Insight Image

قراءة في ظاهرة “الإخوان السابقين”

02 يونيو 2021

قراءة في ظاهرة “الإخوان السابقين”

02 يونيو 2021

في إطار الاشتغال البحثي على المشروع الإخواني في المنطقة العربية وفي أوروبا، غالباً ما يتم تسليط الضوء على الظاهر في المشروع، سواء تعلق الأمر بالحركات والأحزاب المنضوية تحته، أو الأسماء الإخوانية المحسوبة عليه، مع غياب أو تغييب الاشتغال على ظاهرة لم تنل حقها في الدراسة، وهي ظاهرة الأعضاء الذين طلقوا المشروع وأخذوا مسافة منه.

وبالكاد رأينا صدور كتاب حديث الإصدار في الساحة الأمريكية، للباحث لورينزو فيدينو، مدير برنامج دراسات التطرف في جامعة جورج واشنطن، والأكاديمي والخبير الأمني الإيطالي المختص في الإسلاموية والعنف السياسي، تحت عنوان “الدائرة المغلقة: الانضمام إلى جماعة الإخوان والانشقاق عنها في الدول الغربية”[1]، والذي صدرت ترجمته إلى العربية عن “تريندز للبحوث والاستشارات”.

ويُعتبر هذا العمل سابقة بحثية تتطرق للموضوع، وسوف نتطرق هنا لبعض التفاصيل الخاصة بمعالم هذه الظاهرة، لأنها نادرة أو غائبة كلياً في الإصدارات البحثية، خاصة أنه غالباً ما يتم التعامل مع هؤلاء على أساس أنهم طلقوا المشروع بشكل نهائي، وبالتالي لم تعد لديهم أي علاقة تنظيمية أو أيديولوجية معه، بينما الأمر أعقد من هذا الوصف الذي يصب جزء منه في مصلحة المشروع الإخواني.

لهذا الغرض بالتحديد، نتوقف عند ظاهرة مسكوت عنها عند الإسلاميين الذين انفصلوا أو أخذوا مسافة من الحركة الإسلامية التي كانوا ينتمون إليها في مرحلة سابقة، ونخص بالذكر هنا، الحركات الإخوانية، بحكم غلبة الهاجس السياسي عند المشروع الإخواني مقارنة مع باقي الحركات الإسلامية، من قبيل التيارات السلفية وجماعات “الدعوة والتبليغ” وحتى الطرق الصوفية غير المعنية بالاستقطاب السياسي والانتخابي.

ونؤسس هذه المقاربة على واقع ميداني يُفيد أن الحديث عن انفصال متديّن إسلامي حركي عن حركة إسلامية ما لا يعني أننا إزاء حالة نمطية تنطبق على جميع المنفصلين وعلى جميع الأعضاء السابقين في الحركة الإخوانية المعنية؛ لأننا إزاء عدة حالات في الساحة لا يمكن إسقاطها على الجميع، وإلا فسوف نتيه في قراءة التباين الحاصل في مواقف هؤلاء، سواء في اتجاه التعامل مع التنظيم السابق أو مع الآخر، أي التعامل مع باقي التنظيمات الإسلاموية والأيديولوجية، أو التعامل مع الدولة والعالم.

ومما يُزكي هذا المعطى، ما عايناه عَملياً على أرض الواقع، من خلال لقاءات ومعاينات وقراءات، ويمكن إجمالاً حصر أهم الاتجاهات الخاصة بحالة الانفصال التنظيمي للفاعل الإخواني عن المشروع في أربعة اتجاهات:

  1. حالة طلاق تنظيمي مصاحب بطلاق أيديولوجي، وهي الحالة الخاصة التي يصح وصف صاحبها بـ “الإخواني السابق”.
  2. حالة طلاق أيديولوجي بدون طلاق تنظيمي، وهذه حالة خاصة نعاينها أيضاً في الساحة.
  3. حالة طلاق تنظيمي بدون أن يكون مصاحباً بطلاق أيديولوجي، وهي الحالة السائدة في المنطقة مع العديد من النماذج.
  4. حالة طلاق أيديولوجي مصاحَب بطلاق تنظيمي، ولكن لا تتجاوز سقف التصريح أو الادعاء، دون أن يكون ذلك قائماً على أرض الواقع، وتنطبق كل متديّن إخواني يمارس التقية.

هذه هي الاتجاهات العامة التي تتطلب أن نأخذها بعين الاعتبار كلما تعلق الأمر بالحديث عن ظاهرة “الإخوان السابقين”، لأننا لسنا أمام نموذج نمطي وقائم عند الجميع، وإنما إزاء عدة نماذج، يصعب الحسم فيها بشكل نهائي، لذلك اقترحنا هذا التصنيف، بما يتطلب التدقيق أكثر، عبر التوقف عند حالات ميدانية، وعرض أهم الأسباب التي نعتقد أنها تخول للباحث الفصل بين تلك النماذج الأربعة.

 

النماذج الأربعة في الانفصال عن المرجعية الإخوانية:

كما سبقت الإشارة هناك أربعة نماذج في الانفصال عن التنظيم الإخواني، وهو ما سنتناوله بالتفصيل فيما يلي:

1-نموذج حالة الطلاق التنظيمي الفعلي المصاحب بطلاق أيديولوجي حقيقي: –

يتعلق هذا النموذج بالمتديّن الإسلامي الحركي الذي انفصل أيديولوجياً وتنظيمياً عن الجماعة، وهو النموذج الوحيد الذي يحق له الزعم بإنه إخواني سابق، ومما يُميز هذه الفئة التي قررت الانفصال النهائي، بعد اقتناعها أن المشروع بلا جدوى ومن ثم لا معنى للانتماء، أن نسبة منها لا تقتصر على محطة  الانفصال والابتعاد النهائي عن المشروع، وإبداء بعض الملاحظات أو الانتقادات في الجلسات الخاصة مع الأصدقاء في بعض التصريحات الإعلامية أو في مواقع التواصل الاجتماعي، بل قد يصل الأمر إلى درجة نشر عدة أعمال متتالية، في إطار الإصرار على خيار القطيعة مع المشروع.

كما أنها غالباً ما تتضمن عدة رؤى ومفاتيح لا نجدها بالضرورة في القراءات النقدية الموجهة ضد المشروع الإخواني، والصادرة عن باحثين من خارج الدائرة الإخوانية، وسببُ هذا التميز النقدي في إصدارات هذه الأسماء مرده عاملان اثنان على الأقل: الأول أنها انفصلت بشكل صارم عن المشروع، ولم تعد مدينة بالبيعة أو الولاء أو الانتماء. والثاني أنها تملك حاسة نقدية كبيرة، في سياق تطهير الذات من تأثير الخطاب الأيديولوجي.

ويمكن التوقف هنا عند مجموعة من الأسماء التي تنطبق عليها هذه المواصفات؛ من قبيل: المصري ثروت الخرباوي، والمغربي فريد الأنصاري، والفرنسي من أصل مغربي محمد لويزي.

أ ــ بالنسبة للمصري ثروت الخرباوي الذي انفصل عن الجماعة في سنة 2002 فله عملان مرجعيان، ولا مفر لأي باحث يشتغل على المشروع الإخواني في مصر والمنطقة من الاطلاع عليهما، وهما كتاب “قلب الإخوان: محاكم تفتيش الجماعة”[2]، وكتاب “سر المعبد: الأسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين”[3]، ولعل الإهداء الذي جاء في كتاب “قلب الإخوان”، يُترجم أفق المراجعات التي انخرط فيها الخرباوي، بشكل جعل أغلى من يُهدى إليه العمل لن يخرج عن الدولة المصرية، وجاءت صيغة الإهداء كالتالي: “هذا الكتاب هو الأغلى عندي؛ ففيه تجربتي الإنسانية والفكرية مع جماعة الإخوان، وقد خرجت من هذه التجربة، وأنا أطول قامة وأعلى هامة، أضافت لي ولم تخصم مني، ولأن الأغلى يجب أن يُهدي للأغلى، لذلك فإنني أهدي هذا الكتاب لمصر”.

ب ــ بالنسبة للمغربي فريد الأنصاري، فقد اشتهر عند متتبعي المشروع الإخواني بكتاب تضمن أول البصمات النقدية وهو كتاب “الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب”[4]، وصدر في سنة 2000، قبل صدور ثلاثيته الشهيرة التي تتضمن النقد الصريح للمشروع، وهي ثلاثية “البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي”[5]، و”الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب”[6]، و”الفطرية.. بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام”[7]،وفي كتابه الثالث هذا، يتجاوز السقف الأيديولوجي للمشروع الإسلامي الحركي، داعياً إلى سقف أرحب وهو الفطرة الإسلامية، ومن هنا عنوان الكتاب الذي يتحدث عن النزعة الفطرية، بسبب التضييق في الفكر والعمل الذي لاحقه، كما لاحظه العديد من الفاعلين السابقين في المشروع الإسلاموي.

ورغم الانتقادات التي صدرت حينها ضد هذه الثلاثية، وخاصة ضد كتابه “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب”، ومنها ما صدر عن الداعية الإخواني أحمد الريسوني الذي كان حينها رئيس حركة “التوحيد والإصلاح” قبل الهجرة إلى الخليج، فقد انتظر الرأي العام المحلي أحداث “الفوضى الخلاقة” ابتداءً من يناير 2011، وصعود إخوان المغرب إلى رئاسة الحكومة والمساهمة في تدبير الشأن العام، المحلي والحكومي، ليتأكد الجميع لاحقاً من صواب ما كان يُحذر منه فريد الأنصاري قبل عقدين تقريباً.

وهذا أحد الفروق بين المتديّن الإخواني الذي يُعلن الانفصال الأيديولوجي والتنظيمي الصريح، وبين من يُعلن ذلك دون تجسيده على أرض الواقع، أو ممارسة الازدواجية، كما سنعاين مع الأمثلة الخاصة بالحالات الثلاث اللاحقة، ومن هنا بعض أسباب النقد الكبير الذي تعرض له الأنصاري، ووصل إلى درجة التجريح الشخصي؛ بسبب مرجعيته حينها، وأيضاً بسبب وجاهة ونوعية ما تنبأ به، ونلخصه فيما اصطلح عليه بـ”التضخم السياسي” لدى الإسلاميين، والموزع على وهم طلب “السلطان” قبل “القرآن”، وطلب “الدولة” قبل “الدين”.

هناك أسماء أخرى في الساحة المغربية، تصب في توجه فريد الأنصاري، ونذكر منها اسم واحد بزغ مع عمل روائي، عبارة عن سيرة ذاتية غنية ومهمة لأغلب الباحثين العرب، من المشتغلين على طبيعة المشروع الإخواني، والحديث هنا عن رواية “كنت إسلامياً”[8] للكاتب والإعلامي عمر العمري.

جـ ــ بالنسبة لمحمد لويزي، فقد نشر هو الآخر سلسلة كتب، على غرار الخرباوي والأنصاري، ومنها كتابه الأول الذي يتطرق فيه إلى تجربته الإخوانية بعد انفصاله عن المشروع، تحت عنوان صريح هو: “لماذا انفصلت عن الإخوان المسلمين؟”[9]، مستعرضاً مساره الحركي قبل اتخاذ قرار الانفصال النهائي عن المشروع، كما أصدر كتاب “نداء من أجل إسلام لا سياسي”[10]وكتاب “تحرير الإسلام من الإسلاموية”[11].

وهناك عدة قواسم مشتركة في خطاب ثروت الخرباوي من مصر وفريد الأنصاري من المغرب ومحمد لويزي من فرنسا وباقي الأسماء التي أخذت مسافة صارمة من المشروع؛ ومن بين أهم هذه القواسم اكتشاف رحابة الإسلام مقارنة مع ضيق الإسلاموية، وهو الاكتشاف الذي تتضح معالمه في بعض تلك الأعمال، سواء جاء ذلك التصريح بهذه الصيغة كما هو الحال مع الخرباوي أو بصيغة “إعادة اكتشاف الإسلام من جديد” كما هو الحال مع محمد لويزي.

فمع الخرباوي، نقرأ: “لا ريب عندي أن شهر رمضان كان بمثابة إعادة صياغة حقيقية لتفكيري، فقد صبّ في روحي شلالاً نورانياً رأيت فيه رحابة الإسلام وضيق التنظيم، ومن خلاله أيقنت أن التنظيم الضيق مهماً تكن قوته لا يمكن أبداً أن يستوعب رحابة الإسلام، وأن الذين يريدون إدخال الإسلام في تنظيم مهما يكن قدره كأنهم يحاولون إدخال جمل في سم الخياط، وهم يقيناً يجهلون الإسلام ويخلطون بينه وبين التنظيم عمداً أو جهلاً”[12]، وهي الخلاصات ذاتها التي توصل إليها عمر العمري في عمله “كنت إسلامياً”، حيث نقرأ: “ربي، ندمت كثيراً أني سميت نفسي إسلامياً وأنت سميتني مسلماً في وحيك المنزل من السماء، فأنت القائل: ﴿بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ ، هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾، الحج: 78″[13].

والملاحظ في الآفاق الفكرية التي يطرقها هؤلاء بعد الانفصال النهائي عن المشروع، أنهم يشرعون في طرح أسئلة لم تكن لهم القدرة على طرحها من قبل في مرحلة الانتماء للتنظيم؛ لأنها أسئلة كانت خارج دائرة التفكير، بسبب الولاء الأيديولوجي، والذي يجعل سقف تفكيره محدود مسبقاً بما يصدر عن أدبيات الجماعة، بل يصل الأمر إلى أن مجرد نشر مقالة، وبالأحرى نشر دراسة أو كتاب، يتطلب الحصول على إذن من قيادة الجماعة، كأنهم أمام خطوط تنظيمية حمراء باسم الدين، لا تخول لهم طرح تلك الأسئلة في العلن، ويقتصر على طرحها في الكواليس والجلسات الخاصة.

2- نموذج حالة الطلاق الأيديولوجي بدون الطلاق التنظيمي

هناك نموذج المتديّن الإخواني الذي انفصل أيديولوجياً عن الجماعة لكنه لم ينفصل تنظيمياً، أو يزعم خلاف ذلك، من أجل عدم إثارة الانتباه، كما عاينا ذلك في الساحة المغربية، مباشرة بعد أحداث “الفوضى الخلاقة” في نسختها المغربية عام 2011، حيث اتضح أن بعض أعضاء حركة “التوحيد والإصلاح”، الذراع الدعوية لحزب “العدالة والتنمية” النسخة المغربية من “الإخوان المسلمين” وكلاهما من مرجعيات إخوانية، ورغم انفصالهم الأيديولوجي المزعوم عن المشروع، عادوا للتنظيم من أجل الترشح للاستحقاقات الانتخابية، من قبيل ما عاينا مع بعض أعضاء “مدرسة أكادير” الإخوانية.

ويُقصد  بـ “مدرسة أكادير” في التجربة الإسلاموية المغربية، حالة مئات من الشباب الإسلامي الحركي في المغرب، من منطقة أكادير (جنوب)، كانوا تلاميذ أو طلبة، شرعوا منذ بداية تسعينيات القرن الماضي في الاطلاع على أدبيات إسلامية وفكرية من خارج الأدبيات الإخوانية، من قبيل أعمال محمد أبو القاسم حاج حمد، وعبد الوهاب المسيري، وطه عبدالرحمن، وأسماء أخرى، فجاء تفاعل قيادات حركة “التوحيد والإصلاح” مع هؤلاء الشباب، بضرورة أخذ مسافة من تلك الأدبيات، ووصل الأمر إلى توجيه اتهامات بالتشيع أو الفصل من الحركة، بقرار صادر عن الداعية أحمد الريسوني الذي كان رئيساً للحركة حينها.

والملاحظ أن أغلب أعضاء هذه المدرسة أخذوا مسافة أيديولوجية وتنظيمية من التنظيم، وهذا ما نعاينه في حالات العديد من الأسماء، لعل أشهرها حالة الباحث مصطفى تاج الدين، الذي انخرط في نقد المشروع الإخواني، ولايزال الأمر كذلك حتى الآن. لكن هناك أعضاء آخرين من المدرسة ذاتها، من الذين أخذوا مسافة أيديولوجية وتنظيمية عن التنظيم، عادوا إليها مرة أخرى. فقد دفع انخراط الحركة الإسلاموية المعنية في العمل السياسي والانتخابي ونتائج أحداث الحراك العربي في نسخته المغربية، هؤلاء الأعضاء للعودة إلى التنظيم، حيث رشحوا أنفسهم على قوائمه في بعض الاستحقاقات الانتخابية، من قبيل حالة إبراهيم بوغضن، أحد أعضاء المدرسة، الذي ترشح للانتخابات البلدية لسنة 2015، وفاز بمقعد رئيس بلدية مدينة تيزنيت (جنوب المغرب)، وبعدها فاز بولاية تشريعية عن المدينة ذاتها تمتد من عام 2016 حتى عام 2021 [14].

وبالنسبة لأسباب هذه العودة فقد كانت مرتبطة بالتراجع عن المراجعات، وبالتالي تجديد الولاء للمرجعية الإسلاموية، أو بسبب حضور هواجس شخصية في العودة للتنظيم من أجل الظفر ببعض المكاسب، بحكم فوز حزب “العدالة والتنمية”، بنواته الإخوانية، حركة “التوحيد والإصلاح” في الاستحقاقات النيابية والبلدية، وهو الفوز الذي يفتح أبواباً من الامتيازات المادية والرمزية لأعضاء الحركة والحزب. وبصفة عامة يبقى أصحاب هذا النموذج الثاني أقلية عند أدعياء الانفصال عن الإسلاموية، في نسختها الإخوانية على الخصوص؛ لأن هذا المشروع مرتبط بهواجس سياسية يتربى عليها العضو أثناء مرحلة التلقين الأيديولوجي، خاصة إذا ما قارناه بالنموذج الثالث، وهو الأكثر حضوراً في الساحة العربية، ونادراً ما تمّ الاشتغال عليه.

3-نموذج حالة الطلاق التنظيمي بدون أن يكون مصاحباً بطلاق أيديولوجي

يتعلق هذه النموذج بالمتديّن الإخواني الحركي الذي انفصل تنظيمياً عن الجماعة، دون تبني الانفصال الأيديولوجي عنها، وهذا هو السائد بشكل كبير عند العديد من جماعة الإخوان “السابقين”، مقارنة مع النموذج الثاني السالف الذكر، وهناك عدة مؤشرات أو وقائع تخوِّل للمتتبع أخذ فكرة عن بعض معالم هذا النموذج؛ منها انخراط أصحاب هذا النموذج في تفاعلات رقمية مع أعضاء التنظيم الإخواني مقارنة مع باقي التنظيمات الدينية الأيديولوجية، كما لو أن جهازهم الأيديولوجي مازال متأثراً أو خاضعاً لآثار النهل الأيديولوجي، رغم الانفصال التنظيمي.

ومن الصعب إحصاء عدد الأمثلة المرتبطة بهذا النموذج؛ لأنه هو السائد أكثر في الساحة، ويكفي الانخراط في رصد التفاعل لدى أتباع المشروع الإخواني مع سلسلة الأعمال الدرامية الخاصة برمضان 2021، التي تناولت  قضايا التطرف والعنف والإرهاب والإخوان، من قبيل الجزء الثاني من مسلسل “الاختيار”، أو مسلسل “القاهرة كابول”، إذ تكشف مقارنة تفاعل العضو الإخواني الذي مازال منتمياً إلى المشروع، والعضو الذي يزعم أنه كان إخوانياً ولم يعد  منتمياً إلى المشروع – وبالتحديد العضو الذي ينتمي إلى هذا النموذج الثالث – تكشف هذه المقارنة تطابقاً في الموقف النقدي، كأن العضو  الذي ينتمي إلى هذا النموذج مازال فاعلاً في التنظيم، رغم إقراره أن الأمر ليس كذلك، ولكنه لا ينتبه إلى هذه الجزئية؛ لأنه ضحية مرحلة التلقين الأيديولوجي.

واقع الأمر أن انفصال المتدين الإخواني عن التنظيم لا يعني بالضرورة أنه انفصل أيضاً عن أيديولوجيته، فهذا أمر مرتبط بمحددين اثنين؛ أولهما مرتبط بالرغبة في الانفصال، حيث قد تكون للمتديّن نية صريحة في الابتعاد عن التنظيم، لكنه يحتاج إلى الانخراط في بذل مجهود فكري لكي يتحرر شيئاً فشيئاً من مرحلة التلقين الأيديولوجي، وقد تمتد هذه المرحلة لسنوات عند البعض أو لعقود عند البعض الآخر. أما المحدد الثاني فيرتبط بوعي هذا المتديّن لتأثير مرحلة التلقين الأيديولوجي التي خضع لها على حالته النفسية والعقلية؛ لأنه غالباً ما تكون مرحلة الانفصال مقدمة لمرور المتديّن بمرحلة مضاعفات نفسية عديدة.

ومن الحالات الفردية التي تعبر عن هذا النموذج، حالة الناشط في العمل الأهلي، رشيد لحلو، وهو فرنسي من أصل مغربي، والذي صدر له كتاب حواري يتحدث فيه عن تجربته الإخوانية، وتجربة الانفصال عن الفرع الفرنسي للمشروع الإخواني، ولكن في معرض الإجابات التي يوردها في الكتاب، نجده يستشهد بالرموز الإخوانية؛ مثل السوداني حسن الترابي والتونسي راشد الغنوشي[15] وأسماء أخرى، كأنه لا توجد أسماء دينية من مؤسسة الأزهر أو القيروان أو القرويين، أو من مؤسسات أخرى، مؤهلة علمياً أكثر من الترابي والغنوشي والأسماء الإخوانية التي يستشهد بها لحلو؛ وسبب ذلك أنه لم يتحرر من السقف الأيديولوجي، بافتراض أنه صادق في أخذ مسافة من المشروع.

ولا يقتصر هذا النموذج على أفراد أو أشخاص فقط، وإنما يمتد كذلك إلى جمعيات ومؤسسات تزعم أنها لا علاقة تنظيمية لها بـ “الإخوان” لكنَّ تتبع أنشطتها يكشف عن تبنيها أيديولوجية الجماعة، وتعج الساحة الفرنسية كثيراً بمثل الحالات، وخاصة تلك التي تعمل في الجمعيات والمنظمات التي تشتغل على ظاهرة الإسلاموفوبيا، سواء كانت هذه الظاهرة تعني معاداة المسلمين أو معاداة الإسلامويين، حيث اتضح أن أهم جمعية إسلامية فرنسية تشتغل على هذا الموضوع هي “التجمع المناهض للإسلاموفوبيا”، وهي محسوبة على المرجعية الإخوانية، وبسبب هذه الازدواجية في الخطاب، وهي ازدواجية توقفت عندها مجموعة من الأقلام البحثية من قبل، بين عامي 2016 و2019 على الخصوص[16]، اضطرت السلطات الفرنسية إلى حلّ الجمعية في نهاية 2020، على هامش التفاعلات التي تلت خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المؤرخ في 2 أكتوبر 2020، حول معضلة “الانفصالية الإسلاموية”.

وقد خلُص الباحث سمير أمغار في كتابه “الإسلام النضالي في أوروبا”، من خلال التوقف عند أداء التيار الإخواني، إلى أننا نجد “في خانة المنشقين عن التنظيم الإخواني في فرنسا حالات أعضاء أو مؤسسات تعلن الولاء للمشروع الإخواني، ولكنها تأخذ مسافة من التنظيمات القائمة؛ بسبب مواقفها السياسية أو بسبب البنية التنظيمية والبيروقراطية التي تميز تلك المؤسسات، وقد أحصى الباحث اتجاهين في هذا السياق: اتجاهاً أعضاؤه يكابدون للبقاء في التنظيم ولكنهم يوجهون الانتقادات إلى البنية التنظيمية؛ واتجاهاً مغايراً لأعضاء من الطينة نفسها لكنهم ينفصلون من أجل تأسيس مؤسسات أخرى موازية، لا يخرج خطابها ومشروعها الأيديولوجي عن المرجعية الإخوانية”[17].

وهناك عدة أمثلة أخرى تصنف في خانة هذا النموذج، وتظهر هذه الأمثلة بوضوح في بعض المراكز البحثية العربية التي أسست خلال السنوات العشر الأخيرة، ومنها المراكز المنخرطة في إطلاق نسخة جديدة من مشروع “أسلمة المعرفة”. وبرغم أن هذه المراكز لا تعلن تبعيتها لـ “الإخوان” فإنها تعتمد على باحثين إخوان منهم مغاربة، مثل “مركز نماء للبحوث والدراسات”، ومركز “نهوض للدراسات والبحوث” و”منتدى العلاقات العربية والدولية”[18]. ويتكرر هذا الأمر أيضاً لدى بعض المجلات التي يكشف النظر إلى هيئة إدارة تحريرها أو محرريها أو كتَّابها عن تبنيها لأيديولوجية “الإخوان” حتى لو لم تصرح بذلك؛ ومن هذه المجلات مجلة “أواصر” حيث لا يخرج الانتماء الأيديولوجي للباحثين المغاربة المشاركين فيها عن المرجعية الإخوانية، سواء كانوا أعضاء فعليين في الجماعة، أو أعضاء سابقين يزعمون انفصالهم عنها [19].

هذه هي حالة العديد من الإسلامويين الذين أعلنوا الانفصال عن التنظيم، ولكنهم مازالوا متأثرين بأيديولوجيته؛ لذلك نجدهم يكادون يرددون خطاب الجماعة، ويحتاج الأمر إلى حقبة زمنية معينة حتى يتحرروا نهائياً من التأثير الأيديولوجي، ومن نتائج هذه المرحلة الانتقالية التي يمر فيها المتديّن الذي لم يحسم أمره بشكل نهائي مع تأثير التربية الأيديولوجية التي تربى عليها في مرحلة الانضمام لجماعة، من قبيل جماعة الإخوان المسلمين، أن الجماعة، توظف مثل هؤلاء المتدينين في صراعها مع الدولة ماداموا يرددون الخطاب نفسه الذي كانوا يرددونه في مرحلة الانضمام إلى التنظيم، وكلما كان عدد هؤلاء كبيراً كانت استفادة الجماعة من دورهم كبيرة، ولن تتوقف الجماعة الإخوانية عن الاستفادة من خدمات هؤلاء إلا في مرحلة انخراطهم العلني في نقد التنظيم، على غرار ما عاينا في النموذج الأول.

4-نموذج حالة الطلاق الأيديولوجي والتنظيمي، لكن دون أن يكون ذلك قائماً على أرض الواقع

يتعلق هذا النموذج بالمتديّن الإخواني الحركي الذي يدعي أنه انفصل أيديولوجياً وتنظيمياً عن المشروع، دون أن يكون ذلك قائماً على أرض الواقع، وهذا أمر متوقع إذا أخذنا في الحسبان دور التربية الإخوانية في مرحلة الشحن الأيديولوجي، حيث يتميز أصحاب هذا النموذج بممارسة التقية؛ أي الانفصام بين القول والفعل. والأمر مع هذا النموذج أن هذا المتدين يدعي أنه انفصل عن التنظيم، وقد يتباهى بذلك أمام الجمهور، ولكنه من الناحية العملية مازال عضواً فيه ومازال متأثراً أيضاً بأيديولوجيته؛ لذلك لا يمكن فصل هذا الاتجاه عن ظاهرة التقية السائدة عند نسبة من أتباع المشروع الإخواني بشكل عام.

ويكمن أحد الأسباب التي تفسر هذه الازدواجية السائدة عند أصحاب هذا النموذج الرابع، في التأثير الكبير للأدبيات الأيديولوجية التي تربى عليها المتديّن الإخواني، سواء تعلق الأمر بأدبيات حسن البنا أو أبو الأعلى المودودي أو سيد قطب، وغيرهم الذي يمجدون الجماعة ويعتبرون أنها الأقرب لجماعة المسلمين. فمن  الصعب على متديّن إخواني تربى على هذا الخطاب، وتشبع به وآمن به أن يتحرر منه بشكل نهائي، هذا على افتراض أنه اقتنع بضرورة القيام بمراجعات، وحينها يمكن أن يمر من مرحلة النموذج الثالث، قبل ولوج مرحلة النموذج الأول، أي الانتقال من مقام الانفصال التنظيمي غير المصاحَب بالانفصال الأيديولوجي، إلى مقام الانفصال التنظيمي والأيديولوجي، أما إذا لم تكن لديه نية القيام بمراجعات، وبقي بالتالي مؤمناً بهذه الأفكار الدينية الشاذة على ثقافة شعوب المنطقة العربية والإسلامية وقيمها وهويتها، وارتأى أن يروج أنه انفصل عن التنظيم، فلا يوجد خيار أمامه سوى تبني التقية التي تجعله يجمع بين الدفاع في السر عن هذا الخطاب وإعلان الولاء له، مقابل الترويج للانفصال عنه في العلن.

خاتمة

على ضوء التصنيف السابق يمكن التوصل إلى الخلاصات التالية:

  • أنه لا توجد صور نمطية موحدة وجامعة عندما يتحدث أحدهم عن “إخواني سابق”؛ لأننا عاينا أربعة نماذج على الأقل، تتقاطع في بعض الممارسات وتختلف في ممارسات أخرى، مع أنها قادمة جميعها من مرجعية إخوانية، أو من مرجعية إسلامية حركية بشكل عام، لأن الظاهرة تهم جميع الإسلاميين.
  • من بين العوامل المؤثرة والمساعدة على الفصل بين النماذج أعلاه، هناك عامل تأثير التربية الأيديولوجية من جهة، وعامل السقف الزمني الذي قضاه “الإخواني السابق” في التنظيم؛ فكلما كانت حقبة الانتماء طويلة كانت مضاعفات مرحلة الانفصال عن التنظيم شاقة، وخاصة المضاعفات النفسية، ويُعتبر هذا العامل من أهم المحددات التي تساعدنا على قراءة التباين في أداء تلك النماذج.
  • يكشف النموذج الثالث، أي الإخواني الذي يزعم أنه “إخواني سابق”، لكنه لم يتحرر بعد من أيديولوجية التنظيم، أننا إزاء خطاب إخواني يشتغل خارج التنظيم، ونادراً ما يتم الانتباه له؛ لأن الحديث باسم صفة “إخواني سابق”، تجعل المتتبع يتوهم أنه لم يعد فاعلاً في التنظيم، بينما مواقفه العملية، وخاصة مواقفه السياسية لا تختلف عن مواقف التنظيم، كأننا إزاء أعضاء احتياطيين يقدمون خدمة للمشروع من خارجه.

 


المراجع

[1].Lorenzo Vidino, The Closed Circle : Joining and Leaving the Muslim Brotherhood in the West (New York, Columbia University Press, 2020)

[2]. ثروت الخرباوي، قلب الإخوان: محاكم تفتيش الجماعة (القاهرة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، ط 1، 2013).

[3]. ثروت الخرباوي، سر المعبد: الأسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين (القاهرة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، ط 1،2014).

[4]. فريد الأنصاري، الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب: دراسة في التدافع الاجتماعي (الدار البيضاء، دار الفرقان، ط 1، 2000).

[5]. فريد الأنصاري، البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي (المنصورة، دار الكلمة، ط 1، 2004).

[6]. فريد الأنصاري، الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب (الإسماعيلية، منشورات رسالة القرآن، ط 1، 2007).

[7]. فريد الأنصاري، الفطرية: بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام (القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، ط 1، 2009).

[8]. عمر العمري، كنت إسلامياً: عندما يتماهى الخيال مع الواقع (الرباط، منشورات “كيان ميديا”، ط1، 2014).

[9]. صدر الكتاب في فرنسا عن دار “ميشالون”، في سنة 2016، متضمناً وثائق حول المشروع، منها بعض أدبيات الجماعة مترجمة إلى الفرنسية. انظر:

Mohamed Louizi, Pourquoi j’ai quitté les Frères musulmans ?éditions : Michalon, Paris, 2016.

[10]. Mohamed Louizi, Plaidoyer pour un islam apolitique : Immersion dans l’histoire des guerres des islams, éditions : Michalon, Paris, 2017.

[11]. Mohamed Louizi, Libérer l’islam de l’islamisme, éditions : Fondation pour l’innovation politique, 2018.

[12]. ثروت الخرباوي، قلب الإخوان: محاكم تفتيش الجماعة، مرجع سابق، ص 251.

[13]. عمر العمري، كنت إسلامياً، مرجع سابق، ص 213.

[14] . انظر موقع مجلس النواب المغربي، على الرابط: https://www.chambredesrepresentants.ma/ar/m/bbouakhaden

[15]. Nathalie Dolle, Rachid Lahlou, un Muslim humanitaire dans la République, éditions : Henry Dougier, 2018, p 50.

[16] . Gilles Kepel, La fracture, éditions : Gallimard, Paris 14 décembre 2016, p 235.  Et , Bernadette Sauvaget, L’affaire TariqRamadan, éditions : Fayard, Paris, 2019, p 134.

[17]. Samir Amghar, L’Islam militant en Europe, éditions : Infolio, Paris, 2013, P. 26.

[18]. نتحدث هنا عن الأسماء البحثية المغربية بالتحديد، لمعرفتنا الشخصية بمرجعيتها الأيديولوجية، وبالعودة إلى قائمة الباحثين المغاربة الذين ينشرون في موقع “نهوض” على سبيل المثال، ورابطه: https://nohoudh-center.com، يتضح أن أغلبهم من أتباع جماعة الإخوان، سواء كانوا لا يزالون أعضاء فيها، أو كانوا أعضاء سابقين.

[19]. رابط المجلة على شبكة الإنترنت: www.awaser.ws

المواضيع ذات الصلة