Insight Image

قراءة في الاستراتيجية الصينية خلال عَقدين

09 أكتوبر 2023

قراءة في الاستراتيجية الصينية خلال عَقدين

09 أكتوبر 2023

مقدمة:

في المشهد المعقّد للعلاقات الدولية، كان صعود الصين إحدى الظواهر الجيوسياسية المميزة للقرن الحادي والعشرين. وعلى مدى العقدين الماضيين، شهد العالم تحولًا مذهلًا في الأولويات والقدرات والسلوكيات الاستراتيجية. وكان لهذا التحول آثار عميقة ليس فقط على الصين ذاتها، بل وأيضًا على النظام العالمي برمته. ومع تحوّل الصين من كونها لاعبًا إقليميًا إلى قوة عالمية، فقد احتلت الخيارات والإجراءات الاستراتيجية للدولة مركز الصدارة في الساحة الدولية.

تسعى هذه الورقة إلى إجراء دراسة شاملة لتطور الاستراتيجية الصينية منذ مطلع الألفية وحتى يومنا هذا. والهدف هو تقديم تحليل لكيفية تطور النظرة الاستراتيجية للصين، والقوى الدافعة وراء هذه التغييرات، وتأثير ذلك على الديناميات الإقليمية والعالمية. وللقيام بذلك، سوف نتناول الأبعاد المتعددة الأوجه لاستراتيجية الصين، والتي تشمل الجوانب الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، والتكنولوجية.

إن فهم استراتيجية الصين لا يشكل أهمية أكاديمية وحسب، بل هو ضرورة أساسية لصنّاع السياسات أيضًا، والمختصين والخبراء على حد سواء. فالعواقب المترتبة على اختيارات الصين الاستراتيجية البعيدة المدى لا تؤثر فقط على جيرانها في منطقة آسيا والمحيط الهادي، بل تعمل أيضًا على تشكيل معالم السياسة والاقتصاد الدوليين. فمن مبادرة “الحزام والطريق” إلى النزاع في بحر الصين الجنوبي، ومن التقدم في الذكاء الاصطناعي إلى القدرات العسكرية المتنامية للصين، تحمل سلوكيات وسياسات هذه الدولة تداعيات عدة.

وسوف نرصد مسار استراتيجية الصين من أوائل القرن الحادي والعشرين إلى الزمن المعاصر، من خلال تسليط الضوء على الدوافع والآثار المترتبة على استراتيجية الصين المتطورة؛ بهدف الإسهام في فهم أعمق لواحدة من الظواهر الجيوسياسية الأكثر أهمية في عصرنا الحاضر.

أولًا، مراحل تطور الاستراتيجية الصينية

الاستراتيجية الصينية، وخاصة في مجال العلاقات الدولية والجغرافيا السياسية، معقدة. ويمكن فهمها من خلال أطر مختلفة. وأحد الأطر التي يُستشهد بها كثيرًا يقسم الاستراتيجية الصينية إلى ثلاث مراحل رئيسية، غالبًا ما ترتبط بفترات تاريخية وقيادة مختلفة؛ حيث تحولت من خلالها الى دولة قوية وكبرى في العالم، وهي:

المرحلة الأولى 1949-1978: مرحلة التشبث والمواجهة

تتميز الفترة من عام 1949 إلى عام 1978 في الصين بالعديد من السمات الرئيسية والتحولات الاستراتيجية تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني، وخاصة في عهد الرئيس ماو تسي تونغ. فبعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية في عام 1949، كان التركيز على توطيد السلطة وتأسيس جمهورية الصين الشعبية[1]. وشهدت هذه الفترة إصلاحات الأراضي، وتأميم الصناعة، وقمع أعداء الثورة. وكانت الصين منشغلة بالتحديات الداخلية وبناء الدولة الاشتراكية[2]. ولكنها لم تكن بعيدة عن التأثيرات الخارجية. كان تورط الصين في الحرب الكورية (1950-1953) حدثًا مهمًا في هذه الفترة، حيث أظهر استعدادَ الصين لدعم الحركات الشيوعية في الخارج، والتحالف مع الاتحاد السوفيتي وكوريا الشمالية ضد كوريا الجنوبية والولايات المتحدة. وكان هذا بمثابة موقف أكثر حزمًا في الجغرافيا السياسية الإقليمية.

وكانت قفزة ماو الكبرى إلى الأمام ما بين (1958-1962) تتمثل في حملة اقتصادية واجتماعية طموحة تهدف إلى تحويل الصين بسرعة إلى المدينة الفاضلة الشيوعية؛ إلا أنها أسفرت عن كارثة اقتصادية وإنسانية هائلة، وتسببت في وفاة الملايين بسبب المجاعة والانهيار الاقتصادي.

وخلال الستينيات، تدهورت علاقة الصين مع الاتحاد السوفيتي؛ ما أدى إلى الانقسام الصيني السوفيتي. وعلى أثر ذلك تبنت الصين سياسة خارجية أكثر استقلالية، تضمنت اشتباكات حدودية مع الاتحاد السوفيتي. كانت هذه الفترة بمثابة تحول بعيد عن الانحياز إلى الاتحاد السوفيتي والسعي بشكل أكثر حزمًا لتحقيق المصالح الوطنية للصين.

وكانت الثورة الثقافية خلال (1966-1976) فترة مضطربة اتسمت بعمليات التطهير السياسي والاضطرابات والحماسة الأيديولوجية[3]. وعلى الرغم من أنها لم تكن استراتيجية تقليدية في السياسة الخارجية، فإنها تركت آثارًا كبيرة على صورة الصين وعلاقاتها الدولية؛ ما أدى إلى عزل الصين إلى حد ما عن المجتمع العالمي، إلى أن جاءت فترة حكم دنغ شياو بينج، والتي بدأت في أواخر السبعينيات، وكانت بمثابة تحول كبير في استراتيجية الصين، حيث بدأ دنغ الإصلاحات الاقتصادية وسياسة “الباب المفتوح” التي سعت إلى دمج الصين في الاقتصاد العالمي. وكان هذا بمثابة انتقال من فترة العزلة والمواجهة الأيديولوجية إلى فترة المشاركة الاقتصادية والدبلوماسية البراغماتية. 

المرحلة الثانية 1978-2013: مرحلة الانفتاحات والإصلاحات

تميزت الفترة من 1978 إلى 2013 بمرحلة “الانفتاح والإصلاحات”. وتحت قيادة دنغ شياو بينج وخلفائه، شهدت الصين تحولات اقتصادية وسياسية واجتماعية كبيرة. وكان الجانب الأبرز في هذه المرحلة هو الإصلاح والتحديث الاقتصادي، الذي يشار إليه غالبًا باسم “المعجزة الاقتصادية الصينية”؛ حيث أدخلت سياسات دنغ شياو بينغ عناصر من الإصلاحات الموجهة نحو السوق، مثل “نظام المسؤولية المنزلية” في الزراعة، وإنشاء المناطق الاقتصادية الخاصة، والانفتاح على الاستثمار الأجنبي والتجارة. وأدت هذه الإصلاحات إلى النمو الاقتصادي السريع والتحضر.

كما سعت الصين خلال هذه الفترة بنشاط إلى الاستثمار الأجنبي ووسعت تجارتها الدولية بشكل كبير. وأصبحت تعرف باسم “مصنع العالم” بسبب دورها كمركز تصنيع عالمي رئيسي. وتم تشجيع الشركات الأجنبية على إقامة مشاريع مشتركة في الصين، مما أدى إلى نقل التكنولوجيا والتكامل الاقتصادي مع الاقتصاد العالمي.

وعلى مستوى السياسة الخارجية، ركزت الصين خلال هذه المرحلة على “النهضة السلمية” و”التنمية السلمية”، وسعت إلى طمأنة العالم إلى أن صعودها لن يشكل تهديدًا للاستقرار العالمي[4]. وقد اتبعت نهجًا عمليًّا في التعامل مع الدبلوماسية، فتعاملت مع مجموعة واسعة من البلدان والمؤسسات. وأكدت القيادة الصينية التزامها “بنظام عالمي متناغم”.

وخلال هذه الفترة، استعادت الصين سلميًّا السيطرة على هونج كونج من المملكة المتحدة في عام 1997 وماكاو من البرتغال في عام 1999 بموجب مبدأ “دولة واحدة ونظامان”. وسمح هذا النهج لكلا المنطقتين بالحفاظ على درجة عالية من الحكم الذاتي مع كونهما جزءًا من الصين، لكن التوترات المتعلقة بهذه الترتيبات استمرت في الغليان. وبينما استمرت التوترات عبر مضيق تايوان، تجنبت الصين بشكل عام الإجراءات العدوانية، وركزت بدلًا من ذلك على التكامل الاقتصادي مع تايوان.

ولكن هذه الفترة تخللتها تطورات خطيرة؛ وأبرزها بالطبع -وهو ما يعد أحد شواهدها- تلك الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية عام 1989 في ميدان تيانانمن، حيث أدى رد الحكومة الصينية، الذي تضمن استخدام القوة لقمع الاحتجاجات، إلى انتقادات وعقوبات دولية.

المرحلة الثالثة 2013-2050: مرحلة القوة والانطلاق

بدأت هذه المرحلة مع وصول شي جين بينغ إلى السلطة في عام 2012، حيث شهدت البلاد في عهده نقلة نوعية في مختلف المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية أيضًا. ولكن قيادته اتسمت بنهج أكثر حزمًا ومركزية في التعامل مع الحكم، على الصعيدين المحلي والدولي. وتشهد البلاد تحولًا نحو اقتصاد يعتمد بشكل أكبر على الاستهلاك والتركيز على الابتكار التكنولوجي.

وتعد مبادرة الحزام والطريق، التي أُطلِقَت في عام 2013، أبز مميزات هذه الفترة. وهو مشروع طموح للبنية التحتية والتنمية الاقتصادية يهدف إلى تعزيز تواصل الصين مع المناطق الأخرى. ولهذه المبادرة آثار جيوسياسية كبيرة وقد تستمر في تشكيل سياسة الصين الخارجية ونفوذها في مناطق مختلفة[5].

وتعمل الصين على تحديث قدراتها العسكرية بشكل مطرد. ويشمل ذلك التقدم في مجالات مثل القوة البحرية والحرب السيبرانية والقدرات الفضائية. كما تسعى الصين إلى لعب دور أكبر في المؤسسات الدولية والحوكمة العالمية وتعمل جاهدة لتصبح رائدة عالمية في التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، والجيل الخامس، والحوسبة الكمومية.

ومع تزايد وضوح التحديات البيئية، أظهرت الصين خلال هذه الفترة اهتمامًا متزايدًا بالاستدامة والقضايا البيئية. 

ثانيًا، مجالات الاستراتيجية الصينية المختلفة:

الاستراتيجية الصينية سياسيًّا

منذ توليه الحكم في عام 1978 قام الرئيس الصيني دينج شياو بينج بإصلاحات كبيرة بارزة في نظام الحكم والدولة متبعًا مبدأ الإصلاح المتدرج، ومبدأ الاهتمام بالغاية على حساب الوسيلة، فكانت إصلاحات قوية اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا. وقد حققت خلال المرحلة الأخيرة ما كانت الصين تصبو إليه من قضاء على الفقر في البلاد، ونجحت في زيادة نسبة الطبقة المتوسطة وتقلصت نسبة طبقة ما دون خط الفقر بشكل كبير. وستقوم الصين حتى نهاية 2035 باستكمال الإصلاحات الداخلية في نظام الحكم والدولة ومؤسساتها العديدة وتأمين حياة رغيدة للمواطن الصيني.

أما في نهاية عام 2050 فتسعى الصين لتكون دولة متقدمة ومزدهرة وديمقراطية غنية، كما قال الرئيس الصيني “تشي” في المؤتمر الـ 19 للحزب الشيوعي الصيني “ستقف الأمة الصينية شامخة وسط أمم العالم بمعنوياتها العالية”[6].

وتعتبر الصين أن مقياس قوة الدولة ومكانتها ونفوذها هو قوتها الاقتصادية ومرونة الدولة الصينية في إحداث توازن ما بين توزيع مركز ثقلها بين السياسة والاقتصاد، وهذا هو عنوان سياستها الجديدة منذ عام 2020 وما بعد. وتبقى الصين متمسكة بثوابتها في السياسة الصينية والقائمة على المبادئ الخمسة للتعايش السلمي التي أقرها الحزب الشيوعي (الاحترام المتبادل للسيادة، سلامة الأراضي الصينية، عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى وعدم الاعتداء، والمساواة والتعايش السلمي، والمنفعة المتبادلة).

وفيما يلي رؤية عن خطة الصين في الأعوام العشرين المقبلة:

في السياسة الداخلية:

في الشأن الداخلي بدأت الصين بالقيام بإصلاحات جديدة تمثلت في التأكيد على وحدة الصين والتغيير الإيجابي في مؤسسات الدولة والحزب، وأيضًا في سَنّ عدد من القوانين الحديثة، التي صدرت لأول مرة في الصين مثل القانون المدني الجديد. وقد أقرت خطة للعمل تتضمن: استمرار الحزب الشيوعي كقوة رئيسية مسيطرة في الدولة؛ إصدار خطة إصلاحات شاملة وتعديلات لوظائف مؤسسات الحزب والدولة وإنشاء لجان مركزية بشأن ذلك؛ تشكيل لجنة لإصدار قرارات تتعلق بإصلاح مجلس النواب الصيني؛ تشكيل دائرة للعمل الجماعي تشرف على آراء وشكاوى الشعب بشكل دائم وأيضًا تشرف هذه الدائرة على إحداث إدارة جديدة من ناحية التنمية البشرية في مؤسسات الدولة والمؤسسات ذات الملكية المختلطة؛ إعادة هيكلة للوزارات (وزارة العلوم والتكنولوجيا والزراعة والشؤون الريفية..)؛ تقليص نسبة العاملين في مؤسسات الدولة المركزية والحزب بنسبة 5% واستثمار المسترد في المشروعات الكبرى؛ إصدار القانون المدني الجديد 2020 ولأول مرة في الصين. 

في السياسة الخارجية:

خلال عقود مضت كانت السياسة الخارجية الصينية تسير في الظل بعيدة عن الأضواء والضوضاء كأي دولة عظمى في وزنها، ولكن السنوات القليلة الفائتة شهدت تطورات غير مألوفة أظهرت الصين بصورة أكثر حزمًا واستعدادًا مع بداية عام 2020. ولأن السياسة الخارجية امتداد للسياسة الداخلية قامت الصين أيضًا بوضع استراتيجية واضحة في سياستها الخارجية تمثلت في المبادئ التالية:

– القيام بدورها في تحقيق السلام والتنمية العالميين وبناء مستقبل يقوم على العدالة والمساواة والتعايش السلمي والمنفعة المتبادلة.

– توطيد علاقاتها مع العديد من الدول النامية منها والصاعدة في مشاريع بنى تحتية والتنسيق لخطط عمل في الكثير من الصُّعد، مهمشة العلاقات الغربية دون قطعها.

– فيما يتعلق بالمؤسسات الدولية تجد الصين في المؤسسات الحديثة بديلًا للمؤسسات الإقليمية والدولية، وتكون الصين في هذه المؤسسات اللاعب الأساسي، بالإضافة الى روسيا؛ مثل “منظمة شنغهاي للتعاون”، و”بريكس”، ومبادرة “الحزام والطريق”، وأيضًا مبادرة “الأمن العالمي”.

– إصدار عدة قوانين خارجية؛ ومنها، “قانون العلاقات الخارجية (2-2)” الذي تؤكد فيه على أن سيادة القانون الدولي هي الأساس للنظام الدولي وتحمي الصين من خلاله وحدتها وسيادتها الوطنية؛ و”قانون مكافحة التجسس” الذي يؤكد ضرورة العمل لمناهضة أفعال التجسس وأيضًا اتخاذ إجراءات للعقاب على هذه الأفعال، والمحافظة على الأمن القومي وحماية مصالح الشعب الصيني؛ و”قانون الاستثمار الأجنبي” وينص على جذب المستثمرين الأجانب والسماح لهم بالنفاذ بسهولة للأسواق الصينية.

– ترى الصين وجوب استمرارية دورها الإيجابي في منطقة العالم العربي، وذلك في لقاءات دائمة ومشاريع بنى تحتية جديدة لبناء مستقبل مشرق مشترك. وكان ذلك واضحًا في لعب الصين دور الوسيط في العلاقات السعودية-الإيرانية؛ ومواقفها حيال الأزمات في سوريا واليمن وليبيا[7].

وتعمل الصين على إصلاح نهاية النظام العالمي القائم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتؤمن بنظام عالمي جديد تتعدد فيه الأقطاب؛ ولذلك فهي تدفع من خلال علاقتها الثنائية مع القوى الكبرى كروسيا، وانخراطها في المنتديات أو المجموعات الدولية مثل “بريكس” باتجاه نظام دولي متعدد الأطراف؛ وهناك -كما يبدو- دعم كبير لهذا التوجه في كلٍّ من آسيا وإفريقيا. 

استراتيجية الصينية اقتصاديًّا

يمثل الاقتصاد أولوية قصوى بالنسبة للصين، حيث تسعى لأن تكون رائدة الاقتصاد العالمي، وهي تسير بخطى ثابتة نحو تحقيق ما يمكن تسميته أيضًا بالمعجزة الصينية. وهي تتبنى في هذا الإطار خططًا وسياسات متعددة.

فيما يتعلق بالخطط الاقتصادية فهي متنوعة، ولكن لدى الصين ثوابت راسخة في وضع الخطط، حيث يوجد ما يسمى بالدورتين؛ وهو اجتماع لحوالي 3000 مندوب صيني كل شهر مارس من كل عام لوضع الخطط السياسية والاقتصادية الصينية في حدث متكرر كل عام. وفي الدورتين الأخيرتين تم التركيز على أهمية الاستثمار في التكنولوجيا واستقلال الرقائق الإلكترونية الدقيقة. أما فيما يخص اللجنة المركزية للشؤون المالية والمصرفية، فقد رأت أنه في الوقت الحالي وخلال الخطة الخمسية القادمة يجب التركيز على استثمار البنى التحتية لتقوية الاقتصاد، وأيضًا تحديث وإنشاء شبكات مياه ومشاريع نقل ضخمة. 

التركيز على النمو:

عبر العقود المنصرمة كان النمو الاقتصادي الهدف الأول والرئيسي، وظلت الصين من أقوى الاقتصادات العالمية، حيث حافظت على معدلات نمو عالية. وتعد الصين في المرتبة الثانية لأكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة من حيث الناتج المحلي الإجمالي؛ بسبب تقلبه الحاد مَقِيسًا بالدولار والأولى عالميًّا منذ 2016 من حيث القدرة الشرائية، حيث قدرت بـ 18.6% من الاقتصاد العالمي عام 2022. ولدى الصين في إطار رؤيتها الاقتصادية عدد من الأهداف التي تضمن استمرار تطورها الاقتصادي، وأهمها على المستوى الداخلي:

أولًا، تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة ورفع مستوى المعيشة للمواطنين، حيث تسعى الصين إلى تحقيق نمو اقتصادي سنوي بنسبة 5% على الأقل خلال السنوات العشرين المقبلة، مع التركيز على قطاعات التكنولوجيا والتصنيع والتصدير. كما تسعى إلى رفع مستوى المعيشة للمواطنين من خلال زيادة الأجور وتوفير فرص العمل وتحسين الرعاية الصحية والتعليم.

ثانيًا، تعزيز الرخاء الاجتماعي والاستقرار السياسي، حيث تسعى الصين لتحقيق مجتمع أكثر عدلًا ورخاءً، مع ضمان الاستقرار السياسي والنظام الاجتماعي.

ثالثًا، تعزيز الابتكار والتكنولوجيا، حيث تطمح الصين إلى أن تصبح قوة عالمية رائدة في مجال الابتكار والتكنولوجيا، من خلال الاستثمار في التعليم والبحث والتطوير.

رابعًا، حماية البيئة وتحقيق التنمية المستدامة، إذ تسعى الصين لحماية البيئة وتحقيق التنمية المستدامة، من خلال تقليص الانبعاثات الكربونية وتحسين جودة الهواء والمياه.

ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، تعتمد الصين على مجموعة من السياسات والإجراءات؛ منها استمرار الإصلاحات الاقتصادية، وتعزيز التنمية الإقليمية المتوازنة من خلال استثمارات في المناطق الغربية والجنوبية، وتحسين نظام الرعاية الاجتماعية من خلال زيادة الإنفاق على الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، وتعزيز الابتكار والتكنولوجيا من خلال الاستثمار بكثافة في التعليم والبحث والتطوير. وفيما يتعلق بحماية البيئة تتخذ الصين إجراءات ملموسة لحماية البيئة، بما في ذلك خفض الانبعاثات الكربونية وتقليل استهلاك الطاقة. 

تحقيق الريادة العالمية:

وفي السياق نفسه، تسعى الصين أيضًا لتحقيق الريادة الاقتصادية العالمية من خلال استراتيجية تهدف إلى تحقيق النمو المستدام والتنمية المتوازنة والتحول إلى اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار. وترتكز هذه الاستراتيجية على ثلاثة محاور رئيسية:

أولًا، التصنيع الموجَّه بالصادرات: كان هذا المحور هو المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي الصيني في العقود الماضية. وقد بدأت الصين في إصلاح اقتصادها في السبعينيات من القرن الماضي، وذلك من خلال التركيز على التصنيع الموجّه بالصادرات[8]. وقد تمكنت الصين من تحقيق فائض تجاري ضخم في السلع المصنّعة، مما أدى إلى تراكم احتياطيات ضخمة من العملات الأجنبية. وقد نجحت هذه السياسة في جذب الاستثمارات الأجنبية وخلق فرص عمل جديدة؛ ما أدى إلى نمو اقتصادي سريع. وقد أسهم التصنيع الموجَّه بالصادرات في تحول الصين من دولة زراعية إلى دولة صناعية. ومكَّن التصنيع الموجّه بالصادرات الصين من تحقيق فائض تجاري ضخم في السلع المصنعة. وقد بلغ هذا الفائض حوالي 750 مليار دولار أمريكي في عام 2022. كما نما فائض الميزان التجاري الصيني بنسبة 2.8% خلال الشهور السبعة الأولى من عام 2023، مسجلًا 3.39 تريليونات يوان (470.8 مليار دولار)[9]. ويساعد هذا الفائض في تراكم احتياطيات ضخمة من العملات الأجنبية؛ ما أعطى الصين قوة شرائية كبيرة في الأسواق العالمية.

ثانيًا، التوسع في الأسواق المحلية: بدأت الصين في التركيز على تنمية الأسواق المحلية في السنوات الأخيرة، وذلك في إطار سعيها إلى تحقيق نمو أكثر استدامة. وقد ساعدت هذه السياسة في خفض اعتماد الصين على الصادرات وتقليل التقلبات الاقتصادية. وقد تضمنت هذه السياسة خطوات عديدة؛ منها زيادة الأجور حيث قامت الحكومة الصينية بزيادة الأجور في محاولة لتحفيز الطلب المحلي؛ وتوسيع شبكة البنية التحتية كالطرق السريعة والسكك الحديدية والمطارات، مما سهل حركة السلع والخدمات داخل البلاد. كما تبنت الصين سياسة قوية في دعم الشركات المحلية، حيث قامت الحكومة بدعم الشركات المحلية من خلال تقديم الإعانات والقروض. 

التحوُّل إلى اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار: أدركت الصين أن النمو الاقتصادي في المستقبل سيعتمد على المعرفة والابتكار. وقد بدأت الحكومة الصينية الاستثمار في التعليم والبحث والتطوير، في محاولة لتعزيز اقتصادها القائم على المعرفة. وقد تضمنت هذه الاستثمارات، زيادة الإنفاق على التعليم؛ ما أدى إلى ارتفاع معدلات الالتحاق بالتعليم العالي، ودعم البحث والتطوير من خلال التوسع في إنشاء مراكز البحث والتطوير ودعم وتمويل المشاريع البحثية. كما فتحت الأسواق للشركات الأجنبية، مما ساعد في نقل التكنولوجيا إليها[10].

وقد نجحت هذه الاستراتيجية في تحقيق بعض النجاحات، حيث أصبحت الصين واحدة من الدول الرائدة في مجال البحث والتطوير. وقد أسهم هذا النجاح في تطوير العديد من الصناعات الجديدة في الصين؛ مثل صناعة السيارات الكهربائية وصناعة الروبوتات. ومن المتوقع أن تستمر الصين في تحقيق نجاحات كبيرة في السنوات المقبلة، وذلك في إطار سعيها إلى تحقيق الريادة الاقتصادية العالمية. 

العلاقات الصينية العربية

في إطار خططها الاستراتيجية للانفتاح وتعزيز نفوذها عالميًّا، تعمل الصين على تعزيز علاقاتها الاقتصادية خارج حدود آسيا، وخاصة مع العالم العربي. وقد أكدت الصين خلال القمة الصينية العربية التي عُقدت عام 2022 استعدادها للتعاون، وأكدت في تقرير لوزارة الخارجية الصينية “أنها شريك مخلص وصديق استراتيجي”. وتسعى الصين للتعاون مع الدول العربية في تحقيق مبادرتها طريق الحرير الجديد أو ما يسمى “مبادرة الحزام والطريق” والتي تتضمن الاستثمار في 152 دولة ومنظمة عن طريق مشاريع اقتصادية وتطوير البنى التحتية. وللدول العربية، ولا سيما الخليجية منها، دور مهم في تحقيق هذه الرؤية[11].

وتتسم العلاقات الاقتصادية الصينية العربية بتطور واضح في السنوات الأخيرة، حيث شهدت حجم التجارة بين الجانبين نموًا كبيرًا، وزيادة في الاستثمارات الصينية في الدول العربية. وتُعد الصين أكبر شريك تجاري للعالم العربي، حيث بلغ حجم التجارة بينهما عام 2021 ما يقارب 300 مليار دولار وارتفع في عام 2022 إلى نحو 330 مليار دولار، بزيادة قدرها 20% عن العام السابق. وتُصدّر الدول العربية إلى الصين النفط والغاز والمنتجات الزراعية والمعادن، بينما تستورد الدول العربية منها السلع المصنعة والمنتجات التكنولوجية.

أما فيما يتعلق بالاستثمارات الصينية في الدول العربية فقد ارتفعت بشكل كبير في السنوات الأخيرة. وكان الاستثمار الأجنبي المباشر المتجه من الصين إلى الخارج قد نما بمعدل قدره 20 % سنويًا على مدار العقد الماضي، حيث بلغ نصيب العالم العربي منه حوالي 23 مليار دولار. وتستثمر الصين في الدول العربية في قطاعات الطاقة، والبنية التحتية، والتصنيع، والسياحة.[12]

وتتعاون الصين مع الدول العربية في العديد من المجالات الاقتصادية، ومنها الطاقة، حيث تسعى الصين لتنويع مصادر إمداداتها من الطاقة. كما تتعاون في مجال البنية التحتية، حيث تستثمر الصين في مشاريع البنية التحتية في الدول العربية، مثل الطرق، والسكك الحديدية، والمواني، والمطارات. كما يوجد تعاون في مجال التصنيع، حيث تُنشئ الصين مصانع في الدول العربية لتصنيع منتجاتها، وتتعاون مع الدول العربية في مجال التكنولوجيا والبحث والتطوير. أما في مجال السياحة فهناك نمو كبير في هذا القطاع، لا سيما من جانب الصين، حيث يزداد عدد السياح الصينين في الدول العربية. ومن المتوقع أن يستمر تطور العلاقات الاقتصادية الصينية العربية في السنوات المقبلة، حيث تسعى الصين لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية في جميع المجالات. 

ثالثًا: استراتيجية الصين في التنمية المستدامة

التنمية المستدامة هي تلبية حاجة الجيل الحالي مع ضمان ألا يتعارض ذلك مع حاجة الأجيال في المستقبل في كافة فروعها الاجتماعية والاقتصادية وغيرها. وتتمحور رؤية الصين حول الأمن كشرط مهم للتنمية المستدامة، وتؤكد الصين أن التنمية هي الشرط اللازم لحل المشكلات في كافة الصعُد، حيث أكدت الصين منذ عام 1978 على أهمية الأمن والسلام الدوليين لخلق عالم يسوده الاستقرار والعيش الرغيد.

وقد عملت الصين على ترسيخ مبادئ التنمية المستدامة، وأعدت في ذلك رؤية وخطة واضحتَيْ المعالم للتنمية الداخلية والخارجية العالمية. وقد سعت في هذا السياق لتحقيق التنمية المستدامة، وذلك من خلال الاعتماد على ثلاثة محاور رئيسية؛ أهمها النمو الاقتصادي حيث سعت الصين لتحقيق نمو اقتصادي مستدام، يعتمد على المعرفة والابتكار وليس على الاستهلاك المفرط للموارد الطبيعية. وفي السياق نفسه عملت الصين على تحقيق العدالة الاجتماعية، وسعت لتحسين مستوى المعيشة لجميع المواطنين.

ومع الازدياد الهائل في نسب الفقر العالمية، حيث ذكرت التقارير أن هناك 9.2% من سكان العالم يعانون الفقر المدقع في الدول النامية. وكما نعلم أن الفقر يؤدي إلى الفوضى وعدم الاستقرار في ظل الظروف العالمية الحالية من تغيرات دولية وخصوصًا بعد جائحة “كورونا”. وفي هذا السياق أطلقت الصين مؤخرًا “مبادرة الأمن العالمي” و”مبادرة التنمية العالمية” موضحة من خلالهما رؤية الصين الحالية وفي السنوات القادمة[13].

أما فيما يتعلق بحماية البيئة، التي تعد أمرًا محوريًّا في أي تنمية مستدامة، فتبذلُ بكين جهودًا واضحة في مجال حماية البيئة، والحفاظ على الموارد الطبيعية؛ وقد اتخذت العديد من الإجراءات لتحقيق هذه الأهداف، منها: على سبيل المثال، التركيز على التنمية الخضراء، حيث قامت الصين بزيادة الاستثمار في الطاقة المتجددة والنقل العام وحماية البيئة، وذلك في إطار سعيها لتحقيق التنمية الخضراء. وتشارك الصين في الجهود الدولية وفي العديد من المبادرات الخاصة بالتنمية المستدامة. 

في التنمية المستدامة الداخلية:

قدمت الصين تجربة رائعة للعالم بأكمله في تحقيق التنمية داخل الدولة خلال فترة قصيرة وبإنجازات عظيمة؛ انطلاقًا من أسس بسيطة ومتواضعة. وفيما يلي خطة الصين الحالية وللأعوام القليلة المقبلة في عدة مجالات للتنمية المستدامة:

في مجال البيئة، أطلقت الصين عام 2020 مفهوم التنمية الخضراء منخفضة الكربون، وأكدت أنها في المستقبل تسعى نحو التحوُّل إلى استخدام الطاقات النظيفة في الصناعة وغيرها من المجالات[14]. كما أكدت في الخطة الخمسية الـ 14 أنها ستتابع ما بدأته في الخطة الـ 13 (السور الأخضر العظيم) وستبقى تتصدى للتصحر، وذلك عن طريق تحويل آلاف الهكتارات الصحراوية إلى خضراء. وباستخدام أحدث التقنيات ونظام المراقبة على المنشآت الصناعية ستتصدى الصين لتلوث الهواء، وذلك من خلال إجبار المنشآت على شراء مواد خام عالية الجودة.

وفي مجال التنمية البشرية يتزايد هامش الحريات والانفتاح الخارجي. وتسعى الصين لتحقيق نسبة تعليم عالية جدًا قد تصل إلى 90% في السنوات المقبلة. كما تعطي بكين الأولوية للقطاع الصحي في الاهتمامات الصينية، وتتجلى خططها واضحة في الطريقة التي تصدت فيها لجائحة “كورونا” و”سارس”. وتبذل الصين جهودًا كبيرة في مجال القضاء على الفقر، وقد حققت نتائج مشهودة، بينما تسعى لتوفير مستوى حياة جيدة للمواطن الصيني، الذي ارتفع دخله السنوي إلى أكثر من 12550 دولارًا في العام. 

في التنمية المستدامة الخارجية:

وخارجيًا انضمت الصين للجهود الدولية لتحقيق التنمية المستدامة ولها دور مهم في هذا المجال؛ ولها مبادرات منها “مبادرة التنمية العالمية” التي تحمل أهداف تحقيق التنمية العالمية بنهج يعتبر أن الشعوب هي الأساس، وهي نقطة الارتكاز وتحقيق المنفعة العامة والمتبادلة وتحقيق التنمية العلمية والنهوض بالطبيعة. وهي مبادرة تلتقي مع خطة التنمية المستدامة 2030 وتؤدي الى تسريع حدوثها. ومن ناحية أخرى، أعربت أكثر من 100 دولة عن استعدادها للمشاركة في هذه المبادرة[15].

وفي الآونة الأخيرة وامتدادًا للمبادئ التي تقوم عليها السياسة الداخلية الصينية اقترح الرئيس الصيني مبادرة أمنية عالمية، تحوي في مضمونها المبادئ نفسها التي تقوم عليها الدولة الصينية؛ وهي: الأمن المشترك والمستدام، والالتزام بمبادئ الأمم المتحدة، وسلامة ووحدة أراضي جميع البلاد، والحفاظ على الأمن والسلام العالميين، والتخلي عن عقلية الحرب الباردة والأحادية القطبية العالمية. وتتجه الصين إلى إقرار قوانين جديدة فيما يخص الأمن السيبراني والأمن البيولوجي.

رابعًا: استراتيجية الصين في المناخ

يتصف المناخ في الصين بأنه موسمي قاري، حيث تمر البلاد بصيف حارٍ وشتاء بارد، مع تنوع كبير في الطقس بسبب المساحة الجغرافية الكبيرة للبلاد، حيث إنها ثالث أكبر دول العالم حجمًا بعد روسيا وكندا. وهذا التنوع بالمعالم الجغرافية جعلها مقصدًا سياحيًا مهمًّا. وقد أولت الصين اهتمامًا كبيرًا عبر السنين للتغيرات المناخية التي تحدث في الكرة الأرضية؛ بسبب التلوث وتوابعه من تأثيرات على الطقس ومشاكل في المناخ، وهناك خطط للصين عالميًّا للحد من هذه الظواهر.

فقد استعرضت الصين خطة بعنوان “الكتاب الأبيض” لخفض الانبعاثات الكربونية العالمية تهدف إلى خفض مستويات الكربون العالمية بشكل كبير جدًا قبل عام 2030، وقد أكدت هذه الخطة المقدمة للأمم المتحدة أن هدفها تحقيق “الحياد الكربوني” قبل عام 2060؛ أي تخفيض الانبعاثات الكربونية في كل وحدة إنتاج اقتصادية عالمية في أكثر من 65% [16].

وتفيد الرؤية الصينية بأن جميع ما قامت به حديثًا وما سوف تقوم به من إصلاحات تنموية واقتصادية وفي النقل والزراعة والصناعة في البلاد تأخذ -جميعها- في الاعتبار معالجة التغير المناخي الحاصل. وقد تعهدت الصين بزيادة نسبة استخدام الطاقة غير الأحفورية في بلادها بنسبة 25% في السنوات القليلة المقبلة. كما تنوي استخدام الطاقة النظيفة بأنواعها؛ من طاقة شمسية وطاقة رياح كبدائل للوقود الأحفوري، لذلك هناك العديد من المشاريع الخضراء في الانتظار داخليًا وعالميًا. فقد أنهت الصين بناء أكبر محطة طاقة مائية وشمسية في العالم تولد ملياري كيلو واط/ساعة من الكهرباء النظيفة؛ أي ما يعادل 600 ألف طن فحم حجري وتقلل من انبعاثات الكربون بنسبة 1.6 مليون طن حسب مصادر رسمية صينية.

وهناك 50% من الطاقة التي تنتج من الفحم عالميًا توجد في الصين، وقد تعهدت بكين بإغلاق المحطات التي تعمل بالفحم بحلول عام 2030 وهو ما ستكون له آثار إيجابية على صعيد المناخ العالمي.

خامسًا: استراتيجية الصين في الفضاء

 بدأت الصين نشاطها في الفضاء تقريبًا منذ 60 عامًا، وقد تفوقت الصين في هذا المجال، حيث يزداد الطلب على الأقمار الصناعية والصواريخ الفضائية. وهي تسعى لبناء مستقبل كامل في الفضاء. كما تسعى الصين حاليًا لاكتشاف القمر. وهناك قمر صناعي مجهز ليدعم برنامجًا صينيًّا لدراسة القمر، وسوف تطلق الصين مسبار “تشانغ آه-6” لجلب عينات من القمر. أما المسبار “تشانغ آه-7” فستكون وظيفته اكتشاف القطب الجنوبي للقمر، وسيتم إطلاقه عام 2026؛ والمسبار “تشانغ آه-8” سيُطلق للبحث عن المياه والموارد تقريبًا في عام 2028[17].

وتعمل الصين على بناء مجموعة متكاملة من الأقمار الصناعية يطلق عليها اسم ” اسمتشيوتشياو-2″ عام 2024 لإحداث اتصال دائم بين الأرض والقمر؛ وبناء مجموعة أقمار صناعية متطورة جدًا بحلول عام 2040 لدعم الخدمات من الاتصالات والملاحة البحرية والاستشعار عن بعد. أما من ناحية إرسال رواد إلى الفضاء فالصين تحضّر إلى ذلك في عام 2030.

ويتضح من الاستراتيجية الصينية أنها تريد أن يكون القطب الجنوبي للقمر مقرًا لها، حيث يفترض وجود جليد مائي يوحي بإمكانية الاستيطان، وتسعى الصين بشكل دائم الى بناء محطة فضائية مأهولة بشكل كامل. 

سادسًا: الصين والذكاء الاصطناعي

إن اهتمام الصين بالصناعة وبالآلة منذ نشوء الدولة الصينية الحديثة جعل الذكاء الاصطناعي من أولوياتها حديثًا؛ حيث أُدخل الذكاء الاصطناعي في الاستراتيجية الصينية عام 2016 بشكل رسمي. وقد قامت الحكومة الصينية من ذلك الحين بإجراءات من بينها حماية رأس المال واتفاقيات التعاون الدولي والحماية الفكرية وصولًا إلى عملية دمج للذكاء الاصطناعي باقتصاد الصين الفعلي.

أما فيما يتعلق برؤيتها المستقبلية فتسعى الصين لأخذ ريادة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في العالم بحلول عام 2025. وفي عام 2030 تخطط لأن تصبح “مركز الابتكار في قطاع الذكاء الاصطناعي”[18]. وفي نهاية العام نفسه ستكون الصين قد أحدثت قطاعًا كاملًا للذكاء الاصطناعي بكلفة تقارب الـ 150 مليار دولار. ومن المتوقع في عام 2025 أن تصل أرباح برامج التعرف على الصور الصينية القائم على الذكاء الاصطناعي إلى ما يقارب 100 مليار يوان[19].

ويعدُّ نظام “وو داو”، الذي يُستخدم في عملية محاكاة العقل البشري، إنجازًا صينيًّا عظيمًا في مجال الذكاء الاصطناعي، وفي عالم التعليم الآلي. وقد توقعت شركات التكنولوجيا الصينية الخمس الأكبر في البلاد (علي بابا، بايدو، تنسنت، شاومي، وهواوي) أنه في حلول عام 2049 ستكون الصين القوة الأولى في العالم في مجال الذكاء الاصطناعي[20]. 

الخلاصة:

تمكنت الصين على مدى العقدين الماضيين من تحقيق تقدم غير مسبوق، وخاصة في المجال الاقتصادي. ومن موقع العزلة النسبية والتركيز الإقليمي، برزت الصين باعتبارها لاعبًا عالميًا يتمتع بنهج متعدد الأوجه، وقادر على التكيف لتحقيق أهدافها القومية. وكان هذا التحول مدفوعًا بمزيج من النمو الاقتصادي، والتقدم التكنولوجي، والسياسة الخارجية المدروسة بعناية. ومن الناحية الاقتصادية، فإن صعود الصين كقوة اقتصادية مكّنها من اتباع استراتيجية إدارة الحكم الاقتصادي، وذلك باستخدام نفوذها الاقتصادي للتأثير في سلوك الدول الأخرى. ومن خلال مبادرات، مثل مبادرة “الحزام والطريق”، قامت الصين بتوسيع بصمتها الاقتصادية في جميع أنحاء العالم، وأقامت علاقات تجارية واستثمارية جديدة، وزادت نفوذها في المؤسسات المالية الدولية.

ومن الناحية التكنولوجية، قطعت الصين خطوات كبيرة في مجالات؛ مثل الذكاء الاصطناعي، واستكشاف الفضاء. ولا تعمل هذه التطورات على تعزيز قدرات الصين المحلية وحسب، بل تزودها أيضًا بالأدوات اللازمة لإظهار القوة والنفوذ في الخارج؛ حيث يُنظر إليها على نطاق واسع أنها تمثل أكبر تحدٍّ للهيمنة الغربية، ولا سيما في المجال الاقتصادي، حيث يمكن -وفي إطار استراتيجيتها الكبرى عبر مباردة الحزام والطريق- أن تصبح القوة الاقتصادية الأكبر في العالم، وفي فترة زمنية أقل مما كان متوقعًا بكثير. 



[1] تشانغ لي لي الصين اليوم، 2019-09-29: http://www.chinatoday.com.cn/ctarabic/2018/zt/70y/201909/t20190929_800180200.html 

[2] ماهيناز الباز، الاقتصاد الصيني … كيف تحولت الصين إلى العملاق الذي نعرفه اليوم، ألف باء الاقتصاد، :2019-10-06

https://www.abeqtisad.com/reports/china-economic-history/ 

[3] زهير الخويلدي، مفهوم الثورة الثقافية الصينية ، بوابة الهدف الإخبارية، 17 ديسمبر 2022 

https://hadfnews.ps/post/110699/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9 

[5] مشروع “طريق الحرير” الصيني، بي بي سي عربية، 15 مايو 2017: https://www.bbc.com/arabic/business-39922326 

[6] علي الجرباوي، رؤية الصين لدورها العالمي، مركز دراسات الوحدة العربية،  11يوليو 2023:

https://caus.org.lb/%D8%B1%D8%A4%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86-%D9%84%D8%AF%D9%88%D8%B1%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A/

[7] حسن نافعة، سياسة الصين الخارجية بين التغير والاستمرارية، العربي الجديد، 18 مارس 2023:

https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D8%AA%D8%B3%D8%A7%D9%82%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%85%D9%8A%D9%86%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A

[8] RICHARD KOZUL-WRIGHT and DANIEL POON Learning from China’s Industrial Strategy, Project Syndicate, Apr 28, 2017: https://www.project-syndicate.org/commentary/china-industrial-strategy-lessons-by-richard-kozul-wright-and-daniel-poon-2017-04?barrier=accesspaylog

[10] تشانج جون، التحوُّل السريع إلى الاقتصاد الرقمي في الصين، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، 2020: https://mbrf.ae/ar/trusted-news/chinas-rapid-shift-to-a-digital-economy

[11] الشعب الصينية، القمة الصينية العربية، 11 ديسمبر 2022: https://arabic.news.cn/dossiers/ybzt/202212/za.html

[13] منتدى التعاون الصيني العربي، مبادرة التنمية العالمية تضخ حيوية جديدة للعلاقات الصينية العربية، 13 سبتمبر 2022: http://www.chinaarabcf.org/ara/zagx/gjydyl/202209/t20220913_10765643.htm

[15] منتدى التعاون الصيني العربي، مبادرة التنمية العالمية تضخ حيوية جديدة للعلاقات الصينية العربية، 13 سبتمبر 2022: http://www.chinaarabcf.org/ara/zagx/gjydyl/202209/t20220913_10765643.htm

[16] فردوس عبدالباقي، السعي للحياد الكربوني.. ما الذي تخطط له الصين لمواجهة التغيرات المناخية؟ المرصد المصري، نوفمبر 7, 2021:

https://marsad.ecss.com.eg/64525/

[18] الصين تخطط لبناء قطاع للذكاء الاصطناعي بقيمة 150$ مليار، سي أن أن عربية،24  يوليو 2017:

https://arabic.cnn.com/tech/2017/07/24/china-artificial-intelligence-future

[19] صرفت مليارات الدولارات على ذكاء الآلات.. هل تحقق الصين حلمها بالسيطرة على الذكاء الاصطناعي؟ الجزيرة، 25 يناير 2022:

https://www.aljazeera.net/tech/2022/1/25/%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B9%D9%85

[20] ديفيد براون، ما الذي قد يمكّن الصين من التفوق في سباق التسلح العالمي الجديد؟  بي بي سي عربي، 14 مارس 2022:

https://www.bbc.com/arabic/world-60496494

المواضيع ذات الصلة