منذ فوز جو بايدن وكامالا هاريس على دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية التي أجريت في 3 نوفمبر 2020، تكهنت دول عديدة عبر العالم – بشكل محموم –بتأثيرات هذا التغيير في القيادة الأمريكية على علاقات تلك الدول مع واشنطن. ومن هذه الدول تركيا –ودول شرق أوسطية أخرى – تقف تواقة لمعرفة ماذا ستعني فترة رئاسة بايدن بالنسبة لتلك الدول والقضايا التي تهمها؛ ولكن على الجميع التحلي بالصبر، لأن بايدن أوضح أن مهمته الأساسية الأولى هي التغلب على جائحة كوفيد-19.
في هذا التحليل، سيكون تقييم الاتجاه العام وأسلوب السياسة الخارجية الأمريكية في عهد بايدن نقطة بداية جيدة. كما أن نتيجة التنافس على مقاعد مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا والتي ستحسم في الخامس من يناير المقبل سيكون لها أهمية كبيرة، حيث ستحدد هذه النتيجة مساحة المناورة التي ستكون متاحة لإدارة بايدن. إذا سيطر الديموقراطيون على مجلسي الكونغرس، سيكون لدى بايدن أجندة داخلية حافلة بالمهام لكي ينفذها؛ وربما لن يكون لديه متسع من الوقت لمعالجة القضايا الدولية الخطيرة. وسيكون لدى الرئيس، في هذا الصدد، سلطات أوسع في الساحة الدولية إذا ضمن مساندة مجلس الشيوخ.
إن الخيارات المتاحة لبادين في مجملها يمكن أن تتأثر أيضاً بالطريقة التي تستخدمها إدارة ترامب لتسيير الأمور بين اليوم وحتى حفل تنصيب بايدن في 20 يناير2021. ومسبقاً منذ فترة، تستهدف إدارة ترامب فرض مجموعة عقوبات على إيران، وتطرح هذه المسألة كل أسبوع في هذه الفترة، ومن الواضح أن هذا التكتيك هو محاولة لتقييد الخيارات المتاحة لـ بايدن. ولكن ماذا يمكن أن يفعل ترامب أيضاً لتقييد يدي خليفته؟
إن الإدارة القادمة يمكن أن تبذل جهداً وتركيزاً أقل على قضايا الشرق الأوسط. نحن نتذكر أن الرئيس أوباما حاول تطبيق منهج “التوجه نحو آسيا”. وألمح، توني بلينكين، المستشار الأول لـ بايدن في شؤون السياسة الخارجية، في يوليو الماضي، إلى هذا بالقول: “إنها مسألة وقت فقط، حيث أعتقد أن أولويات المخصصات والميزانية الأمريكية، ستكون أقل وليس أكثر، في الشرق الأوسط”[1].
ظاهرياً، سيكون منهجا الإدارتين القادمة والمغادرة متناقضين تماماً في أساليب العمل؛ بايدن خبير مخضرم في السياسة الدولية، مقابل ترامب الرئيس الانعزالي المهتم بالصفقات التجارية فقط. بايدن سيكون أكثر اهتماما بالنقاش والحوار، مع أنه قد لا يصل إلى درجة أوباما. ولكنه لن يكون مدمناً على نشر إعلانات عن السياسة على موقع تويتر طوال ساعات اليوم. ويمكن القول إن الحلفاء والخصوم سيكون لديهم منظور وفهم أوضح حول مسألة أين يقفون مع بايدن.
هناك ميزة إيجابية بالنسبة للذين يحاولون رسم اتجاهات السياسة الأمريكية، حيث إن الوضع مختلف عن فترة قدوم ترامب عام 2016، وهي أن جو بايدن شخصية معروفة. إن معظم القادة ورجال الدولة في العالم يعرفونه ليس فقط من منصبه كنائب للرئيس أوباما طوال ثمانية أعوام، بل يعرفونه أيضاً من فترة عمله كسيناتور في مجلس الشيوخ وكرئيس للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ.
إن إدارة بايدن ستكون على درجة أكبر من تعددية الأطراف، وأكثر حرصاً على العمل مع الحلفاء، ومن المتوقع لها أن تقوم بتنشيط العلاقات وتعزيزها مع هيئات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي (الناتو). إدارة بايدن لن تكون الإدارة التي ترفع شعار “أمريكا أولاً”، كما فعلت إدارة ترامب.
إدارة بايدن يمكن أن تشهد العودة إلى مزيد من الدبلوماسية التقليدية، وإعادة الزخم والتمكين إلى وزارة الخارجية. وهناك الكثيرون من الدبلوماسيين استقالوا خلال سنوات ترامب الأربع، والكثيرون منهم تحدثوا عن المعنويات المنخفضة في وزارة الخارجية التي شعرت بأنها مهملة ومهمَّشة وضعيفة في عهد الوزيرين ريكس تيلرسون ومايك بومبيو. ولا يُتوقع من إدارة بايدن أن تقلب الوضع إلى عكس حالته الراهنة فحسب، بل يُتوقع منها أيضاً أن تعيّن دبلوماسيين يتمتعون بخلفيات ومؤهلات أكثر تنوعاً عما هو قائم الآن؛ فوفقاً للوضع الحالي، لا يوجد سوى أربعة سفراء سود من أصل 189 سفيراً للولايات المتحدة[2].
أما بشأن الشرق الأوسط، ربما يكون هناك تغيير واضح ومميز في الأسلوب، ولكن هناك عدة محاور أساسية مستمرة ستكون ركائز ثابتة في سياسة الإدارة الجديدة. لدى ترامب وبايدن نفورا من المغامرات العسكرية في البلدان الأجنبية، وكلاهما يتحدثان عن رغبتهما في إنهاء “الحروب الأبدية” في المنطقة، ومن ضمنها الحرب في أفغانستان. وربما لا يكون بايدن مؤيداً لإسرائيل إلى درجة العبودية كما كان ترامب، ولكن لديه سجل حافل يمتد إلى عشرات السنين في تأييد إسرائيل.
وهناك مسألة محددة ستحسّن على الفور مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأدنى، وهي رفع الحظر المفروض على المسلمين (القادمين من الشرق)، حيث وعد بايدن أنه سيفعل ذلك في اليوم الأول من خدمته في البيت الأبيض، وبذلك ألقى الضوء على نقطة مهمة وهي أن إدارته ستكون داعمة للاجئين أكثر بكثير من سابقتها. وهذه الخطوة ستؤثر على إيران، وليبيا، والصومال، وسوريا، واليمن. فمواطنو هذه الدول حرموا من تأشيرة دخول الولايات المتحدة، وكان يتوجب عليهم الحصول على إذن خاص لزيارة أمريكا.
كما وعد بايدن أن يسمح بدخول 125 ألف لاجئ خلال سنته الأولى من توليه القيادة في البيت الأبيض؛ ويخطط لقبول اللاجئين بمعدل سنوي بحد أدنى يقدر بـ 95 ألف لاجئ[3]. كما سيعيد بايدن دفع الحصة الأمريكية في تمويل وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة ومسؤولة عن إغاثة اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). وسيساعد هذا بصورة غير مباشرة الدول المضيفة مثل لبنان، والأردن، وسوريا.
ويشكل هذا التطور سببا كافيا للاعتقاد بأن هذه السياسة من قبل بايدن ستحظى بشعبية داخل المنطقة، وخاصة إذا أدت إلى رفع جزء بسيط من العبء عن كاهل الدول المضيفة للاجئين. وتشكّل الاعتبارات المذكورة أعلاه جميعها الخلفية الحاسمة لتقييم المنهج الذي ستتبعه الولايات المتحدة لتسيير علاقاتها وسياساتها تجاه الدول الواقعة شرقي البحر الأبيض المتوسط، وخاصة تركيا وسوريا.
تُعتبر العلاقات الأمريكية-التركية مهمة بغضّ النظر عن هوية القادة. تركيا تتربع على موقع استراتيجي بين أوروبا والشرق الأوسط والدول السوفييتية السابقة. كما تلعب دورا مهما في سوريا، والعراق، وإيران، وليبيا، وقبرص، إضافة إلى مسارح أخرى. وهي دولة حليفة لأمريكا وعضو في حلف الناتو، وعضو في مجموعة الدول العشرين الكبرى. ورغم كل الحديث عن تطور العلاقات التركية- الروسية، لا تستطيع تركيا أن تستبدل الولايات المتحدة لتحل محلها روسيا؛ لأن روسيا ببساطة لا تمتلك الثقل الاقتصادي المساعد في الأوقات التي يعاني فيها الاقتصاد التركي من ضوائق. كما أنه غالباً يوجد لتركيا وروسيا مصالح متضاربة، كما هو الحال على سبيل المثال، في سوريا.
لقد انتظر أردوغان حتى يوم 10 نوفمبر ليهنئ الرئيس المنتخب بايدن، وهذا مؤشر يدل على أنه يعتقد أن التوترات يمكن أن تظهر في المستقبل على الجبهة الأمريكية-التركية. وليس سراً خافياً على أحد أن أردوغان كان يأمل أن يُعاد انتخاب ترامب. وبايدن يعرف هذه الحقيقة. وكان أردوغان يشعر بالإحباط لأن إدارة أوباما رفضت ترحيل الداعية فتح الله غولن بعد الانقلاب الفاشل في عام 2016.
كما أن أردوغان يعتبر غولن، الذي يعيش في المنفى منذ عام 1999، مسؤولاً عن تخطيط الانقلاب. وكان بايدن مشاركاً بقوة في تلك المفاوضات بشأن ترحيل غولن، حيث أصرّ على موقف مفاده أن الولايات المتحدة لن تتردد في ترحيل غولن إذا ظهرت الأدلة كافية. وقال بايدن حينذاك (2016) في هذا الصدد: “نحن سنلتزم بنظامنا. وسنواصل الالتزام بالنظام. وإن شاء الله، سيكون هناك بيانات وأدلة كافية لكي نتمكن من تلبية المعايير التي تؤمنون جميعكم بوجودها في بلادنا. ليس لدينا أي سبب يدفعنا لتوفير ملجأ لأي شخص يمكن أن يهاجم حليفاً لنا ويحاول الإطاحة بحكومة ديموقراطية”[4].
كانت علاقات أردوغان بالرئيس ترامب خليطاً مشوشاً أيضاً، يتأرجح من العداء المعلن إلى العناق الدافئ. وقد تباهى ترامب بصداقتهما، ووصف أردوغان بأنه “رجل صلب/مشاكس”، وهذا يُعتبر لقباً محبباً في قاموس ترامب.
بايدن وأردوغان عرفا بعضيهما منذ زمن بعيد. سيتوجب على بايدن أن يدير العلاقة مع هذا الرئيس الشعبوي على الأقل حتى تُجرى الانتخابات الرئاسية التركية القادمة في عام 2023. ولكن ليس من المتوقع أن يكون أردوغان قادراً على مكالمة بايدن هاتفياً كما كان يفعل مع ترامب، كلما أراد ذلك تقريباً. إن الشهور الأولى من 2021 سوف تشكل اختباراً لعلاقتهما، ولن يستغرب أردوغان مما سيفعله بايدن بشأن شراء تركيا لمنظومات صواريخ إس-400 الروسية. كما أن أعضاء الناتو غاضبون جداً لأن تركيا لم تشتر الصواريخ من داخل الناتو، ويخافون على أمن منظومات أسلحة الناتو.
لقد احتجّت إدارة ترامب على صفقة تركيا وشراء صواريخ روسية، ولكن الغريب في المسألة أن إدارة ترامب لم تفعل أي شيء ملموس لردع تركيا عن هذه الصفقة. وسيحاول بايدن أن يحل هذه المسألة بالطرق الدبلوماسية، ولكن إذا أخفق، يمكن أن يفرض عقوبات على تركيا، وفي هذه الخطوة يُتوقع أن يحصل على دعم وتأييد من الحزبين في الكونغرس. وهناك أيضاً قضية هالكبانك (Halkbank) المملوك للدولة التركية، الذي تتهمه الولايات المتحدة بأنه يحوّل أموالاً إلى إيران، في انتهاك صريح للعقوبات الأمريكية.
بايدن سيكون أيضاً أقلّ تسامحاً مع النزعات الاستبدادية في شخصية أردوغان وميله للإسراف. هذا القائد، أردوغان، بنى لنفسه قصراً يضم ألف غرفة. وسلوكه لم يزعج ترامب الذي لا يؤمن بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى بشأن قضايا حقوق الإنسان. وهناك دول عديدة يُتوقع لها أن تشهد عودة إلى حقبة أوباما في مجال الوعظ حول حقوق الإنسان، والديموقراطية، والحكم الرشيد، والحوكمة. ويمكن لأردوغان أن يتوقع تساؤلات ليس أقلها في شأن معاملة تركيا للأكراد، ومواقف القيادة التركية بشأن حرية التعبير، وسجن الصحفيين والأكاديميين. وقد لاحظ الرئيس التركي هذه المسألة عندما قامت صحيفة نيويورك تايمز في ديسمبر الماضي بتصوير مقابلة مع بايدن، حيث أشار إلى أردوغان بكلمة “مســتبدّ”[5].
وهناك ساحة أخرى للخلاف، وهي الأسلمة التدريجية لتركيا، ودعمها لجماعة الإخوان المسلمين وتفريعاتها ومن بينها حركة حماس. وهذا السلوك الإسلاموي يضع تركيا في حالة نزاع مع الكثيرين من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة ومنهم إسرائيل، ومصر، ودولة الإمارات العربية المتحدة. وتخشى هذه الدول أن يقوم بايدن بإعطاء الإخوان المسلمين مطية سهلة، بالاستناد إلى تقييمات واشنطن لجماعة الإخوان المسلمين وطريقة تعامل إدارة أوباما مع الجماعة خلال فترة الربيع العربي.
كما يمكن لأردوغان أن يختار تخفيف دعمه للإخوان المسلمين بهدف الحصول على مطية أكثر نعومة في واشنطن. ومع هذا ليس من المتوقع أن يقوم أردوغان بتهميش أو تجميد جماعة الإخوان المسلمين، لأنها تُعتبر أداة مفضلة له للتأثير والنفوذ في مسرح الشرق الأوسط. وهناك العديد من فروع جماعة الإخوان المسلمين يأملون من الولايات المتحدة أن تمارس الضغط على دول مثل مصر لإطلاق سراح العديد من أعضاء الجماعة القابعين في السجون. ومنهج بايدن تجاه هذه الجماعات بعيد عن الوضوح، ولكن ربما يتحدد موقفه ومنهجه بسبب الأحداث الواقعية المتراكمة وسلوك هذه الجماعات المستمر في التنامي.
تتوقف العلاقات الأمريكية-التركية أيضاً على مدى التقدم على الجبهة السورية نحو إيجاد حل للأزمة المستمرة منذ قرابة عشر سنوات، ويبدو أن السياسة الأمريكية تجاه سوريا بعيدة عن الوضوح في الوقت الحالي. وليس الأزمة السورية سوى مسألة فرعية من النتائج الجانبية لسياسة إدارة ترامب تجاه إيران، وإلى درجة أقل تجاه روسيا. وتتلخص المبررات وراء تطبيق “قانون قيصر” بأنها تهدف إلى فرض عقوبات على شخصيات ومؤسسات من النظام السوري الحاكم، كجزء من سياسة إدارة ترامب لفرض أقصى درجات الضغط على إيران.
وقد كان لهذا القانون نتائج وخيمة على الاقتصاد السوري الذي كان يترنح سلفاً من الحرب، وسوء إدارة النظام الحاكم، والفساد، وزادت الطين بلّة جائحة كوفيد-19، والأزمة الاقتصادية في لبنان. ولكن إدارة ترامب كانت تفتقر للعزيمة الجادة لدعم العملية السياسية بقيادة منظمة الأمم المتحدة في اجتماعات جنيف (بين المعارضة والنظام). كما كانت تفتقر للعزيمة لتحدي الأدوار الأساسية التي تلعبها روسيا وتركيا على الساحة السورية. وكان ترامب مشهوراً برغبته في سحب جميع القوات الأمريكية من سوريا، ومن الواضح أنه لم يكن ينظر إلى الأزمة السورية على أنها من أولويات سياسته الخارجية.
هل سيتغير هذا الوضع في عهد بايدن؟ إن التغيير لن يكون جذرياً كما سيحصل في القضايا الأخرى. خلال فترة إدارة أوباما، كان هناك تردد في الانخراط والغوص في المستنقع السوري، على الرغم من الخطاب القاسي حول أفعال النظام السوري. وفي عام 2013، قرر أوباما عدم التدخل عسكرياً في سوريا، بعد عملية كبيرة تم فيها استخدام الأسلحة الكيماوية من قبل النظام.
بايدن أيضاً لن يقبل الوقوع في الفخ، نظراً لأنه يرغب في وضع نهاية “للحروب الأبدية”، ولكنه سيكون أكثر تقبّلاً لإبقاء القوات الأمريكية في سوريا، لأسباب عدة. أولاً، سيرغب في احترام التزام الولايات المتحدة تجاه الجماعات الكردية، وسيسعى للتأكد من أنهم محميون من الأعمال التركية، ومن أعمال النظام السوري أيضاً؛ وهذا التوجّه لن يُستقبل بترحاب في أنقرة، نظراً لأن قوات سوريا الديموقراطية (قسد/SDF)، وهي مجموعة متعددة الأعراق خاضعة لهيمنة الأكراد في سوريا، تُعتبر مجموعة إرهابية في نظر أنقرة. ثانياً، لن يقبل أعضاء فريق بايدن أبداً الاعتراف بأن تنظيم داعش انتهى، بل يرون أنه ما يزال قوياً وبعيداً عن الهزيمة في سوريا والعراق، وأن الولايات المتحدة يجب أن تظل على رأس التحالف الدولي المخصص للقضاء على داعش.
في العموم، سيكون بايدن أكثر حرصاً بكثير من سلفه بشأن مواصلة العملية الدبلوماسية لحل الأزمة في سوريا. وسيحاول إعادة تنشيط المسار السياسي السوري العالق في جنيف في اللحظة الراهنة. ولكي ينجح بايدن في ذلك، سيتوجب عليه التعامل مع بوتين. ومرة ثانية نؤكد أن السياسة تجاه سوريا ستكون خاضعة لاعتبارات أخرى، وفي هذه الحالة ستكون خاضعة لمدى تمتع العلاقات بين واشنطن وموسكو بالصحة. وليس هناك شك بأن الأمر يستوجب إبرام سلسلة من المقايضات بينهما.
نظراً لأن أزمة سوريا هي نتيجة فرعية جانبية للسياسة الأمريكية الأوسع تجاه إيران، فإن ما يحدث بشأن الملف النووي الإيراني له أهمية كبيرة. من الواضح أن بايدن يريد إعادة النظر في الاتفاق النووي الإيراني. ولكن كيف سينجز المهمة – هذا أمر آخر – خاصة وأن الرئيس الإيراني حسن روحاني لم يتبق له في منصبه إلا ستة شهور من عام 2021. وهناك الكثيرون يتوقعون فوز المتشددين الإيرانيين بمنصب الرئاسة.
وفي حال لم يتم التوصل إلى صفقة، هل سترجع العلاقات الأمريكية-الإيرانية إلى شكل ما من العداوة الأمريكية-الإيرانية المدارة بإحكام (الخاضعة لضوابط)؟ في كلتا الحالتين، سوريا ستكون متضررة. إذا نجحت مساعي إيران لتخفيف العقوبات كجزء من أي صفقة، هل يمكن أن تتمدد التأثيرات لتصل إلى دمشق؟ هل سيكون بايدن قادراً على دفع القيادات الإيرانية لقبول تخفيض الوجود الإيراني في سوريا كجزء من أي صفقة؟ لن يكون أي من هذه السيناريوهات سهل التحقيق.
يمكن أن تمثّل سوريا أحد الحقول الجاهزة لتعاون الولايات المتحدة مع تركيا. وستصرّ الولايات المتحدة على أن تبقى تركيا في المعسكر الأمريكي، وألّا تحيك أي صفقات مع روسيا بقيادة بوتين. وفي المقابل ستصرّ تركيا على أن تأخذ الولايات المتحدة موقفاً حازماً بشأن القضية الكردية. والتوصل إلى بعض التسويات والتنازلات مسألة ضرورية حتماً إذا كان يراد إحراز تقدم. وقد يجد أردوغان صعوبة أكبر في اللعب على الحبلين وتحريض روسيا وأمريكا ضد بعضيهما، كما كان يفعل في عهد ترامب.
سيتوجب على أردوغان أن يقبل باحتفاظ قوات سوريا الديموقراطية (قسد) بدور لها داخل سوريا، ولكنه قد يطلب ضمانات من إدارة بايدن تؤكد أن هذه القوات لن تهدد المصالح التركية. وفي المقابل، قد يوافق بايدن أن يكون أكثر دعماً لوجود تركيا وانتشارها في إدلب السورية، حيث قامت روسيا والنظام السوري بتصعيد الهجمات في الأسابيع الأخيرة. هذه المنطقة من شمال-غرب سوريا ما تزال تحت سيطرة المعارضة السورية. وتركيا تدعم بعض قوات المعارضة ولها وجود عسكري هناك كجزء من اتفاقية وقف إطلاق النار التي تم إبرامها في مارس الماضي مع روسيا. ولكن الأسد وبوتين يمكن أن يقررا أنه يجب استعادة إدلب من قبضة المعارضة قبل أن يتولى بايدن مهامه في البيت الأبيض.
كما سيرغب فريق بايدن في رؤية أردوغان أقل عدائية مع اليونان في منطقة شرق المتوسط. الدولتان تحملان عضوية حلف الناتو، والصدام بينهما أمر غير مرغوب به البتة. وسيقوم بايدن، من دون شك، بتذكير جميع الأطراف المعنية بأن الدبلوماسية وسيادة القانون يجب أن تكونا محددات الطريق إلى الأمام، وليس التهديدات باستخدام القوة. ومن المرجح أن يفعل بايدن ذلك بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي كان يرفضه ترامب على الدوام، وهذا التوجه سيزيد الأمر صعوبة بالنسبة لأردوغان، ولن يستطيع تجاهله.
هناك خيارات متاحة أمام الرئيس التركي، إذا كان يرغب في التعامل مع بايدن. لن يُعطى بعد اليوم الحرية لكي ينغمس ويتلذذ في طموحاته الإقليمية الواسعة، كما كان يفعل خلال رئاسة ترامب، حيث كانت الأعمال المتهورة وغير المسؤولة تمر من دون عواقب. هو يعلم أن بايدن سيتصرف بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي وأعضاء الناتو، حول مجمل القضايا تقريباً، وهذا يعطيه مساحة صغيرة جداً للمناورة. بالتأكيد، يستطيع بايدن أن يطلب ضخ المزيد من المساعدات الأمريكية والأوروبية لمساعدة تركيا في التعامل مع 3.5 مليون لاجئ سوري تستضيفهم على أراضيها.
أردوغان شخصية ماهرة في التخلص من المآزق. لقد أثبت مرات ومرات أنه يستطيع تغيير مسار الأمور والتكيف مع المستجدات. سيتوجب عليه أن يركّز على ما يعتبره جوهرياً في مصالح الأمن القومي التركي، وفي الوقت نفسه سيتوجب عليه التخلي عن طموحاته الوهمية في بسط الهيمنة التركية/العثمانوية على شرق البحر الأبيض المتوسط ومنطقة الشرق الأوسط عموماً.
المصادر
[1] Walter Russell Mead, “Transcript: Dialogues on American Foreign Policy and World Affairs: A Conversation with Former Deputy Secretary of State Antony Blinke” July 9, 2020. https://www.hudson.org/research/16210-transcript-dialogues-on-american-foreign-policy-and-world-affairs-a-conversation-with-former-deputy-secretary-of-state-antony-blinken
[2] Foreign Affairs, The Transformation of Diplomacy. How to Save the State Department by William J. Burns and Linda Thomas-Greenfield November/December 2020 https://www.foreignaffairs.com/articles/united-states/2020-09-23/diplomacy-transformation?utm_medium=promo_email&utm_source=special_send&utm_campaign=election_registrant&utm_content=20201107&utm_term=registrant-prerelease
[3] “My Statement on World Refugee Day, by Joe Biden” 20 June 2020
https://medium.com/@JoeBiden/my-statement-on-world-refugee-day-fddb4abddfd5
[4] “Reuters, Biden seeks to ease Turkey tensions over coup suspect Gulen”, 24 August 2016 https://www.reuters.com/article/us-turkey-security-usa-idUSKCN10Z0WF
[5] Turkey condemns Biden’s criticism of ‘autocrat’ Erdoğan, Times of Israel, 16 August 2020 https://www.timesofisrael.com/turkey-condemns-bidens-criticism-of-autocrat-erdogan/