مع بداية عام 2020، أصدرت منظمة الصحة العالمية قائمة بالتهديدات الصحية التي ستواجه أفراد الجنس البشري خلال العقد الحالي. ومن بين قائمة تضمنت 13 تهديدا، احتلت ثلاثة تهديدات أهمية خاصة، هي: مكافحة الأمراض المعدية، والاستعداد والتحضير للأوبئة، وضعف الاستثمار في العاملين في القطاع الصحي، خط الدفاع الأول ضد المخاطر الصحية.
مواجهة هذه التحديات سيعتمد إلى حد كبير على مراكز التحكم في والوقاية من الأمراض (CDC)، والتي يعتبر من أهمها المركز الأميركي للتحكم والوقاية من الأمراض، والمركزين الصيني والأوروبي اللذان يحملان أسماء مشابهة للمركز الأميركي، وإن أُطلقت أحيانا تسميات مختلفة على مراكز وطنية تؤدي نفس المهمة، كما هو الحال في انجلترا (Public Health England). هذه المراكز بالإضافة إلى دورها المحوري في نظم الرعاية الصحية الوطنية، تتضمن أيضا نشاطاتها عدة مجالات، ترتبط ارتباطا وثيقا بالصحة العامة القومية والدولية، مثل الأمراض المعدية، والأمراض المنقولة بالغذاء، والصحة البيئية، والسلامة والصحة المهنية، والتثقيف الصحي، ومنع الحوادث والإصابات، وباقي النشاطات الهادفة إلى رفع مستوى الصحة المجتمعية، مثل الدراسات والأبحاث المتعلقة بالأمراض المزمنة غير المعدية، كالسمنة، والسكري، لما لها من تأثير على الصحة المجتمعية.
ومؤخرا وفي ظل عالمية أو عولمة الأمراض والأوبئة، كما ظهر مع وباء كوفيد-19، ومن قبله أوبئة فيروس الإيبولا، والسارس، وإنفلونزا الطيور، وإنفلونزا الخنازير، وغيرهم، تزايدت أهمية التعاون والتنسيق بين مراكز التحكم في الأمراض والوقاية منها في مختلف الدول، وهو تعاون يتم من خلال المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية، ومن خلال وزارات الصحة، بالإضافة إلى الجمعية الدولية لمؤسسات الصحة العامة الوطنية (International Association of National Public Health Institutes)، والتي تضم أكثر من 100 من هذه المؤسسات الوطنية، كما أن الجمعية نفسها تتواجد حاليا في 90 دولة حول العالم. ويهدف هذا التعاون إلى تحقيق الأمن الصحي العالمي (Global Health Security)، وهو هدف يمكن بلوغه من خلال العمل على تسريع وتفعيل الإجراءات والتدابير الضرورية لمواجهة الأوبئة والطوارئ الصحية، كخطوة أساسية لدعم وترسيخ الأمن الصحي الدولي ضد التهديدات التي تواجهه.
وكنتيجة للعلاقة الوثيقة بين العولمة وبين سرعة ومدى انتشار الأوبئة والأمراض، قامت منظمة الصحة العالمية عام 2007 بإصدار تقرير خاص بعنوان “الأمن الصحي العالمي” (International Health Security). حيث طرح هذا التقرير حينها مفهوما جديدا، هو مفهوم الأمن الصحي العالمي، وبشكل مماثل لمفاهيم الأمن السياسي، والاقتصادي، والغذائي، كما ألقى بالمزيد من الضوء على العلاقة بين تصاعد ظاهرة العولمة، وتزايد انتشار الأمراض والأوبئة.
فالعولمة بطبيعتها، تعتمد على زيادة حركة البضائع والأشخاص بين مناطق ودول العالم المختلفة، وهو ما يسهل بدوره من انتقال الجراثيم والميكروبات بين هذه الدول وتلك المناطق. فعلى مدار التاريخ، دائما ما شكّل تباعد المسافات، ووجود العوائق الجغرافية (من جبال وصحاري ومحيطات.. إلخ) نوعا من الحجر الصحي الطبيعي، عمل على بقاء الأمراض والأوبئة في نطاق محلي في الكثير من الأوقات. أما في زمن العولمة، فقد تلاشت المسافات، واختفت العوائق الجغرافية، وأصبحت الأوبئة منذ لحظة ولادتها، دولية الصفة وعالمية المخاطر. ولذا، سيعتمد الأمن الصحي الدولي في عالم اليوم بشكل رئيسي، على مدى فعالية التعاون والتنسيق بين الحكومات مع بعضها البعض. ففي زمن العولمة، لن يكون في مقدور جهة واحدة أو دولة بمفردها أن تقف في وجه التهديدات الصحية العالمية، الناتجة عن انتقال الجراثيم والأوبئة عبر الحدود والقارات.
ومؤخرا تعاظمت فداحة هذه التهديدات، في ظل تزايد أعداد نظم الرعاية الصحية الوطنية في الدول النامية والفقيرة، المتداعية والمهترئة، بسبب ضعف مصادر تمويلها، أو لنقص وغياب الكفاءات الفنية الأساسية والضرورية. فمن بين دول العالم كلها، يتمتع ثلثاها فقط، بنظم رعاية صحية قادرة على التقييم، والاكتشاف، ومن ثم الاستجابة للطوارئ الصحية العامة، مثل أوبئة الأمراض الفيروسية المعدية، وغيرها من الأوبئة المرضية التي تخطت الحدود الجغرافية والسياسية، وعجزت نظم الرعاية الصحية تلك عن احتوائها. وأمام هذا العجز، تتضح أهمية مراكز التحكم والوقاية من الأمراض في الدول المتقدمة، كداعم أساسي لتحقيق الأمن الصحي العالمي، خصوصا تلك المراكز التي تحظى بميزانيات سنوية ضخمة، مثل المركز الأميركي الذي تبلغ ميزانيته السنوية حوالي 11 مليار دولار.