دولة الإمارات العربية المتحدة التي
تأسست في عام 1971 أصبحت لاعبًا إقليميًّا ودوليًّا مهمًّا في القرن الجديد. وقد
بلغ تأثير الإمارات التي تقع على ضفاف الخليج العربي أصقاع العالم، وبات يحجُّ إلى
عاصمتها ممثّلو الدول الكبيرة والصغيرة لتحقيق مصالح بلدانهم ومعالجة ملفات سياسية
وأمنية معقّدة.
الدكتورة دينا إسفندياري في
كتابها الجديد “النظام الجديد في الخليج: صعود الإمارات العربية
المتحدة” توثق صعود دولة الإمارات على الساحة الدولية. وتعزو إسفندياري
هذا التغيير إلى ثلاثة عوامل رئيسية أسهمت في دفع الإمارات لتكون رائدة في تحقيق
مصالحها الوطنية، وخاصة الأمنية.
العامل الأول يتعلق بأحداث الثورات العربية في
العقد الثاني من القرن الحالي، الذي أدى إلى سقوط بعض الأنظمة العربية وصعود تيار
الإسلام السياسي. أما العامل الثاني فيتعلق بإعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما التحول
شرقًا. في حين يتعلق العامل الثالث بالاتفاق النووي مع إيران، الذي لم يأخذ مصالح
بلدان المنطقة في الحسبان.
وقد نشأت دولة الإمارات في
منطقة تتصارع فيها قوى إقليمية، مثل إيران والسعودية والعراق. وقد أثبت شاه إيران
صدق مخاوف دول المنطقة حين احتل الجزر الثلاث التابعة لدولة الإمارات.
وتؤكد الكاتبة على أنه لا تقتصر
التهديدات على الدولة الناشئة من القوى الإقليمية المتنافسة فحسب، بل أيضًا من
حركات يسارية وقومية لا تعترف بالدولة الوطنية، بل تنادي بزوالها. وكان على
الإمارات أن تواجه كل هذه التهديدات، التي جعلت المراقبين يشكّون في بقاء الدولة.
وأن الاتحاد الوليد يواجه مخاطر قد تُودي به في نهاية المطاف.
ولهذا السبب اتَّبعت الإمارات
سياسة خارجية تتماشى مع حجمها والتوجس من جيرانها الأكبر حجمًا. وكان ملاذ الدولة
الاحتماء بالطوق العربي. ونلاحظ أنه في السبعينيات والثمانينيات كان العالم العربي
مركز السياسة الخارجية الإماراتية. ولكن غزو العراق للكويت في عام 1990 غيَّر المعادلة
الأمنية والسياسية بالنسبة إلى الإمارات التي شرعت بتكوين قوتها الذاتية والاعتماد
على نفسها.
وكان لبروز الشيخ محمد بن زايد
كقائد ذي نظرة استراتيجية في التسعينيات من القرن الماضي أثرٌ كبير في هذا التحول.
فبالإضافة إلى تكوين القوة الذاتية للدولة سعى القائد الشاب إلى عقد تحالفات مع
القوة الإقليمية والقوى العالمية التي لها مصلحة في استقرار وأمن المنطقة؛ وفي
الوقت نفسه احتواء الأخطار القادمة من إيران والإسلام السياسي. الأمر الذي أدى إلى
بروز سياسة خارجية إماراتية أكثر حزمًا.
وتتسأل الكاتبة، استدراكًا، ما
المقصود بسياسة خارجية حازمة؟ تجيب، إن الحزم في السياسة الخارجية يعني القيام
بالعديد من الشراكات الدولية والرغبة العارمة في الاستقلالية والاعتماد على الذات.
كما يعني الانخراط بشكل واعٍ في الساحات الدولية لنيل المصالح الوطنية.
وتقول الكاتبة إن الغرض من هذا
الكتاب هو: أولًا، معرفة لماذا تغيّرت السياسة الخارجية الإماراتية. وثانيًا، سيبحث
الكتاب في طياته هذا التغير. وأخيرًا، سيُجري الكتاب تقييمًا للتغييرات التي بدأت
في عام 2020 من ناحية التقلص بعد التمدد والبرغماتية الجديدة التي اتسمت بها
السياسة الخارجية الإماراتية.
الثورات العربية التي أطلت
برأسها من تونس كانت نقطة تحول بالنسبة إلى المنطقة فهي من ناحية تهديد، ومن ناحية
أخرى فرصة خاصة أن واشنطن تخلّت عن حلفائها حين سقطت الأنظمة العربية الصديقة
للولايات المتحدة. وترى الكاتبة أن الأحداث هذه أدت إلى تغييرات في نمط السياسة
الخارجية بالنسبة إلى دولة الإمارات. فمن ناحية أولى، أن سقوط الأنظمة الحليفة أدى
إلى فراغ في المنطقة. ومن ناحية ثانية، أدّت أحداث الثورات العربية إلى الخوف من
تصاعد دور إيران في المنطقة. ومن ناحية ثالثة، فإن صمت واشنطن نحو هذه التغييرات
كان إشارة إلى تخلّي الولايات المتحدة عن منطقة الشرق الأوسط.
وترى الكاتبة أن التهديد
الإيراني لدول الخليج مرتكز على تخوّف دولة الإمارات من الثورات العربية؛ لأن
الثورات العربية خلقت المساحة اللازمة لتغلل نفوذ إيران في المنطقة. وبرغم إسهابها
في تحليل التأثير الإيراني على إدراك المخاطر في أبوظبي، فإن صعود تيار الإسلام
السياسي على أكتاف الثورات العربية كان الأهم في إدراك المخاطر في الإمارات وبعض
عواصم الخليج العربي. والأدهى والأمَرّ، أن النخبة السياسية اعتقدت أن الرئيس
أوباما كان متواطئًا مع هذه الثورات، بدليل أنه دعا إلى تنحّي الرئيس حسني مبارك
والشروع في انتقال سلس للسلطة، بل والترحيب بوصول الإخوان المسلمين إلى السلطة.
وقد عزّز من المخاوف في دولة
الإمارات، الصفقة التي توصّل إليها المفاوضون الغربيون بزعامة الولايات المتحدة مع
إيران حول برنامجها النووي في عام 2015. وكان التوقع في أبوظبي، أن القضايا
الإقليمية، مثل النشاطات الإيرانية المزعزعة للاستقرار، ستكون ضمن المفاوضات لوضع
حد للتدخلات الإيرانية. ولعل الشعور المتزايد في العواصم الخليجية أن الولايات
المتحدة تريد نفض يدها من المنطقة؛ وأن الولايات المتحدة لم تكلّف نفسها مشاورة
حلفائها الخليجيين في مسيرة الصفقة النووية.
وكنتيجة لذلك، تقول الكاتبة،
انبرت دولة الإمارات لِلَعب دور أكبر لمواجهة التهديدات الجديدة المتمثلة في الدور
الإيراني في المنطقة وضعف الأداء الإقليمي لواشنطن. كما أن الشعور بعدم إمكانية
الاعتماد على الولايات المتحدة، فإن على الإمارات أن تكون مستقلة ومقتدرة لمواجهة
التحديات الجديدة.
ومن أهم القدرات التي تسمح
للدول بتحقيق تأثيرها، هي القوة العسكرية. وقد ركّزت دولة الإمارات على تطوير
قواتها الجوية ودفاعاتها الصاروخية؛ توخّيًا للقوة الصاروخية الإيرانية. وقد عزَّز
هذه الاستعدادات العسكرية الحرب في اليمن والدفاع ضد الهجمات الحوثية على دولة
الإمارات. وعليه، فإن المصادر تشير إلى زيادة مطّردة في مشتريات الأسلحة من
الولايات المتحدة برغم التوتر في العلاقات بين الدولتين.
ولكن تغيّر تاريخ نمّو القدرات
العسكرية لا يعود إلى ما بعد أحداث الثورات العربية كما تزعم الكاتبة، بل يعود إلى
حرب تحرير الكويت وتولّي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، رئيس دولة الإمارات حاليًّا،
قيادة القوات المسلحة. وقد عمد سموه إلى تطوير القدرات العسكرية بعد أن أصبحت
منطقة الخليج معرّضة للتهديد العسكري الخارجي، كما حصل في الكويت. ولم يكتفِ قائد
الجيش بالتطوير في العتاد، بل أيضًا في إعداد الكوادر الوطنية للقيام بالمهام
المنوطة بها. وكان أداء دولة الإمارات في الحرب الأخيرة متميزًا، بحسب شهود أجانب.
وبحسب ما جاء في
الكتاب، فإن الإمارات لم تكتفِ بتنويع مصادر التسليح فحسب، بل سعت، ولا تزال، إلى
الإنتاج المحلي لتحقيق الاكتفاء الذاتي. وقد أسست شركات عدة في مجالات الإنتاج
الحربي وتم دمجها في مجمع صناعي تحت اسم “أيدج”. وقد استغلت الإمارات
شركاء دوليين لتحقيق هذه الأهداف، مثل روسيا التي لم تمانع في تحويل خطوط الإنتاج إلى
الإمارات. وقد عزّز من هذا التوجه الفوائد المرجوَّة من التصنيع كجزء من عملية
تنويع مصادر الدخل بعيدًا عن تصدير النفط الخام.
كانت العلاقات الإماراتية-الأمريكية
على ما يرام، ولكن أحداث سبتمبر الإرهابية خلقت شوائب بين واشنطن وكثير من الدول
العربية. وحين حاولت دبي العالمية للموانئ حيازة موانئ في الولايات المتحدة، كانت
هناك ردة فعل قوية من الكونغرس الأمريكي. وكان بعض أعضاء المجلس يصرحون بأنه لا
يمكن تسليم موانئنا إلى دول تدعم الإرهاب. وكان على الإمارات أن تسعى إلى تعزيز
حضورها السياسي والدبلوماسي في الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وبالفعل بدأت أبوظبي
بالعمل على تعزيز قوتها السياسية والدبلوماسية. وتولّى الشيخ عبدالله بن زايد
حقيبة الخارجية في عام 2006 لإدارة هذا الملف الشائك وتحسين موقع الدولة السياسي
والدبلوماسي. كما تولى يوسف العتيبة منصب سفير دولة الإمارات في واشنطن، وهي
العاصمة الأهم في السياسة الخارجية للدولة.
وبلا شك، فإن موقع الإمارات
السياسي والدبلوماسي تعزّز كثيرًا بفعل التحول في هذا المضمار. وأصبحت الدولة
نموذجًا يُحتذى به على الساحة الدولية. وقفزت القوة الناعمة للدولة إلى آفاق عالية
وواسعة. ولم تترك عنصرًا من عناصر القوة الشاملة للدولة إلا وسعت دولة الإمارات
لتعزيزه، سواء كان في الاقتصاد أو الثقافة.
وإذا كانت الإمارات تمتلك وسائل
القوة ولديها الإرادة السياسية لتحقيق مآربها، يأتي السؤال: هل نجحت في تحقيق
طموحها؟ بالنسبة إلى الكاتبة ترى أن الإمارات فعلًا حققت مكاسب عديدة، كما يظهر من
توسُّع نفوذها الإقليمي والدولي. وأيضًا من خلال توسُّع شراكاتها العديدة حتى مع
أعداء الأمس، مثل تركيا، بل إن ثقة الإمارات بسياستها الخارجية تَأكَّدت من خلال
التطبيع مع إسرائيل. وكما قال أحد المسؤولين من الإمارات: “إننا نسعى إلى
تصفير المشاكل في سياستنا الخارجية”.
وفي مجال الاقتصاد والتجارة، أصبحت الإمارات
موجودة بشكل قوي في عدة مجالات حيوية دون ردة فعل سلبية من قِبَل الدول المضيفة
لهذه الاستثمارات. فبعكس ما حصل في حالة دبي العالمية للموانئ، فإن شركة دبي
لصناعات الطيران المملوكة لحكومة دبي، استحوذت على شركة خدمات مطارات في
الولايات المتحدة، ولم يكن هناك أيّ احتجاج من قبل الكونغرس أو أيّ جهة أخرى. والشركة
نفسها اشترت شركة إيرلندية في دبلن تقوم بتأجير الطائرات، ما يدلل على سهولة
الحصول على امتيازات استثمارية من قبل الإمارات في دول العالم؛ بسبب تنامي النفوذ
السياسي والاقتصادي والتجاري للدولة. ولا يقتصر هذا النفوذ الزائد في التوسع على
الدول الغربية، ولكن امتد إلى عدة مناطق في العالم، مثل شمال إفريقيا، على سبيل
المثال.
ولا شك أن الصناديق السيادية التي تمتلكها
دولة الإمارات، والاستثمارات الخاصة لمواطني الدولة أسهمتا بشكل كبير في هذا
التوسع. وقد تحولت الإمارات إلى مركز عالمي للتجارة والاقتصاد، ما حدا بإحدى الصحف
المحلية أن تعلن أن الإمارات لم تعد دولة خليجية ذات دور عالمي، بل دولة عالمية
مركزها في الخليج.
وسِجِلُّ الإمارات العسكري، كما تقول
الكاتبة، حافل بالكثير من الإنجازات. ففي اليمن استطاعت القوات العسكرية للإمارات أن
تمنع تمدد القوات الحوثية إلى الجنوب، بل واستطاعت مع حلفائها المحليين أن تُجبر
الحوثيين على التقهقر في مناطق شبوة ومأرب. واستطاعت القوات الإماراتية بالتعاون
مع حلفائها المحليين تطهير مناطق عديدة، مثل حضرموت، من تنظيم القاعدة.
وكان اهتمام الإمارات منصبًّا على منع أيّ تهديد من قبل الإسلاميين للحكومة المصرية، التي أطاحت نظام الرئيس المصري محمد مرسي. ولا شك أن كافة الأهداف العسكرية والسياسية لم تتحقق، ولكن هناك الكثير من النجاحات التي توضّح مدى تطوّر القدرات العسكرية لدولة الإمارات في مجالها الإقليمي. ولعل هذه الإنجازات العسكرية، والكلام للكاتبة، جعلت من الإمارات شريكًا موثوقًا به على المستوى الدولي
وتسأل الكاتبة سؤالًا مهمًّا عن مغزى صعود الإمارات في
منطقة الخليج، وما معنى أن تنحو الإمارات منحى مستقلًّا عن التنافس التقليدي بين
قطبَيْ الخليج، السعودية وإيران. وترى الكاتبة أن
صعود الإمارات كقوة إقليمية عزّز من دورها السياسي الذي كان بارزًا في عزل قطر في المنطقة؛ بسبب الدور الذي لعبته الأخيرة في
أحداث الثورات العربية ودعم الإخوان المسلمين في المنطقة.
ويختتم الكتاب بفكرة أن الخليج لم يعد ثنائي القطب يتحكم
فيه التنافس السعودي-الإيراني بوصفهما القوتين الرئيسيتين في المنطقة. وأن
الإمارات استطاعت أن تبرز دورها الحازم في السياسة الإقليمية.
وترى الكاتبة أن هذا التطور الجديد يرجع إلى ثلاثة عوامل
أساسية: أحداث الثورات العربية التي بلغت حدود دول الخليج العربي. وتحوّل الولايات
المتحدة شرقًا كما أعلن الرئيس الأمريكي أوباما. وأخيرًا، توقيع الاتفاق النووي مع
إيران الذي سيخفّف من الضغط المستمر واحتواء المخاطر الإيرانية. وأصبح لزامًا على
أبوظبي ملء الفراغ في المنطقة. والمهم في هذه المسألة، تطوّر القدرات لدى
الدولة، التي سمحت لها بتحقيق موقفها الحازم تجاه أمن المنطقة.
كما ترى الكاتبة أيضًا أن المشكلة كامنة بالتوسع في الدور
الحازم الذي تلعبه الدولة وما له من تبعات. ولكن يبدو أن المنفعة في الانخراط في
أمن المنطقة أقل من التكلفة. ومع ذلك، فإن مرونة الإمارات في سياستها الخارجية
والأمنية جعلتها تتكيف مع واقع جديد وعمدت إلى اتباع تصفير المشاكل والاعتماد على
قوتها الناعمة وقدراتها الاقتصادية والتكنولوجية والطاقة، بدلًا من القوة العسكرية
الصلبة. وأخيرًا، ترى الكاتبة أن دولة الإمارات سوف تستمر في نهجها الحازم تجاه
أمن المنطقة برغم التكاليف السياسية والعسكرية المحتمَلة.