Insight Image

محاولة اغتيال الكاظمي: الدلالات.. الملابسات.. التداعيات

09 نوفمبر 2021

محاولة اغتيال الكاظمي: الدلالات.. الملابسات.. التداعيات

09 نوفمبر 2021

في السابع من نوفمبر عام 2021، تعرض رئيس الوزراء العراقي مصطفي الكاظمي لمحاولة اغتيال فاشلة، حيث استهدفت ثلاث طائرات مسيرة مفخخة منزله الواقع في المنطقة الخضراء شديدة التحصين. وقد استطاعت قوات الأمن إسقاط طائرتين، فيما تمكنت الثالثة من الوصول إلى منزل الكاظمي وإصابته ببعض الأضرار، فضلاً عن إصابة بعض أفراد قوة حماية رئيس الوزراء بجروح. وحتى تاريخ كتابة هذه السطور لم تعلِن أية جهة مسؤوليتها عن الهجوم. وقد فتحت السلطات العراقية تحقيقاً لمعرفة المكان الذي انطلقت منه هذه الطائرات، والجهة التي تقف خلف الهجوم. وبغض النظر عن النتائج التي سيسفر عنها التحقيق، فإن هذه المحاولة الفاشلة لتصفية رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة تطرح العديد من القضايا والتساؤلات حول مستقبل الأوضاع السياسية والأمنية في العراق، وبخاصة في ظل تداعيات الانتخابات التشريعية التي أُجريت في 10 أكتوبر 2021.

والهدف من هذه الورقة هو تحليل دلالات محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها رئيس الوزراء العراقي، والملابسات السياسية والأمنية المحيطة بها، وتداعياتها المستقبلية، وبخاصة فيما يتصل بالعلاقة بين الدولة والفصائل المسلحة الموالية لإيران، والمعروفة باسم “الفصائل الولائية” أو “الحشد الولائي”. وتُعد هذه الفصائل، وبخاصة “كتائب حزب الله” و”عصائب أهل الحق”، بمثابة القوة المهيمنة داخل “الحشد الشعبي”، والذي يمثل من الناحية القانونية جزءاً من القوات المسلحة العراقية.[1]

أولاً: في دلالات محاولة اغتيال الكاظمي

تتمثل أهم دلالات محاولة اغتيال الكاظمي فيما يلي:

  1. إنها استهدفت رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، والذي يمثل رأس هرم السلطة ومركز الثقل في النظام السياسي العراقي بحكم سلطاته الدستورية. وعلى الرغم من انتهاء ولاية الكاظمي كرئيس للوزراء، فإنه يترأس حكومة تصريف الأعمال لحين تشكيل حكومة جديدة على ضوء نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة. وتمثل هذه المحاولة الفاشلة تحولاً نوعياً في محاولات الاغتيال التي جرت في العراق خلال السنوات الأخيرة، والتي كثيراً ما طالت نشطاء سياسيين وليس مسؤولين حكوميين رفيعي المستوى. ومن هذا المنطلق، فإن من خطط لعملية اغتيال الكاظمي أراد بذلك خلط الأوراق، وخلق حالة من الفراغ السياسي والأمني في البلاد، حيث إن حكومة الكاظمي هي حكومة تصريف أعمال، وهناك الكثير من العقبات والتعقيدات بشأن تشكيل حكومة جديدة، وذلك بسبب التنازع حول نتائج الانتخابات من ناحية، والاختلاف بشأن تحديد التحالف صاحب الكتلة الأكبر في البرلمان من ناحية أخرى. وفي ظل هذه التعقيدات والتجاذبات، هناك من راح يرجح احتمال اختيار الكاظمي مجدداً كمرشح توافقي للخروج من حالة الاستقطاب السياسي الحاد بشأن نتائج الانتخابات. وفي ضوء ذلك، فإن الهدف من محاولة الاغتيال هو قطع الطريق أمام احتمال عودة الكاظمي رئيساً للوزراء لولاية ثانية، أو على الأقل هي رسالة موجهة إلى الكاظمي وغيره من رموز النخبة السياسية في العراق. فالجهة التي تقف وراء هذه المحاولة تريد أن تقول: إنها استطاعت الوصول إلى رأس الحكومة داخل المنطقة الخضراء شديدة التحصين؛ ومن ثم فهي قادرة على الوصول بسهولة إلى أي خصوم سياسيين آخرين في أي مكان داخل العراق.
  1. إن محاولة الاغتيال تم تنفيذها بثلاث طائرات مسيرة مفخخة، أسقطت القوات الأمنية طائرتين، فيما تمكنت الثالثة من الوصول إلى منزل الكاظمي، وأصابته ببعض الأضرار على نحو ما سبق ذكره.[2] ويأتي هذا الهجوم في سياق تحول نوعي تشهده الهجمات المسلحة التي دأبت فصائل مسلحة موالية لإيران ومجموعات أصغر تابعة لها تُعرف باسم “خلايا الكاتيوشا” على شنها ضد السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء، وبعض القواعد العسكرية العراقية التي تستضيف قوات أمريكية وقوات تابعة للتحالف الدولي لمحاربة “تنظيم داعش” على مدى السنوات الماضية، حيث كانت الأسلحة المستخدمة تتمثل بالأساس في صواريخ الكاتيوشا، وإلى حد ما العبوات الناسفة. وقد بدأت هذه الكيانات منذ عدة أشهر استخدام طائرات مسيرة مفخخة في هجماتها. ومن هنا، فإن استخدام مثل هذه الطائرات في استهداف المنطقة الخضراء بات يشكل تحدياً كبيراً للسلطات الأمنية العراقية، حيث أصبح من السهل على الفاعلين المسلحين من غير الدول الحصول على هذه الطائرات بتكلفة رخيصة، كما أنه من السهل استخدامها، ناهيك عن الصعوبات التي تواجه أنظمة الدفاع الجوي التقليدية في إسقاط تلك الطائرات المسيرة الصغيرة الحجم والتي تطير على ارتفاعات منخفضة.[3]
  1. تُوصف المنطقة الخضراء بأنها “شديدة التحصين”، لاسيما وأنها تضم القنصليات والسفارات ومقار أجهزة ومؤسسات السلطة والحكم في العراق. وكثيراً ما تعرضت هذه المنطقة لهجمات بصواريخ الكاتيوشا، وهي الآن باتت أكثر عرضة لهجمات بطائرات مسيرة مفخخة. ومن المعروف أن هذه الطائرات يتم استخدامها على نطاق واسع من قبل فاعلين مسلحين من غير الدول موالين لإيران في المنطقة العربية؛ مثل “حزب الله” في لبنان، و”الحوثيين” في اليمن، و”حركة حماس” في قطاع غزة. ومن المعروف كذلك أن إيران تقوم بتصنيع أنواع من هذه الطائرات، وتزود وكلاءها بها، حيث تعتبر هؤلاء الوكلاء أحد مرتكزات سياستها الأمنية والدفاعية، بل يشكلون خط الدفاع الأول في هذه السياسة. وتطلق إيران على هذه السياسة اسم استراتيجية الدفاع المتقدم (forward – defense)، حيث تستطيع مواجهة أعدائها وخصومها من خلال وكلائها الموجودين في دول عربية ضعيفة ومتصدعة، دون أن تتورط في مواجهات مباشرة مع هؤلاء الأعداء والخصوم، ودون أن يلحق الشعب الإيراني أي أذى من جراء هذه المواجهات.[4]
  1. إن فصائل “الحشد الولائي” تعاملت باستخفاف وتشكيك في محاولة اغتيال الكاظمي؛ فعلى سبيل المثال، سخر أبو علي العسكري، المسؤول الأمني لـ”كتائب حزب الله”، من محاولة الاغتيال، معتبراً أن “ممارسة دور الضحية أصبح من الأساليب البالية التي أكل الدهر عليها وشرب.. وأنه لا أحد في العراق لديه الرغبة بخسارة طائرة مسيرة على منزل رئيس وزراء سابق”. كما هاجم العسكري كل عراقي أو حزب أيد الكاظمي، حيث كتب “ألا لعنة الله على من أيدك”. وبالإضافة إلى ذلك، اعتبرت “عصائب أهل الحق”، أن محاولة اغتيال الكاظمي مفتعلة بهدف إشغال الرأي العام، والتغطية على جرائم إطلاق الرصاص على المتظاهرين الرافضين لنتائج الانتخابات. كما اتهمت فصائل ولائية طرفاً ثالثاً بالضلوع في محاولة الاغتيال بهدف خلق فتنة، وطالبت الجهات المختصة بالتحقيق في هذا الأمر. ويتسق هذا مع الموقف الإيراني من محاولة الاغتيال، حيث اتهمت إيران أطرافاً خارجية بالوقوف وراء محاولة الاغتيال. وحتى عندما دانت بعض الفصائل الولائية محاولة اغتيال الكاظمي، فقد جاءت هذه الإدانة مشروطة؛ فعلي سبيل المثال دان زعيم “عصائب أهل الحق”، قيس الخزعلي محاولة الاغتيال، إلا أنه طالب بتشكيل لجنة محايدة للتحقيق في الواقعة.[5]
  1. أكدت محاولة اغتيال الكاظمي مجدداً أن إيران تمثل طرفاً رئيسياً في المعادلة السياسية والأمنية في العراق. وقد تجلى ذلك في الزيارة غير المعلنة التي قام بها قائد “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري” الإيراني، إسماعيل قاآني، إلى بغداد، وذلك بعد ساعات من الإعلان عن محاولة اغتيال الكاظمي. وحسب تقارير إعلامية، فقد عقد قاآني اجتماعاً مع قادة فصائل عراقية موالية لإيران يتهمها البعض بالضلوع في محاولة الاغتيال. كما اجتمع مع كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء مؤكداً على رفض بلاده التعرض لأي مسؤول عراقي. وبصفة عامة، فإن الهدف من الزيارة هو محاولة تطويق تداعيات ما حدث، وتبرئة ساحة إيران، حيث تشير أصابع الاتهام إلى تورط جماعة مسلحة موالية لإيران في محاولة اغتيال الكاظمي، وأن الطائرات المسيرة التي استُخدمت في الهجوم إيرانية الصنع. ومن المعروف أن قاسم سليماني القائد السابق لـ “فيلق القدس” لعب دوراً رئيسياً في تأسيس الفصائل الولائية العراقية، ودعمها بالمال والسلاح، والإشراف على تدريب مقاتليها حتى تكون أداة لتعزيز النفوذ الإيراني داخل العراق.[6]

ثانياً: الظروف المحيطة بمحاولة اغتيال الكاظمي

جاءت محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي في ظل بيئة سياسية وأمنية تعاني الاحتقان والتأزم، وذلك في ضوء جملة من التطورات:

أولها، التنازع حول نتائج الانتخابات التشريعية، على أثر الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية التي أجريت في أكتوبر 2021، حيث أعلن “تحالف الفتح” بزعامة هادي العامري، وغيره من القوى التي شاركت في الانتخابات، رفضهم النتائج بحجة حصول عمليات تزوير وتلاعب في أصوات الناخبين، وطالبوا بإعادة عملية عد وفرز جميع صناديق الانتخابات يدوياً، أو إلغاء الانتخابات وإعادتها من جديد. وكان “تحالف الفتح” قد حصل على 17 مقعداً فقط مقابل 47 مقعداً كان قد حصل عليها في الانتخابات الماضية، وأهلته ليكون ثاني أكبر كتلة في البرلمان، بعد “تحالف سائرون” بزعامة مقتدى الصدر والذي حصل على 54 مقعداً. ويضم “تحالف الفتح” قوى وأجنحة سياسية تابعة لفصائل “الحشد الولائي”. وقد صدرت عن بعض هذه الفصائل تهديدات باستخدام القوة لمنع تمرير نتائج الانتخابات، متجاهلة قيام المفوضية العليا للانتخابات بإعادة فرز بعض الصناديق يدوياً في ضوء الطعون الانتخابية التي تم قبولها. وقد دخل مؤيدو هذه الفصائل الولائية في اعتصام مفتوح أمام بعض بوابات المنطقة الخضراء الشديدة التحصين، وراحوا يهددون باقتحام المنطقة للتعبير عن رفض نتائج الانتخابات، بل ورفض نتائج فحص الطعون من قبل مفوضية الانتخابات.[7]

وثانيها، أن محاولة اغتيال الكاظمي حدثت بعد يوم واحد من وقوع مواجهات بين قوات الأمن ومتظاهرين مؤيدين لفصائل “الحشد الولائي”، وبخاصة “كتائب حزب الله” و”عصائب أهل الحق”. وقد حدثت المواجهات بعد أن حاول المتظاهرون اقتحام المنطقة الخضراء تنفيذاً لتهديدات كانوا قد أطلقوها في فترة سابقة، وقد أسفرت هذه المواجهات عن سقوط قتلى وجرحى في صفوف المتظاهرين. وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء شكل لجنة تحقيق رفيعة المستوى لمعرفة الجهة العسكرية التي تورطت بإطلاق النار على المتظاهرين، كما شكل فريقاً عسكرياً بمشاركة عدة جهات أمنية بما فيها أمن “الحشد الشعبي” من أجل تأمين خيم الاعتصام التي أُعيد نصبها من قبل المحتجين على نتائج الانتخابات – على الرغم من ذلك، فإن المواجهات بين قوات الأمن والمتظاهرين زادت من حدة التأزم في العلاقة بين رئيس الوزراء وفصائل “الحشد الولائي”، حيث وجهت بعض الفصائل انتقادات حادة لرئيس الوزراء، وصلت إلى حد اتهامه بالتورط في إصدار الأوامر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين. وقد اقترن ذلك بحملة تحريض ممنهجة ضده. فعلى سبيل المثال، هاجم أمين عام “كتائب سيد الشهداء” أبو آلاء الولائي، الكاظمي، حيث كتب: “أقول لك (يقصد الكاظمي): عليك أن تنسى أمرين؛ الأول تكرار مهزلة تجديد رئاستك (للوزراء)، والثاني لن تُعاد حتى إلى منصبك السابق (رئاسة جهاز المخابرات)”. كما أصدرت “كتائب حزب الله” بياناً انتقدت فيه الكاظمي بشكل حاد، حيث جاء في البيان ما يلي: “إن إصدار أوامر إطلاق النار على المتظاهرين العزل وسفك دماء الأبرياء في ساحة الاحتجاج السلمي أظهر وحشية الكاظمي وفريقه، وهو ما يعكس بشكل واضح استبداده هو ومن يقف خلفه… إن سلوك الكاظمي الإجرامي تجاه شعبنا العزيز بدأ بسياسات التجويع والفساد، وها هو ينتهي إلى القمع والقتل، وكلها مظاهر لسوء استخدام السلطة”.[8] كما طالب بعض قادة الفصائل الولائية بمحاكمة الكاظمي، بل والثأر لدماء الشهداء.[9] وتكشف مثل هذه الانتقادات والتهديدات وعمليات التحريض عن جانب من الأجواء الأمنية والسياسية المتوترة التي أحاطت بمحاولة اغتيال الكاظمي.

وثالثها، أن محاولة اغتيال الكاظمي جاءت على خلفية حملة من التصعيد ضده في أعقاب الانتخابات التشريعية الأخيرة، والتي شكلت نتائجها ضربة لـ “تحالف الفتح” بزعامة هادي العامري، والذي يمثل بالأساس فصائل الحشد الشعبي الموالية لإيران. فبعض هذه الفصائل اتهم الكاظمي بالضلوع في تزوير الانتخابات لحساب قوى معينة؛ فعلي سبيل المثال اتهم أبو علي العسكري، المسؤول الأمني لكتائب حزب الله، مصطفى الكاظمي وعناصر بجهاز المخابرات العراقية بالتلاعب في نتائج الانتخابات، حيث قال: “تأكد لدينا أن عرّاب تزوير الانتخابات العراقية هو رئيس الوزراء المؤتمن على أصوات الشعب، فقد تجرأ مع بعض أتباعه من أفراد جهاز المخابرات على تغيير نتائج الانتخابات بالاتفاق مع أطراف سياسية نافذة”.[10] وتجدر الإشارة إلى أن ملف الانتخابات التشريعية يمثل إحدى قضايا الخلاف بين فصائل “الحَشد الولائي” ورئيس الوزراء مصطفي الكاظمي، حيث إن هناك قضايا أخرى شائكة تتمثل في تعارض التوجهات السياسية بين الطرفين؛ فرئيس الوزراء ركز في خطابه السياسي على أولويات مثل: حصر السلاح بيد الدولة، واستعادة هيبتها، وإخضاع فصائل الحشد الشعبي لسيطرة الدولة، وتجنيب العراق مخاطر أن يكون ساحة لتصفية الحسابات بين واشنطن وطهران، وتعزيز العلاقات العراقية – العربية. ومثل هذه التوجهات لا تجد قبولاً لدى فصائل “الحشد الولائي” التي ترغب في أن تظل تبعيتها للدولة العراقية شكلية، بحيث تستفيد من مواردها وإمكانياتها، وتتمتع في الوقت نفسه باستقلالية تمكنها من تحدي الحكومة عند اللزوم. فهذه التنظيمات الموالية لإيران تتحرك في مساحة رمادية واسعة بين الدولة واللادولة، فهي مع الدولة العراقية وضدها في آن،[11] كما أنها سبق أن اتهمت الكاظمي بالضلوع في عمليه اغتيال قاسم سليماني في يناير 2020، عندما كان يتولى رئاسة جهاز المخابرات. وترفض الفصائل الولائية أي خطط أو محاولات لإعادة هيكلة “الحشد الشعبي” على النحو يجعل تبعيته للدولة حقيقية وليست شكلية فقط.

ثالثاً: تداعيات محاولة اغتيال الكاظمي

يمكن النظر إلى التداعيات المحتملة لمحاولة اغتيال الكاظمي في ضوء عدة محددات: أولها، حالة الاحتقان السياسي المرتبطة بنتائج الانتخابات التشريعية، والتي ستجعل من عملية تشكيل الحكومة صعبة ومعقدة. وثانيها، هشاشة الوضع الأمني في البلاد؛ فعلى الرغم من نجاح حكومة الكاظمي في توفير أجواء آمنة لإجراء الانتخابات التشريعية، فإن الأوضاع الأمنية لاتزال هشة، وبخاصة في ظل عودة “تنظيم داعش” لممارسة أنشطته الإرهابية داخل العراق من ناحية، واستمرار ظاهرة الأمن الهجين في البلاد من ناحية أخرى. وثالثها، خبرة عمل لجان التحقيق العراقية؛ فعلى مدى السنوات الماضية شكلت الحكومات العراقية المتعاقبة، بما فيها حكومة الكاظمي، لجاناً للتحقيق في وقائع وأحداث أمنية وسياسية، إلا أنه في الأغلب الأعم لم يسفر عمل هذه اللجان عن نتائج ملموسة. وأكبر دليل على ذلك هو أنه حتى الآن لم يتم تحديد قتلة المتظاهرين والنشطاء السياسيين، ناهيك عن تقديمهم للعدالة. ورابعها، أكد الكاظمي أنه يعرف من يقفون وراء الهجوم، وسيتم كشفهم ومحاسبتهم. كما ذكر مسؤولون أمنيون عراقيون أن جماعة مسلحة موالية لإيران هي من قامت بتنفيذ الهجوم، وأن الطائرات المسيرة التي استُخدمت في العملية إيرانية الصنع. وإذا أكدت جهات التحقيق صحة هذه المعلومات، فإنه سيتعين على الحكومة العراقية اتخاذ موقف حاسم تجاه الجهة المتورطة في محاولة الاغتيال، لاسيما وأن هناك ضغوطاً داخلية على الكاظمي لاتخاذ مثل هذا الموقف؛ لأنه إذا مرت هذه العملية دون عقاب رادع للمتورطين فيها، فإنها سوف تتكرر في المستقبل. كما ستكون هناك حاجة لتحجيم النفوذ الإيراني داخل العراق، وإعادة هيكلة العلاقات العراقية – الإيرانية على أسس جديدة.[12] وخامسها، أن محاولة الاغتيال خلقت حالة من الالتفاف الشعبي والسياسي حول الكاظمي، وبخاصة في ظل الإدانات الواسعة للهجوم سواء على الصعيد العراقي أو على الصعيدين الإقليمي والدولي؛ الأمر الذي يعزز من فرصته لتولى منصب رئيس الوزراء لولاية ثانية، خاصة وأن عجز الكتل السياسية عن حسم مسألة تشكيل الحكومة قد يدفع في اتجاه رئيس وزراء توافقي قد يكون الكاظمي أو غيره.

وبالإضافة إلى ما سبق، فمن المهم النظر إلى التداعيات المحتملة لمحاولة اغتيال الكاظمي في ضوء خبرة حكومته في التعامل مع الفصائل الولائية، فقد حاولت الحكومة في مرات قليلة التصدي بحسم لبعض هذه الفصائل، إلا أن النتائج لم تكن إيجابية؛ ففي 25 يونيو 2020، قامت قوة تابعة لجهاز مكافحة الإرهاب بمداهمة موقع تابع لــ “كتائب حزب الله” الموالية لإيران في منطقة الدورة جنوب بغداد، وتم إلقاء القبض على 14 عنصراً من عناصرها بتهمة شن هجمات صاروخية ضد المنطقة الخضراء، وتُعد هذه العملية هي الأولى من نوعها التي تستهدف فصيلاً تابعاً لـقوات “الحشد الشعبي”.[13] وفي 29 يونيو 2020، أي بعد أربعة أيام فقط، تم الإفراج عن المعتقلين بحجة عدم ثبوت الأدلة عليهم لدى قاضي الحشد. وقد تم استقبالهم بزيهم العسكري الحشدي في أحد مقار “كتائب حزب الله”. وفي هذه المناسبة، داسوا بالأقدام على صور رئيس الوزراء القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو الأمر الذي شكل إهانة للحكومة العراقية. وقد بدا صمت الحكومة بشأن عملية الإفراج عن المعتقلين، وما اقترفوه من إهانات في حق رئيس الوزراء القائد الأعلى للقوات المسلحة بمثابة تراجع للدولة أمام فصائل “الحشد الولائي”.[14] وفي 26 مايو 2021 قامت قوات الأمن العراقية باعتقال قاسم مصلح قائد عمليات غرب الأنبار في “الحشد الشعبي”، وذلك وفق المادة (4) من قانون مكافحة الإرهاب. وقد تم إحالته للتحقيق أمام لجنة تحقيق مشتركة في التهم الجنائية المنسوبة إليه.[15] وعلى أثر ذلك قامت بعض الفصائل الموالية لإيران بتطويق أجزاء من المنطقة الخضراء الشديدة التحصين، ونفذت استعراض قوة بأسلحة متوسطة وخفيفة بهدف الضغط على الحكومة للإفراج عن مصلح أو تسليمه إلى أمن الحشد، وقد انتهى الأمر بإطلاق سراح قاسم مصلح بعد فترة وجيزة، حيث أكد مجلس القضاء الأعلى أن الأدلة التي قدمتها الأجهزة التنفيذية لم تثبت تورطه في أي جريمة.[16]

وفي ضوء ما سبق، فإن هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة لتداعيات محاولة اغتيال الكاظمي.

السيناريو الأول: عدم توصل لجنة التحقيق إلى نتائج محددة بشأن الجهة المسؤولة عن تنفيذ محاولة الاغتيال، ولاسيما أنه سبق أن أخفقت لجان التحقيق كثيراً في التوصل إلى نتائج محددة بشأن اغتيالات وهجمات صاروخية سابقة. ومثل هذا السيناريو يضر بمصداقية الكاظمي، حيث أكد أنه يعرف الجهة المتورطة وسيتم الكشف عنها ومحاسبتها.

السيناريو الثاني: الرد المحدود من جانب الحكومة العراقية على الجهة أو الجهات المتورطة في محاولة اغتيال الكاظمي. ويفترض هذا السيناريو توصل لجنة التحقيق إلى أدلة ومعلومات دامغة تؤكد ضلوع جماعة أو أكثر موالية لإيران في محاولة الاغتيال، وهنا لابد من رد حكومي على مستويين: الأول تجاه الجهة أو الجهات المتورطة في العملية، والثاني تجاه إيران باعتبار أن محاولة الاغتيال استهدفت هرم السلطة في العراق، وأن إيران هي من تزود الفصائل الولائية العراقية بالطائرات المسيرة. ويدور السؤال هنا حول طبيعة الرد وحدوده. وحسب هذا السيناريو، فإن رد الحكومة العراقية سوف يكون على الأرجح محدوداً كأن يتم اعتقال المتورطين في إطلاق الطائرات المسيرة بشكل مباشر وتقديمهم للمحاكمة دون المساس بقيادات الفصائل التي ينتمون إليها، وذلك لتجنب مواجهة أوسع في ظل أوضاع سياسية وأمنية هشة. وقد اعتادت حكومة الكاظمي على الردود المحدودة التي تقوم على توريط الخصوم، مع ترك الفصائل المناهضة تحرق نفسها بنفسها.[17] أما بخصوص العلاقة مع إيران، فالأرجح أن يتم مناقشة الأمر عبر القنوات الدبلوماسية دون تصعيد يصل إلى حد القطيعة، كما أنه قد يتم في ظل هذا السيناريو مراجعة لبعض الخطط الأمنية.

السيناريو الثالث: حدوث مواجهات بين قوات أمنية عراقية وبعض فصائل “الحشد الولائي”. ويقوم هذا السيناريو على فرضية إدانة قيادات بارزة في بعض الفصائل بالضلوع في محاولة اغتيال الكاظمي. وإذا ما صدرت أوامر باعتقالهم فإن ذلك قد يفضي إلى مواجهات بين قوات الأمن والفصائل المعنية، لا سيما وأن هذه الفصائل كثيراً ما قامت باستعراض قوتها وأسلحتها في العاصمة وقرب بوابات المنطقة الخضراء. وأخطر ما في هذا السيناريو أن قوات مكافحة الإرهاب أو وحدات من الجيش العراقي سوف تشتبك مع فصائل من “الحشد الولائي” التي تنتمي إلى “الحشد الشعبي”، والذي يُعد جزءاً من القوات المسلحة العراقية. وإذا ما انطلقت هذه المواجهة، فقد تتسع ويصبح من الصعب السيطرة عليها، الأمر الذي سيخلق حالة الفوضى وانعدام الأمن في العراق. وتمثل هذه الأوضاع بيئة ملائمة لتمدد “تنظيم داعش”، ولتغلغل النفوذ الأجنبي في البلاد. ويبدو أن الكاظمي على وعي بالتبعات الكارثية لمثل هذا السيناريو، ولذلك يبدو سيناريو الرد المحدود هو المرجح خلال المستقبل المنظور على الأقل.

وخلاصة القول: إن محاولة اغتيال الكاظمي كاشفة، حيث كشفت من جديد عن بعض التحديات وأوجه الخلل ذات التأثير على مستقبل الدولة والنظام السياسي في العراق. وفي هذا السياق، فإنه بدون إعادة هيكلة “قوات الحشد الشعبي”، وفي قلبها فصائل “الحشد الولائي”، بحيث يتم تعديل القانون المنظّم لها على النحو الذي يجعل تبعيتها لوزارة الدفاع، وإعادة إدماجها في القوات المسلحة العراقية على أسس فردية تراعي القدرات والمؤهلات، وليس كتنظيمات عقائدية ترتبط بولاءات خارجية – بدون ذلك؛ فسوف تظل الفصائل الولائية وغيرها من وحدات “الحشد الشعبي” بعيدة عن مفهوم الجيش النظامي المحترف. كما ستظل قادرة على عرقلة أي جهود ترمي إلى تأكيد سيادة الدولة العراقية، وحصر السلاح بيدها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الفصائل سوف تمثل ركيزة مستمرة للنفوذ الإيراني في العراق، وهو نفوذ يرتبط بأجندة إيران الإقليمية والدولية، وسوف يصبح الأمر أكثر خطورة في حال تحول هذا “الحشد الشعبي” إلى “حرس ثوري عراقي” على غرار “الحرس الثوري الإيراني”.

فهل الحكومة العراقية القادمة، سواء برئاسة الكاظمي أو غيره، قادرة على القيام بهذه المهمة؟ هذا هو التحدي الحقيقي!

المراجع

[1]. لمزيد من التفاصيل حول فصائل “الحشد الولائي”، انظر:

Renad Mansour and Faleh A. Jabar, “The Popular Mobilization Forces and Iraq’s Future,” Carnegie Endowment for International Peace, April 2017; Michael Knights, Hamdi Malik and Aymenn Jawad Al-Tamimi, Honored, Not Contained: The Future of Iraq’s Popular Mobilization Forces (Washington Dc: The Washington Institute for Near East Policy, March 2020).

[2] . لمزيد من التفاصيل، انظر:

الداخلية العراقية: محاولة اغتيال الكاظمي جرت بثلاث طائرات مسيّرة، جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 7/11/2021. https://aawsat.com/home/article/3290116/

[3] . لمزيد من التفاصيل، انظر:

د. حسنين توفيق إبراهيم، “الفاعلون المسلحون من غير الدول واستخدام طائرات الدرونز في العالم العربي: الوضع الراهن وآفاق المستقبل”، سلسلة اتجاهات استراتيجية، العدد 7، مركز تريندز للبحوث والاستشارات، أبوظبي، سبتمبر 2021.

[4] . لمزيد من التفاصيل، انظر:

International Crisis Group, “Iran’s Priorities in a Turbulent Middle East,” Middle East Report, No. 184 (13 April 2018), p. 4.

[5] . لمزيد من التفاصيل، انظر:

فصائل الحشد تتنصل من اغتيال الكاظمي.. وفيديوهات تدينها، العربية. نت، 7/11/2021. https://www.alarabiya.net/arab-and-world/iraq/2021/11/07/؛ إدانة “مشروطة” من الفصائل المسلحة لاستهداف رئيس الوزراء العراقي، جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 8/11/2021. https://aawsat.com/home/article/3291166/

[6]. لمزيد من التفاصيل، انظر:

قائد “فيلق القدس” يصل إلى بغداد بعد ساعات من محاولة اغتيال الكاظمي، جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 8/11/2021. https://aawsat.com/home/article/3292491/

[7] . لمزيد من التفاصيل، انظر:

احتجاجات العراق تتحول اعتصاماً مفتوحاً، جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 21/10/2021. https://aawsat.com/home/article/3257981/؛ مهلة “حشدية” 3 أيام لمفوضية الانتخابات، جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 21/10/2021. https://aawsat.com/home/article/3263091/؛ فاضل النشمي، “العراق: محتجو فصائل “الحشد” الخاسرة يحاصرون المنطقة الخضراء،” جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 25/10/2021. https://aawsat.com/home/article/3265011 /

[8] . لمزيد من التفاصيل، انظر:

فاضل النشمي، “هدوء نسبي في بغداد غداة يوم عاصف من المواجهات،” جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 7/11/2021. https://aawsat.com/home/article/3289586/

[9] . لمزيد من التفاصيل، انظر:

أحمد السهيل، “محاولة اغتيال الكاظمي أتت بعد ساعات على تهديدات أطلقتها ميليشيات موالية لإيران،” Independent عربية، 7/11/2021. https://www.independentarabia.com/node/274896 /

[10]. انظر:

حزب الله العراقي يتهم الكاظمي وعناصر في المخابرات بتغيير نتائج الانتخابات البرلمانية، جريدة الشروق المصرية، 14/10/2021. https://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=14102021

[11]. لمزيد من التفاصيل، انظر:

International Crisis Group, “Iraq’s Paramilitary Groups: The Challenge of Rebuilding a Functioning State,” Middle East Report, No. 188 (30 July 2018).

[12]. لمزيد من التفاصيل، انظر:

مسؤولون أمنيون: جماعة مسلحة مدعومة من إيران نفذت الهجوم على الكاظمي، جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 8/11/2021. https://aawsat.com/home/article/3292176/

[13]. لمزيد من التفاصيل، انظر:

Michael Knights, “Testing Iraq’s Ability to Crack Down on Anti-U.S. Terrorism,” POLICYWATCH 3341, POLICY ANALYSIS, The Washington Institute for Near East Policy, June 26, 2020.

https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/testing-iraqs-ability-to-crack-down-on-anti-u.s.-terrorism

[14]. لمزيد من التفاصيل، انظر:

العراق في عهد “انفلات السلاح” بعد واقعة “كتائب حزب الله”، جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 1/7/2020. https://aawsat.com/home/article/2363941؛ الإفراج عن 14 مقاتلاً موالياً لإيران في العراق استهدفوا الأميركيين، جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 29/6/2020. https://aawsat.com/home/article/2361596/

[15]. لمزيد من التفاصيل، انظر:

العراق يعتقل قيادياً في “الحشد” بتهمة قصف عين الأسد، جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 27/5/2021. https://aawsat.com/home/article/2993986 /

[16]. لمزيد من التفاصيل، انظر:

قاآني في بغداد للقاء قادة الفصائل بعد إطلاق قيادي الحشد، جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 10/6/2021. https://aawsat.com/home/article/3018756؛ “تسوية” لإطلاق قيادي “الحشد”… ومقتل عقيد المخابرات يخلط الأوراق، جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 9/6/2021. https://aawsat.com/home/article/3016956/

[17]. لمزيد من التفاصيل، انظر:

(تحليل إخباري): الفصائل العراقية تحرق نفسها… والكاظمي يفلت من الهاوية، جريدة الشرق الأوسط اللندنية، 8/11/2021. https://aawsat.com/home/article/3291316 /

 

المواضيع ذات الصلة