الكاتب، مارتن أنديك، مهاجر أسترالي من أصول يهودية عَمِلَ في الولايات
المتحدة مع اللوبي المساند لإسرائيل إيباك في واشنطن. وقد أصبح مُوَاطِنًا أمريكيًّا
أسبوعًا قَبْلَ توليه منصب مدير أول لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا في مجلس الأمن
القومي خلال إدارة الرئيس بيل كلينتون (من 1993 إلى 1995). وبعدها اشتغل سفيرًا
الولايات المتحدة لإسرائيل (من 1995 إلى 1997)، ثم (من 2000 إلى 2001). كما عمل مساعدًا لوزير الخارجية لشؤون الشرق
الأدنى في وزارة الخارجية الأمريكية (1997–2000). كما عمل مبعوثًا خاصًّا للرئيس
باراك أوباما للمفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية (من يوليو 2013 إلى يونيو 2014).
وقد تَقَلَّدَ أنديك أيضًا مناصب رفيعة في مراكز البحث الأمريكية؛ حيث شَغَلَ منصب نائب رئيس معهد بروكينز في واشنطن، كما كان المدير التنفيذي المؤسس لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى لمدة ثماني سنوات. وهو أيضًا عضو في مجالس إدارة معهد لوي للسياسة الدولية في أستراليا، ومعهد دراسات الأمن القومي في إسرائيل، ومنتدى السياسة الإسرائيلية، ويرأس مبادرة الاستثمار في الشرق الأوسط التابعة لمعهد أسبن. كما يعمل إنديك عضوًا في المجلس الاستشاري للمعهد الإسرائيلي للديمقراطية. وهو حاليًّا زميل متميز في دبلوماسية الولايات المتحدة والشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك؛ حيث كَتَبَ هذا الكتاب.
وكان الكاتب مشغُولًا بالعملية السلمية بين الإسرائيليين والفلسطينيين مع
مبعوث السلام الشهير، دينس روس، ومساعده، أرون ميلر، طوال حياته العملية.
والكتاب الذي نحن بِصَدَدِ مراجعته هو عن شخصية أثَّرَتْ وَكَتَبَتْ كثيرًا
عن أحداث الشرق الأوسط التي لايزال أثَرُهَا معنا إلى اليوم، وهي شخصية هنري
كيسنجر، المهاجر اليهودي الذي فَرَّ من المحرقة النازية وتَرَبَّعَ على رأس مؤسسة
الأمن القومي والدبلوماسية الأمريكية.
سَطَّرَ كثيرًا من تاريخ الشرق الأوسط في السبعينيات من القرن المنصرم، ويراه الكثيرون بأنَّه
أسطورة الدبلوماسية الأمريكية، الذي كان شاهدًا على، ومشاركًا في أحداثٍ جسام، مثل:
التَّطبيع الأمريكي مع الصين، ونهاية حرب فيتنام، وانقلاب تشيلي، والحرب العربية-الإسرائيلية
في أكتوبر 1973.
وسَيطَرَت حرب أكتوبر وما تلاها على معظم دبلوماسية كيسنجر في الشرق الأوسط،
وهي باكورة نشاطه الدبلوماسي بعد أنْ تَسَلَّمَ المنصب من عَدُوِّهِ اللَّدُود،
وليام روجرز، الذي استَقَالَ من هذا المنصب بسبب المُعَوِّقَات التي كان يضعها له
كيسنجر في دواليب الخارجية الأمريكية كمستشار للرئيس ريتشارد نيكسون.
ففي صبيحة 6 أكتوبر حين اندَلَعَتْ شرارة الحرب بين إسرائيل ومصر وسوريا،
أيقظه أحد مساعديه لِيُبْلِغَهُ عن أنباء ما يدور في المنطقة؛ حيث كانت الأزمة
الأولى في الشرق الأوسط التي يواجهها كيسنجر بصفته وزيرًا للخارجية. وبالنسبة إلى كيسنجر،
ليس الصراع العربي-الإسرائيلي مسألة استراتيجية فحسب، ولكنها شخصية أيضًا. فقد أسَرَّ
كيسنجر لكاتب سيرته، كما جاء في الكتاب، “أنك لا يمكن أن تكون جُزْءًا من
مجتمع عانى مثل الشعب اليهودي لآلاف السنين دون أن يكون لديك شعور قوي بالانتماء
[للعقيدة اليهودية]”.
وعلى ضَوْءِ حساباته الاستراتيجية ورغباته، وضَعَ كيسنجر أربعة أهداف -يصفها
الكاتب بأنَّها متناقضة نوعًا ما- لمواجهة الحرب المشتعلة في الشرق الأوسط: أولًا،
ضمانُ فوز إسرائيل على مصر وسوريا المدعومتين من الاتحاد السوفيتي. ثانيًا، مَنْع
وقوع هزيمة مُذِلَّة لمصر لإقناع رئيسها بالتَّوَجُّهِ للسلام مع إسرائيل دون
إراقة ماء وجهه. ثالثًا، إقناع الدول
العربية بأنَّ واشنطن هي الوحيدَةُ القادرة على تحقيق أهدافهم على طاولة
المفاوضات. ورابعًا، الحفاظ على الوفاق مع السوفييت، برغم سَعْي كيسنجر لتقليص
نفوذهم في الشرق الأوسط.
ولمدة أربع سنوات بعد الحرب، سَعَى كيسنجر فيما عُرِفَ بالدبلوماسية
المكوكية، التي نَتَجَ عنها اتفاقات فَكِّ الاشتباك بين سوريا وإسرائيل ومصر
وإسرائيل. ويَصِفُ الكاتب هذه الاتفاقيات بأنَّهَا تَعْكِسُ براعة كيسنجر كلاعب في
ميدان الشرق الأوسط. وأنَّ هذه الجهود الدبلوماسية مَهَّدَتْ لاتفاقات السلام
اللاحقة بين مصر وإسرائيل، وبين الأردن وإسرائيل. كما أنَّهَا أرسَتْ قواعد اتفاقيات
أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
ويُعَلِّقُ الكاتب بأنَّ كيسنجر استطاع بحنكته وقدراته المتميزة أنْ
يُنجِزَ الكثير وهو على رأس الدبلوماسية الأمريكية. وقد أثبَتَ ذات مَرَّة
فَهْمَهُ العميق لتركيبة ميزان القوى في الشرق الأوسط وتوظيف ذلك الفهم لصالح
الأهداف الدبلوماسية. لقد استطاع كيسنجر مُستَخدِمًا المكيافيلية السياسية،
والقدرات الأمريكية الفائقة، من أجل تحريك اللاعبين الرَّئيسيين لغايات السلام
المنشود. “ولكن في بعض الأحيان، في سَعيِهِ للنظام والاستقرار، حُجِبَتْ عنه
المؤشرات المنذرة للحرب وفرص السلام”. ويُضِيفُ الكاتب “إذا كانت
الدبلوماسية هي فن تحريك القادة السياسيين إلى مواقع يترددون في الذهاب إليها،
فإنَّ كيسنجر كان سَيِّدَ اللُّعْبَة”. ولكن البعض قد يَرَى أنَّ كيسنجر كان
قصير النظر، ففي سبيل تسجيل نقاط لصالح واشنطن وإسرائيل على المدى القصير، أضاع
رجل الدبلوماسية الفرصة لإيجاد حَلٍّ دائم للقضية الفلسطينية، لُبُّ الصراع العربي-الإسرائيلي.
واليوم تَنعَدِمُ آفاق الحَلِّ بسبب هذه السياسات التي وضَعَ أسسها كيسنجر.
وفي سياق فشل محاولات واشنطن في الوصول إلى حَلٍّ سلمي بين الإسرائيليين
والفلسطينيين، يَستَرجِعُ مارتن إنديك الأسباب، وكيف أنَّ سَيِّدَ اللُّعْبَة
كيسنجر نَجَحَ في خَلْقِ الظروف لإحلال السلام بين بعض الدول العربية وإسرائيل.
ويقول إنديك حين اندَلَعَتْ حرب أكتوبر (حرب عيد الغفران، بحسب التسمية الإسرائيلية)
إنه كان مستلقيًا في إحدى الكيبوتزات قُرْب غَزَّة كمتطوع من أستراليا.
وفي مَخدَعِهِ في الكيبوتز، كان إنديك يسمع أزيز طائرات النقل الأمريكية
تنقل العتاد إلى قاعدة قريبة، ضِمن جسرٍ جويٍّ أقامته الولايات المتحدة لدعم
الحليف الإسرائيلي. وقد راقب الكاتب عَبْرَ الإعلام كيف استطاع كيسنجر ببراعته
المعهودة تخفيف تداعيات الحرب والدفع بالأطراف نحو السلام. ويقول الكاتب إنه
مُنذئذٍ نَذَرَ نفسه لقضية السلام في الشرق الأوسط التي ساهم بها في محطات عديدة.
وبرغم الإعجاب الشديد للكاتب بكيسنجر، إلا أنَّهُ يُقِرُّ بالأخطاء التي ارتَكَبَهَا
هذا الأخير وكَلَّفَت حياة الكثيرين، إضافة إلى فداحة التَّدَاعيات الاستراتيجية.
ويقول إنديك، إن الوثائق تُوَضِّحُ بأنَّهُ كان بإمكان كيسنجر تفادي حرب أكتوبر لو
أنَّه أصْغَى جيدًا للرئيس أنور السادات؛ كما كان بإمكان كيسنجر أنْ يَجِدَ حلَّا
للمشكلة الفلسطينية لو استَمَعَ إلى الملك حسين ابن طلال.
ويَرَى الكاتب أنَّ كيسنجر فَضَّلَ النظام على السلام! وأنَّهُ كدارس للوضع
الأوروبي في القرن التاسع عشر وكلاجئ من النازية في موطنه ألمانيا، أصبح سَيِّدُ
اللُّعْبَة يخشى الطموحات الكبيرة، مثل تحقيق السلام، التي قد تُقَوِّضُ الاستقرار
في المنطقة. وقد تَأثَّرَ كيسنجر كثيرًا بالتاريخ الأوروبي الذي صاغَ نظامَه
شخصياتٌ، مثل كليمونس فون مترنيخ، الذي أسَّسَ لنظام أوروبي بعد الحروب
النابليونية لقرن من الزمن إلى أنْ تَحَطَّمَ في الحرب العالمية الأولى عام 1914.
وكان كيسنجر في فترة قصيرة -أربع سنوات وحسب- قد استطاع أن يؤسس لمثل ذلك النظام
في الشرق الأوسط، الذي استمر-بحسب الكاتب- لثلاثة عقود.، لكن خلفاء كيسنجر في
دَفَّةِ الدبلوماسية الأمريكية أرادوا غير ذلك، وفي سعيهم لمشاريع طموحة حَطَّمُوا
النظام الذي أرساه كيسنجر بكثير من الحصافة.
لكن كيسنجر كان مُثْقَلًا بهويته اليهودية، وبسبب تبنّي الرئيس نيكسون لنظرة
ارتياب من اليهود كمجموعة متآمرة (خاصة الليبراليين منهم)، عَمَدَ إلى إبعاده عن
ملف الشرق الأوسط، وأوكَلَ الأمر كله للخارجية الأمريكية ووزير الخارجية روجرز، الذي
كان يَمْقُتُه كيسنجر. وكان كيسنجر يسعى إلى استعادة الملف لِدَوَاعٍ شخصية
واستراتيجية. وتفانى الرجل ليُثبِتَ أنَّ بإمكانه أنْ يكونَ ذا هوية يهودية ويسعى في
الوقت نفسه إلى تحويل الصراع في الشرق الأوسط لصالح الولايات المتحدة. وكانت رؤيته
هي التحالف مع الدول التي تسعى إلى إرساء نظام مستقر في المنطقة، مثل: إسرائيل
وإيران الشاه، ومصر لاحقًا، وبالتالي يُحَقِّق مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل في
آنٍ واحد. وكان يَرَى أنَّ توحيد المصالح الاستراتيجية بين واشنطن وتل أبيب هو
أقوى من أي علاقة مبنية على الثقافة أو الإرث اليهودي-المسيحي.
وقد أوجَدَ كيسنجر العلاقة التي تَربط مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية
ومصالح إسرائيل العليا. ويكتب أنديك بإعجاب عن سعي كيسنجر الحثيث، كمستشار للأمن
القومي، لتقليص دور الخارجية الأمريكية عبر خَلْقِ قناة مباشرة بين البيت الأبيض
وإسرائيل، خاصة حين شَغَلَ إسحاق رابين منصب سفير إسرائيل في واشنطن. وكذلك سعي
كيسنجر لمنع نجاح مشروع روجرز للسلام (نسبة لوزير الخارجية وليام روجرز) في الشرق
الأوسط، لأنَّه رأى فيه خسارة لإسرائيل وتقوية للاتحاد السوفييتي في المنطقة. وفات
إنديك، الذي خاض غمار مفاوضات السلام الفلسطيني-الإسرائيلي، أنَّ سياسات كيسنجر في
أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات خَلَقَت التوسع في المستوطنات، وهو ما جعل
إحلال السلام عَمَلًا مُستحيلًا.
وكان ولوج كيسنجر في شؤون الشرق الأوسط عبر بوابة الأزمة الأردنية عام 1970
التي أفضت إلى إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن. حينها كان كيسنجر في
تنافس مع وزارة الخارجية، ووزيرها روجرز. ولكن في حرب أكتوبر 1973، كان كيسنجر
يتمتع بقدر أكبر من هامش الحرية؛ حيث حَلَّ محل وزير الخارجية مع احتفاظه بمنصبه
كمستشار للأمن القومي؛ إضافة إلى انشغال الرئيس نيكسون حينها في فضيحة “وترغيت”،
ما أتاح لكيسنجر أن يصوغ سياسة واشنطن تجاه الحرب وحيدًا في الساحة. وكأن كل ذلك
لم يكن كافيًا لنفخ غرور كيسنجر، فقد قَرَّرَتْ لجنة نوبل للسلام مَنْحَ الأخير
الجائزة لجهوده في إنهاء الحرب في فيتنام.
ويَسْرُدُ الكاتب بانبهار براعة كيسنجر في إدارة الصراع والوصول إلى وقف لإطلاق
النار بين مصر وسوريا من جهة وإسرائيل من جهة أخرى. وقد استَغَلَّ كيسنجر هَوَسَ
رئيسِه بالاتحاد السوفييتي لتمرير سياسات لصالح إسرائيل. وأوضح إنديك كيف أن الجسر
الجوي، الذي أقامته واشنطن لتمويل إسرائيل بالعتاد وتعويض ما خسرته في الحرب، حال
دون تحقيق نصر أكبر للعرب في حرب أكتوبر. والغريب أن يقع الكاتب في تناقض الادعاء
الإسرائيلي الذي يقول إنَّ أمريكا مَنَعَتْ إسرائيل من القيام بضربة استباقية ضد
مصر، وفي الوقت نفسه يقول إنَّ كيسنجر وإسرائيل كانا لا يباليان بأي حرب محتمَلة
من قِبَل العرب المنكسرين في حرب يونيو 1967، بل إنَّهم كانوا يسخرون من التهديدات
التي أطلقها الرئيس أنور السادات قبل شنّ الحرب، وينظرون إلى الرئيس المصري على
أنَّه مهرِّج، ليس إلا!
ويعترف الكاتب أن كيسنجر كان مهتمًّا بمصلحة إسرائيل، وأنَّه كان مشتبكًا
عاطفيًّا مع مصالحها الاستراتيجية. وقد طَوَّعَ كل براعته الدبلوماسية لتحسين موقف
إسرائيل في الحرب حين سوّف للسماح لإسرائيل بالتقدم وحصار الجيش المصري الثالث بعد
أنْ اتَّفَقَ على وقف النار مع الأطراف، بل إنَّه أَومأَ -بل صرّح- للإسرائيليين
بمواصلة المعارك إلى أنْ يَدخُلَ وقف إطلاق النار حَيِّزَ التنفيذ في اليوم التالي.
يقول الكاتب إنَّ كيسنجر كان يُقَدِّم فَكَّ الاشتباك بين المصريين
والإسرائيليين من ناحية، والإسرائيليين والسوريين من ناحية أخرى، دون أيّ تَقَدُّم
على الجبهة الأردنية. وحين عَرَضَ الملك حسين استعداده لِلتَّوَصُّل إلى حلّ حول
الضفة الغربية، لم يتجاوب الإسرائيليون مع مطالب الملك ولم يحاول كيسنجر الضغط على
الإسرائيليين لإيجاد اختراق على الجبهة الأردنية. وقد فَاتَت الفرصة على الطرفين
حين أعلنَ مؤتمر الرباط أنَّ منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الوحيد والشرعي
للشعب الفلسطيني. وبالتالي أُسقِط بيد الملك ولم يعد يسعى إلى استرداد الأراضي
المحتلة.
ويُعَلِّلُ أنديك عدم حماس كيسنجر للحل الأردني بأنَّهُ كان يَرَى أنَّ
تحييد مصر وسوريا من معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي أهم من أي قضية أخرى.
ويُضِيفُ أنَّ كيسنجر كان يُكِنُّ الوِّدَ للملك حسين لكنه لم يرَ له قيمة
استراتيجية في الصراع. وعلى هذا، فَضَّلَ كيسنجر المسارين السوري والمصري على أيّ
مسار آخر. لكن كيسنجر نَدِمَ لعدم اغتنامه الفرصة للتوصل إلى حل مؤقت بين الأردن
وإسرائيل لتفويت الفرصة على منظمة التحرير الفلسطينية من لَعِب دور الممثل الوحيد
للشعب الفلسطيني.
الحديث
عن فَكِّ الاشتباك الثاني بين مصر وإسرائيل كان شائكًا ومَثَّلَ تحديًا كبيرًا
لدبلوماسية كيسنجر. وهناك كان يَكمُنُ الفرق بين القوة العظمى وحليفتها الصغرى.
كيسنجر كان يفكر كاستراتيجي دولي في حرب باردة مع الاتحاد السوفيتي. وحين عاندت
إسرائيلُ في الانسحاب إلى ممرَّي (متلا والجدي) في سيناء، وإرجاع آبار النفط لمصر
مقابل تَعَهُّدٍ مصري بِعَدَمِ اللُّجُوءِ إلى الحلول العسكرية، انفَجَرَ كيسنجر
في وجه إسرائيل بأنَّهَا تعرقل النظام الذي تريد واشنطن إنشاءه في الشرق الأوسط.
والسؤال: هل استغل السادات الفارق الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل
لتحقيق مطالبه بالانسحاب الإسرائيلي وحيازة آبار النفط التي كانت إسرائيل تَضُخُّ
منها النفط لصالحها لمدة ست سنوات؟
وحين عاد كيسنجر إلى واشنطن محبَطًا من التصرف الإسرائيلي، أقْنَعَ الرئيس
جيرالد فورد بإعادة تقييم العلاقة مع إسرائيل، وَوَجَّهَ بإلغاء زيارة متوقَّعة من
بيريز وزير الدفاع الإسرائيلي حينها. ولزيادة الضغط، وَجَّهَ كيسنجر بتعطيل صفقات
أسلحة جديدة لإسرائيل. ولكن هيهات أن يستطيع أحد أن يضغط على إسرائيل دونما أن
يواجه رَدَّةَ فعل من أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة! فقد انبرت كثير من
المنظمات اليهودية-الأمريكية وأعضاء الكونغرس، من النواب والشيوخ، وكُتَّاب
الأعمدة في الصحف الرئيسية لانتقاد عَزْمِ الإدارة إعادة تقييم العلاقة بين
الولايات المتحدة وإسرائيل أو ممارسة ضغوط عليها عبر تقليص المساعدات العسكرية
والاقتصادية. بل إنَّ خمسة وسبعين من أعضاء مجلس الشيوخ أعلنوا أنهم يقفون مع
إسرائيل وأنَّهم سيمررون المساعدات رغمًا عن الإدارة. والغريب في الأمر أنَّ الطرفين لم يُغَيِّرَا
موقفيهما البتة، برغم الضغوط الشديدة عليهما، لكن إنديك يكشف عن حقيقة إعادة
التقييم، إذ أراد كيسنجر أن يستخدمَه كتكتيك ولكن هويته اليهودية كانت تُؤَرِّقه حول
إمكانية إضعاف إسرائيل ومِن ثَمَّ يستفرد بها العرب.
ويَرُدُّ الكاتب أنَّ كيسنجر وصَفَ الإسرائيليين بأوصاف بذيئة بسبب
التَّعَنُّت التي أبدوه في المفاوضات. فعندما عاد كيسنجر من التفاوض حول فَكِّ
الاشتباك الثاني بين مصر وإسرائيل في سيناء، قال كيسنجر للرئيس فورد إنَّ
الإسرائيليين كانوا “خائنين، تافهين، ومخادعين ولا يعاملوننا كحلفاء”.
ويُعَلِّقُ إنديك أن المعضلة الأمريكية في التعامل مع إسرائيل تكمن في أن الضغط
الشديد يُوَلِّدُ رَدَّةَ فعل شعبية تَحُول دون الحصول على تنازلات منها. لكن
التعامل المُفْرِط في التَّدليل لإسرائيل يجعلها تتملَّصُ من تقديم أيّ تنازلات.
وأفضل طريقة لحل المعضلة -والكلام لإنديك- ما قاله السفير الأمريكي السابق
لإسرائيل، صامويل لويس، هو تكتيك احتضان إسرائيل وطمأنتها، وفي الوقت نفسه دفعها
للتقدم في المفاوضات وتقديم تنازلات. وما زالت واشنطن على دَيْدَنِهَا هذا دون أنْ
تُحرِزَ تقدُّمًا في الملف الفلسطيني. بل تطور الأمر إلى ما هو أفظع؛ حيث يقول
المفاوض الأمريكي، إرون ديفيد ميلر، الذي اشترك مع إنديك في المفاوضات
الإسرائيلية-الفلسطينية، في مقال نُشِر في الواشنطن بوست، إن “المسؤولين
الأمريكيين المنخرطين في عملية السلام العربية-الإسرائيلية كانوا يتصرفون كمحامٍ لإسرائيل،
يُقَدِّمون الخدمات ويُنَسِّقُون مع إسرائيل على حساب التوصل إلى مفاوضات سلام
ناجحة”.
وفي مقابل التنازلات التي قدمتها إسرائيل، طالب إسحاق رابين بضمانات، التي
كما يقول الكاتب، أسست للعلاقات الأمريكية-الإسرائيلية كما نعرفها الآن. وقد
عَلَّقَ كيسنجر على هذه العلاقات غير المتكافئة بأنَّه “لم تكن هناك حكومة
أنجزت الكثير من المنافع غير المتبادلة مع حكومة أخرى لاتفاقية أصلًا
لصالحها”. بمعنى آخر، فقد حصلت إسرائيل على الكثير من الولايات المتحدة دون
مقابل لتوقيع اتفاقية لمصلحتها هي. ويُعَلِّلُ الكاتب لهذه الهِبَات من واشنطن
لإسرائيل بكون كيسنجر كان قلقًا حول انكشاف الدولة اليهودية على دول عربية أكثر
عددًا وقوة. ولكن بالنسبة إلى كيسنجر، لم يكن الأمر يتعلق بإعطاء إسرائيل الهبات
السخية، ولكن تقديم أركان للنظام الذي يريد أن يُؤَسِّسَهُ في منطقة الشرق الأوسط،
والذي يَصُبُّ في النهاية في مصلحة إسرائيل والولايات المتحدة.
ومَنَحَتْ واشنطن بتوصية من كيسنجر كثيرًا من الضمانات لإسرائيل مقابل
التنازلات التي قَدَّمَتْهَا في اتفاقية سيناء الثانية. وحَصَلَتْ إسرائيل على تكنولوجيا
عسكرية متقدمة سمحت لها بتطوير صناعاتها التكنولوجية الحالية. وتعهدت واشنطن بألا
تُجبِر إسرائيل على إنهاء احتلالها لمرتفعات الجولان، كما أنها التزمت بعدم
التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية إلا بعد أنْ تَعتَرِفَ هذه الأخيرة بحق
إسرائيل في الوجود وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. وأيضًا لن تسعى الولايات
المتحدة إلى فرض حَلٍّ سلمي شامل على إسرائيل عبر مؤتمر دولي، مثل مؤتمر جنيف.
لقد كان كيسنجر يسعى إلى خلق نظام شرق أوسطي تحت رعاية أمريكية يحافظ على
الوضع القائم ويتضمن الدول الحليفة التي تتبنى نَهْجًا معتدلًا ضد الدول
الراديكالية التي تُحَاول زَعْزَعَة الاستقرار والهيمنة الأمريكية في المنطقة. ولم
يَرَ كيسنجر ضرورة لإشراك الفلسطينيين في هذه المعادلة؛ لأنهم لا يمثلون دولة ولا
يساندون الوضع القائم. كما أنَّه فَوَّتَ فرصة إيجاد حَلٍّ دائم للمعضلة
الفلسطينية عبر الخيار الأردني، لأنَّ هذا الأخير مُنْضمٌّ أصلًا إلى النظام
الأمريكي الشرق أوسطي بحكم الضرورة، ولا يملك أوراقًا يُمكِنُ أنْ تُفسِدَ النظام
ولا القوة العسكرية لتهديد إسرائيل. وعندما جاءه السوريون لمشاورته عام 1976 حول
تدخّلهم في لبنان لمنع هزيمة القوات المسيحية من قبل الحركة الوطنية اللبنانية
المتحالفة مع الفلسطينيين، بارك كيسنجر التدخل السوري وبالتنسيق مع إسرائيل، لأن ذلك
التدخل، من وجهة نظر كيسنجر، يصب في الحفاظ على الواقع القائم ويمنع حركات مسلحة
من السيطرة على لبنان.
دائمًا ما كان كيسنجر يتنازع بين طموحه الاستراتيجي وهويته اليهودية. ويقول
كيسنجر للكاتب مارتن إنديك “لا يمكن لأحدٍ أنْ يَحيَا الحياة التي عشتها دون
الشعور المشترك مع مصير الشعب اليهودي”.
إن هذا الكِتَاب المهم كُتِبَ من وجهة نظر إسرائيلية وأمريكية، مِن قِبَلِ
كاتب (مارتن إنديك) مُتَحَيِّز لسياسة واشنطن، التي هو جزء منها، وناشط في سبيل
إسرائيل وأمنها ورخائها. وبرغم ذلك، لا يخلو الكتاب من معلومات كثيرة وتحليلات تكشف
عن خبايا العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وكم من الفرص التي أضاعها بطل
الرواية –كيسنجر- لإيجاد حلول دائمة للصراع العربي-الإسرائيلي على مذبح تحقيق
أهداف استراتيجية ومجدٍ شخصي ومصلحة إسرائيلية! وتبقى مأساة أمريكا: قصر النظر مع إمكانيات
هائلة.