مقدمة:
تشهد السياسة الأمنية في
اليابان تَحَوُّلًا، ربما يكون غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية؛ إذ إن التطورات
الإقليمية والظروف الدولية – لا سيّما في السنوات العشر الأخيرة – قد فرضت إعادة
النظر في السياسة الأمنية للبلاد، والتي كانت تقوم على مبدأ السلم ونبذ الحرب
بالمطلق. وقد مثلت استراتيجية “السلمية الاستباقية” التي أطلقها رئيس
الوزراء الراحل شينزو آبي بداية هذا التحوُّل. ورغم رحيله المفاجئ في يوليو 2022، فإن
إسهامه فيما يتعلق بهذا التحوُّل ما زال مستمرًا، حيث تتراكم الأدلة على مدى أهمية
هذه الاستراتيجية الأمنية، بدءًا من إصدار رئيس الوزراء الحالي فوميو كيشيدا الاستراتيجية
الأمنية الجديدة في ديسمبر 2022[1]،
ومرورًا بالزيادة الهائلة في ميزانية الدفاع، ليصل بها حجم الإنفاق العسكري إلى نحو
2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027، إلى جانب تعزيز قدرات الردع
والاستجابة لقوات الدفاع اليابانية. وكذلك
تخطط الحكومة الحالية للحصول على “قدرات الهجوم المضاد”، وذلك باستيراد
صواريخ بعيدة المدى، تستطيع الوصول إلى الأراضي الصينية، وهذا الأمر – بكل وضوح – يمثل
تغيُّرًا رئيسيًا في الدولة ذات الدستور السلمي، الذي تم إصداره بعد الحرب
العالمية الثانية، والذي كان يحظر بشكل مطلق خوض الحروب. كما يمثل هذا التغيُّر تحوُّلًا
كبيرًا في نهج السياسة الدفاعية اليابانية، بالإضافة إلى توسيع التحالف مع
الولايات المتحدة، حيث وَقَّعَ كيشيدا مؤخرًا اتفاقية إطارية للتعاون الفضائي بين
اليابان والولايات المتحدة[2].
ومن الواضح أن الحكومة الجديدة، والتي وصلت إلى
السلطة عقب وفاة آبي، قد استطاعت أن تحدث تغيُّرًّا في مجال السياسة وقوات الدفاع
اليابانية بشكل جوهري، حيث أصدرت حكومة فوميو
كيشيدا استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي في ديسمبر 2022، وتعكس
الاستراتيجية الجديدة تراث آبي في السلمية الاستباقية، ومن ثم فإنها لم تُحْدِثْ تغييرًا
ثوريًا أو خروجًا عن نصوص استراتيجية آبي، ولكنها قد مثلت امتدادًا طبيعيًا لها، لا
سيّما في ضوء التطورات الداخلية والخارجية في المحيط الإقليمي والدولي، وكذلك
الوضع الداخلى لليابان.
أولًا: تطور مفهوم السلمية
الاستباقية وأهم خصائصها
في العقود التي تلت الحرب
الباردة، كانت السياسة الأمنية اليابانية تُركّز على القوة الناعمة والدبلوماسية
الاقتصادية. كما تبنت مبدأ السلمية، حيث تعتمد في أحد مبادئها المؤسسة للدستور
الياباني على ثقافة السلام والتخلي عن الحرب. وحاولت -من خلال هذا المبدأ- أن تمحو
الصورة الذهنية القديمة للنزعه العسكرية اليابانية، إلى الحد الذي تجلَّى معه
مفهوم “السلمية السلبية”، في محاولة منها لطمس هاجس عودة تلك النزعة
اليابانية العسكرية التاريخية، ذات الطابع القومي[3].
ولقد تميزت السياسة الأمنية اليابانية،
منذ فتره ما بعد الحرب العالمية الثانية، بعدة سمات، أهمها: السلمية السلبية،
والتي تدور حول مبدأ نبذ الحرب، وعدم السعي إلى امتلاك القدرة العسكرية الهجومية
التي تتجاوز الدفاع عن النفس، والاعتماد في ذلك على الولايات المتحدة، مرورًا بالسلمية الإيجابية،
والتي تعتمد على اتباع
التنمية الاقتصادية والعسكرية معًا، وتطوير الترسانة العسكرية التي تُسهم في قوات
حفظ السلام، مع التحالف غير المتكافئ مع الولايات المتحدة، واعتماد دبلوماسية
المساعدات. وقد استمرت اليابان على هذه المبادئ إلى أن تم طرح مفهوم “السلمية
الاستباقية اليابانية”، وهي سلمية بعيدة عن إطار
الهيكل المؤسسي لسلمية اليابان المعهودة، والتي فرضتها الولايات المتحدة بعد الحرب،
حيث إنها لم تَعُدْ تستند إلى رؤية سلبية للأمة اليابانية -باعتبارها تهديدًا
محتملًا للسلام الدولي- بل إنها تُسهم في إحلال السلام العالمي[4].
وبصفه عامة، فرضت مقتضيات الظروف المحيطة على السلمية
اليابانية أن تتأرجح درجات إيجابيتها وسلبيتها بين صعود وهبوط؛ بداية من الحرب الكورية والحرب الباردة، ثم مواجهة الخطر السوفيتي
والشيوعي، وبعد ذلك نهوض الجار الصيني، إضافةً إلى حرب فيتنام، وحرب الخليج،
وأحداث الحادي عشر من سبتمبر. وقد فرضت كل تلك الأحداث على اليابان أن تطور من
قدراتها الدفاعية، من خلال قوات الدفاع الذاتي، بعد أن كانت منزوعة السلاح لضمان
حد الدفاع فقط. بالإضافة إلى ذلك، بدأ التوسع التدريجي في التعاون بين الولايات
المتحدة واليابان، من خلال إقرار المعاهدة الأمنية بين البلدين، وقد تجلَّى ذلك في
شكل التحوُّلات اللاحقة في الموقف العسكري الياباني، وتعزيز شرعية الدور المتنامي
لقوات الدفاع والأمن اليابانية، عن طريق البعثات الخارجية منذ التسعينيات. ويُذْكَر
في هذا الصدد كاسحات الألغام التي تم إرسالها إلى منطقة الخليج العربي في أعقاب
حرب الخليج، والمشاركة في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في بعض مناطق
العالم مثل كمبوديا، ودعم التحالفات الدولية بعد 11 سبتمبر في العراق، في أعقاب
الغزو الذي قادته الولايات المتحدة، ومهام مكافحة القرصنة في خليج عدن، ولكن
يُلاحَظ أن كل هذه الأدوار كانت محدودة. وعلى الرغم من الدور المتنامي الذى حاولت
اليابان أن تمارسه على المستوى الدولي، إلَّا أنها واجهت انتقادات شديدة، حيث
اعتبرتها بعض الدول لا تقوم بدورها المنوط بها في المجتمع الدولي[5].
وترتيبًا على ذلك، خضعت السلمية اليابانية للعديد من
الإسهامات، من قِبَل السياسيين والأكاديميين، من أجل بلورة مفهوم يعبر عن تطلعات الشعب
الياباني إلى المشاركة بشكل إيجابي في إقرار السلام في المجتمع الدولي. ولذلك اتسمت طريقة طرح مفهوم
السلمية الاستباقية بالتدرج، ولم يأتِ طرحه
مفاجئًا، إذ إن السلمية الاستباقية لم تظهر من فراغ، فقد استمرت دوائر معينة داخل المجتمع
الدبلوماسي والأمني الياباني في دعوة اليابان إلى تحويل مسالمتها بعد الحرب، من
كونها سلبية إلى استباقية، وجديرٌ بالذكر أن هذا الأمر لا يعني التخلص من النزعة
السلمية، ولكنها كانت محاولة للحفاظ على مزاياها، مع تصحيح أوجه القصور فيها[6].
وبصفة عامة، اتسمت الخطوات التي
اتبعتها الاستراتيجية الاستباقية بالحذر والحيطة، ولذلك وصفها العديد من الأكاديميين
بأنها استراتيجية تَحَوُّطِيَّة بالأساس، بمعنى أن استباقية اليابان لا تهدف إلى
تغيير الوضع الراهن، أو التحول إلى دولة مراجعة للنظام الدولي أو النظام الإقليمي،
وإن كانت تسعي لإصلاحه من خلال مبادراتها في الأمم المتحدة، وإنما تهدف إلى تحسين
وضع اليابان، واحتلال المكانة الدولية التي تستحقها[7].
كما اتسمت هذه الاستراتيجية الجديدة بالعديد من الخصائص، ومن أهمها كونها: سلمية، وتفاعلية،
وديناميكية، واستباقية، ونشطه، وإيجابية، وفعالة، ومرنة. وفى الوقت نفسه، تتبع سياسة دفاعية رادعة، بغضّ النظر عن كونها تمثل استجابة دفاعية من القيادة والقوى السياسية اليابانية في مواجهة التهديدات
الأمنية المحيطة، ولذلك فهي تعكس موقفًا
دفاعيًا رادعًا متعدد الأطراف في السياسة
الأمنية اليابانية. وتتميز السلمية الاستباقية في كونها متعددة الأطراف
والتحالفات، وهي شاملة، حيث تشمل كافة المناحي السياسية والأمنية، بما في ذلك
البحرية والفضاء[8].
ولذلك، تهدف
السلمية الاستباقية -بالأساس- إلى أن تتحول اليابان إلى دولة طبيعية قوية، ذات
مكانة دولية وقوة عسكرية، وأن يكون لديها شراكة استراتيجية قادرة على الدفاع
الذاتي الجماعي، بحيث تضمن مستقبلًا لعالم أفضل. كما تهدف السلمية الاستباقية لأن
تكون اليابان من بين مصافّ الدول الطبيعية الرائدة، والبعيدة
عن تبعية مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتسعى لأن تتبوَّأ اليابان
دورًا أكبر في الشأن العالمي والمجتمع الدولي، وأن تكتسب عضوية دائمة في الأمم
المتحدة[9].
ثانيًا: دور شينزو آبي في طرح السلمية الاستباقية
شغل شينزو آبي منصب رئيس وزراء اليابان لفترتين، الأولى
امتدت منذ عام 2005 إلى 2007، والفترة الثانية من عام 2012 إلى 2020. وقد طَرَحَ مفهوم
السلمية الاستباقية، للمرة الأولى، في كتابه الأول بعنوان “نحو بلد
جميل”، وذلك في محاولة منه للإشارة إلى مفهوم يعكس الصورة الذهنية التي يحلم
بها لليابان في أن يصير “بلدًا جميلًا”. وفى الفترة الرئاسية الأولى لآبي
تحدث عن “الدبلوماسية الحازمة”، وهي الاستراتيجية التي تناضل من أجل
إقامة بلد طبيعي، لديه قوات دفاع تضمن له الحد الأدنى من الأمن في بيئة إقليمية
وعالمية متوترة. ولكنه أعاد صياغة هذا المفهوم في الفترة الرئاسية الثانية، ليتحول
إلى مبدأ وشعار “المساهمة الاستباقية في السلام”. وقد مَرَّ هذا المفهوم
بالعديد من التطورات، إلى أن تبلور تَصَوُّر آبي في مصطلح أكثر جاذبيه، وهو “السلمية
الاستباقية”[10].
واستطاع آبي رسميًا أن يقدم المساهمة
الاستباقية نحو السلام القائم على مبدأ التعاون الدولي، باعتباره استراتيجية أَمْنِيَّة
رسمية يابانية في عام 2013؛ وهو توسيع لمفهوم السلمية الإيجابية. وقد حرص على
إضفاء صبغة أخلاقية على هذا المفهوم، بالإضافة إلى الدعم الاقتصادي لضمان تأييد
المواطن الياباني للاستراتيجية الجديدة. ولذلك
قدم تصوره الاستراتيجي الأمني من خلال السياسة الاستباقية، والتي شملت: دعوته لتعديل
الدستور السلمي، واعتماد سياسة الدفاع الذاتي الجماعي، وبذْل جهود كبيرة في الشأن
الإنساني الاستباقي حول العالم[11].
وقد تجسدت أحد أهم إنجازات آبي في صياغة وإقرار
استراتيجية الأمن القومي، التي اعتمدها مجلس
الوزراء في ديسمبر من عام 2013، كسياسة أساسية للأمن القومي، والتي استمرت لعشر
سنوات تقريبًا. وعلى الرغم من انتقاد البعض لسياسة آبي، إلَّا أن هدفه لم
يكن إعادة النزعة العسكرية التي من شأنها إثارة المخاوف، حيث اعتبر المراقبون أن
آبي تجاوز مسار السلمية في اليابان، وأفرغ المثل العليا السلمية المنصوص عليها في
المادة التاسعة من الدستور الياباني من مضمونها، مع أنه -في واقع الأمر- أشار إلى
أنه اضطُرَّ للإبقاء على المادة التاسعة نظرًا لصعوبة تعديلها، ولكنه سعى إلى إضافة
فقرة لإضفاء صفة قانونية واضحة وهيكل قانوني لقوات الدفاع الذاتي. وعلى الرغم من
كل ما سبق، فإن مساعي آبي لم تكلل بالنجاح، بعد أن حالت الظروف الداخلية والخارجية
لليابان، وكذلك الحالة الصحية لآبي، دون تنفيذ الجدول الزمني لتعديل الدستور[12].
يُذْكَر أيضًا أن آبي سعى إلى تطوير البُعد
الأمني والعسكري بما يتوافق مع الاستراتيجية الجديدة، حيث قام بزيادة ميزانية
الإنفاق الدفاعي العسكري، والسماح بممارسة حق الدفاع الجماعي عن النفس. وفي الوقت
نفسه، أصبح التحالف الثنائي مع الولايات المتحدة أكثر تماسكًا، فقد قدمت الولايات
المتحدة الدعم العسكري إلى اليابان، وإلى دول أخرى، في ظروف متنوعة من الحالات
الطارئة. وكذلك انخرطت اليابان في الدفاع الذاتي الجماعي في ظل ظروف معينة، حيث
نجحت إدارة آبي في إقناع البرلمان بإعادة تفسير الدستور، في يوليو عام 2014، للسماح
بمشاركة اليابان في مثل تلك الجهود، ومن أهمها: إرسال قوات لحفظ السلام خارج إطار
الأمم المتحدة، وإنشاء أول وحدة عسكرية مخصصة للفضاء الخارجي، والتصدي لتهديدات
الأمن غير التقليدية مثل الأوبئة، وكان من أهمها انتشار وباء كوفيد-19، إلَّا أنه
-مع كل ذلك- أخفق في محاولته تعديل المادة التاسعة من الدستور[13].
وفيما يتعلق بالبُعد الدبلوماسي، انخرطت اليابان في
التحالفات المتعددة الأقطاب، وتعاونت مع عدد من المنظمات الإقليمية والدولية. في حين
تَمَثَّل البعد الاقتصادي في إصدار حكومة آبي ما يُسمى “أبينوميكس”، وهو
مزيج من الإنعاش الاقتصادي، والإنفاق الحكومي، في إطار استراتيجية تنموية تهدف إلى
انتشال الاقتصاد من حالة السُّبات التي انتابته في الفترة السابقة لعهد آبي[14].
وقد تضمن أبينوميكس مجموعة من التدابير السياسية، تهدف إلى حل مشاكل الاقتصاد
الكلي الياباني، والذى تضمن سياسات نقدية مالية، واستراتيجيات نمو اقتصادي لتشجيع
الاستثمار الخاص، بالإضافة إلى استهداف التضخم ليستقر على نسبة 2% سنويًّا، وتصحيح
الارتفاع المفرط في سعر الين، والتوسع في الاستثمار العام[15].
ثالثًا: تحديات تطبيق السلمية الاستباقية
من الواضح – إذنْ – أن التحديات الدستورية والقانونية هي
التي تُمَثِّل أول العراقيل أمام تحقيق استراتيجية آبي، إذ إن طموح آبي بشأن تعديل الدستور قد قوبل باعتراض من قِبَل الرأي العام،
كما انقسم النواب المؤيدون للتعديل حول التفاصيل مما عرقل تقدم العملية، وفي
الوقت نفسه، أسهم انتشار وباء كورونا في تعطيل الجدول الزمني داخل خطة آبي لتعديل
الدستور. وقد أدرك، مؤخرًا، المخاطر أمام تعديل الدستور، حيث لم يكن يتوافر آنذاك الخطر
الخارجي القوي، أو التهديد الوجودي لدولة اليابان، والذي يحتم إجراء تعديل فوري
للدستور[16].
وفي الوقت نفسه، لم يتوافر الدعم الخارجي الكافي
لاستراتيجية آبي الاستباقية، إذ إنه لم يقم بصياغة المفهوم بشكل كافٍ، بحيث يمكن
طرحه باعتباره مصطلحًا فلسفيًا معترفًا به دوليًا، وقادرًا على القيام بدور هادف
وفعال. فمن أجل ضمان نجاح استراتيجية السلمية الاستباقية، يُشترط بذل مزيد من
الجهد في تفسير ذلك المفهوم، والتأكيد على حسن نواياه، بما لا يدع مجالًا في
التشكيك لمضمونه أو تداعياته أو مساره المستقبلي. ولكن تفسير إدارة آبي – غير
الكافي – للسياسة الاستباقية، كان واحدًا من أسباب التشكيك في السلمية اليابانية، لا
سيّما أن التاريخ السياسي والعسكري لعلاقات اليابان مع الدول المجاورة لها، ينتابه
الكثير من الشك حول نواياها. ومن ثم، كان ينبغي على هذا المفهوم أن يتضمن مجموعة
من التدابير، تعمل على كسر الحلقة المفرغة من عدم الثقة بين اليابان والدول
المجاورة لها، وكذلك تجنب تسييس القضايا الدفاعية المتعلقة بالأمن الياباني[17].
وحسبما هو معروف، فإن اليابان تعاني من ارتفاع نسبة من
بلغوا سن الشيخوخة، وانخفاض نسبة الشباب، وهذا الأمر يمثل أحد التحديات الديمغرافية
المهمة، وهو الأمر الذي أدى إلى رفع سن التجنيد، ورفع سن تقاعد الضباط، وسمح باشتراك
النساء في قوات الدفاع الذاتي، وأتاح تطوير القدرات العسكرية ذات الذكاء الاصطناعي.
وترتيبًا على ذلك كله، يرى بعض المراقبين أن التحدي الديمغرافي قد يقود اليابان
إلى التركيز على الداخل مجددًا، الأمر الذي يتنافى مع مبدأ الاستباقية في الشأن
العالمي. ولذلك، فإن إدارة آبي -في إطار ضمان سياسة اليابان الاستباقية- كانت تحرص
على البحث عن شراكة أمنية تعوض بها نقاط الضعف لديها. وفي هذا الشأن بدأت اليابان
تسعى لإقامة شراكة مع دول الهند وإندونيسيا، والفلبين النامية ديمغرافيًا، وإن
كانت لا تعاني فحسب من نفس التحدي الديمغرافي الذي تعاني منه اليابان، بل وتتقارب
معها في المصالح البحرية والجغرافية، وفي المخاوف المشتركة أيضًا، في ظل جوارهما
المشترك مع الهند وإندونيسيا، وهما تُعَدَّان من الدول العشر الأولى للنمو السكاني
حتى عام 2050[18].
رابعًا: مستقبل السياسة الأمنية اليابانية
بناءً على ما سبق، كان على استراتيجية اليابان
الاستباقية أن تتضمن مجموعة من التدابير والإجراءات، حتى تضمن استمراريتها، بل
وتطويرها في المراحل القادمة، حيث اعتبر بعض الأكاديميين أن الاستباقية اليابانية
قد تكون مصدرًا للاستقرار إذا جاءت بالتنسيق مع القوى الآسيوية الأخرى، مثل الصين
وكوريا الجنوبية وروسيا، بحيث يوفر ذلك الضمانات الكافية بعدم عودة المخاوف بشأن
النزعة العسكرية اليابانية القومية المتشددة؛ لا
سيّما أنها تهدف إلى ضمان أمن اليابان في مواجهة القوة المتنامية للصين، وفي الوقت
نفسه لا تهدف إلى زيادة توتر العلاقات مع الصين أو كوريا الشمالية، بالإضافة إلى
أنها تتبنَّى تحوُّطًا استراتيجيًا يضمن نوعًا من توازن القوى في آسيا. كما أن
اليابان لا يمكنها اعتماد استراتيجية هجومية، إذ إن هذا الأمر يتجاوز حدود
“الدفاع عن النفس”، كما يتجاوز مبدأ “استخدام القوة إلى الحد
الأدنى الضروري”، ولذلك جاءت جهود التحديث لتركز بالأساس على القدرات الدفاعية
– غير الهجومية – والتي تهدف إلى تحقيق مزيد من الاكتفاء الذاتي الدفاعي[19].
وفى إطار الترويج للسلمية الاستباقية، يجب أن تعمد اليابان إلى تبادل البحوث والتعليم بشأن عمليات
السلام الدولية، من أجل تعزيز صورتها الدولية، وتطوير شبكة من مراكز الفكر حول
العالم، وأن تصبح مركزًا لعمليات السلام الدولية، وأن تبذل مزيدًا من الاهتمام
والجهد في المجال الأكاديمي والدراسات والترجمات لدول العالم أجمع، حتى يتسنى لها
نشر فهم أعمق وإيجابي لاستراتيجية اليابان الاستباقية، إذ إن هذه الرؤية تحتاج إلى
مزيد من التطوير والتوضيح، لكى تصبح منهجًا أو نموذجًا يمكن للدولة انتهاجه على
مستوى الدبلوماسية العامة، وكذلك لإقناع الرأي العام العالمي بمدى أهميتها
لليابان.[20]
ويشير الواقع العملي إلى أنه؛
على الرغم من أن مراجعة الدستور في اليابان هي مسألة محلية، إلَّا أن إجراءات
التعديل مُعَقَّدَة، ولذلك من غير المرجح أن
تتم التعديلات الدستورية من خلال الطرق القانونية المعتادة، ولكن يمكن تحقيق ذلك
من خلال إعادة تفسير بعض مواد الدستور. ومن المعروف أن هناك فرقًا بين إعادة
التفسير وبين المراجعة والتعديل. وهناك بالطبع اختلافات في الإجراءات القانونية
بين هاتين الحالتين، في اليابان، إذ إن أمر مراجعة الدستور هو إجراء مختلف تمامًا،
يتطلب أغلبية في مجلسيْ البرلمان، بالإضافة إلى استفتاء عام يدعم إجراء التغيير؛ فلا
يمكن لرؤساء الوزراء -قانونيًا- مراجعة الدستور دون تنفيذ هاتين الخطوتين. وعلى
هذا النحو، ستكون إجراءات المراجعة صعبة؛ نظرًا للانقسام في الرأي العام، وكذلك معارضة
عدد من السياسيين لتلك الخطوة في كُلٍّ من المجلسين. ولكن يرجح المراقبون أن هناك
فرصة للخروج من ذلك المأزق، في حال قيام الحكومة بتعديل قانون الاستفتاء الوطني
المتعلق بمراجعة الدستور، بما يسمح بتقليل قيود الاستفتاء الشعبي، وهو الأمر الذي يرجحه
المراقبون[21].
مما لا خلاف عليه – إذنْ – أن السياسات الأمنية
لليابان لا تزال مقيدة بشدة بسبب قيود قانونية ومعيارية كبيرة، وما زالت هذه العوامل السياسية والقانونية مستمرة في تقييد
حدود استراتيجيات وقدرات اليابان الهجومية. وفي الوقت نفسه، تَحُولُ القيود على
الميزانية المخصصة للدفاع دون تحقيق تقدم كبير في القوة الجوية والبحرية لقوات
الدفاع الذاتي اليابانية[22].
وترتيبًا على ما سبق، فإن القرارات المتعلقة
بتغيير قواعد الاشتباك، بما يتضمن معايير استخدام
الأسلحة أو القدرة على استخدام القوة، هذه القرارات لن تمنح أية سلطة سياسية لقوات
الدفاع الذاتي، كما أنها لا يمكن أن تغير هيكلها القيادي فيما يشمل فرض التجنيد
الإجباري وإنشاء محاكم عسكرية. وكذلك فإن تلك القرارات لا يمكنها إحداث أية
تغييرات في قدرة اليابان على شراء أو تصدير معدات الدفاع، من منطلق أن كافة القيود
آنفة الذكر، هي قرارات سياسية بالأساس، ولإحداث أي تغيير فإن الأمر يتطلب قرارًا
جريئًا من قِبَل القيادة السياسية، وكذلك صدمة خارجية قوية -ربما تكون على شكل
تهديد وشيك- بحيث تساعد الحكومات في اتخاذ هذه القرارات، كما يقتضي توافر ظروف
محيطة، وعوامل داخلية وخارجية وفردية، لم تكن متوافرة في ظل فترة حكم آبي[23].
والحقيقة أن استقالة آبي
شينزو في 2020، وهو صاحب السلمية الاستباقية، أثارت مجموعة من التساؤلات حول
مستقبل السلمية الاستباقية، ومن أهمها: هل يمكن تحقيق استدامة مستقبلية لاستراتيجية
آبي الأمنية؟ وهل يمكن أن يتم اعتبارها عقيدهً ونهجًا لمسار اليابان؟ وما هي
ضمانات “سلمية الاستباق” التي يمكن من خلالها تقييد النزعة العسكرية
اليابانية مستقبلًا وسط التهديدات الأمنية المحيطة؟ ومتى يمكن حل إشكالية التضارب
بين الممارسة الواقعية وبين النص الدستوري، فيما يخص قوات الدفاع الذاتي، حتى
تتماشى الممارسة العسكرية والأمنية العملية مع النص الدستوري؟
خامسًا: تطورات استراتيجية
الدفاع اليابانية بعد رحيل آبي
بصفة عامه، تفرض مقتضيات
البيئة الأمنية المعقدة مجموعة من الخيارات السياسية والأمنية، وكذلك اعتماد
مجموعة من التشريعات تتناسب مع تلك الأوضاع. وهو الأمر الذى يصف البيئة الأمنية المحيطة
باليابان، والذي تطلب من إدارة آبي اتخاذ مجموعة من الخطوات غير المعهودة على
الإدارات السابقة، ومن أهمها: اعتماد قانون الدفاع الذاتي الجماعي، وتوسيع نطاق
دور قوات الدفاع الذاتي اليابانية، والنظر في التحركات والتصريحات بضرورة إعادة
تفسير أو مراجعة المادة التاسعة -التي تنبذ الحرب- وتقنين وضع قوات الدفاع
الياباني. وقد كان من شأن تلك الأحداث أن تثير الشكوك الدولية حول السلمية
الاستباقية اليابانية، ولذلك لم تحصل على الدعم الخارجي المناسب، وفي الوقت نفسه،
لم يكن الرأي العام في اليابان متسقًا فيما يتعلق بإجراء تعديلات دستورية، ولذلك
لم تستطع إدارة آبي اتخاذ أية خطوات جريئة بشأن القضايا العالقة[24].
ولكن جاءت حكومة فوميو كيشيدا لتعلن، في
ديسمبر 2022، عن سياسة دفاعية جديدة، والتي يمكن اعتبارها أكبر مراجعة لسياسات
اليابان الدفاعية منذ الحرب العالمية الثانية، وكانت تمثل خطوة غير مسبوقة، حيث
أقرت ثلاث وثائق بشأن الدفاع والأمن في البلاد، كما حددت الاتجاهات الرئيسية
للسياسة الخارجية في مجال الدفاع الوطني. وقد تضمنت الوثيقة الأولى استراتيجية
الأمن القومي، والتي تحدد الخطوط العامة للسياسة الدفاعية لليابان. وتمثل الوثيقة
الثانية استراتيجية الدفاع الوطني، والتي تحدد الأهداف الدفاعية وتضع وسائل
تحقيقها، بينما تشمل الوثيقة الثالثة برنامج البناء الدفاعي، الذي يحدد إجمالي
نفقات الدفاع، وحجم المشتريات للمعدات الرئيسية خلال السنوات الخمس إلى العشر
القادمة[25].
وقد تضمنت الاستراتيجية الدفاعية الجديدة
مجموعة من التدابير، أهمها: تخصيص 320 مليار دولار لتقوية قدرات اليابان العسكرية،
ومضاعفة ميزانية الدفاع السنوية إلى أكثر من 80 مليار دولار في غضون خمس سنوات[26]،
كما قررت توحيد قيادتها العسكرية، وزيادة مدى صواريخها لكي يمكن أن تصل إلى الصين.
وعلى الرغم من اعتراض الصين وكوريا الشمالية على هذه التدابير، إلَّا أن الولايات
المتحدة قد رحبت باستراتيجية اليابان الجديدة، حيث أعلن برايان هاردينغ – مستشار
وزير الدفاع الأمريكي الأسبق لأمن آسيا والمحيط الهادي – أن العقيدة العسكرية
الجديدة لليابان تعني تغيُّرًا واضحًا ومؤثرًا في سياساتها، وخطوة للدفاع عن منطقة
المحيطيْن الهندي والهادي، لا سيّما وأن الصين تطور برنامجها النووي، وتزيد من عدد
رؤوسها النووية[27]. كما أكد وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن،
أن واشنطن تدعم قرار اليابان بخصوص اكتساب قدرات جديدة تعزز الردع الإقليمي، بما
في ذلك قدرات الضربات المضادة[28].
وفي هذا الصدد أشار الخبراء إلى أن العقيدة الجديدة لليابان تعمل على تحقيق التكامل
للتحالف الدفاعي والعسكري بين الولايات المتحدة واليابان.
كما تضمنت التعديلات الجديدة ثلاثة شروط
لشن “ضربات مضادة” ضدّ دول تعتبرها اليابان معادية. الشرط الأول هو أن تتعرض
اليابان إلى تهديد حتمي، أو تتعرض دولة صديقة إلى هذا التهديد. والشرط الثاني هو ألَّا
يكون هناك وسيلة أخرى لتفادي الضربات العسكرية. والشرط الثالث هو أن يكون الرد
بالحدّ الأدنى الممكن.
وعلى الرغم من مضاعفة ميزانية الدفاع، فإن التعديلات اشترطت أن يكون الدفاع هو
المحور الأساسي لتعزيز القوة العسكرية، وألَّا يكون الهدف أن تصبح اليابان دولة
عسكرية[29].
ومن الجدير بالذكر أن وثيقة استراتيجية
الأمن القومي الياباني تشير إلى أن الصين هي التي تمثل التحدي الاستراتيجي الأكبر
لها، لا سيّما في ظل سقوط خمسة صواريخ باليستية صينية في المنطقة الاقتصادية
الخالصة لليابان في أغسطس 2022، وكذلك الصواريخ الروتينية التي تلقيها كوريا
الشمالية باستمرار على الجزر الشمالية، وخاصة جزيرة هوكايدو، وكل هذا تنظر إليه
اليابان على أنه تهديد لأمنها القومي. ولذلك أطلقت الوثيقة على هذه الأحداث أنها “البيئة
الأمنية الأشد والأكثر تعقيدًا” منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبناءً
على ذلك، تسعى الإدارة الجديدة إلى الحصول على صواريخ بعيدة المدى، أي أنها تستعد
لأسوأ السيناريوهات. وترتيبًا على ما سبق، أوضح المراقبون أن الاستراتيجية الجديدة
ترقى إلى أن تكون ثورة في السياسة الداخلية اليابانية، حيث تتجاوز بشكل أساسي
دستورها السلمي بعد الحرب[30]،
كما أنها تمثّل امتدادًا لرؤية رئيس الوزراء الياباني الراحل شينزو آبي، التي تسعى
إلى التخلص من تردد اليابان بشأن بناء جيش قوي.
كما أثارت هذه الاستراتيجية التحديات الأمنية
الجديدة في منطقة آسيا والمحيط الهادي، حيث أقرت الوثيقة أن الغزو الروسي
لأوكرانيا هو انتهاك جسيم للقوانين التي تمنع استخدام القوة، وأنه يُعَدُّ ضربًا
للأسس التي قام عليها النظام العالمي، الأمر الذي أسهم في مزيد من توتر العلاقات
بين روسيا واليابان. وفي هذا السياق أعلنت وزارة الخارجية الروسية أن تَخَلِّي
إدارة كيشيدا عن استراتيجية التنمية السلمية للبلاد، التي التزمت بها الأجيال
السابقة من السياسيين، هي بمثابة إعلان عن عودة العسكرة الجامحة إلى اليابان. وتأتي
هذه الأزمة في ذروة توتر العلاقات بين البلدين، بعد أن انضمت اليابان إلى العقوبات
الغربية المفروضة على روسيا نتيجة الغزو. وعلى الرغم من أن اليابان لا تستعد
لتوجيه أية أعمال هجومية ضد جيرانها، إلَّا أن التخوف الروسي من الوثيقة الأمنية
الجديدة لليابان يضع في اعتباره احتمال تشكيل اليابان لتحالف عسكري جديد ضدها في القارة
الآسيوية، فقد قامت اليابان بنشر منشآت عسكرية جديدة، ومن بينها محطات رادار
لأنظمة الإنذار بالهجوم الصاروخي بالقرب من جزر الكوريل، ومن المرجح أن المنطقة
التي تغطيها هذه الأنظمة يمكن أن تشمل جميع مناطق بحر أوخوتسك وبحر اليابان، بما
يمثل تهديدًا للأسطول الروسي في المحيط الهادي[31].
وترتيبًا على ما سبق، فإن تراكم الإمكانات
العسكرية لدى اليابان، وحتى الاحتمال النظري لاستخدام أي نوع من الأسلحة عالية التقنية،
كل ذلك يُشكّل تهديدًا لروسيا، لا سيّما في ظل الخلاف الممتد لسنوات طويلة بين
البلدين حول جزر الكوريل، والذي يزيد من توتر العلاقات فيما بينهما. كما أشارت
الوثيقة الأمنية الجديدة إلى التغيُّر الحادث في موقف اليابان الرسمي تجاه القضية
– أي قضية جزر الكوريل – حيث أوضحت أن اليابان قد أيقنت صعوبة حل القضية، واعتبرت
أن الوجود الروسي “احتلالٌ غير قانوني”، وقد جاء هذا مخالفًا للحكومات
السابقة، والتي كانت تُبشّر الشعب الياباني بقرب حل الأزمة[32].
والجدير بالذكر، أن النسخة السابقة من
استراتيجية الأمن القومي الياباني، التي تبناها آبي عام 2013، كانت تدعو إلى تعزيز
التعاون مع روسيا في جميع المجالات، بما في ذلك الأمن والطاقة، وكذلك إجراء
مفاوضات حول الجزر الأربع في الجزء الجنوبي من جزر الكوريل، بهدف حل مسألة ملكيتها،
وإبرام معاهدة سلام بين البلدين، حيث ما زال البلدان – من الناحية الرسمية – في “حالة
حرب” منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.[33]
ولذلك، فقد أسهمت الظروف الداخلية والخارجية المحيطة في نجاح إصدار الوثيقة
الأمنية الجديدة، وذلك خلافًا لما حدث في عهد آبي، حيث جاء الإعداد للاستراتيجية
الجديدة بالتزامن مع وجود دعم شعبي قوي لخطط زيادة ميزانية الدفاع واكتساب قدرات
هجومية، وهو ما شكل خروجًا عن توجهات الرأي العام السابقة، والتي كانت تفضل تجنب
تعزيز الإنفاق العسكري للبلاد. بالإضافة إلى الترحيب الأمريكي بكافة بنود الوثيقة،
بما في ذلك اكتساب قدرات صاروخية باليستية[34].
وبصفة عامة، فإن التغير الذي
أحدثته استراتيجية “السلمية الاستباقية” في السياسة الأمنية اليابانية
لم يكن تطوريًا فقط، وفي الوقت نفسه لم يصل إلى درجة التغيُّر الجذري أو إعادة
الهيكلة للسياسة الأمنية اليابانية، ولذلك يمكن القول إنها عملية خضعت إلى تغيُّر تدريجي، حيث أدخلت إدارة آبي مجموعة من التدابير
المختلفة، والتي تتعلق بالأدوات والقضايا، وكذلك الدور الياباني، واستراتيجية
الأمن القومي، والأهداف. ولكن هذه التغيرات لم تحدث بشكل مفاجئ، وإنما استغرقت
فترات زمنية طويلة. وقد أسهم التحول في البيئة الأمنية المحيطة باليابان منذ تسعينيات
القرن الماضي، ومن أهمها حرب الخليج الثانية والحرب الكورية، في حدوث تغيُّر هيكلي
للسياسة الأمنية، ولكنه لم يرقَ إلى مستوى التغيُّر الجذري الراديكالي، حيث إن هذه
الإصلاحات لم تتمكن من تغيير أو تعديل المادة التاسعة من الدستور الياباني. وترتيبًا
على ذلك، يمكن القول إن تغيُّر السياسة الأمنية اليابانية كان بين متوسط وجذري، أو
بعبارة أخرى أنه أكثر من التغيُّر التطوري، وأقل من التغيُّر الجذري[35].
وترتيبًا على ما سبق تقديمه، فإن الاستراتيجية الأمنية
الجديدة التي تبنتها حكومة كيشيدا لم تكن تمثل
خروجًا عن استراتيجية السلمية الاستباقية التي اقترحها آبي، بل إنها مثلت امتدادًا
طبيعيًا لتلك الاستراتيجية. وفي الوقت نفسه مثلت التدابير الجريئة التي تبنتها هذه
الاستراتيجية تعبيرًا عن الأوضاع الأمنية الخطيرة المحيطة باليابان، حيث إن هذه
الاستراتيجية ما زالت متمسكة بتطوير القدرات الدفاعية، ولم تتبنَّ أي تطوير لأسلحة
هجومية، وعلى الرغم من إعلان الحكومة الجديدة عن نِيَّتِها للحصول على صواريخ
طويلة المدى، إلَّا أنها دفاعية بالأساس.
الخاتمة
يبدو مستقبل الحركة السلمية الاستباقية في اليابان غير مؤكد؛ لا سيّما أن هناك تقليدًا قويًا من السلمية في اليابان، يعود تاريخه إلى هزيمة البلاد في الحرب العالمية الثانية. في المقابل، هناك مخاوف متزايدة بشأن البيئة الأمنية في منطقة آسيا والمحيط الهادي، ويدعو بعض الساسة اليابانيين إلى اتباع نهج أكثر حزمًا في التعامل مع مسائل الدفاع. وقد كان واضحا تأثير شينزو آبي، صاحب استراتيجية السلام الاستباقي، وأول المدافعين عنها؛ إذ كان له تأثير كبير على المناقشات بشأن هذا الموضوع. وكان آبي يرى أن اليابان بحاجة إلى الاستعداد للدفاع عن نفسها، ولكنه يعتقد أيضًا أن البلاد لا بُدَّ أن تلعب دورًا بناءً في إقرار السلام والأمن الدوليين. ومن غير الواضح ما إذا كان خلفاؤه سيتمكنون من الحفاظ على هذا التوازن. أحد الاحتمالات هو أن اليابان سوف تستمر في تطوير سياسة السلام الاستباقي، ولكن مع التركيز بشكل أكبر على الردع والدفاع عن النفس. وهذا يستلزم تعزيز القدرات العسكرية اليابانية، وتطوير تقنيات جديدة لردع العدوان. والاحتمال الآخر – وهو الأكثر ترجيحًا والجاري العمل عليه – هو أن تتخلى اليابان عن سياستها السلمية الاستباقية، وتتبنى نهجًا أكثر عسكرية. وهذا ينطوي على زيادة الإنفاق الدفاعي، وتطوير أنظمة الأسلحة الهجومية، واتخاذ موقف أكثر حزمًا في النزاعات الإقليمية، وهو ما تهدف إليه الاستراتيجية الأمنية الجديدة لسنة 2022. وغنيٌّ عن البيان أن كل هذا من شأنه أن يشكل خروجًا كبيرًا عن تقاليد اليابان في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومن المرجح أن يكون له تداعيات كبيرة على علاقات اليابان مع جيرانها. ومن الواضح أن مستقبل السلام الاستباقي في اليابان سوف يعتمد على عدد من العوامل، بما في ذلك البيئة الأمنية في المنطقة، ومواقف الشعب الياباني، وسياسات الحكومة اليابانية.
الهوامش
[1] في يوم 8 يوليو 2022، قام جندي سابق، في قوات
الدفاع الذاتي البحرية اليابانية، بإطلاق النار على شينزو آبي، أثناء إلقاء خطابه
في حملته الانتخابية في مدينة نارا الواقعة في جزيرة هونشو، وأكدت السلطات أن
المهاجم أطلق النار على آبي ببندقية من الخلف، وقد تم اعتقاله على الفور، وتبين
أنه استخدم بندقية يدوية الصنع.
[2] جيجي برس، “الولايات المتحدة واليابان
توقعان اتفاق إطار حول التعاون الفضائي”، اليابان بالعربي، يناير 2023، متاح
على الرابط https://www.nippon.com/ar/news/yjj2023011400258/
[3]
The Basic Policy on National Defense, “the Cabinet Secretariat of Japan”, May
20, 1957 Retrieved from http://www.cas.go.jp/jp/gaiyou/jimu/taikou/1_kokubou_kihon.pdf
[4]
Okazaki Tetsuji,” Lessons from the Japanese Miracle: Building the Foundations
for a New Growth Paradigm”, February 2015, Retrieved from https://www.nippon.com/en/in-depth/a04003/
[5]
Ministry of Foreign Affairs of Japan, ” Japan’s Foreign Policy to Promote
National and Worldwide Interests” ,Chapter 3, Diplomatic Bluebook 2015, Nuclear
Security Summit in The Hague on March 24 and 25, 2014, 2015 Retrieved from https://www.mofa.go.jp/files/000106463.pdf
[6]
Kamiya Matake “Preface: A Nation of Proactive Pacifism: National Strategy for
Twenty-First-Century Japan,” Discuss Japan—Japan Foreign Policy Forum (18) ,
2014, 10-13.
https://www.japanpolicyforum.jp/pdf/2014/vol18/DJweb_18_dip_1.pdf
[7] علا رفيق منصور وأيمن إبراهيم الدسوقي،
“التحوط الاستراتيجي في السياسة الإيرانية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية”،
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2022، 2
[8]
Daisuke Akimot, “The Abe Doctrine: Japan’s Proactive Pacifism and Security
Strategy”, This Palgrave Macmillan 2018, 13- 14.
[9]
Ministry of Foreign Affairs, “Japanese Diplomacy and International Situation in
2019”, Japan Diplomatic Bluebook, 2020, 253
[10]
Christopher W. Hughes, “Japan’s Foreign and Security Policy”, Under the ‘Abe
Doctrine: New Dynamism or New Dead End? “ Palgrave Macmillan, Palgrave Pivot,
London ,2015, 23
[11]
Ministry of Foreign Affairs of Japan, “Japan’s Foreign Policy to Promote
National and Worldwide Interests”,
[12] تاكيناكا
هاروكاتا، “تعديل
الدستور: دوافع شينزو آبي لتعديل الدستور والعقبات التي تقف في طريقه”،
اليابان بالعربي نيبون، أكتوبر 2017، متاح على الرابط https://www.nippon.com/ar/in-depth/a05603/?pnum=2
[13]
Daisuke Akimoto, “The Abe Doctrine: Japan’s Proactive
Pacifism and Security Strategy”, 7
[14]
Daisuke Akimot, The Abe Doctrine,
[15]
WILL KENTON, “ Abenomics: Definition, History, and Shinzo Abe’s Three
Arrows”, Investopedia, March 2021, Available at https://www.investopedia.com/terms/a/abenomics.asp
[16] كينيث
موري ماكإيلوين، “تعديل الدستور
الياباني: قدرة الدستور
الياباني على الاستمرارية”، اليابان بالعربي نيبون، سبتمبر 2017، متاح على
الرابط https://www.nippon.com/ar/in-depth/a05602/
[17]
Taniguchi Tomohiko,”Japan’s Taciturnity Trap: Our Need for More Communication”,
march 2020, Retrieved from https://www.nippon.com/en/in-depth/a06502/japan%e2%80%99s-taciturnity-trap-our-need-for-more-communication.html
[18]
Andrew Oros, Japan’s demographic shifts and regional security challenges ahead
,Washington, DC: East-West Center, August 2020, p 2
[19]
William M Tsutsui, “From Abe to Suga: Japan’s quest for inspiring leadership”,
Asia Global online Journal, Asia Global Institute, the university of Hong Kong,
September 2020
[20]
Hughes, “Japan’s Foreign and Security Policy
[21] تاكيناكا
هاروكاتا، تعديل الدستور: دوافع شينزو آبي لتعديل الدستور.
[22]
Ministry of Defense, “ Defense Programs and Budget of Japan: Overview of FY
2020 Budget”, August 2020, p. 1
[23]
Jeffrey W. Hornung, “Abe versus Japan’s ‘invisible hand’, the Japan times,
October 2018, Available at https://www.japantimes.co.jp/opinion/2018/10/03/commentary/japan-commentary/abe-versus-japans-invisible-hand/
[24]
William M Tsutsui, From
Abe to Suga
[25] مركز
المستقبل للأبحاث والدراسات، “تحوّل تاريخي.. استراتيجية اليابان للأمن
القومي تسعى إلى مواجهة تهديدات الصين”، هسبريس، يناير 2023، متاح على الرابط
https://www.hespress.com/%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%91%D9%84
[26] استراتيجية
اليابان الجديدة.. أكبر مكسب منذ الحرب العالمية الثانية، مركز سيتا، 17 ديسمبر 2022: https://sitainstitute.com/?p=14271
[27] الجزيرة،
“اليابان تكشف عن استراتيجية دفاعية “غير مسبوقة” وكوريا الجنوبية
تحتج على أحد بنودها”، ديسمبر 2022، متاح على الرابط، https://www.aljazeera.net/news/2022/12/16
[28] بعد
إعلان عقيدتها العسكرية الجديدة.. لماذا تتوجس اليابان من الصين؟ الجزيرة، 16
ديسمبر 2022: https://shorturl.at/fklG7
[29] الجزيرة، “بعد إعلان عقيدتها العسكرية الجديدة..
لماذا تتوجس اليابان من الصين؟”، ديسمبر 2022، متاح على الرابط https://www.aljazeera.net/politics/2022/12/16/
[30] الجزيرة، بعد إعلان عقيدتها العسكرية الجديدة.. لماذا
تتوجس اليابان من الصين.
[31]
The Editorial Board, The Sleeping Japanese Giant Awakes, The Wall Street
Journal, Dec. 16, 2022 https://www.wsj.com/articles/the-sleeping-japanese-giant-awakes-tokyo-defense-strategy-fumio-kishida-11671227810
[32]
The Editorial Board, The Sleeping Japanese Giant Awakes.
[33] الإمارات اليوم، روسيا واليابان
تسعيان لإنهاء حالة الحرب بينهما في المحيط الهادي، 27 يونيو 2021: https://www.emaratalyoum.com/politics/reports-and-translation/2021-06-27-1.1507076
[34] مركز
المستقبل للأبحاث والدراسات، استراتيجية اليابان للأمن القومي تسعى إلى مواجهة
تهديدات الصين.
[35]
William M Tsutsui, From
Abe to Suga.