Insight Image

قطاع المعادن في إفريقيا: الواقع والاتجاهات وفرص النمو

19 نوفمبر 2023

قطاع المعادن في إفريقيا: الواقع والاتجاهات وفرص النمو

19 نوفمبر 2023

1- مقدمة:

تحاول هذه الدراسة الإجابة عن سؤال يتأمل فيما تملكه قارة إفريقيا من موارد، وفي أثر هذه الموارد الطبيعية على هيكل تجارتها الخارجية، ومن ثم على نموها الاقتصادي. كما تحاول الدراسة أيضًا التصدي لبحث معوقات وتحديات تحول هذا النمو التجاري إلى تنمية اقتصادية شاملة ومستدامة لاقتصادات قارة إفريقيا. ومن خلال تقييم أثر المعادن التي تملكها قارة إفريقيا، وتقييم وضعها في خريطة تجارة المعادن العالمية، وبيان مواطن القوة وأوجه التحديات التي تعوق نموها الاقتصادي، سترسم الدراسة إطارًا عامًّا لفهم هذا الجانب البالغ الأهمية من جوانب الاقتصاد الإفريقي عمومًا، وهذا الجانب من جوانب قوتها المستقبلية.

وللإجابة عن هذه التساؤلات بطريقة وافية ودقيقة، ستتناول الدراسة في فقراتها التالية واقع قطاع المعادن عالميًّا وإفريقيًّا، عن طريق استعراض مجموعات المعادن الأرضية في التصنيف العالمي، ثم التطرق إلى تطور أنشطة استكشاف المعادن واستعراض اتجاهات الطلب على المعادن عالميًّا، مع تحليل مختصر لخريطة المعادن في إفريقيا. وفي جزء تالٍ، تتناول الدراسة المعادن الإفريقية من الإنتاج إلى التصدير، ثم تركز بعد ذلك على تحليل تحديات النمو لقطاع المعادن الإفريقي ومعوقاته. كما تقف الدراسة وقفة بحثية مع تأثير قطاع المعادن على النمو الاقتصادي واتجاهاته المستقبلية، لتختتم بذلك تحليلها وتضع رؤية استشرافية لمستقبل قطاع المعادن في إفريقيا وتأثيراته الاقتصادية على النمو والتنمية في هذه القارة.

2- واقع قطاع المعادن عالميًّا وإفريقيًّا:

تُعدّ المواد الخام العمود الفقري للاقتصاد، إذ إن الإمداد الكافي بالمواد الخام المعدنية في ظل ظروف السوق العادلة أمر ضروري لاقتصاد مستدام وجيد الأداء، لكن على الرغم من أن التوافر الجيولوجي للمعادن مرتفع نسبيًّا، فإن حدوث الاضطرابات والصدمات الاقتصادية يمكن أن يؤدي إلى نقص استغلال الموارد المعدنية. وخير مثال على ذلك الحرب الروسية-الأوكرانية التي أظهرت بقوة نقاط الضعف في عالم تحكمه العولمة بتبعاتها المعقدة وسلاسل القيمة على نطاق واسع.

وفي ظل حالة عدم اليقين السائدة في العالم في الفترة الأخيرة أصبحت الآن المواد الخام؛ ولاسيما المعدنية منها ضرورية لتأمين قدرة الدول على البقاء في المستقبل، وأصبحت وسيلة لمواجهة التحديات في مجالات عدة لعل أهمها: المناخ والطاقة والصحة والنقل والتحول الرقمي والأمن، ما يخلق فرصًا للدول التي لديها من الإمكانات ما يمكّنها من إيجاد حلول مبتكرة لتلك التحديات على طول سلسلة القيمة بأكملها، إضافة إلى ذلك، تعزيز الإنتاج المحلي لتلك الدول[1]. ولإلقاء نظرة على واقع القطاع يجب التعريف بأهم مجموعات المعادن الأرضية وفقًا للتصنيف العالمي كما يأتي:

1-2 مجموعات المعادن الأرضية في التصنيف العالمي:

هناك تصنيفات متنوعة للمعادن التي يحويها باطن الأرض، بَيد أن التصميم الأشهر لها هو ترتيب المواد المعدنية المدرجة في بيانات التعدين العالمية في خمس مجموعات رئيسية كما يأتي[2]:

. معادن الحديد والسبائك الحديدية، مثل الحديد، الكروم، الكوبالت، المنغنيز، المولبيديوم، النيكل، النيوبيوم، التنتالوم، التيتانيوم.

. المعادن غير الحديدية، مثل الألومنيوم، الأنتيمون، الزرنيخ، البوكسيت، البريليوم، البزموت، الكادميوم، النحاس، الغاليوم، الجرمانيوم، الإنديوم، الرصاص، الليثيوم، الزئبق، المعادن الأرضية النادرة، الرينيوم، السيلينيوم، التيلوريوم، القصدير، الزنك.

. المعادن الثمينة مثل الذهب، معادن مجموعة البلاتين (البلاديوم، البلاتين، الروديوم)، الفضة.

. المعادن الصناعية مثل الأسبستوس، الباريت، البنتونيت، معادن البورون، الماس (الأحجار الكريمة/الصناعية)، الدياتوميت، الفلسبار، الفلورسبار، الجرافيت، الجبس والأنهيدريت، الكاولين (الطين الصيني)، الماجنسيت، البيرلايت، صخور الفوسفات (بما في ذلك ذرق الطائر)، البوتاس، الملح، الكبريت، التلك (بما في ذلك ستيتيت وبيروفيليت)، الفيرميكوليت، الزركون.

. الوقود المعدني مثل الفحم البخاري (بما في ذلك الفحم الحجري والفحم شبه القاري)، فحم الكوك، الليجنيت، الغاز الطبيعي، البترول (بما في ذلك سوائل الغاز الطبيعي)، الرمال النفطية، الصخر الزيتي، اليورانيوم.

وفي الواقع المعاصر، تتسم السوق العالمية لتجارة المعادن بالتركيز على المعادن غير الحديدية والحيوية خاصة النادرة منها. حيث تعدّ المعادن الأرضية النادرة – وهي مجموعة مكونة من 17 معدنًا – ذات أهمية بالغة للأمن البشري والقومي، إذ تُستخدَم في صناعة الرقائق والإلكترونيات (أجهزة الكمبيوتر وأجهزة التلفزيون والهواتف الذكية)، وفي صناعات تكنولوجيا الطاقة المتجددة (توربينات الرياح، والألواح الشمسية، وبطاريات السيارات الكهربائية)، وفي الصناعات التي تتعلق بالدفاع الوطني (المحركات النفاثة، وأنظمة التوجيه والدفاع الصاروخي، والأقمار الصناعية، ومعدات تحديد المواقع)[3].

وبما أن المعادن الحيوية سلع لها سوق تجاري واسع، فتتشكل خريطة المعادن حول العالم وفقًا لقوى العرض والطلب السائدة. حيث تتنوع الدول ما بين دول منتجة للمعادن ودول مصدّرة لها ودول مستوردة لها وهو ما تتطرق له الفقرات الآتية.

2-2 الاتجاهات الحديثة في أنشطة استكشاف المعادن:

كما ذكرنا سابقًا، فإن خريطة المعادن تتشكل من قوى العرض والطلب، وأن الدول تنقسم ما بين دول منتجة للمعادن ودول لديها ثروة معدنية تحتاج لاستكشافها. ومعلوم أن عمليات الاستكشافات تؤثر طرديًّا على جانب العرض من المعادن. وفيما يخص تطور أنشطة الاستكشاف الخاصة بالمعادن، تظهر النتائج الأولية لبيانات ميزانيات الاستكشاف العالمية الصادرة عن مجموعة S&P Global Market Intelligence، أو CES، أن المرصود لعمليات الاستكشاف المعدني على مستوى العالم قد انخفض في عام 2023 بسبب ضعف قدرات التمويل الموجه لهذا النوع من الأنشطة الاقتصادية؛ إذ يُقدر أن تنخفض ميزانية الاستكشاف العالمية للمعادن غير الحديدية بنسبة 3% في عام 2023 إلى 12.6 مليار دولار من 13.1 مليار دولار في عام 2022 في ظل تراجع أسعار المعادن من أعلى مستوياتها التي وصلت إليها في عامَي 2021 و2022.

ومن الملاحظ أنه على مدى السنوات الخمس الماضية تضاعف حجم سوق المعادن الرئيسية، ليصل إلى 320 مليار دولار أمريكي في عام 2022. ويتناقض هذا النمو السريع مع النمو المتواضع للمواد السائبة مثل الزنك والرصاص. ونتيجة لذلك، فإن المعادن التي تتحول إلى طاقة، والتي كانت تشكل جزءًا صغيرًا من سوق المعادن العالمي، تنتقل الآن إلى مركز الصدارة في صناعة التعدين والمعادن[4].

ونتيجة لانخفاض ميزانية الاستكشافات عالميًّا، فقد تأثر قطاع المعادن الثمينة على مستوى العالم. حيث شهدت كل من أستراليا وكندا أكبر الانخفاضات، بسبب مواجهة عدد كبير من المستكشفين الصغار مشاكل في تمويل برامجهم؛ وفي كلا البلدين، كان التنقيب عن الذهب هو الأكثر تأثرًا. وفي المقابل، زادت عمليات التنقيب الموجهة إلى أمريكا اللاتينية مع زيادة مخصصات النحاس والليثيوم. وعلى الرغم من الانخفاض العام في الميزانيات، فقد ارتفع عدد المستكشفين بشكل طفيف إلى 2234 مستكشفًا في عام 2023 مقارنة بـ 2189 مستكشفًا في عام 2022.[5]

3-2 اتجاهات حديثة في الطلب على المعادن:

برغم التراجع المؤقت لجهود الاستكشاف عن المعادن، فإنه وفقًا لأحدث البيانات المنشورة عن الطلب على المعادن في عام 2021، فقد وصل الطلب العالمي على العناصر الأرضية إلى 125 ألف طن متري. مع توقعات أن يصل هذا الطلب إلى 315 ألف طن متري بحلول عام 2030[6]. كما تشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى أن الطلب على المعادن سيزداد بشكل حادّ حتى عام 2040 مقارنة ببيانات عام 2020[7]. وسوف يتضاعف الطلب على بعض من المعادن بشكل خاص مثل النيكل؛ الذي من المتوقع أن يزداد الطلب العالمي عليه بمقدار 41 مرة، ليصل إلى 3300 كيلوطن؛ وللكوبالت 21 مرة؛ ولليثيوم 43 مرة؛ وبالنسبة للنحاس 28 مرة، ليصل إلى نحو 3000 كيلو طن؛ وللجرافيت 25 مرة[8]. لكن تبدو هنا ملاحظة على جانب كبير من الأهمية؛ وهي تغير هيكل الطلب على المعادن لمصلحة نوعية محددة منها.

فنظرًا إلى أن نظام الطاقة الحديث الذي يعتمد على تقنيات الطاقة النظيفة يختلف بشكل كبير عن النظام الذي يعتمد على الموارد الهيدروكربونية التقليدية، فقد أصبحت المعادن الحيوية مثل النحاس والليثيوم والنيكل والكوبالت والعناصر الأرضية النادرة مكونات أساسية في العديد من تقنيات الطاقة النظيفة السريعة النمو اليوم، من توربينات الرياح وشبكات الكهرباء إلى السيارات الكهربائية. كما يتزايد الطلب على هذه المعادن بسرعة مع تسارع التحولات في مجال الطاقة النظيفة، وهو الهدف الذي يتوافق مع أغراض مواجهة ظاهرة تغير المناخ وتحقيق صفرية الانبعاثات الكربونية. فعلى سبيل المثال، تتطلب محطات الطاقة الشمسية الكهروضوئية ومزارع الرياح والمركبات الكهربائية بشكل عام معادن أكثر أهمية لبنائها من نظيراتها المعتمدة على الوقود الأحفوري. وتتطلب السيارة الكهربائية النموذجية ستة أضعاف المدخلات المعدنية للسيارة التقليدية، وتتطلب محطة طاقة الرياح البحرية موارد معدنية أكثر بـ 13 مرة من محطة تعمل بالغاز ذات حجم مماثل[9]. ومن الملاحظ مؤخرًا نمو الطلب على البطاريات في أثناء التحول إلى الطاقة الخضراء في صناعة السيارات، ففي عام 2020، بلغ الطلب على معادن صناعة البطاريات 12.9 مليار دولار. ومع ذلك، من المتوقع أن يصل هذا الطلب إلى 17.8 مليار دولار في عام 2027.

4-2 وقفة مع خريطة المعادن في إفريقيا:

تعد قارة إفريقيا غنية بالموارد الطبيعية التي تتراوح ما بين الأراضي الصالحة للزراعة والمياه والنفط والغاز الطبيعي والمعادن والغابات والحياة البرية. حيث تحتفظ القارة بنسبة كبيرة من الموارد الطبيعية في العالم، سواء من مصادر الطاقة المتجددة أو غير المتجددة، لذا تعدّ قارة إفريقيا مصدرًا وموردًا لنحو 30% من احتياطيات العالم من المعادن، ونحو 8% من الغاز الطبيعي في العالم، وما يقرب من 12% من احتياطيات النفط في العالم؛ كما أن لدى القارة 40% من الذهب العالمي ونحو 90% من الكروم والبلاتين. كما أن أكبر مخزن من الاحتياطيات العالمية من الكوبالت والماس والبلاتين واليورانيوم في إفريقيا. وتملك إفريقيا 65% من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم[10].

وتتوزع احتياطات القارة الإفريقية من المعادن في عدد من الدول؛ فعلى سبيل المثال هناك احتياطيات كبيرة من النحاس والكوبالت في جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا وجنوب إفريقيا وزيمبابوي، والماس في بوتسوانا وأنجولا، والبلاتين في جنوب إفريقيا وزيمبابوي، واليورانيوم في ناميبيا والنيجر وجنوب إفريقيا، والذهب في غانا وجنوب إفريقيا والسودان، والحديد في جنوب إفريقيا، والمنغنيز في جنوب إفريقيا والجابون وغانا، والبوكسيت في غينيا، والليثيوم في زيمبابوي، والفحم في جنوب إفريقيا وموزمبيق، والغاز الطبيعي في الجزائر ومصر ونيجيريا، والنفط في نيجيريا وأنغولا والجزائر وليبيا. وبرغم هذا التنوع الواسع في قاعدة المعادن الإفريقية، فإن عمليات الاستكشاف والاستخراج تتأثر في إفريقيا بسبب ضعف هياكل الإدارة المحلية ومعوقات السياسات، إلى جانب ارتفاع مخاطر الاستثمارات في إفريقيا خلال الفترة 2016-2020. وقد أدى ذلك إلى نقص ملحوظ في نشاط الاستكشاف في قطاع التعدين الإفريقي وهو ما ستجري مناقشته لاحقًا[11].

Source: EIU

ويلاحظ أن الإمكانات الكامنة لإفريقيا في قطاع المعادن النادرة غير مستغلة نظرًا إلى انخفاض مستويات الاستكشاف. ففي عام 2021، كانت ميزانية استكشاف التعدين في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا هي ثاني أدنى ميزانية في العالم – ما يقرب من نصف ميزانية أمريكا اللاتينية وأستراليا وكندا، على الرغم من أن مساحتها تبلغ ثلاثة أضعاف مساحة كندا وأستراليا. وفي عام 2021، ارتفعت ميزانية الاستكشاف في كندا على أساس سنوي بنسبة 62%، تليها 39% في أستراليا، و37% في الولايات المتحدة، و29% في أمريكا اللاتينية. ولم تنمُ ميزانية إفريقيا إلا بنسبة 12% فقط، ولا تزال الغالبية العظمى من عمليات الاستكشاف تتركز في الذهب، بدلاً من المعادن النادرة أو المعادن الخضراء المهمة للتحول إلى الطاقة النظيفة.

وفي عام 2022، وعلى المستوى الإفريقي، كان النحاس المعدن الأكثر تعدينًا. وكان أكبر المنتجين للنحاس هما جمهورية الكونغو الديمقراطية بنحو 1.8 مليون طن وزامبيا بنحو 830 ألف طن. ويعد الكوبالت، الذي يُستخرَج في جمهورية الكونغو الديمقراطية ومدغشقر والمغرب وزامبيا، ثاني أكبر إنتاج في إفريقيا. ويستخدم الكوبالت في صناعة البطاريات، وتوليد طاقة الرياح. وكان المنغنيز، الذي يستخدم أيضًا في صناعة البطاريات وطاقة الرياح، ثالث أكثر المعادن استخراجًا في إفريقيا، مع زامبيا المنتج الرئيسي له. وبعيدًا عن الاستكشاف والاستخراج، تشكل جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا وجهتين محتملتين لتكرير المنتجات المعدنية (انظر الجدول التالي رقم (1)).

جدول رقم (1) نظرة عامة إلى احتياطيات المعادن المهمة لصناعة السيارات في إفريقيا*

المعادن المهمة لصناعة السيارات الكهربائية

حصة إفريقيا في العالم %

كوبالت

48.1

نحاس

5.9

جرافيت

21.6

خام الحديد

0.6

ليثيوم

1

منجنيز

47.6

نيكل

5.6

*Source: UNCTAD calculations, based on data from the Knoema database, 2023.

ولعل التوجه نحو الصناعات النظيفة هو بمثابة فرصة ثمينة لقارة إفريقيا كمورّد رئيس للمعادن الحيوية والمعادن النادرة. حيث أصبح التوجه نحو صناعة بطاريات الليثيوم شائعًا في سبيل تقليل الانبعاثات الكربونية واستبدال السيارات التي تستخدم الوقود الحيوي بالسيارات الكهربائية التي تستخدم بطاريات الليثيوم أيون والمكونة من خمسة معادن مهمة: الليثيوم والنيكل والكوبالت والمنغنيز والجرافيت، وهو ما يعزز دور قارة إفريقيا كمورّد رئيسي لمتطلبات تلك الصناعة[12].

وعلى أية حال، فبالنظر إلى خريطة توزيع المعادن في قارة إفريقيا نجد أنها تمتلك ثروة معدنية يمكنها أن تقدم مردودًا إيجابيًّا للنمو المستدام والتنمية الاقتصادية الراسخة، لكنها مع ذلك تحتاج لاستغلالها بشكل أمثل وتطوير قدرات القارة وإمكاناتها التي تعتمد على عملية الاستكشاف فقط، والانتقال إلى مرحلة الإنتاج ثم التصدير.

3- المعادن الإفريقية: من الإنتاج إلى التصدير

عند التأمل في تجارة المعادن وخرائطها في الاقتصاد العالمي عمومًا، فإن الملاحظة الأولى التي تقدمها بيانات عام 2022 تتمثل في رصد الحكومة الأمريكية نحو 50 معدنًا من المعادن ذات الأهمية الاستراتيجية، وذلك بناء على أثرها المباشر في المصالح الاقتصادية والأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية. ففي الوقت الذي تحول فيه مسار الطاقة إلى طاقة نظيفة عالميًّا، فإن من المتوقع أن يرتفع الطلب على المعادن النادرة بمعدلات غير مسبوقة، ما يعني أنه قد يصاحبه نقص في العرض في هذا النوع من المعادن، ما يؤدي إلى إبطاء الجهود العالمية للوصول إلى أهداف الحياد الكربوني. وحاليًّا أصبحت الفجوة بين العرض والطلب لهذه المعادن تحديًّا وفرصة في الوقت ذاته. فهي تحدٍّ جليّ للمصالح الاقتصادية والمناخية، خاصة للولايات المتحدة الأمريكية. حيث إن المزيد من الاضطراب السياسي لدى الدول العظمى يضعها تحت ضغط كبير لتوفير مواردها، في حين تؤدي الضبابية الكبيرة بشأن الطلب على المعادن الحيوية في المستقبل إلى زيادة احتمالية حدوث نقص في الإمدادات في المستقبل. على الجانب الآخر، تمثل فرصة للدول الغنية بالاحتياطات المعدنية المهمة مثل دول إفريقيا.[13]

وبالنظر في سوق المعادن العالمية، ووفقًا لتقرير سوق المعادن العالمية لعام 2023، فإنه قد نما حجم السوق من 7.5 ترليون دولار في عام 2022 إلى 8.1 ترليون دولار في عام 2023 بمعدل نمو سنوي مركب قدره 7.8%[14]. وبناء على ذلك، تشكل تجارة المعادن مصدرًا مهمًّا لنمو الناتج المحلي الإجمالي لكل من الدول المنتجة والدول المصدرة لها؛ حيث إن خريطة تجارة المعادن على مستوى العالم يتركز فيها تعدين المواد الحيوية في مواقع جغرافية محددة؛ إذ تسيطر أستراليا على الليثيوم، وتشيلي على النحاس والليثيوم، والكونغو الديمقراطية على الكوبالت، وإندونيسيا على النيكل، وجنوب إفريقيا على البلاتين والإيريديوم. ويلاحظ أن صناعة التعدين قد أسهمت بمبلغ 20.8 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي لجنوب إفريقيا على سبيل المثال، أي نحو 5.6% من ناتجها المحلي. كما تشير البيانات إلى أن التعدين في جنوب إفريقيا في عام 2018، قد أتاح 450 ألف فرصة عمل مباشرة[15].

ويتسم سوق المعادن الدولي بالتركز الجغرافي الواضح[16]؛ ففي حين تهيمن الصين على النسبة الكبرى من إنتاج المعادن الأرضية النادرة عالميًّا، فإن تقديرات عام 2021 تؤكد أن الصين تعد أكبر منتج لهذه المعادن النادرة؛ حيث تنتج نحو 61% من الإنتاج العالمي منها، أي ما يعادل نحو 168 ألف طن من إجمالي الإنتاج العالمي من المعادن الأرضية النادرة البالغ 277.1 ألف طن، في حين تنتج الولايات المتحدة وبورما وأستراليا وتايلاند معًا 35.7% من الإنتاج العالمي من هذه المعادن الأرضية النادرة نفسها[17]. وعلى صعيد آخر، تمتد هيمنة الصين على المعادن النادرة عبر سلسلة القيمة؛ حيث تسيطر على سلاسل الإمدادات الوسيطة للمعادن اللازمة لصناعة البطاريات مثلًا، ما يمنحها ميزة تنافسية.[18] ويتضح ذلك جليًّا إذا ما نظرنا إلى حجم واردات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية من المعادن التي تنتجها الصين؛ إذ يستوردان 98 و80%على التوالي من المعادن الأرضية النادرة من الصين التي تسيطر على أجزاء كبيرة من التعدين. وإلى جانب الصين، تتوافر احتياطات من المعادن الأرضية الثمينة في بعض من دول الاتحاد الأوروبي؛ ولاسيما فرنسا واليونان وجرينلاند والبرتغال وشمال الدول الإسكندنافية، وتُقدّر احتياطيات السويد من تلك المعادن بقيمة تبلغ مليون طن، بما يؤهلها لتكون أكبر مورّد للمعادن الثمينة في أوروبا.[19]

وبينما تتوزع احتياطيات المعادن الحيوية على نطاق واسع جغرافيًّا؛ بعكس عملية إنتاج المعادن أو التعدين، فإن البلدان النامية، بما فيها الدول الإفريقية، تحصل على حصة أكبر في الاحتياطيات، على عكس حصتها في العملية الإنتاجية[20]. ويرجع ذلك بطبيعة الحال إلى التوجهات الاستثمارات العالمية في قطاع المعادن في إفريقيا وارتباطها بتوجهات التجارة والاستثمار العالمي[21]. وعلى أية حال، يوضح الجدولان الآتيان (2) و(3) خريطة شركاء التجارة السلعية مع قارة إفريقيا عمومًا، وأهم صادراتها من المعادن على سبيل التحديد. فوفق بيانات خريطة التجارة العالمية، فإن الصين تعد أهم شركاء التجارة السلعية عمومًا مع إفريقيا وفق تقديرات التجارة لعام 2022. ويلي الصين في قائمة شركاء إفريقيا إيطاليا والهند وإسبانيا وفرنسا والولايات المتحدة وهولندا والإمارات العربية المتحدة وألمانيا الاتحادية. في حين تحتل المملكة المتحدة المنزلة رقم 10 في قائمة شركاء التجارة السلعية الإفريقية.

جدول رقم (2): أكبر عشر شركاء للتجارة السلعية مع قارة إفريقيا خلال الفترة 2018-2022*

(القيمة بالمليار دولار)

بيان

2018

2019

2020

2021

2022

الصين

68.8

68.5

53.6

71.5

83.0

إيطاليا

28.9

26.3

14.8

28.6

52.8

الهند

32.7

31.3

20.0

33.5

40.9

إسبانيا

29.2

27.5

19.9

30.4

40.7

فرنسا

29.3

26.0

19.7

27.4

36.4

الولايات المتحدة الأمريكية

26.9

22.2

16.5

29.7

33.0

هولندا

18.9

16.8

13.2

18.6

30.6

الإمارات العربية المتحدة

15.9

18.5

25.3

23.6

28.9

ألمانيا

15.0

15.4

14.5

23.2

25.6

المملكة المتحدة

16.7

13.8

9.7

17.1

19.9

مصدر بيانات الجدول هو خريطة التجارة العالمية: https://www.trademap.org/Country_SelProductCountry_TS.aspx

وعلى صعيد بيانات التجارة السلعية من المعادن بأنواعها المختلفة، يوضح الجدول التالي رقم (3) أن الوقود المعدني والمنتجات المتصلة بالنفط هي رقم واحد في قائمة طويلة من الصادرات المعدنية الإفريقية. فبينما كانت جملة الصادرات السلعية الإفريقية في عام 2022 نحو 681 مليار دولار أمريكي، كانت الصادرات من الوقود والزيوت المعدنية تبلغ نحو 291 مليار دولار، ما يمثل 42.7%، أي قريبًا من حاجز النصف لهذه الصادرات. ويعني ذلك أن أنشطة التعدين مازالت تركز في القارة الإفريقية على النفط ومشتقاته. ويمكن القول إن هذا التركز مرده إلى سهولة استخراج النفط ونضوج التكنولوجيا الخاصة به واتساع نطاق السوق النفطي العالمي، مع وقوع معظم هذا التنقيب بالفعل في كبريات الدول الإفريقية صاحبة العضوية في أوبك، مثل نيجيريا وأنجولا.

جدول رقم (3): أكبر عشر شركاء للتجارة السلعية مع قارة إفريقيا خلال الفترة 2018-2022*

(القيمة بالمليار دولار)

بيان

2018

2019

2020

2021

2022

إجمالي الصادرات السلعية

506.06

474.38

393.05

550.79

681.09

الوقود المعدني والزيوت المعدنية

213.48

192.11

111.55

190.81

291.33

اللؤلؤ الطبيعي والأحجار الكريمة والمعادن النفيسة

49.87

51.29

65.79

78.30

77.70

الخامات والرماد

21.51

23.69

23.95

32.86

36.17

النحاس

16.92

15.47

18.23

25.57

27.73

الحديد والصلب

8.86

7.67

6.19

11.61

11.89

الكبريت والجير

3.61

3.70

3.44

4.90

7.01

الألمنيوم

4.73

3.97

3.81

4.75

5.78

النيكل

1.36

1.27

1.44

2.44

3.02

معادن أساسية أخرى

0.69

0.50

0.40

0.53

0.73

الرصاص

0.20

0.20

0.16

0.28

0.34

الزنك

0.43

0.37

0.12

0.11

0.11

القصدير

0.01

0.02

0.02

0.02

0.02

مصدر بيانات الجدول هو خريطة التجارة العالمية: https://www.trademap.org/Country_SelProductCountry_TS.aspx

ويعدّ الذهب وباقي المعادن النفيسة هي النوع الثاني من المعادن التي تهتم بها شركات التعدين المحلية والدولية على السواء؛ إذ يُظهر الجدول السابق أن هذه النوعية من المعادن كانت في المنزلة التالية لمنزلة النفط مباشرة. وكانت تُمثّل نحو 11.4% من الصادرات السلعية الإفريقية في عام 2022. ويأتي بعد ذلك النحاس والحديد والألمنيوم والرصاص والزنك والقصدير في قائمة أساسية في صادرات المعادن الإفريقية. وعلى أية حال، فقد مثّلت جملة المنتجات المعدنية نحو 67.8% من جملة الصادرات السلعية الإفريقية في عام 2022. والمعنى الواضح من ذلك أنه برغم تراجع قدرة قطاع المعادن على توليد صادرات إفريقية توازي حجم ما يملكه من احتياطات ضخمة، فإنه لايزال يهيمن على الصادرات السلعية الإفريقية في آخر خمس سنوات تقريبًا.

وبينما الوضع التجاري على هذا النحو، فإن ذلك يؤكد وجود عديد من التحديات والمعوقات التي تحول دون تأثير المعادن وتجارتها على ازدهار الاقتصاد الإفريقي. فما هي هذه التحديات والمعوقات؟

4- تحديات ومعوقات النمو لقطاع المعادن الإفريقي:

على الرغم من المساحة الكبيرة لقارة إفريقيا وتوفر الإمكانات الطبيعية بها، فإنها ما زالت بعيدة أو مستبعدة فعليًّا عن المشاركة في سوق التجارة العالمية، بالمقارنة بقارات العالم الأخرى، وما زالت مشاركتها معتمدة أساسًا على توريد المعادن دون الإنتاج والتصنيع إلا في حدود ضيقة. ويرجع ذلك إلى العديد من التحديات التي تواجه تطوير قطاع المعادن الإفريقي. ويمكن أن يعزى ذلك إلى ضعف البنية التحتية وهشاشة الهيكل المالي لدول القارة وإلى تأخُّر الدول في إقامة المشروعات الإنشائية الإنتاجية، الزراعية منها والصناعية، وكذلك إلى ندرة رأس المال، واكتفائها بالحصول على الثروة من أقرب مصادرها. لكن هناك بارقة من الأمل. فقد عزمت الدول الإفريقية حاليًّا على زيادة دخولها من مصادر ثروتها، ما جعلها لا تهتم بالتوريد فقط، بل وبمحاولة تصنيع بعض الخامات المعدنية، لكن كون أغلبية رؤوس الأموال المستثمرة والخبراء والمديرين وكبار الموظفين في شركات التعدين من غير الإفريقيين يعد عائقًا أيضًا، لذا كان من الضروري التطرق بالتفصيل إلى التحديات التي تواجه القارة للنمو بقطاع المعادن.[22]

. التضخم: بحلول عام 2022، أدت الصدمات المتتالية التي تعرض لها الاقتصاد العالمي إلى ارتفاع معدل التضخم، فأصبح حالًا مستمرًا وليس مؤقتًا، إذ ارتفعت معدلات التضخم في العديد من الدول إلى أعلى مستوياتها منذ عقود عدة. وعلى الرغم من أن ذلك كان في مصلحة أسعار المعادن في بادئ الأمر، فإن رفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم والمخاوف من الركود بدأت تضرب الأسواق. ومع تدهور ظروف الاقتصاد الكلي، انخفض نشاط الاستكشاف بشكل ملحوظ، ما أثر سلبيًّا على سوق المعادن الإفريقي.[23] ولا يزال التفاقم المتزايد في معدل التضخم، الذي يصاحبه ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة، وضعف قيمة العملات وتراجع نمو الاستثمار يقيدان الاقتصادات الإفريقية، ويحدثان حالة من عدم اليقين للمستهلكين والمستثمرين. فقد ارتفع عدد البلدان التي سجلت متوسط معدلات تضخم سنوية من رقمين من 9 بلدان إفريقية في عام 2021 إلى 21 بلدًا في عام 2022، لكن من المتوقع أن يظل التضخم في إفريقيا مرتفعًا عند 7.5% على مدى عام 2023[24].

. ضعف السياسات الضريبية والمالية وصعوبة النفاذ للتمويل الدولي: في ظل ضعف السياسات المالية في إفريقيا وانخفاض حجم الإيرادات الضريبية يجب على الحكومات الإفريقية تعزيز السياسة الضريبية لتعزيز عملية التحصيل الضريبي مع الحفاظ على سياسة مالية مستقرة لمنع التقلبات التي يمكن أن تعوق الاستثمارات. على سبيل المثال، في عام 2017، كان قطاع التعدين واستغلال المحاجر في جنوب إفريقيا يمثل 1.3% فقط من إجمالي الإيرادات المحصلة، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الحوافز الضريبية ومدفوعات المخصصات. ولضمان الاستغلال الأمثل لهذه الإيرادات، لابد من اتباع نهج الحكم الرشيد لتقليل الاعتماد على الدين الخارجي في تمويل أنشطة التعدين التي تواجه حاليًّا مشكلات جمّة في النفاذ للتمويل الدولي نظرًا إلى أن عملية الاستكشاف أو استخراج المعادن في إفريقيا تتطلب وجود قدر كافٍ من التمويل بسبب التكلفة العالية التي تتطلبها عملية الاستكشاف وخاصة لمرافق فصل المعادن النادرة. على سبيل المثال خصصت أمريكا 156 مليون دولار لإنشاء منشأة واحدة لاستخراج العناصر الأرضية النادرة وفصلها، وهو مبلغ بعيد المنال بالنسبة إلى معظم البلدان الإفريقية.[25]

. ارتفاع مستويات الدين العام وأعبائه: في ظل ارتفاع فاتورة الدين العام للدول الإفريقية وتفاقمها، يعد التمويل وارتفاع العبء المادي الذي تتطلبه عملية إنتاج المعادن في إفريقيا أهم التحديات التي تواجه القارة وتعرقل نمو قطاع المعادن بها. فقد زاد الدين العام في القارة أكثر من ثلاثة أضعاف منذ عام 2010، إذ أدت الحرب في أوكرانيا إلى توقف عمليات ضبط أوضاع المالية العامة في الكثير من بلدان القارة التي بدأت عقب جائحة كورونا. ومع تزايد لجوء بلدان القارة إلى اتخاذ تدابير مثل الدعم، والإعفاءات المؤقتة من التعريفات والرسوم، ودعم الدخل للفئات الأكثر احتياجًا في محاولة منها للحد من ارتفاع أسعار الغذاء والوقود، اتسع العجز المالي في القارة إلى 5.2% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2022، ارتفاعًا من نحو 4.8% وفق تقديرات عام 2021. ودفع ضعف النمو الذي اقترن بتراكم سريع للدين العام إلى ارتفاع نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي من 32% في عام 2010 إلى 57% في عام 2022 (56% في غرب ووسط إفريقيا، و64% في شرق إفريقيا والجنوب الإفريقي)[26]. وفي ظل أوضاع كهذه، سيكون من الصعب إيجاد التمويل المحلي أو جذب التمويل الأجنبي لقطاع التعدين الإفريقي بسهولة وبتكلفة اجتماعية واقتصادية وسياسية مناسبة.

. غياب الاستقرار السياسي في إفريقيا، إذ يشكل عدم الاستقرار السياسي في إفريقيا تحديًّا آخر أمام النمو في قطاع المعادن حيث تتعدد الصراعات القبلية والانقلابات وهجمات الميليشيات والحركات الإرهابية[27]

5- تأثير قطاع المعادن على النمو الاقتصادي:

أدت حالة الركود العالمي التي يعانيها الاقتصاد وارتفاع معدلات التضخم وتفاقم حجم الديون إلى انخفاض معدلات النمو في إفريقيا من 4.1% في عام 2021 إلى 3.6% في عام 2022، ومن المتوقع أن يسجل النشاط الاقتصادي في القارة مزيدًا من الانخفاض إلى 3.1% في عام 2023. ولا يزال التعافي بطيئًا في معدل نمو نصيب الفرد من الدخل، عند 1.2% في العام المقبل و1.4% في عام 2025، وهو ما يعد أقل من المستوى المطلوب لتسريع الحد من الفقر في القارة والعودة إلى الوضع ما قبل جائحة كورونا. وقد أدى كذلك الصراع الروسي-الأوكراني في أواخر فبراير 2022 إلى زيادة سريعة في أسعار السلع الأساسية على مستوى العالم؛ وعلى الأخص بالنسبة إلى منتجات الطاقة – النفط والغاز – والمعادن مثل الألمنيوم والنيكل، والنحاس، والبلاديوم، والبلاتين. وبما أن روسيا منتج رئيسي للعديد من المعادن الأساسية (الألمنيوم والتيتانيوم والبلاديوم والنيكل)، فإنه من المتوقع أن تظل أسعار السلع الأساسية مرتفعة طوال مدة الصراع، إضافة إلى نمو الأسعار الناتج عن فيروس كورونا في عام 2021، ويبلغ إجمالي الصادرات الإفريقية إلى روسيا نحو 5 مليار دولار أمريكي فقط، بينما يبلغ إجمالي الواردات نحو 14 مليار دولار أمريكي[28].

ومعلوم أن حالة الرواج الطويل الأمد للمعادن يمكن أن تتسبب في تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة، وخاصة لكبرى البلدان المصدّرة. والتوقعات الحالية تشير إلى أن تحقيق ارتفاع مستمر لمدة طويلة بنسبة 10% في مؤشر أسعار المعادن سيضيف ثلثي نقطة مئوية إضافية إلى معدل النمو الاقتصادي في البلدان المصدرة للمعادن مقارنة بالبلدان المستوردة لها. كذلك يمكن أن تشهد البلدان المصَدِّرة تحسنًا بالقدر نفسه في أرصدة المالية العامة الحكومية.[29]

وعلى الرغم من هذه التحديات، فإن عددًا من بلدان قارة إفريقيا يُظهر قدرة على الصمود في مواجهة الصدمات المتتالية التي تعرض لها العالم بدءًا من وباء كورونا وحتى الحرب الروسية-الأوكرانية. ومن بين هذه البلدان كينيا التي حققت نموًّا بنسبة 5.2%، وكوت ديفوار بنسبة 6.7%، وجمهورية الكونغو الديمقراطية بنسبة 8.6% في عام 2022. وتشير التوقعات إلى أن معدل النمو الاقتصادي في القارة سيبلغ نحو 4.3% في عام 2023 باستثناء البلدان الكبيرة، تكون كما يأتي: أنغولا (النمو المتوقع: 2.6% في عام 2023)، ونيجيريا (النمو المتوقع: 2.8% في عام 2023)، وجنوب إفريقيا (النمو المتوقع: 0.5% في 2023)،

 ومن المتوقع أن يزيد معدل النمو الاقتصادي للقارة الإفريقية إلى 5.1% في عام 2024 و5.2% في عام 2025. في حين تحقق البلدان غير الغنية بالموارد الطبيعية نموًّا بنسبة 4.2% في عام 2023، ويمكن أن تصل إلى 5.1% في عام 2024 و5.3% في عام 2025. ويمكن أن يُعزى الأداء الأقوى لهذه البلدان إلى التحسّن الذي حققته بسبب انخفاض فواتير الواردات والتوسع في الخدمات. [30]

وتشير التقارير إلى حقيقة أن إفريقيا تخسر ما يقدر بـ 195 مليار دولار سنويًّا من رأس مالها الطبيعي من خلال التدفقات المالية غير المشروعة والتعدين غير المشروع[31]. وتشير التوقعات الخاصة بالناتج المحلي الإجمالي إلى استقرار إجمالي الناتج المحلي الحقيقي في البلدان الإفريقية الغنية بالموارد الطبيعية عند مستوى منخفض، بنسبة 2.4% في عام 2023، وسيشهد ارتفاعًا طفيفًا إلى 2.9% في عام 2024 و3% في عام 2025 – وإن ظل أقل من معدل النمو الذي بلغ 3.7% في عام 2021.

وبما أن النمو الاقتصادي في إفريقيا يعتمد على استخراج السلع الأساسية وتصديرها، بما في ذلك الأخشاب والمعادن والنفط والغاز، فسرعان ما يتأثر النمو الاقتصادي بالاضطرابات التي تعرقل سلاسل التوريد العالمية. ولذلك تحتل كل من رؤية إفريقيا 2063 ورؤية التعدين الإفريقية 2050 مكانة كبيرة، حيث تسعى إلى زيادة العوائد التي تتلقاها إفريقيا من رأسمالها الطبيعي، فتعمل على مساعدة المناطق ذات الموارد الوفيرة على تطوير صناعات الموارد الأولية الخاصة بها بسرعة. حيث تحتوي كلا الرؤيتين على عناصر مشتركة لمسار التنمية الذي سيوفر لإفريقيا اقتصادًا قويًّا وحياة جيدة لشعوبها. ويلعب الاثنان أيضًا دورًا حاسمًا في الحفاظ على رأس المال الطبيعي لإفريقيا[32].

وعمومًا، فإن استغلال الموارد الطبيعية بطريقة مثلى يتيح للبلدان الإفريقية فرصة لتحسين استدامة المالية العامة وإبقاء الدين في حدود يمكن الاستمرار في تحملها، حيث تتيح الموارد الطبيعية فرصة اقتصادية لاقتصادات منطقة إفريقيا جنوب الصحراء في ظل عملية التحوّل إلى اقتصاد منخفض الكربون. كما يمكن للبلدان الإفريقية عمومًا الاستفادة من مواردها الطبيعية والجمع بين الغاز والطاقة المتجددة لتلبية الاحتياجات المحلية والعالمية. ويمكن أن يؤدي إعطاء الأولوية للاستثمارات الوافدة في احتياطيات الغاز الطبيعي المكتشفة حديثًا وغير المطورة على نحو كافٍ إلى زيادة عائدات التصدير وحفز إنتاج الطاقة محليًّا. أما على المستوى العالمي فإنه يجري من خلال التكامل الإقليمي وتنفيذ منطقة التجارة الحرة القارية التي تتضمن إمكانات هائلة لحفز التحوّل الاقتصادي في جميع أنحاء القارة. ويمكن لإدارة ثروة الموارد الطبيعية بفاعلية أن تكون وسيلة لتوفير وظائف وتحقيق قيمة مضافة لرأس المال البشري.[33]

6- خاتمة: فرص وإمكانات النمو المستقبلي لقطاع المعادن الإفريقية

يمكن الانتهاء الآن إلى أن قارة إفريقيا لديها ميزة تنافسية تتمثل في موقعها الجغرافي، وأيضًا في توافر احتياطات من المعادن المهمة للصناعات النظيفة التي تُعدّ أهم توجهات قطاع الصناعة عالميًّا، إضافة إلى توافر قوى عاملة صغيرة السن قابلة للتكيف مع الصناعات الكثيفة التكنولوجيا، ما يؤهلها للصعود والمنافسة في سوق تجارة المعادن بشرط أن تستطيع تجاوز العقبات التي تحول دون كونها مصنّعة أو منتجة.

ولقد أكد مجلس التجارة والتنمية بمنظمة “أونكتاد” ضرورة تعزيز سلاسل التوريد الإفريقية، لأنه هو المفتاح لنمو القارة، وهو يؤدي إلى خلق بيئة مواتية للصناعات الكثيفة التكنولوجيا، التي تساعد في رفع التوظيف والأجور في القارة. كما أن الاندماج في سلاسل التوريد العالمية من شأنه أن ينوع الاقتصادات الإفريقية ويعزز قدرتها على الصمود أمام الصدمات المستقبلية. حيث تستطيع إفريقيا الصعود بوصفها قوة عالمية لسلسلة التوريد في العالم خاصة في ظل وفرة الموارد والسوق الاستهلاكية المتنامية. إذ إن وفرة المعادن المهمة في إفريقيا، بما في ذلك الألمنيوم والكوبالت والنحاس والليثيوم والمنغنيز، إضافة إلى المكونات الحيوية في الصناعات المتطورة، تجعل القارة وجهةً جاذبة للتصنيع؛ ولاسيما أن الاضطرابات التجارية والأحداث الجيوسياسية وعدم اليقين الاقتصادي، يجبر الشركات المصنعة على تنويع مواقع إنتاجها. ومن حسن الحظ أن في قارة إفريقيا العديد من المزايا، مثل الوصول الأقصر والأبسط إلى المدخلات الأولية، وقوة عاملة أصغر سنًّا واعية بالتكنولوجيا وقابلة للتكيف، وطبقة وسطى مزدهرة معروفة بطلبها المتزايد على سلع وخدمات أكثر تطورًا[34].

جانب آخر مشرق يدعو إلى التفاؤل بمستقبل استكشاف المعادن الإفريقية وتجارتها هو أنه للوفاء بأهداف المناخ، والتي سيكرس له كوب28 جهوده مع منح إفريقيا مكانة خاصة، يجب الاهتمام بخارطة الطريق التي رسمتها وكالة الطاقة الدولية لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050. فلابد من السير بوتيرة سريعة في مسار التغيير، ما يعني ارتفاعًا حادًّا في الطلب على المعادن خلال العقد القادم. وفي ظل السيناريو الطموح الذي تستهدفه وكالة الطاقة الدولية، سوف يقفز استهلاك الليثيوم والكوبالت أكثر من ستة أضعاف لتلبية احتياجات البطاريات وغيرها من استخدامات الطاقة النظيفة، وهو ما تتميز به بوفرة دول القارة الإفريقية. ومن شأن هذا أن يرفع أيضًا استخدام النحاس بمقدار الضِعف واستهلاك النيكل بمقدار أربعة أضعاف[35]. وقد بدأت مساعي الدول الإفريقية للصعود؛ إذ اتخذ العديد من مصدّري السلع الأفارقة، في زامبيا وناميبيا على وجه الخصوص، إجراءات لخلق بيئة صديقة للأعمال من أجل جذب الاستثمارات إلى قطاعات التعدين المحلية. ففي حين يؤدي ارتفاع أسعار السلع الأساسية إلى تغذية طفرة التصدير في جميع أنحاء إفريقيا، يمكن لارتفاع أسعار النحاس والنفط وخام الحديد والألمنيوم والغاز أن يحفز الاستثمارات في إفريقيا، ويساعد على الحد من الاختلالات الخارجية، وتحقيق استقرار العملات، وتعزيز النمو الاقتصادي كمحصلة سنوية..

وأخيرًا، فإنه للتغلب على تحديات نمو قطاع المعادن في إفريقيا، لابد من العمل على تطوير ثلاثة جوانب مهمة، لعل أولها تعزيز السياسات المالية واتباع أساليب الحكم الرشيد، وثانيها تعزيز البنية التحتية وإنشاء بنية تحتية وصناعية تعتمد على أساليب التكنولوجيا الحديثة، وثالثها تعزيز الاتفاقات الدولية الإقليمية والعالمية لدعم سلاسل التوريد والتخلص من مشكلات التمويل.

 

[1] Federal Minister of Finance of Australia, World Mining Data 2023, available at:

https://www.world-mining-data.info/?World_Mining_Data___Mineral_Raw_Materials

[2] Austrian Federal Ministry of Finance, World Mining Data 2023, available at: https://www.world-mining-data.info/?World_Mining_Data___Mineral_Raw_Materials

[3] Gracelin Baskaran, Could Africa replace China as the world’s source of rare earth elements? December 2022 https://www.brookings.edu/articles/could-africa-replace-china-as-the-worlds-source-of-rare-earth-elements/

[4] IEA, Critical Minerals Market Review 2023

[5]S&P Global, 2023 Corporate Exploration Strategies

[6] Gracelin Baskaran, Could Africa replace China as the world’s source of rare earth elements? December 2022, available at:

https://www.brookings.edu/articles/could-africa-replace-china-as-the-worlds-source-of-rare-earth-elements/

[7] مع ملاحظة أن بيانات هذا العام محسوبة في ظل ظروف الجائحة العالمية لكوفيد-19.

[8] United Nations, The Potential of Africa to Capture Technology-Intensive Global Supply Chains, Economic Development in Africa Report 2023

[9]   IEA, how critical minerals can unlock a cleaner energy future? Available at: https://www.iea.org/topics/critical-minerals

[10] الأمم المتحدة، عملنا في إفريقيا، متوافر على الرابط: https://www.unep.org/ar/regions/africa/mlna-fy-afryqya

[11]  EIU, Mining in Africa: the benefit of elevated prices amid inflationary pressures,2022

[12] Gracelin Baskaran, Prospects for U.S. Minerals Engagement with Africa, Center for Strategic and International Studies, August 2023

[13] نوار صبح، وحدة أبحاث الطاقة، المعادن الحيوية في أمريكا تدعم الاقتصاد العالمي خلال العقود المقبلة (تقرير)، يوليو 2023 في الرابط التالي: https://attaqa.net.  

[14] The business research company, The Global Metal Products Market Report 2023

[15] قطاع التعاون الإفريقي، البنك المركزي المصري، التعدين في إفريقيا بالتركيز على التحديات المالية والأمنية، ديسمبر 2020.

[16] يلاحظ وجود تركز على مستوى الشركات العالمية العاملة في قطاع التعدين أيضًا. إذ يهيمن عدد قليل من الشركات الكبرى على صناعة المعادن الحيوية؛ وتتحكم أكبر 5 شركات تعدين عالمية في 61% من إنتاج الليثيوم و56% من إمدادات الكوبالت، ما يثير مساوئ الاحتكار.

[17] محمود جودة، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، مصر، تسارُع عمليات البحث عن المعادن الأرضية حول العالم، إبريل 2023

 [18] نوار صبح، مرجع سابق.

[19] محمود جودة، مرجع سابق

[20] فعلى سبيل المثال، تمتلك بوليفيا 21 مليون طن من احتياطيات الليثيوم، لكنها تنتج أقلّ من 1% من الإمدادات العالمية راجع في ذلك: أحمد شوقي، وحدة أبحاث الطاقة، آيرينا: سلاسل توريد المعادن الحيوية تهدد سرعة تحول الطاقة، يوليو 2023 https://attaqa.net

[21] تعدّ روسيا من الدول صاحبة الاستثمارات المهمة في قطاع المعادن والطاقة في إفريقيا. وتتركز تلك الاستثمارات إلى حد كبير في السودان وغينيا وجمهورية إفريقيا الوسطى وموزمبيق. ولكن بالنظر إلى أن معظم عمليات التعدين الروسية في إفريقيا هي مشاريع مشتركة تعتمد جزئيًّا على التمويل الروسي، فمن المحتمل أن تتسبب العقوبات الناتجة عن الحرب الروسيةالأوكرانية في تعطيل عمليات التعدين ومستويات الإنتاج لأن التمويل الروسي أصبح محدودًا أو مقطوعًا تمامًا.

 

[22] محمد رياض وكوثر عبد الرسول، إفريقيا: دراسة لمقوِّمات القارَّة، مؤسسة هنداوي للأبحاث، 2015

[23]s&p global market intelligence, World Exploration Trends, March 2023

[24] البنك الدولي في إفريقيا، إبريل 2023 متاح على الرابط الآتي: https://www.albankaldawli.org/ar/region/afr/overview

[25] Gracelin Baskaran, Could Africa replace China as the world’s source of rare earth elements? December 2022, available at:

https://www.brookings.edu/articles/could-africa-replace-china-as-the-worlds-source-of-rare-earth-elements/

[26] البنك الدولي في إفريقيا إبريل، مرجع سابق

[27]S&P Global Market Intelligence, World Exploration Trends 2022,”

[28]   EIU, Mining in Africa, Ibid

[30] البنك الدولي في إفريقيا، مرجع سابق

[31] الأمم المتحدة، عملنا في إفريقيا، مرجع سابق

[32] UNEP 2016. GEO-6 Regional Assessment for Africa. United Nations Environment program

[33] البنك الدولي في إفريقيا، مرجع سابق

[34] وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، مصر، النشرة الأسبوعية، أغسطس 2023

[35] Lukas Boer, Nico Valck, IMF

https://www.imf.org/ar/Blogs/Articles/2021/11/10/soaring-metal-prices-may-delay-energy-transition

المواضيع ذات الصلة