مقدمة
في ظل سياق إقليمي شرق أوسطي يتسم بالعدائية في معظم تفاعلات أطرافه، طرح استضافة بغداد مؤتمراً يضم دول الجوار الإقليمي تحت شعار “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة” العديد من التساؤلات والجدل البحثي حول دلالته وأهميته وحدود تأثيراته على العراق والمنطقة؛ إذ اعتُبر المؤتمر من قبل عدد من المحللين بمثابة إعلان عن عودة العراق إلى محيطه الإقليمي، وبدئه في لعب دور إقليمي جديد، بعد عقود من العزلة والحصار والسيطرة الإيرانية، فيما قلل آخرون من شأن قدرة المؤتمر ومنظموه على تحقيق الهدف المعلن المتمثل في تخفيف حدة التوترات الإقليمية التي يعاني العراق نفسه من تبعاتها.
أهمية المؤتمر لم تنبع فقط من الحدث الذي يعقد أول مرة في بغداد منذ عقود، أو من الأطراف المشاركة فيه ومستوى تمثيلها السياسي، وإنما أيضاً من الأهداف المعلنة، واللقاءات الثنائية ومتعددة الأطراف التي أقيمت على هامشه ولاسيما بين أطراف يمكن وصفها بأنها متنافسة على أقل تقدير؛ ومن هنا لا يمكن النظر إلى المؤتمر باعتباره شأن عراقي داخلي يرتبط بمستقبل العراق فقط، بل بدوره إقليمياً ومستقبل علاقات القوى الإقليمية الرئيسية الفاعلة في الشرق الأوسط؛ لا سيما وأن معظم الدول المشاركة في المؤتمر تتراوح علاقتها بين التنافس، والصراع، والتعاون ما جعل المنطقة – في العقد الأخير – تشهد تشكل التحالفات وتفككها على نحو متسارع ومؤقت، عكس تغير خريطة التهديدات والمصالح بين الأطراف الإقليمية من دول وفاعلين وغير الدول.
لذا فإن عقد لقاءات على هامش المؤتمر بين أطراف عدة من المتنافسين، والمتخاصمين، والمتعاونين، وممن يمكن تسميتهم بـ “الأعدقاء” طرح تكهنات كثيرة حول إمكانية أن يكون هذا المؤتمر بداية لمرحلة إقليمية جديدة، حيث شهدت بغداد عقد لقاءات عدة مصرية/قطرية؛ وإماراتية/قطرية؛ ومصرية/عراقية/أردنية؛ ومصرية/قطرية/عراقية؛ إلى جانب لقاء بين رئيس الوزراء العراقي ووزير الخارجية السعودي.
لقد أعطت هذه اللقاءات الهامشية الثنائية والثلاثية إشارات بأن هناك انفراجات في العلاقات قد تقترب، ولا سيما وأن كثيراً من هذه اللقاءات كانت قد بدأت بالفعل منذ فترة وترتبط بقضايا تتجاوز العلاقات الثنائية بين أطرافها لتشابكها مع ملفات إقليمية أخرى في حين لم تجرى أي لقاءات سعودية/إيرانية رغم جولات سابقة لمحادثات توسطت بها بغداد؛ لذا طرحت اللقاءات تساؤلات حول إمكانية تخفيض التوترات الإيرانية/السعودية، وتسارع وتيرة التقارب المصري/القطري، وحدود الدعم العربي والدولي فيما يخص السيادة العراقية، وهو ما يطرح تساؤلات مثل: هل المؤتمر يمكن اعتباره آلية سياسية لإعداد ترتيبات أمنية إقليمية جديدة؟ أم هو مجرد مناسبة لإيجاد فرص حوار مباشر بين القيادات الإقليمية؟ وهل هو يؤذن بعودة عراقية للعب دور إقليمي جديد بدلاً من استمراره كساحة للتجاذبات الأمريكية/الإيرانية، والتنافس الإقليمي؟ أم يعد المؤتمر فعالية بروتوكولية هدفها دعم رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي؟
من جانب أخر كان لافتاً مشاركة فرنسا في المؤتمر من خلال الرئيس الفرنسي، وهو أمر يثير التساؤلات بشأن دلالة الاهتمام الفرنسي بالمشاركة لا سيما وأن فرنسا دولة من خارج الإقليم، فضلا عن تزامن هذه الزيارة مع استعداد العراق للخروج الأمريكي من أراضيه، فهل ارتبط المؤتمر بتداعيات خروج القوات الأمريكية من أفغانستان، والتي أصابت العالم بصدمة جراء عودة جماعة طالبان وسيطرتها على مقاليد الحكم؛ وهل هناك تخوف من تداعيات مماثلة قد يشهدها العراق آخر العام يمكن أن ينتج عنها فوضى ومزيد من الانقسام الداخلي بين الفصائل العراقية أو عودة تنظيم داعش للعراق أو محاولات إيرانية لفرض الهيمنة الأحادية على العراق بعد خروج خصمها الأمريكي؟
تهدف هذه الورقة، في هذا السياق، إلى الإجابة عن التساؤلات السابقة في ضوء ملاحظتين يجب أخذهما في الاعتبار:
الأولى: أن العراق عانى منذ الغزو الأمريكي عام 2003 من التدخلات الإقليمية السلبية في شؤونه، ولاسيما التمدد الإقليمي الإيراني، وما أفرزه ذلك من أحداث كثيرة، ابتداءً من الاقتتال الطائفي وظهور تنظيم داعش، وتحوله لساحة صراع إيراني/أمريكي، ثم التنافس التركي/الإيراني شمال العراق رغم التنسيق فيما بينهما في مواجهة الحركة الكردية لمنع تأسيس دولة قومية للأكراد، وبالتالي فإن أي مسعى لتخفيف حدة التوتر الإقليمي سيصب في مصلحة تحقيق الأمن والاستقرار داخل العراق نفسه، وربما يكون هذا هو السبب الذي دفع بغداد لمحاولة لعب دور الوسيط الذي يحاول حل الصراعات والخلافات الإقليمية.
الثانية: الانسحاب الأمريكي من العراق، حيث اتفقت كل من واشنطن وبغداد على إنهاء المهام القتالية للقوات الأمريكية في العراق، وذلك خلال الجولة الرابعة من “الحوار الاستراتيجي” بينهما على أن تُنقل العلاقة الأمنية بالكامل إلى دور خاص بالتدريب، وتقديم المشورة، والمساعدة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وأنه لن تكون هناك قوات أمريكية تقوم بدور قتالي في العراق بحلول تاريخ 31 ديسمبر 2021[1]، وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات حول إمكانية أن يكون هذا المؤتمر مقدمة لحوارات أو تفاهمات حول مستقبل العراق بعد الانسحاب الأمريكي الكامل.
وستعرض الورقة في البداية للأوضاع العراقية المتزامنة مع المؤتمر، ثم أهداف المؤتمر، والمشاركين فيه، ثم ستناقش أهم الفعاليات التي صاحبت المؤتمر وعقدت على هامشه، وأخيراً ستنتقل الورقة إلى قراءة ما جاء في البيان الختامي وما هي فرص تحقيق توصيات البيان والقيود أمام تنفيذها.
أولاً: الأوضاع العراقية المتزامنة مع المؤتمر
جاء المؤتمر في خضم التحضيرات الجارية لإجراء الانتخابات التشريعية العراقية، فضلاً عن تحديات مواجهة الإرهاب وجوانب تتعلق بالاقتصاد والاستثمار؛ فقد عقد المؤتمر في ظل أجواء ترقب لانتخابات أكتوبر ومقاطعة بعض الكتل السياسية لهذه الانتخابات، ولاسيما التيار الصدري بقيادة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، الذي تراجع لاحقاً عن قرار المقاطعة[2].
أما على مستوى الصراعات الإقليمية الجارية على أرض العراق، فقد شهدت الأسابيع الماضية عدة ضربات جوية تركية في منطقة سنجار ذات الأغلبية الأيزيدية في العراق، وتعد الهجمات جزءاً من الحملة العسكرية الأوسع لأنقرة ضد حزب العمال الكردستاني في جميع أنحاء كردستان العراق، والتي أودت بحياة العشرات من المدنيين؛ فقد سيطر على المنطقة خليط من الميليشيات المتحالفة والمتنافسة، وهي تشمل وحدات الحشد الشعبي المدعومة من إيران، وحزب العمال الكردستاني، ووحدات مقاومة سنجار، والحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق الذي يتمتع بعلاقات وثيقة مع أنقرة، والفروع اليزيدية من جهة أخرى[3].
ومن جهة إيران، لديها مصلحة مشتركة مع حزب العمال الكردستاني، لأن كلاهما يستخدمان سنجار للوصول إلى سوريا، وسبق أن هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باجتياح المنطقة لكن وجود القوات العراقية والقوات المدعومة من إيران يقف في طريق ذلك، وقد دعت الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان، ومقرها أربيل، مراراً تركيا إلى وقف عملياتها بينما دعت حزب العمال الكردستاني إلى التوقف عن استخدام الأراضي العراقية لمهاجمة تركيا.
ومن جهة أخرى، عايش العراق فترة طويلة من الخصومة الإيرانية/الأمريكية خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب، والتي على إثرها قتل قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني وزعيم الحشد الشعبي أبو مهدى المهندس في داخل العراق، ونتيجة لذلك واجهت الحكومة العراقية دعوات من أعضاء في البرلمان العراقي لطرد القوات الأمريكية وهو ما تم الاتفاق عليه بالفعل في إطار الحوار الاستراتيجي العراقي/الأمريكي، حيث من المتوقع أن تنسحب القوات الأمريكية من العراق عند نهاية العام الجاري، وهو ما يزيد احتمالات الفراغ الأمني الذى قد تستغله إيران، فضلاً عن عدم الاستقرار على غرار ما حدث في أفغانستان عقب الانسحاب الأمريكي منها، بما يجعل الانسحاب من العراق مقدمة لاستئثار إيران بالساحة العراقية دون وجود الخصم الأمريكي من جهة وعودة تنظيم داعش للعراق من جهة أخرى.
ثانياً: المشاركون في المؤتمر
شاركت 9 دولٍ عربية، وأجنبية، ومنظمات عربية ودولية في المؤتمر، وناقش المؤتمر ملفات تتعلق بتوسيع الشراكة الاقتصادية، ومحاربة الإرهاب، ودعم مشاريع إعادة الإعمار في العراق، وتوسيع التعاون بين العراق ودول الجوار. وضمت قائمة البلدان المشاركة في المؤتمر كلاً من السعودية، والكويت، ومصر، والأردن، وقطر، والإمارات، وإيران، وتركيا، وفرنسا إضافة إلى ممثلين عن الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، ودول مجموعة العشرين، والأمين العام لجامعة الدول العربية.
وقد تميز هذا المؤتمر بحضور عربي فاعل وغير مسبوق منذ عقود، وهو حضور يحمل رسالة تضامن ودعم عربي قوي للعراق لاستعادة أمنه واستقراره وتأكيد انتمائه العربي، فالدول العربية التي شاركت (دولة الإمارات والكويت والسعودية وقطر ومصر والأردن) شاركت جميعها على مستوى القمة، باستثناء السعودية التي مثلها وزير الخارجية، وأكدت جميع هذه الوفود بشكل واضح مساندتها للعراق أمنياً واقتصادياً وسياسياً بما يحقق استقراره وسيادته وعبر عن دعمها القوي لهذا البلد العربي الشقيق لاستعادة مكانته التاريخية ودوره الفاعل في المنطقة، والدعوة لوقف التدخلات السلبية في شؤونه، ودعم الجهود العراقية في مكافحة الإرهاب والتطرف. ويكتسب هذا الحضور العربي أهمية كبيرة في المرحلة الحالية، التي تشهد انسحاباً أمريكياً من المنطقة؛ لأن ترك العراق سيجعله فريسة سهلة للقوى الإقليمية غير العربية التي تسعى للهيمنة على مقدراته، ومن هنا يوجه هذا الحضور العربي رسالة واضحة بأن العرب يقفون إلى جانب العراق، وسيدعمون عودته الفاعلة لحاضنته العربية.
كما شاركت إيران في المؤتمر من خلال وزير الخارجية الإيراني الجديد، حسين أمير عبد اللهيان الذي مثلت زيارته إلى بغداد أول زيارة خارجية لشخصية مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني. وقد شغل أمير عبد اللهيان سابقًا منصب نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والأفريقية، وكذلك نائب رئيس البعثة في سفارة إيران في بغداد، لذا فهو على دراية كبيرة بشؤون الشرق الأوسط[4].
كما حظيت مشاركة فرنسا في المؤتمر من خلال الرئيس إيمانويل ماكرون باهتمام خاص وطرحت التساؤلات حول أسباب الاهتمام الفرنسي بالمشاركة في المؤتمر على هذا المستوى. ويمكن أن يعزى الاهتمام الفرنسي إلى أنه يأتي وسط مخاوف من عودة ظهور تنظيم داعش تزامنا مع خفض الولايات المتحدة لقواتها في العراق.
وقد أكد ماكرون التزام فرنسا بالمعركة ضد داعش مشيراً إلى أن هذا يجب أن يحدث في إطار الاتفاقات والبروتوكولات التي تحترم السيادة العراقية. وقد سبق لفرنسا أن شنت عملية عسكرية في العراق عام 2014 كجزء من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد التنظيم، وبعد هزيمتها، أعادت فرنسا في أوائل عام 2020 مهمة إجراء التدريبات وسحبت جميع قواتها في مارس بسبب تفشي فيروس كورونا ثم واصلت المشاركة في الضربات الجوية ضد داعش. كما أن فرنسا تبدو من خلال انخراطها في عدد من قضايا المنطقة أنها تعمل على إعادة تموضع سياستها الخارجية واتباع سياسة أكثر نشاطاً.
ومن ثم فقد أعلن الرئيس الفرنسي أن بلاده ستعيد نشر القوات في العراق حتى بعد الانسحاب الأمريكي، لكن لم يحدد موعد نهائي بعد[5]. وبشكل عام أصبحت فرنسا أكثر انخراطاً في الصراعات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، تزامنا مع انسحاب الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة؛ ففي الشهر الماضي، أمر ماكرون القوات الفرنسية في شرق البحر الأبيض المتوسط بتقديم المساعدة العسكرية لليونان، مما زاد من المخاطر في المواجهة الإقليمية المتزايدة بين فرنسا وتركيا. كما يتصدر الرئيس الفرنسي الجهود الدولية لتحقيق الاستقرار في لبنان بعد حادث انفجار مرفأ بيروت.
وتعكس المشاركة الفرنسية في المؤتمر قلقا من عودة تنظيم داعش نتيجة أي فراغ أمني على غرار ما حدث بعد انسحاب القوة الأمريكية الكامل من العراق عام 2011، فقد صرح ماكرون أن الحرب ضد داعش لم تنته وأن مقاتليها موجودين في المنطقة وعلى الأراضي العراقية؛ وفى ظل ما يواجهه العراق من توغل عسكري في عمق شمال العراق من قبل القوات التركية بهدف مواجهة الأكراد تعهد ماكرون، بدعم فرنسا لجهود تعزيز السيادة العراقية، دون ذكر إيران أو تركيا بالاسم.
ثالثاً: أهمية مؤتمر بغداد 2021: عراقياً وإقليمياً
لا يمكن التعامل مع المؤتمر في سياق عراقي داخلي بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي، وتحول العراق إلى ساحة للتجاذبات والمحاور الإقليمية، وحروب بالوكالة؛ فرغم أن الناطق باسم المؤتمر نزار الخير الله قد أعلن مسبقاً، أن القمة لن تناقش القضايا الخلافية بين دول المنطقة وستركز على استقرار العراق وسيادته وعدم التدخل في شؤونه الخارجية إلا أنه في ضوء الظروف الداخلية التي يمر بها العراق فإن عقد القمة له دلالات ترتبط مباشرة بأهداف تمس العراق ولكن لها تشابكاتها الإقليمية والدولية، ومن ثم يمكن تناول المؤتمر من حيث أهميته للعراق، ثم دلالته بالنسبة للتفاعلات الإقليمية.
- على المستوى العراقي
أراد العراق أن يعلن من خلال القمة عودته مرة أخرى للمحيط الإقليمي، وتمتعه بالاستقرار والأمن، ومن ثم قدرته على تأمين توافد زعامات، وقيادات عربية ودولية إلى أراضيه. كما يشير المؤتمر إلى السياسة العراقية التي ينتهجها كل من الرئيس العراقي برهم أحمد صالح، ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي فيما يخص وضع العراق كطرف محايد في صراعات الإقليم، وإعلان رفض سياسة المحاور وتأسيس علاقات جيدة مع جميع دول العالم ورفض استمرار وضعيته كساحة للصراعات الدولية والإقليمية.
واقتصادياً يستهدف العراق جذب شراكات اقتصادية وتعاون تجاري استثماري مع أي دولة يمكن أن تساعد في تطوير الاقتصاد العراقي. كما يحاول، في ظل الانسحاب الأمريكي المرتقب من أراضيه، الانتقال من كونه ساحة للتجاذبات والتنافس الإقليمي، إلى ساحة ومنصة للتعاون والوساطة بين دول المنطقة؛ فمنذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، أصبح العراق يشكل ساحة للتنافس الإيراني/الأمريكي، وبالخروج الأمريكي من العراق ستكون إيران القوة الرئيسية الفاعلة، بالإضافة إلى تشكيل شمال العراق ساحة للتنافس التركي/الإيراني.
وبشكل عام فتح المؤتمر الأفاق نحو مزيد من الاحتضان العربي والخليجي للعراق، حيث أن كل اقتراب عربي تجاه العراق يعد حيزا مقتطعا من مساحات التأثير الإيراني في العراق.
- على المستوى الإقليمي
هنا يطرح التساؤل حول ما إذا كان المؤتمر يعد خطوة نحو ترتيبات أمنية إقليمية جديدة يترتب عليها تشكيل تحالفات سياسية واستعداد للاستفادة القصوى من موارد الإقليم ومواجهة التحديات المشتركة؛ أم أن المؤتمر يدخل في إطار العلاقات العامة وينتهي دوره بمجرد انتهاء فعالياته.
الأمر المؤكد هو أن المؤتمر ليس منتدى إقليمي للأمن، ومن ثم لم تنبثق عنه لجان فرعية وآليات محددة بقضايا تخص الإقليم للعمل على حلها أو إدارتها. ولكن، من جهة أخرى، منح المؤتمر فرصة لتخفيف التوترات في الشرق الأوسط في إطار التأكيد على الدور الجديد للعراق كوسيط بين الفرقاء الإقليميين؛ ولذا كان المؤتمر فرصة للحوار المصري/القطري، والإماراتي/القطري، وحوار خليجي/إيراني. كما مثل فرصة لتبادل الآراء بين الدول المتشاركة في الرؤى والمواقف الاستراتيجية ذاتها على غرار اللقاء العراقي/الأردني/المصري.
وقد سعى العراق تحت رئاسة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، إلى وضع نفسه كوسيط رئيسي في الصراع الإيراني/السعودي منذ فترة، حيث التقى مسؤولون كبار من المملكة العربية السعودية وإيران في بغداد فيما يُعتقد أنه أول مناقشات مباشرة منذ قطع البلدان لعلاقاتهما الدبلوماسية عام 2016، وتمت مناقشة قضايا اليمن ولبنان[6]؛ ورغم أهمية المحادثات، إلا أنها لم تحقق انفراجاً في العلاقات بالنظر إلى التوترات العميقة والتنافس التاريخي، واستمرار الهجمات المتفرقة على أهداف نفطية سعودية من قبل الحوثيين المدعومين من إيران.
ومن هنا يمكن اعتبار المؤتمر فرصة لإرسال رسالة تضامن عربية مع العراق. كما شكل المؤتمر فرصة للقادة العراقيين للتأكيد على دور العراق كوسيط محايد في أزمات المنطقة وإعادة التعامل مع العالم بعد عقود من الصراع، وفي الوقت ذاته إعطاء دفعة للمصالحات التي بدأت في قمة العلا الخليجية في شهر يونيو الماضي، على مستوى العلاقات الخليجية والمصرية مع قطر، ثم التقارب البطيء المشوب بحذر بين مصر وتركيا. كما لا يجب، في الصدد نفسه، تعظيم نتائج المؤتمر وأهدافه ولا التقليل من حجمها، لأن المؤتمر يمنح فرصة ودفعة لمسارات انفتاح إقليمي ربما تُستكمل، وربما تقف أمام حجر عثرة فتتعقد محاولات التهدئة والانفتاح التي برزت مع مجيء إدارة جو بايدن.
رابعا: الفرص والقيود أمام تنفيذ توصيات البيان الختامي
تمحور البيان الختامي حول التعبير عن وقوف الدول مع العراق حكومة وشعباً، ودعم جهود الحكومة العراقية في تعزيز مؤسسات الدولة وفق الآليات الدستورية، وإجراء الانتخابات النيابية الممثلة للشعب العراقي، والتأكيد على ضرورة توحيد الجهود الإقليمية والدولية بما ينعكس إيجابا على استقرار المنطقة، والترحيب بالجهود العراقية لتعزيز الشراكات السياسية، والاقتصادية، والأمنية، والتعامل مع تحديات المنطقة على أساس التعاون المشترك والمصالح المتبادلة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام السيادة الوطنية، واستمرار التعاون لمواجهة جائحة كورونا، وتعزيز الجهود مع العراق للتعامل مع التحديات الناجمة عن التغير المناخي والاحتباس الحراري وفق الاتفاقات الدولية[7].
وفى ظل ما جاء في البيان الختامي، وما ذكر أعلاه عن أهمية ودلالة المؤتمر عراقياً وإقليمياً، هل من الممكن تحقق توصيات البيان الختامي بما يحقق أهمية المؤتمر بالنسبة للعراق والأطراف الإقليمية المشاركة، أو بعبارة أخرى، ما هي الفرص والقيود أمام الأهداف المعلنة وغير المعلنة.
- الفرص:
شكل انعقاد المؤتمر بحد ذاته والمشاركة الواسعة فيه على هذا المستوى فرصة مهمة لجميع القوى المشاركة للحوار وتبادل الآراء وهو أمر إيجابي ويشير ربما لاحتما حدوث انفراجات مستقبلية، كما أن الحضور العربي القوي في المؤتمر يحمل رسالة دعم مهم للعراق، لا سيما مع اقتراب الانسحاب الأمريكي من العراق، والتخوف من تحوله إلى ساحة تنافس تركي/إيراني وعودة تنظيم داعش فضلا عن الانقسامات الداخلية. كما يمكن من خلال حشد الدعم الدولي والدول الأعضاء في مجلس الأمن دعم العراق، والضغط على الأطراف التركية والإيرانية بشأن السيادة العراقية.
في ظل القيود الإقليمية التي تواجه النوايا العراقية والعودة الجديدة للإقليم ربما يكون خيار الدعم العربي ولا سيما الخليجي للعراق أفضل نافذة يمكن من خلالها موازنة التأثيرات السلبية الواقعة على العراق؛ ولذا لابد من مزيد من الاحتضان والدعم العربي والخليجي. وقد بدأ ذلك منذ سنوات قليلة ويمكن البناء عليه، فقد كانت هناك زيارات لرئيس الوزراء العراقي للمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ودول أخرى. كما عقدت أول قمة عراقية/مصرية/أردنية عام 2019 تبعتها عدة اجتماعات أنتجت ما يسمى بمشروع الشام الجديد لتعزيز التعاون السياسي والاقتصادي والأمني. ومن ثم يجب استثمار مزيد من الجهود المشتركة في إعادة إعمار العراق وتحفيز الاستثمار فيه، وتقليل الاعتماد على إيران في مجالات الأمن، والطاقة، والتجارة، ولذا على الدول الخليجية أن تبقى قنوات اتصال مفتوحة مع العراق من أجل نسج علاقات تأثير مستمرة. كما يمكن البناء على مشروع الشام الجديد كنواة للتعاون الاقتصادي بين الأطراف الثلاثة لكن يمكن أن تنضم إليها أطراف عربية وخليجية كتحالف اقتصادي إقليمي[8].
- القيود:
ربما يعيق استمرار الانقسام الداخلي في العراق واستمرار الميليشيات المسلحة، رغم محاولات رئيس الوزراء العراقي السيطرة على سلاحها، واستمرار ارتباط التوازنات الداخلية بأطراف خارجية إقليمية، قدرة العراق على التحرك في مسار تحقيق الاستقرار الداخلي والإقليمي.
فيما يتعلق بإمكانية تطبيق توصيات البيان فمن المرجح أن يظل شمال العراق والحكومة العراقية يعانيان من اختراق السيادة في ظل صراع تركي/إيراني قد يحتدم مستقبلاً في إقليم كردستان العراق والمرتبط بسياسة تركية تجاه المسألة الكردية.
تصاعد عسكرة السياسة الإيرانية في ظل رئيس جديد مرتبط بالحرس الثوري، الأب الروحي لميليشيات العراق؛ فضلا عن كون العراق ساحة رئيسية للنفوذ الإيراني، والتي بدأت عام 2003 بتأسيس نظام سياسي طائفي، وتشكيل ميليشيات عراقية دمجتها في النظام السياسي على مستوى الحكومة والبرلمان والمؤسسات الأمنية، ومن ثم من غير المتوقع أن تتخلى إيران عن الورقة العراقية نظراً لأنها مكون رئيسي في استراتجيتها الإقليمية من جانب، ولأهمية العراق وعقدة الخصم الإقليمي التاريخية بين البلدين من جانب آخر.
في ظل تهاون إدارة بايدن تجاه التفاوض مع إيران لحل الملف النووي، ومع حرية إسرائيل في التصرف تجاه السلوك الإيراني سواء ضد أهداف في الداخل الإيراني أو في سوريا أو غيرها – مما تعتبره إيران مناطق نفوذ – فمن المرجح أن يستمر التوتر الإيراني/الإسرائيلي، والذي سيُعَد العراق إحدى ساحاته لو صعدت الميليشيات العراقية الموالية لإيران ضد أهداف إسرائيلية أو عملت إيران على نقل شحنات أسلحة لتلك الميليشيات.
رغم جولات المحادثات السعودية/الإيرانية لاتزال الهجمات الحوثية على المملكة العربية السعودية مستمرة، ولا يزال التوظيف الإيراني لها مستمر، ومن ثم من غير الواضح حتى الآن إلى أي مدى يمكن تخفيف التوترات الخليجية/الإيرانية ولا سيما مع السعودية. كما أنه ليس هناك من دليل على تغير نهج السياسة الإيرانية ويمكن استنتاج ذلك من صورة تذكارية لضيوف المؤتمر، والتي وقف فيها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان متجاوزاً موقعه بروتوكولياً ليقف في الصف الأول ويصرح بعدها أنه وقف في الموقع الذي يليق بممثل الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بما يعنى أن إيران ستظل القيد الحقيقي في عودة العراق إلى محيطه للعب دور مستقل بعيداً عن سياستها.
خاتمة
مما لا شك فيه أن جلب دول الجوار للعراق المتنافسة لطاولة واحدة، لهو مكسب سياسي لحكومة مصطفى الكاظمي، فقد مثل مؤتمر بغداد لحظة تاريخية لعودة العراق لمحيطه ولعب دور جديد في السياسة الإقليمية. حضور وتمثيل دول الجوار والدول العربية وفرنسا والمنظمات الإقليمية كان لإبراز الدعم الإقليمي والدولي للعراق وبرامجه للإصلاح الاقتصادي وإعادة الإعمار وسياسته الخارجية، وهو ما تجلى في جميع خطابات المتحدثين، إلا أن مدى استعداد وجدية الأطراف في تحقيق تلك النوايا سيتوقف على المسارات المستقبلية فيما يخص قضايا العلاقات الثنائية مع العراق، وعلاقات تلك الأطراف ببعضها البعض، والتي ما زال العراق جزءا من ساحات تنافسها الإقليمي.
ولأن المؤتمر في جزء منه كان يهدف لجمع الفرقاء والمتنافسين إقليمياً لإتاحة جسر يدفع نحو فرص حوار مباشر فيما يخص بعض القضايا العالقة بينهم، فإن الحديث عن تأثير المؤتمر على المستوى الإقليمي ما زال مبكراً، حيث يستلزم الأمر متابعة للمسارات المختلفة ونوايا الأطراف التي التقت والبناء على اللقاءات الهامشية التي عقدت نحو الحل الإقليمي الذي يحفظ الاستقرار والأمن للجميع.
المراجع
[1]) اتفاق الانسحاب الأمريكي من العراق.. مجرد “مسرحية دبلوماسية”؟ https://bit.ly/3h5fwc7
[2] Baghdad holds national dialogue in runup to regional conference – https://bit.ly/3tl88yh
[3] Turkey strikes PKK targets in Iraq’s Kurdistan region – https://bit.ly/3h96WsS
[4]) Iran’s new foreign minister seen as ‘first fully fledged Khameneist’ in post – https://bit.ly/2WUBUxN
[5] (Macron vows French troops will remain in Iraq even if US withdraws – https://bit.ly/3tmTHK0
[6] ) Iraqi Mediators Join Iran-Saudi Talks on Normalizing Relations – https://bit.ly/3ySHUo5
[7] ) بيان “قمة بغداد” الختامي.. برنامج متكامل لدعم العراق https://bit.ly/3BS0ajt
[8] ) هدى رؤوف، العودة العربية للعراق. آلية جديدة لمواجهة إيران https://bit.ly/3nd3nWy