمثابة ساحات مفتوحة للتنافس على النفوذ والسيطرة والتكنولوجيا.
خامسًا، التحولات في التعاون الأمني والتعددية الإقليمية
شهدت منطقة آسيا والمحيط الهادي في السنوات الأخيرة تحولات لافتة في أنماط التعاون الأمني، شملت إعادة تفعيل التحالفات العسكرية، وبروز أطر تنسيقية جديدة، وتوسيع مفهوم الأمن ليشمل التهديدات غير التقليدية مثل الكوارث الطبيعية والأمن السيبراني. هذه التحولات تعكس التفاعل المعقّد بين الديناميكيات الإقليمية والمحركات الجيوسياسية العالمية.
أحد أبرز ملامح هذا التحول هو تصاعد دور التحالفات الأمنية غير الرسمية المتعددة الأطراف، مثل “الرباعية”(QUAD) التي تضم الولايات المتحدة، واليابان، وأستراليا، والهند. فقد تحوّلت هذه المجموعة من منتدى للحوار إلى منصة للتنسيق العملي في مجالات مثل الأمن البحري، والبنية التحتية، والتكنولوجيا، والاستجابة الإنسانية. كما تم تنظيم مناورات بحرية مشتركة متكررة، مثل مناورات مالابار؛ ما أظهر جدية هذه الدول في تشكيل جبهة موحدة أمام النفوذ الصيني المتزايد.
وفي موازاة ذلك، أطلقت الولايات المتحدة مبادرة “الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية” كإطار اقتصادي-أمني مضاد لمبادرة الحزام والطريق الصينية[11]. وتدخل هذه المبادرة في سياق أوسع من التنافس الجيو-اقتصادي الذي بات يُترجم في سياسات أمنية واضحة؛ تشمل: بناء قواعد، وتحديث ممرات لوجستية، وربط الشراكات الدفاعية بالاستثمارات.
أما منظمة آسيان، فتواجه تحديات كبيرة في بلورة موقف موحد من القضايا الأمنية الكبرى، لاسيما التوتر في بحر الصين الجنوبي. غير أن آسيان نجحت في الحفاظ على دورها كمنصة متعددة الأطراف لتخفيف حدة النزاعات وتعزيز الحوار، خاصة من خلال المنتدى الإقليمي لآسيان (ARF) وقمة شرق آسيا.
في السياق ذاته، ظهرت مبادرات جديدة بقيادة دول متوسطة مثل كوريا الجنوبية، التي تسعى إلى تعزيز دورها في الأمن الإقليمي من خلال مبادرة “الهندو-باسيفيك من منظور كوري”، وكذلك إندونيسيا وماليزيا التي تروّج لفكرة التوازن الاستراتيجي عبر مقاربة “عدم الانحياز الحديث”.
ويُلاحظ كذلك اتساع مفهوم الأمن ليتجاوز التهديدات العسكرية إلى قضايا؛ مثل: الأمن الصحي، والأمن الغذائي، وأمن سلاسل الإمداد. وقد دفعت جائحة كوفيد-19 العديد من الدول لإعادة النظر في بنى التعاون الإقليمي، مع التركيز على تعزيز المرونة الذاتية والشراكات في البحث والتطوير والتكنولوجيا.
كما يلعب الأمن السيبراني دورًا متناميًا في تعزيز التعاون الإقليمي، خصوصًا مع تصاعد الهجمات الرقمية، واستهداف البنى التحتية الحيوية؛ إذ تسعى دول المنطقة إلى تطوير بروتوكولات مشتركة للردع والإنذار المبكر، كما ظهر في الشراكات بين اليابان ودول جنوب شرق آسيا.
في المجمل، تعكس هذه التحولات توجّهًا نحو نمط من التعددية الأمنية الإقليمية التي لا تقتصر على المعاهدات الرسمية، بل تشمل أشكالًا مرنة من التعاون، تستجيب لطبيعة التهديدات المتغيرة. هذا التحول يعزز من قدرة المنطقة على إدارة التنافس بين القوى الكبرى، دون الوقوع بالكامل في فلك أي منها، مع الحفاظ على هوامش الاستقلال والديناميكية.
ومع ذلك، فإن نجاح هذه التعددية يظل مرهونًا بقدرة الدول على تجاوز الانقسامات الجيوسياسية، وبناء الثقة المتبادلة، وتفعيل المؤسسات الإقليمية بما يتناسب مع واقع التهديدات، وتطلعات شعوب المنطقة نحو الأمن والتنمية والاستقرار.
خاتمة
يعكس تقرير الأمن الإقليمي لمنطقة آسيا والمحيط الهادي 2025 عمق التحولات التي تعصف بالنظام الأمني العالمي، حيث لم تعد المنطقة تُدار بمنطق التوازنات التقليدية فحسب، بل أصبحت مختبرًا معقدًا لتفاعل الاستراتيجيات الصناعية، والتحالفات السياسية، والتنافس التكنولوجي، والتهديدات غير التقليدية. ولا شك أن بروز الصين كقوة بحرية وصناعية كبرى، وعودة الولايات المتحدة بثقلها عبر تحالفات جديدة، وتنامي دور القوى المتوسطة، قد خلق واقعًا أمنيًا جديدًا يتسم بالتعددية والتنافس المستدام.
في ظل هذا الواقع، تصبح الحاجة إلى سياسات أكثر استباقية وتكاملًا أمرًا ملحًّا. فالدول التي تنجح في تحقيق توازن بين الاستقلال الاستراتيجي والانخراط البنّاء في النظام الإقليمي ستكون الأقدر على تأمين مصالحها وتعزيز استقرارها. كما أن تطوير القدرات الدفاعية، وخاصة في المجالين السيبراني والبحري، لا يجوز أن يكون على حساب الدبلوماسية المتعددة الأطراف التي تبقى وسيلة فعّالة لتفادي التصعيد.
ويبقى مستقبل الأمن في منطقة آسيا والمحيط الهادي رهينًا بقدرة الفاعلين على إدارة التوترات، وضبط التنافس، وتطوير أطر إقليمية مرنة وشاملة تستجيب لتحديات القرن الحادي والعشرين.
[1] Helen Davidson, “China Accuses Pete Hegseth of Sowing Division in Asia in Speech ‘Filled with Provocations’,” The Guardian, June 1, 2025, https://www.theguardian.com/world/2025/jun/01/china-accuses-pete-hegseth-of-sowing-division-in-asia-in-speech-filled-with-provocations.
[2] “بكين تتهم وزير دفاع أميركا بالاستفزاز بعد كلمته عن تهديد صيني وشيك”، العربية, May 31, 2025, https://www.alarabiya.net/arab-and-world/american-elections-2016/2025/05/31/بكين-تتهم-وزير-دفاع-اميركا-بالاستفزاز-بعد-كلمته-عن-تهديد-صيني-وشيك.
[3] Yaroslav Trofimov, “Macron Warns Europe and Asia Against Being Dragged Into U.S.-China Rivalry,” The Wall Street Journal, May 30, 2025, https://www.wsj.com/world/europe/macron-calls-for-new-cooperation-to-address-u-s-china-rivalry-1ff10c67.
[4] Shangri-La dialogue after Pahalgam attack and Operation Sindoor,” The Times of India, June 2, 2025, https://timesofindia.indiatimes.com/india/this-is-limit-of-tolerance-india-pakistan-trade-barbs-at-shangri-la-dialogue-after-pahalgam-attack-and-operation-sindoor/articleshow/121571664.cms
[5] Daisy Dumas, “Richard Marles Welcomes US Commitment to Indo-Pacific in Face of China’s Military Buildup,” The Guardian, May 31, 2025, https://www.theguardian.com/australia-news/2025/may/31/richard-marles-welcomes-us-commitment-to-indo-pacific-in-face-of-chinas-military-buildup.
[6] Greg Torode and Fanny Potkin, “Europe bristles at US proposals at Asian gathering, India-Pakistan hostility on show,” Reuters, June 1, 2025, https://www.reuters.com/business/aerospace-defense/europe-bristles-us-proposals-asian-gathering-india-pakistan-hostility-show-2025-06-01/
[7] International Institute for Strategic Studies (IISS), Asia-Pacific Regional Security Assessment 2025, June 2, 2025, p. 24.
[8] اليابان تنفق 18% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع عام 2025″، وكالة أنباء الإمارات، 1 يونيو 2025، https://www.wam.ae/ar/article/bj7gyl9.
[9] المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، تقييم الأمن الإقليمي لمنطقة آسيا والمحيط الهادي 2025، الفصل الأول، الصادر على هامش حوار شانغريلا، سنغافورة، 30 مايو – 1 يونيو 2025، https://www.iiss.org/publications/strategic-dossiers/asia-pacific-regional-security-assessment-2025/chapter-1/.
[10] International Maritime Organization. “Maritime Domain Awareness (MDA).” Accessed June 2, 2025. https://www.imo.org/en/OurWork/Security/Pages/Maritime-Domain-Awareness.aspx.
[11] “أمريكا والفلبين واليابان يطلقون الشراكة من أجل البنية التحتية”، بوابة الأهرام، 1 يونيو 2025، https://gate.ahram.org.eg/News/4763675.aspx