في ضربة جديدة تستهدف تنظيم الإخوان المسلمين، وقّع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أمرًا تنفيذيًّا يباشر بموجبه إجراءات تصنيف عدد من فروع الجماعة كـ«منظمات إرهابية أجنبية». ووفق بيان للبيت الأبيض، فإن «الرئيس ترامب يواجه الشبكة العابرة للحدود لجماعة الإخوان، التي تغذي الإرهاب وحملات زعزعة الاستقرار المناهضة للمصالح الأمريكية وحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط». ويشمل الأمر التنفيذي فروع الجماعة في لبنان ومصر والأردن[1].
يأتي هذا القرار في ظل ضغوط متزايدة داخل الإدارة الأمريكية، مدفوعة بتنامي نشاط الإخوان عالميًّا وتصاعد المخاوف من تأثير أيديولوجيتهم على المجتمعات الغربية. وكان ترامب قد صرّح سابقًا بأن الجماعة “تستخدم واجهات متعددة، من مساجد وجمعيات ومراكز ثقافية واجتماعية، بهدف حشد أوسع جمهور ممكن وبناء مجتمع موازٍ مضلل”.
وقد شهدت الساحة السياسية الأمريكية خلال الأشهر الأخيرة نقاشًا لافتًا حول ضرورة تصنيف الإخوان ومنظماتهم في الولايات المتحدة ككيانات إرهابية. فالجمهوريون يمارسون ضغطًا ملحوظًا داخل مجلسي الكونغرس، إلى جانب عدد من الديمقراطيين، لدفع وزارة الخارجية نحو اتخاذ هذا القرار. كما تقدّم السيناتور تيد كروز بمشروع قانون يلزم الإدارة الأمريكية بتصنيف الجماعة كـ”منظمة إرهابية أجنبية”.
يثير هذا التحول الأمريكي تساؤلات مهمة حول التداعيات المحتملة، سواء على الداخل الأمريكي أو على تنظيم الإخوان نفسه، الذي يعاني خلال السنوات الأخيرة من أزمات بنيوية حادة أدت إلى تراجع نفوذه التنظيمي والسياسي، خصوصًا في المنطقة العربية التي شكلت تاريخيًّا بيئته الحاضنة الرئيسية.
وتسعى هذه الدراسة إلى تحليل السياقات التي قادت إلى صدور القرار، وتقييم التداعيات المحتملة له على المستويين المحلي والدولي، بما يسهم في فهم أعمق للبيئة الجيوسياسية التي باتت تحاصر المشروع الإسلاموي وتحدّ من قدرته على الاستمرار.
أولًا: سياقات صدور القرار
جاء توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًّا لبدء إجراءات تصنيف عدد من فروع جماعة الإخوان المسلمين كـ«منظمات إرهابية أجنبية» في سياق تحوّل سياسي لافت داخل الولايات المتحدة. فقد سبق هذا القرار إعلان حاكم ولاية تكساس الجمهوري غريغ أبوت، في 19 نوفمبر الجاري، إدراج جماعة الإخوان المسلمين ومجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (كير) على قائمة «المنظمات الإرهابية الأجنبية» و”المنظمات الإجرامية العابرة للحدود”.[2]
ويترتب على هذا التصنيف مجموعة من الإجراءات العقابية داخل الولاية، تشمل حرمان تلك الكيانات من شراء أو امتلاك الأراضي في تكساس، إضافة إلى منح المدعي العام سلطة اتخاذ إجراءات قانونية لإغلاق مقارّها وأنشطتها[3].
كما جاء هذا القرار في ظلّ تصاعد المخاوف داخل القارة الأوروبية من مخاطر جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما دفع عددًا من دول الاتحاد إلى تبنّي سياسات أكثر صرامة تجاه الجماعة ومؤسساتها. فقد شهدت أوروبا خلال الأشهر الأخيرة موجة غير مسبوقة من الإجراءات السياسية والقضائية التي تستهدف منظمات يُشتبه في ارتباطها بتنظيم الإخوان أو بتبنّيها خطابًا أيديولوجيًّا يندرج تحت ما يُعرف بـالإسلام السياسي.
وتتسارع اليوم الخطوات الرسمية في عدد من الدول الأوروبية باتجاه تفكيك المؤسسات والجمعيات التي يُشتبه في خضوعها للتأثير الإخواني، سواء من خلال حلّ جمعيات، أو إغلاق مراكز دينية وتعليمية، أو وقف التمويل العمومي عنها، وذلك وسط تحذيرات أمنية متصاعدة من مخاطر تغلغل هذه الكيانات داخل النسيج الاجتماعي والمؤسسات العامة، بما في ذلك المدارس والجامعات والبلديات[4].
ويعكس هذا التوجّه الأوروبي إدراكًا متزايدًا بأن خطر الإخوان لا يقتصر على النشاط السياسي أو الدعوي التقليدي، بل يشمل أيضًا آليات التأثير الناعم، وبناء الشبكات، واستغلال الفضاءات المدنية لإعادة إنتاج خطاب أيديولوجي يتعارض مع قيم المواطنة والاندماج[5].
لم يأتِ إعلان ترامب من فراغ، بل جاء في سياق سياسي شديد التعقيد، تتقاطع فيه تطورات غزة، وتصاعد التوتر مع إيران، والدور المستجدّ لحركة حماس، في وقت تتزايد فيه الضغوط على الإدارة الأمريكية لاعتماد نهج أكثر تشددًا تجاه الحركات ذات المرجعية الإسلامية. فخلال الأشهر الأخيرة، أسهم تصاعد العمليات في الشرق الأوسط، وتنامي النفوذ الإيراني، في تعزيز المطالبات داخل الولايات المتحدة بمواجهة البنى الأيديولوجية التي يُعتقد أنها تغذي التطرف، وعلى رأسها الجماعات المرتبطة بالإخوان المسلمين.
ومن الناحية التاريخية، مثَّل ملف تصنيف جماعة الإخوان المسلمين نقطة خلاف داخل المؤسسات الأمريكية، خاصة خلال الولاية الأولى لترامب، حين واجه هذا التوجه عقبات قانونية واعتراضات مؤسسية من وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية. وقد ارتكزت تلك التحفّظات على صعوبات تقنية تتعلق بتحديد فرع واحد واضح يمكن الاستناد إليه كأساس قانوني للتصنيف، بالنظر إلى الطبيعة الشبكية المتشعبة للجماعة وتوزعها بين بلدان مختلفة[6].
غير أنّ عودة الجمهوريين إلى مواقع نفوذ مركزية داخل الكونغرس، وتنامي المزاج المحافظ في قضايا الأمن القومي والهجرة، أسهما في خلق بيئة سياسية أكثر استعدادًا لتبنّي قرارات من هذا النوع. وفي ظل هذا المناخ، أصبح ترامب يمتلك قدرة أكبر على تمرير مبادرات استراتيجية تتعلق بالإسلام السياسي، مستفيدًا من دعم واضح داخل الكونغرس ومن التحولات الإقليمية في الشرق الأوسط[7].
ويُضاف إلى ذلك أن قطاعًا واسعًا من قاعدته الانتخابية ينظر إلى الإسلاموية باعتبارها تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الأمريكي، ويرى في تصنيف الإخوان خطوة ضرورية لتعزيز الأمن الداخلي والحد من تأثير الشبكات الأيديولوجية العابرة للحدود.
أما بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين، فقد جاء قرار الرئيس الأمريكي في وقت تعيش فيه الجماعة أسوأ مراحلها منذ عقود، خاصة في المنطقة العربية التي طالما اعتبرتها معقلها الرئيسي ومنطقة الثقل الفكري والتنظيمي الأهم. فمنذ سنوات، والجماعة تواجه تراجعًا حادًّا وخسائر متعددة الأبعاد، غير أن أحداث السابع من أكتوبر 2023 سرّعت من هذا التدهور، إذ كشفت تلك الأحداث هشاشة التنظيم الدولي للجماعة وضعف قدرته على التنسيق بين فروعه، كما أبرزت محدودية تأثيره في المشهد الإقليمي.
وقد دفعت هذه التطورات بالجماعة إلى حالة من الكمون القسري والعودة إلى العمل في الظل، بعدما فقدت مواقعها التقليدية في عدد من الدول. فإلى جانب تصنيفها كمنظمة إرهابية في الإمارات ومصر والسعودية والأردن، تواجه بقية فروعها في المنطقة أزمات متتالية، تشمل الانقسامات القيادية، وتراجع الحاضنة الاجتماعية، وفقدان التمويل، وانكماش نفوذها داخل المؤسسات الدينية والتعليمية والسياسية.
ومن هذا المنظور، يُنظر إلى القرار الأمريكي ليس فقط كإجراء سياسي أو أمني، بل كضربة إضافية تأتي في لحظة انحسار تاريخي لمشروع الجماعة، وتآكل بنيتها التنظيمية، وتراجع قدرتها على التأثير في المجالين العربي والدولي[8].
تشهد الحركات ذات المرجعية الإخوانية في العالم العربي تراجعًا حادًّا وملموسًا خلال السنوات الأخيرة، وهو تراجع يمكن رصده بوضوح عبر تجارب عدد من الدول. ففي تونس، تعيش حركة النهضة واحدة من أعمق أزماتها منذ تأسيسها، وذلك منذ الإجراءات الاستثنائية لصيف 2021 التي أفضت إلى تفكيك منظومة النفوذ التي بنتها الحركة منذ 2011. وتواجه النهضة اليوم اتهامات ثقيلة تتعلق بالإرهاب، وشبهات حول ارتباطها بملفات الاغتيالات السياسية وشبكات التسفير، ما أدى إلى انهيار حضورها السياسي والشعبي ودخول قياداتها مرحلة ملاحقات قضائية غير مسبوقة[9].
أما في المغرب، فقد تعرض حزب العدالة والتنمية -الذراع السياسية للإسلاموية الحركية- لواحدة من أقسى الهزائم في تاريخه خلال الانتخابات التشريعية، إذ تراجع من 125 مقعدًا في انتخابات 2016 إلى 12 مقعدًا فقط، وخسر بالتالي موقعه القيادي داخل البرلمان بما في ذلك رئاسة مجلس النواب. وقد عكست هذه الهزيمة فقدان الحزب لقاعدته الانتخابية التقليدية وتآكل الثقة الشعبية في خطابه وممارساته بعد عقدٍ من الحكم.[10]
أما في الجزائر، فتعيش حركة مجتمع السلم (حمس) ـ الذراع الإخوانية الأكبر في البلاد ـ انقسامًا تنظيميًّا حادًا بين تيار يقوده عبدالرزاق مقري وآخر بقيادة الرئيس الحالي عبد العالي حساني شريف. وقد انعكس هذا الانشقاق بوضوح على أداء الحركة السياسي والشعبي، إذ لم تتجاوز نسبة الأصوات التي حصل عليها مرشّحها للرئاسة 3% فقط في الانتخابات الأخيرة، ما يعكس تراجع ثقة القاعدة الاجتماعية في المشروع الإخواني داخل الجزائر.
وفي سوريا، رفضت القيادة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع طلب جماعة الإخوان المسلمين إعادة افتتاح مقارّها، في خطوة تُعدّ مؤشرًا صريحًا على تراجع مكانة الجماعة في المشهد السوري وعلى إدراك الأطراف الفاعلة لخطورة استعادة الإخوان لمساحات النفوذ في مرحلة ما بعد الحرب.
أما في لبنان، فقد ازداد الحديث خلال الفترة الأخيرة عن ضرورة نزع سلاح “الجماعة الإسلامية” -الجناح اللبناني للإخوان- في ظل تراجع هيمنة حزب الله وانفتاح النقاش الداخلي حول حصر السلاح بيد الدولة. هذا التحوّل يعكس تضاؤل قدرة الحركات الإخوانية المسلحة على الاحتفاظ بشرعية دورها، في وقت تشهد فيه البلاد تحولات سياسية وأمنية تضغط باتجاه إنهاء ظاهرة الميليشيات والكيانات الدينية ذات الطابع العسكري[11].
وعلى مستوى “الجماعة الأم”، تعيش جماعة الإخوان المسلمين منذ عام 2020 أزمة بنيوية غير مسبوقة أدّت إلى تفككها إلى ثلاث جبهات رئيسية تتنافس على الشرعية والقيادة:
جبهة لندن بقيادة صلاح عبدالحق، الذي يتولى منصب القائم بأعمال المرشد، وتقدّم نفسها بوصفها الامتداد “الرسمي” للتنظيم الدولي.
جبهة إسطنبول برئاسة الأمين العام السابق محمود حسين، والتي لاتزال تسيطر على جزء معتبر من الموارد المالية وشبكات الحركة الإعلامية والتنظيمية في الخارج.[12]
جبهة التيار التغييري المنبثقة عن المجموعات الشابة الموالية للقيادي الراحل محمد كمال، وهي جبهة ترفض بصورة قاطعة كلًّا من جبهتي لندن وإسطنبول، وتتبنى خطابًا أكثر حدة في نقد البنية التقليدية للتنظيم[13].
وقد أدى هذا الانقسام الثلاثي إلى تعميق حالة التشظي الداخلي داخل الجماعة، وانهيار مركزية القيادة، وفقدان التنظيم قدرته التقليدية على ضبط صفوفه أو إدارة خلافاته وفق آلياته التاريخية. كما انعكس هذا التصدع على حضور الإخوان إقليميًّا ودوليًّا، حيث بات التنظيم عاجزًا عن إنتاج خطاب موحّد أو صياغة موقف سياسي يعبر عن “جماعة الأم”، الأمر الذي ضاعف من هشاشته في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية المتصاعدة[14].
ثانيًا: التداعيات المحتملة لقرار ترامب
لا يمثل توقيع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أمرًا تنفيذيًّا لبدء إجراءات تصنيف بعض فروع جماعة الإخوان المسلمين كـ«منظمات إرهابية أجنبية» قرارًا شاملًا أو نهائيًّا؛ لاعتبارات سياسية وقانونية عدة.
فالقرار لا يشمل التنظيم الدولي، أو الجماعة الأم، أو معظم فروعها المنتشرة في عشرات الدول، كما لا يتضمن العقوبات المتعلقة بالشبكات المالية والإعلامية والدعوية التابعة للجماعة، أو تلك التي تعمل تحت مظلة المجتمع المدني. وهذا يعني أن القرار، في صورته الراهنة، يستهدف جزءًا من البنية الإخوانية، وليس هيكلها العالمي المتكامل.
من ناحية أخرى، تبرز مخاوف سياسية داخل الولايات المتحدة، مفادها أنه في حال رحيل ترامب، وقدوم رئيس ديمقراطي إلى البيت الأبيض، فإنه سيكون قادرًا على إلغاء القرار أو تجميده؛ وهو ما يعيد الوضع إلى نقطة الصفر، ما لم يُستكمل القرار بتشريعات ومسوغات قانونية أوسع تجعل التراجع عنه أكثر صعوبة.
ورغم هذه المحاذير، فإن القرار الأمريكي المتوقع سيترك تداعيات عميقة على مستويين:
الداخل الأمريكي:
سيؤدي إلى تضييق المجال أمام المؤسسات والواجهات المرتبطة بالإخوان، بما في ذلك مراكز النفوذ داخل الجامعات ومؤسسات الضغط ودوائر المجتمع المدني، وخصوصًا الكيانات التي عُرفت تاريخيًّا بلعب دور مركزي في إعادة إنتاج سردية الجماعة داخل الولايات المتحدة.
الجماعة نفسها:
سيُحدث القرار ضربة موجعة للتنظيم الدولي، الذي راهن طويلًا على مراكز قوته في الولايات المتحدة وأوروبا لتعويض خسائره القاسية في العالم العربي، بعد موجة الانكسار التي تعرض لها منذ 2013، ثم التراجع الحاد بعد 7 أكتوبر 2023. وقد مثّلت هذه المراكز آخر خطوط الدفاع الدعوية والإعلامية والفكرية للجماعة، وإحدى أهم أدواتها لإعادة التموقع عالميًّا.
وبناءً على ذلك، يمكن تحديد أبرز التداعيات المحتملة لهذا القرار في النقاط التالية:
- دخول واشنطن على خط مواجهة الإسلام السياسي
يمثّل الأمر التنفيذي، الذي أصدره الرئيس دونالد ترامب، والقاضي بتصنيف بعض فروع جماعة الإخوان المسلمين كـ«منظمات إرهابية أجنبية»، تحولًا لافتًا في مقاربة الولايات المتحدة لقضية الإسلام السياسي. فقد استهدف القرار بشكل مباشر فروع الجماعة في لبنان ومصر والأردن، التي تتهمها الإدارة الأمريكية بدعم أو تشجيع هجمات ضد إسرائيل وشركاء الولايات المتحدة، أو بتقديم دعم مادي ولوجستي لحركة حماس.
ويتيح هذا التصنيف لواشنطن اتخاذ حزمة واسعة من الإجراءات العقابية، أبرزها:
- تجميد الأصول المحتملة للجماعة داخل الولايات المتحدة.
- منع دخول أعضائها أو المتعاونين معها إلى الأراضي الأمريكية.
- تقييد أنشطتها أو أنشطة المؤسسات المرتبطة بها.
ويعكس هذا التوجه رغبة متزايدة داخل الإدارة الأمريكية في تحصين الأمن الداخلي، ومنع انتشار الأفكار المتطرفة للجماعة بين الشباب والفئات المؤثرة داخل المجتمع الأمريكي، خاصة في ظل تنامي المخاوف من أثر الشبكات الإخوانية على الخطاب الديني، والعمل المدني، والأنشطة الطلابية داخل الجامعات.
كما يشير القرار إلى وجود تحول استراتيجي داخل إدارة ترامب لمواجهة بنية الإسلام السياسي برمتها، وليس فقط التنظيمات العنيفة. ويعيد هذا التحرك فتح نقاش واسع حول الأبعاد القانونية والسياسية والأمنية للقرار، وتأثيره على الداخل الأمريكي من جهة، وعلى التوازنات الإقليمية في الشرق الأوسط من جهة أخرى، خصوصًا في ظل تراجع المشروع الإخواني في المنطقة، وتنامي الدعوات الدولية لمحاصرة خطاب الإسلام السياسي بأشكاله المختلفة[15].
- التضييق على أنشطة الإخوان في الغرب:
يُتوقع أن يُحدث قرار ترامب، الذي يستهدف بعض فروع جماعة الإخوان المسلمين، تأثيرًا مباشرًا وعميقًا على أنشطة الجماعة داخل الولايات المتحدة، وفي الدول الغربية عمومًا. فبموجب التصنيف كـ«منظمة إرهابية أجنبية»، سيُفرض تجميد فوري على جميع الأموال والممتلكات والموارد التي تملكها الجماعة، أو تسيطر عليها داخل الولايات المتحدة، أو في أي منطقة تدخل ضمن الولاية القضائية الأمريكية.
كما يترتّب على القرار حظر دخول أي عضو أو داعم أو ممول للجماعة إلى الأراضي الأمريكية بشكل نهائي، وهو ما يشمل الأفراد العاملين في المؤسسات الدعوية والإعلامية والحقوقية المحسوبة على الإخوان. ويمتد التأثير إلى النظام المالي الدولي؛ إذ سيُجبر القرار البنوك المرتبطة بنظام «سويفت» حول العالم على وقف التعاملات المالية مع الأشخاص أو الكيانات المرتبطة بالجماعة، خشية التعرض لعقوبات مالية أمريكية.
هذا الواقع سيدفع الإخوان إلى البحث عن طرق بديلة لإدارة تمويلهم، سواء عبر التعامل النقدي (الكاش)، أو عبر أطراف ثالثة وشبكات غير رسمية، وهو ما سيحدّ بشكل كبير من قدرتهم المؤسسية على إدارة أنشطتهم المعتادة، خصوصًا في مجالات الضغط السياسي والإعلامي والعمل الطلابي في الجامعات الغربية.
ويمثل هذا التصنيف -حال تطبيقه الكامل- أكبر ضربة قانونية ومالية وتنظيمية تتعرض لها الجماعة وشبكاتها في الغرب منذ تأسيسها عام 1928، بل ويُعدّ تحولًا جذريًّا في الطريقة التي تنظر بها الولايات المتحدة إلى الإسلام السياسي كمنظومة أيديولوجية لا تختلف في أهدافها النهائية عن الحركات الراديكالية الأخرى، وإن اختلفت أدواتها.
ومن شأن هذا التحول أن يفتح الباب أمام توجه غربي أوسع لتضييق الخناق على الجماعات الإسلاموية في أوروبا وأمريكا الشمالية، خاصة في ظل تزايد القلق من قدرتها على التجنيد الناعم، وإعادة إنتاج خطاب الهوية، واستغلال قيم الحريات والعمل المدني لبناء نفوذ طويل الأمد داخل المجتمعات الغربية[16].
- تجفيف مصادر تمويل الجماعة:
يمثل القرار التنفيذي، الذي أصدره ترامب، خطوة حاسمة نحو تجفيف الموارد المالية لجماعة الإخوان المسلمين وشبكاتها الممتدة في الغرب والشرق الأوسط. فمن أبرز التداعيات المتوقعة للقرار أن تتوقف معظم البنوك العالمية فورًا عن التعامل مع أي كيان أو فرد مرتبط بالجماعة، خشية التعرّض للعقوبات الثانوية التي تفرضها وزارة الخزانة الأمريكية على المؤسسات المالية المتعاملة مع منظمات مصنّفة إرهابيةً.
كما ستواجه الدول التي تتعامل مع الإخوان أو تستضيف مؤسساتهم ضغوطًا أمريكية متزايدة، قد تصل في بعض الحالات إلى فرض عقوبات مباشرة، أو إدراج أفراد ومؤسسات ضمن القوائم السوداء. في المقابل، ستستفيد الدول التي صنفت الجماعة إرهابيةً سابقًا -مثل دولة الإمارات والسعودية ومصر- من غطاء سياسي وقانوني أمريكي يعزّز مواقفها، ويضفي شرعية دولية إضافية على سياساتها تجاه الجماعة.
ويتيح القرار للسلطات الأمريكية، وللدول المتحالفة معها، إغلاق أي جمعية أو مؤسسة أو مركز ديني يثبت تقديمه دعمًا ماليًّا أو لوجستيًّا لجماعة الإخوان، إضافة إلى تجميد أصولها، ووقف تدفق الأموال إليها عبر القنوات التقليدية؛ وهذا من شأنه إضعاف البنية التحتية المالية للجماعة، التي تعتمد بشكل كبير على شبكة واسعة من الجمعيات والمراكز الدينية والمشاريع الاستثمارية والواجهات المدنية التي تستخدمها لتدوير الأموال وتمويل أنشطتها[17].
ولا تقتصر تداعيات القرار على الساحة الأمريكية وحدها، بل تمتد لتشمل وجود الجماعة في مناطق أخرى، خصوصًا في الشرق الأوسط، حيث تعتمد شبكات جماعة الإخوان على التمويل الخارجي للحفاظ على أنشطتها الدعوية والإعلامية والتنظيمية. ويأتي القرار الأمريكي في سياق طبيعي يتماشى مع الاستراتيجية المعلنة لواشنطن التي تهدف إلى تفكيك الشبكات العابرة للحدود، التي ترى فيها تهديدًا مباشرًا لأمن الولايات المتحدة وأمن حلفائها في المنطقة.
وبذلك، فإن القرار لا يشكّل مجرد خطوة سياسية، بل ضربة مالية استراتيجية قد تُحدث تحولًا جذريًّا في قدرة الجماعة على العمل والانتشار، وتعيد رسم خريطة نفوذها على المستوى الدولي[18].
- تفاقم الأزمات التنظيمية للجماعة:
مع توقيع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الأمر التنفيذي الذي يوجّه بالبدء في إجراءات إدراج بعض فروع جماعة الإخوان المسلمين ضمن قائمة «المنظمات الإرهابية الأجنبية»، يجد التنظيم نفسه أمام منعطف خطير وضغوط دولية متصاعدة غير مسبوقة منذ تأسيسه عام 1928. وتبرز أهمية هذه الخطوة في كونها تأتي في وقت يتعرض فيه التنظيم أصلًا إلى هشاشة بنيوية عميقة، وانقسامات داخلية، وتراجع عملي وفكري في معظم معاقله التقليدية.
ويمثّل التحرك الأمريكي حلقة جديدة في سلسلة واسعة من الإجراءات الإقليمية والدولية التي استهدفت الجماعة خلال العقد الأخير، بدءًا من الحظر القانوني في عدد من الدول العربية، مرورًا بالملاحقات القضائية، وصولًا إلى تجفيف شبكات التمويل والإسناد التي اعتمدت عليها الجماعة لعقود. فقد صنفت دول، مثل مصر، والأردن، والسعودية، والإمارات، والبحرين الجماعة منظمةً إرهابية، متهمة إياها بتقويض الاستقرار الداخلي، وتأجيج التوترات الإقليمية، ودعم جماعات مسلحة، أو توفير غطاء سياسي لها.
وفي ضوء هذا التوجه الدولي، تشير تقديرات متعددة إلى أن إدراج الإخوان على القوائم الأمريكية السوداء قد يؤدي إلى تسريع عملية تفكك البنية التنظيمية للجماعة داخل العالم العربي، مع توسّع نطاق الانقسامات الداخلية، وتراجع قدرة القيادة على ضبط الفروع المتنازعة. كما يُتوقع أن تتعمق عزلتهم داخل أوروبا، حيث تتزايد الضغوط السياسية والأمنية على المراكز والجمعيات المحسوبة عليهم، في ظل تحذيرات متكررة من الأجهزة الأمنية الأوروبية بشأن أنشطة الشبكات الإسلاموية ذات المرجعية الإخوانية.
ويُنظر إلى القرار الأمريكي باعتباره إضافة نوعية إلى منظومة الضغوط الدولية التي تهدف إلى تضييق حركة التنظيم عالميًّا، وقد يدفع عددًا أكبر من الدول، سواء في أوروبا أو أفريقيا أو آسيا، إلى اتخاذ خطوات مماثلة، أو تشديد القيود المفروضة على المؤسسات التي تعمل تحت مظلة الجماعة. ومن شأن ذلك أن يزيد من تفاقم أزمات الإخوان التنظيمية، ويضعف قدرتهم على إعادة التموقع، أو استعادة النفوذ في المدى المنظور.
الخاتمة
تكشف القراءة المتأنية لقرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الشروعَ في تصنيف بعض فروع جماعة الإخوان المسلمين كـ«منظمات إرهابية أجنبية» عن تحوّل عميق في مقاربة الولايات المتحدة لملف الإسلام السياسي. فهذا القرار، رغم أنه لا يشمل الجماعة الأم أو التنظيم الدولي، فإنه يمثل محطة مفصلية في منهجية واشنطن تجاه إحدى أقدم الحركات الإسلاموية، وأكثرها حضورًا في الغرب والعالم العربي.
لقد جاء القرار في لحظة تتقاطع فيها هشاشة البنية التنظيمية للإخوان، وانقسام صفوفهم، مع تصاعد المخاوف الإقليمية والدولية من دور الشبكات الإخوانية في تغذية الأيديولوجيات الراديكالية، ودعم جماعات مسلحة في الشرق الأوسط. كما يتناغم القرار مع موجة إقليمية واسعة شملت حظر الجماعة، وتجفيف مواردها، وملاحقة كياناتها في عدد من الدول العربية والأوروبية.
وفي السياق ذاته، يمكن القول إن هذه الخطوة تمثل تحولًا نوعيًّا في استراتيجية واشنطن تجاه الإخوان؛ إذ تنتقل الإدارة الأمريكية من مرحلة الجدل القانوني والسياسي حول طبيعة الجماعة إلى تبني إجراءات تنفيذية موجهة تستهدف فروعًا محددة ثبت تورطها في العنف، أو تقديم دعم مادي ولوجستي لجماعات مسلّحة. وهذا التحول يعكس أن تعامل واشنطن مع الإخوان قد تغيّر جذريًّا مقارنة بما كان عليه قبل عقد واحد فقط، حين كان التنظيم يُنظر إليه كحركة سياسية سلمية قابلة للشراكة والتعاون.
تبعث هذه الخطوة أيضًا رسالة صريحة، مفادها أن الولايات المتحدة باتت تنظر إلى الإخوان باعتبارهم شبكة أيديولوجية عابرة للحدود، ذات امتدادات تنظيمية وتأثيرات تتجاوز الإطار الوطني الضيق. في المقابل، تُدرك واشنطن أن محاربة الإرهاب -بشكل عام- ومواجهة الإسلاموية الإخوانية -بشكل خاص- تستلزمان تعزيز التعاون مع الشركاء الإقليميين؛ بهدف إضعاف القدرات التشغيلية للفروع المصنفة إرهابيةً، ومنعها من الوصول إلى الموارد التمويلية والبشرية اللازمة لاستمرار نشاطها، بما يسهم في قطع الطريق على أي تهديد محتمل يستهدف المواطنين الأمريكيين أو الأمن القومي للولايات المتحدة.
إن هذه التطورات، في مجموعها، تجعل من قرار ترامب خطوة قد تُعيد تشكيل البيئة الدولية المحيطة بالجماعة، وتضعها أمام مرحلة غير مسبوقة من العزلة والانكشاف. ومع استمرار التراجع التنظيمي للجماعة، وتفكك مراكز نفوذها في الشرق الأوسط، وتعرضها لضغوط مالية وقانونية في الغرب، يبدو أن مشروع الإسلاموية -بنسخته الإخوانية- يدخل حقبة جديدة تتسم بالتضييق، والمساءلة، وإعادة تعريف موقعه داخل النظام الدولي.
وعليه، فإن القرار الأمريكي لا يمثل نهاية الإسلاموية، ولكنه يُؤذِن بانتهاء مرحلة تاريخية كانت الجماعة خلالها قادرة على المناورة والتغلغل والاستفادة من بيئات دولية متسامحة. أما المرحلة المقبلة، فستكون دون شك مرحلة إعادة تموضع قسرية، ستختبر قدرة الجماعة على البقاء في ظل الضغوط المتصاعدة، أو ستقودها تدريجيًّا إلى التآكل والتحول إلى ظاهرة من الماضي، خارج الزمن السياسي ودوائر التأثير الفعلي.
[1] لماذا استهدف ترامب فروع الإخوان في 3 دول عربية؟، موقع سكاي نيوز عربية، بتاريخ 25 نوفمبر 2025، على الرابط: https://h7.cl/1f6IA
[2] تكساس الأمريكية تدرج «الإخوان» في قائمة الكيانات الإرهابية، موقع صحيفة الخليج، بتاريخ 19 نوفمبر 2025، على الرابط: https://h7.cl/1f6J2
[3] تصنيف “الإخوان” منظمةً إرهابيةً في تكساس: قراءة في الدلالات والتداعيات، مركز تريندز للبحوث والاستشارات، بتاريخ 20 نوفمبر 2025، على الرابط: https://h7.cl/1f6Mq
[4] تفكيك نفوذ الإخوان في أوروبا.. المواجهة تصل إلى أيرلندا، موقع سكاي نيوز عربية، بتاريخ 18 أكتوبر 2025، على الرابط: https://h7.cl/1jWJy
[5] تحقيقات ومداهمات وحل مؤسسات.. أوروبا تترجم مخاوفها من خطر الإخوان، موقع العين الإخبارية، بتاريخ 20 سبتمبر 2025، على الرابط: https://al-ain.com/article/europe-translates-fears-brotherhood
[6] ترامب يبدأ عملية تصنيف فروع للإخوان المسلمين منظمات إرهابية، موقع مونت كارلو، بتاريخ 25 نوفمبر 2025، على الرابط: https://h7.cl/1jWK0
[7] الإخوان المسلمون.. ما انعكاسات قرار ترامب بوضع الجماعة على قائمة التطرف، المركز الأوربي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، بتاريخ 24 نوفمبر 2025، على الرابط: https://h7.cl/1jWKo
[8] ما بعد 7 أكتوبر.. كيف تراجع نفوذ الإخوان عربيًّا؟، موقع سكاي نيوز عربية، بتاريخ 30 يونيو 2025، على الرابط: https://h7.cl/1f6KD
[9] المرجع السابق.
[10] كيف تفاعل الشارع المغربي مع سقوط الإخوان”، موقع سكاي نيوز عربية، بتاريخ 9 سبتمبر 2021، على الرابط: https://h7.cl/1jWKQ
[11] حديث الشرع عن الإخوان يثير “الإخوان، موقع سكاي نيوز عربية، بتاريخ 27 أغسطس 2025، على الرابط: https://h7.cl/1jWLJ
[12] “إخوان مصر” بين خلافات «جبهة لندن» وطموحات «مجموعة إسطنبول»، موقع صحيفة الشرق الأوسط، بتاريخ 29 ديسمبر 2022، على الرابط: https://h7.cl/1f6Lz
[13] تفاصيل عن “تيار التغيير” الإخواني بالخارج، موقع العربية نت، بتاريخ 17 أبريل 2025، على الرابط: https://h7.cl/1jWLm
[14] ما بعد 7 أكتوبر.. كيف تراجع نفوذ الإخوان عربيًّا؟، مرجع سابق.
[15] الإخوان المسلمون.. ما انعكاسات قرار ترامب بوضع الجماعة على قائمة التطرف، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، بتاريخ 24 نوفمبر 2025، على الرابط: https://h7.cl/1f6LL
[16] ماذا يعني تصنيف ترامب الإخوان بمصر ولبنان والأردن منظمة إرهابية؟ موقع العربية نت، بتاريخ 25 نوفمبر 2025، على الرابط: https://h7.cl/1jWLY
[17] الإخوان تحت مجهر ترامب.. هل يُنهي تواجد الجماعة داخل أميركا؟، موقع سكاي نيوز عربية، بتاريخ 23 نوفمبر 2025، على الرابط: https://h7.cl/1f6M5
[18] حصار دولي متزايد يفاقم الضغوط على «الإخوان»، بتاريخ 24 نوفمبر 2025، على الرابط: https://h7.cl/1jWMl