Insight Image

مصير “الإخوان”: ما بعد السقوط المجتمعي

19 أكتوبر 2021

مصير “الإخوان”: ما بعد السقوط المجتمعي

19 أكتوبر 2021

لم تثر الخسارة المُذلة لحزب العدالة والتنمية المغربي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة دهشة كبيرة، خصوصاً على المستوى الشعبي، مقارنة مع السقوط المجتمعي الذي تعرضوا له في كل من مصر وتونس[1]، فبعد أن سيطرت الغطرسة وغلب الكبرياء على سلوك تنظيم الإخوان في فترة صعوده وتصدره المشهد السياسي في عدد من الدول العربية، خلال عام 2011 بدعم إقليمي ودولي، أدى الفشل في تقديم مشروع تنموي بديلاً للشعارات السياسية الجوفاء إلى انتفاض الشعوب العربية ضدهم.

تسلط هذه المقالة الضوء على حقيقة اكتشاف الشعوب العربية ألاعيب تنظيمات الإسلام السياسي السُّنية منها والشيعية، وعلى رأسها تنظيم “الإخوان المسلمين”، وتبين أن صبر الشعوب على ما تفعله جماعات الإسلام السياسي من تدمير للأوطان قد نفد، بعدما تلقى “الإخوان” صفعة قوية في ثلاث دول عربية، استطاعوا خلالها أن يصلوا إلى الحكم، ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً وأثبتوا أنهم لا يصلحون لإدارة أي دولة، إذ يفكرون بفكر وعقلية “الجماعة” وليس بفكر رجال الدولة في وطن.

أولاً: ما بين الأعوام 2013 و2021

شهدت الدول العربية بين هذين التاريخين مراحل سقوط الإخوان المسلمين، مجتمعياً أولاً ثم سياسياً ثانياً. واستمر هذا السقوط تدريجياً حتى تآكل التأييد الذي راكمه “الإخوان” طوال تسعة عقود، منذ تأسيس تنظيمهم الأم عام 1928.

ويعتبر رصد التطور الحاصل خلال هذه المرحلة مدخلاً مهماً لاستقراء مستقبل هذا التنظيم في الدول العربية. فقد جاء صعودهم السياسي وانخداع الشعوب بشعاراتهم المزيفة؛ بسبب الخدمات التي كانوا يقدمونها خاصة في المناطق الفقيرة والأرياف وتوسعهم فيها إلى أن تمكنوا من مؤسسات الدولة والسيطرة على الحكم باعتباره الهدف النهائي في كل ما يفعلونه. فكان السقوط نتيجة عجز “الإخوان” عن تقديم أي أدلة عملية أو خطط قابلة للتنفيذ من شأنها إقناع المواطنين بقدرتهم على تغيير أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية؛ ما أفضى بدوره إلى لفظهم شعبياً وطردهم خارج السلطة بطرق مختلفة.

كانت بداية الامتعاض الشعبي ضدهم في مصر بعد فوز محمد مرسي بالرئاسة في مايو 2012، وذلك بعد أن شرع في “أخونة” الدولة من خلال تصعيد أعضاء الجماعة وتوليتهم مناصب عليا في الدولة ومراكمته للفشل في تدبير الحاجات الأساسية للشعب وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية والاجتماعية؛ ما أدى إلى تحول مشاعر الامتعاض والإحباط إلى ثورة شعبية عارمة ضده في 30 يونيو 2013 طالبت الجيش بالتدخل لإنقاذ الدولة المصرية.

وقد جاءت قرارات الرئيس التونسي قيس سعيّد الاستثنائية في يوليو الماضي؛ لتؤكد عدم قدرة هذا التنظيم على إدارة شؤون الدولة، بعدما فشل قادته في إدارة أزمة فيروس كورونا، والتصدي لتداعيات الأزمة الاقتصادية، حيث قام سعيّد بتجميد عمل البرلمان الذي كان يسيطر عليه حزب النهضة بقيادة راشد الغنوشي وأقال الحكومة بعد أن استشرى فساد الإخوان فيها.

غير أن تونس اختلفت عن مصر في أسلوب التصدي للوجود الإخواني، على الرغم من وحدة الهدف النهائي. ففي تونس اتخذ الرئيس القرار وأقدم على الخطوة وأيده فيها الشعب، أما في مصر فقد انطلق عبد الفتاح السيسي من منطلق أن الجيش حامي الشعب والوطن، كما هو الأمر بالنسبة إلى كل الدول المتحضرة، فقام بتلبية نداء الشعب الذي ثار على “الإخوان” وطالب الجيش بحماية الدولة.

ثانياً: كشف حساب مغربي “للإخوان”

أما المغرب فلها تجربتها الخاصة في التعامل مع الإسلام السياسي، حيث تم السماح لبعض كياناته بدخول الحياة السياسية ضمن الأحزاب القريبة من السلطة مثل الحركة الشعبية الدستورية في عام 1998، وذلك في إطار استراتيجية الاحتواء السياسي، على خلفية ظرف استثنائي في ذلك الوقت كان تمر به الجزائر الدولة الجارة للمغرب. هذه الاستراتيجية التي بدأها الملك الحسن الثاني واستمرت مع الملك محمد السادس. وفي عام 2003 شهد المغرب عمليات عنف وتفجيرات أدت إلى إطلاق سياسة داخلية استهدفت تقوية المؤسسات الدينية الرسمية والتخلص من الشخصيات ذات الفكر المتشدد. كما تم السماح لحزب العدالة والتنمية بعد أحداث ما عرف بـ “الربيع العربي” بتشكيل الحكومة كونه الحزب الفائز بأول انتخابات بعد اندلاع هذه الأحداث. غير أن الحزب عجز عن تحقيق أي إنجازات حقيقية، وكانت هذه التجربة بمنزلة كشف حساب سياسي مدته عشرة أعوام عجاف في قيادة الحكومة[2].

فقد أنهت الانتخابات التشريعية التي جرت في الثامن من سبتمبر 2021 تجربة الإخوان المسلمين في المغرب بطريقة مهينة بعد عشرة أعوام في قيادة العمل الحكومي، حيث جاء حزب “العدالة والتنمية” في الترتيب الثامن من أصل 31 حزباً، وجسدت هذه النتائج عدم الرضا الشعبي عن التنظيم، حيث قرر الشعب المغربي معاقبته وفق آلية صناديق الاقتراع؛ ما يعني أن “سقوط الإخوان في المغرب إنما يعبّر عن تخلٍّ كبير عنهم من حواضن شعبية وقبلية، وقوى نفوذ غير عادية”[3].

وإذا كان أسلوب إسقاط الإخوان المسلمين من الحكم في كل من مصر وتونس قد تم بمقتضى إجراءات استثنائية، خلفت ردود أفعال داخل الأوساط الإخوانية دفعت بقياداتها في مصر وخارجها إلى شن حملات تحريض في الدول الغربية لممارسة ضغوط على نظام حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي لإعادتهم إلى السلطة، كما دفعت بإخوانهم في تونس إلى إطلاق حملة تشويه إعلامية ضد الرئيس سعيّد ومناصريه؛ وذلك كله بحجة استعادة الديمقراطية والترويج لفكرة الانقلاب على حق الشعوب واختيارها الحر- فإن الحالة المغربية قد كشفت زيف تلك الحملات، إذ إن الناخب المغربي قرر، بواسطة ممارسة العملية الانتخابية، نسف المغالطة التي حاول “الإخوان” ترويجها، وفضح استراتيجية المظلومية التي يحتمون بها، لاسيما أن الفشل لم يطل إسلامويي المغرب في الانتخابات التشريعية فقط، إنما تعداها إلى الانتخابات المحلية (البلدية)؛ ما يعكس نفور المجتمع المغربي من خطاباتهم وسخطه على فسادهم، ومن ثَمّ عزلهم سياسياً واجتماعياً.

إن الحالة المغربية تكتسي أهميتها في هذا السياق لكونها تعبيراً عن فشل إخواني بالمعايير الغربية، مادامت قد تمت وفق شكليات الديمقراطية الغربية، وبعد إتمام ولايتين دستوريتين دون أي تدخل خارجي؛ ما يحصنها من أي نقد أو ضغط مثيل لذلك الذي واكب الحالة المصرية. فالتجربة المغربية في هذا السياق تظهر مواكبة للعقلية الغربية في التفكير السياسي، كما أنها تعطي مؤشراً حقيقياً حول مستقبل “الإخوان” ليس في المغرب فحسب، بل في جميع الدول العربية، بالنظر إلى التشابه القائم من حيث الخطاب وأدوات العمل، لدى الإسلامويين في عموم المنطقة العربية.

فإذا كان كشف الحساب السياسي والأمني لتنظيم الإخوان المسلمين الذي انطلق بداية من مصر قد انتهى بتفعيل الإجراءات القانونية ضدهم والتحقيق معهم وفق الإجراءات المعمول بها، وهو في الحالة التونسية محل مخاض في انتظار ما ستستقر عليه الأمور، فإن كشف الحساب في الحالة المغربية سيكون من دون شك أكثر تأثيراً والسيناريو الذي مثلته قد يتكرر في دول أخرى بما فيها تركيا، التي باتت الأخبار تتوارد حول تراجع شعبية أردوغان وتنظيمه، خاصة أمام عمق الأزمة الاقتصادية وتفجّر الخلافات وتواليها مع الدول المجاورة لها.

من هنا ينبغي ألا يتم النظر إلى ما حدث في انتخابات المغرب كأنه حالة عابرة في مسار هذا التنظيم، فهو يثير نقطة مهمة بشأن الميراث الاجتماعي والسياسي للجماعة على مدى أكثر من تسعة عقود، حيث لم يعد الأمر يتعلق بتطوير أساليب وطريقة تفكير أعضاء التنظيم من أجل البقاء والاستمرار فقط، وإنما صار يتعلق باقتناع الشعوب مرة ثانية بعدم قابلية الإخوان لأن يكونوا وطنيين ليس من زاوية فشلهم في خدمة مواطنيهم فقط، بل من خلال تحريض الغرب، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية من أجل التدخل لدعمهم ضد مجتمعاتهم أيضاً، وذلك على الرغم من أن هذا الطرح يخالف نظرتهم الحقيقية للغرب باعتباره صليبياً ومستعمِراً سابقاً. أضف إلى ذلك أن تراجع الإخوان عن مكاسبهم السابقة في عدد من الدول العربية، مثل الأردن وليبيا والجزائر والسودان، أدى إلى تدهور صورتهم النمطية في مجتمعاتهم وخلق أزمات تنظيمية في جماعاتهم.

التجربة الإخوانية في إدارة الشأن العام بالمغرب بيّنت جملة من التناقضات العملية؛ منها الارتباك في الطرح السياسي لعدد من القضايا التي تعتبر أساسية في الغرب، مثل مسألة حقوق المرأة، وعدم القدرة على تقديم نموذج للحكم يمكن تقييمه ومراجعته بشكل محدد بعيداً عن تلك المقولات العامة عن الدولة الإسلامية وشكلياتها، إذ بدت تجربة “الإخوان” مخيبة للآمال ومصحوبة في الوقت ذاته بتجاوزات وشكوك حول التزاماتهم الأخلاقية التي لطالما جعلوا منها حصان طروادة لغزو عقول شعوب المنطقة.

وفي هذا السياق ينبغي توضيح أن الغرب، الذي كثيراً ما دافع عن الوجود الإخواني في الدول العربية بل وروج لطروحاتهم حول المظلومية ووصم الأنظمة العربية، قد صار أكثر تفهماً لمخاطرهم وهو ما يتأكد من الإجراءات القانونية التي كانت محل نقاش مجتمعي حاد في كل من النمسا وفرنسا ودول أخرى. وتأتي خسارتهم للانتخابات الأخيرة في المغرب لتعزز الوعي الغربي بمدى الفارق الحاصل بين طموحات الشعوب واهتمامات الإخوان، كما أن من شأنها كذلك أن تقدم تفسيراً للمبادرات التي قام بها الجيش في مصر سابقاً، فهذه المبادرات ليست إلا إجراءات احترازية واستباقية.

والحق أن الرسالة المصرية وصلت بالفعل للغرب، بعد أن كانت في البداية مشوشة بسبب ظروف التغيير في مصر تحديداً، حيث كانت هناك حالة التباس وضبابية في حقيقة ما جرى. والرسالة التونسية تمشي على نفس الخط، فالأمر بشأنها يتضح أكثر فأكثر؛ لأنها حصيلة تطور صدامي قاده الإخوان ضد مكونات المجتمع السياسي، وأربك السير الطبيعي لمؤسسات الدولة حتى وصل الوضع في تونس إلى ضرورة تدخل الرئيس بتجميد مؤسسات الدولة القابعة تحت سيطرة الإخوان وإنقاذها بل وإنقاذ المجتمع نفسه؛ لذا لم تصدر ردود فعل سلبية من أي دولة غربية على إجراءات الرئيس التونسي قيس سعيّد. ثم جاء التغيير في المغرب، وفق الآليات الدستورية التي تؤمّن الاختيار الديمقراطي الحر، ليؤكد أن الرسالة المغربية قد وصلت الغرب من الباب الرحب، وأن رهانه على تيارات وقوى الإسلام السياسي كان رهاناً خاسراً وخاطئاً من البداية.

ثالثاً: وعي الناخب بالخطر الإخواني

اعتبرت تيارات الإسلام السياسي أن العامل الديني هو المحدد الاجتماعي الأشد تأثيراً في الدول العربية وأن تفسيرهم للدين الإسلامي هو الذي يمكن أن يعالج كل المشكلات والأزمات، فقدمت نفسها للرأي العام الوطني والعربي والدولي بصفتها البديل المناسب للحكومات العربية القائمة الذي يحظى بالدعم الشعبي الضروري. لكن تجربتهم في إدارة الحكم في عدد من الدول العربية، كشفت عدم قدرتهم على البناء والتنمية وأنهم أكثر كفاءة في ترويج الخطاب الاحتجاجي من موقع المعارضة، وكان ذلك لافتاً للانتباه في نمط تعاملهم مع القرارات الأساسية على المستوى الاقتصادي التي تتطلب جرأة ومهارة عالية ما زاد من عمق وحجم الفشل، فأثبتوا من حيث لا يدرون أن نجاحهم يكمن في قدراتهم على هدم الدولة الوطنية وتهديد الاستقرار المجتمعي[4].

إن إدارة الحكم تتطلب خبرة وكفاءة ثبت أن قيادات تيارات الإسلام السياسي يفتقدون إليها. بل إنهم بمجرد وصولهم إلى السلطة بدؤوا في السيطرة على مؤسسات الدولة وفق أطروحة “أخونة الدولة” مع توسيع نفوذهم الاقتصادي في القطاعات الأكثر ربحاً وإضفاء نبرة دينية/ أيديولوجية واضحة على التشريعات والحياة العامة؛ الأمر الذي أدى إلى أن تكون تجربتهم في الحكم مؤلمة ومحبطة للآمال بالنسبة إلى الشعوب، ما أدى إلى رد فعل احتجاجي غاضب ضدهم سرعان ما تحول إلى رغبة جامحة في طردهم من مؤسسات الدولة. وعليه، فإنه بالإمكان القول إنهم أكملوا دورة كاملة في قيادة العمل الحكومي، وبالتالي عادوا إلى ما دأبوا عليه، منذ بدايات وجودهم خلال القرن الماضي، في التدمير لافتقادهم فكرة بناء المجتمعات[5].

لقد سيطرت على عدد كبير من المراقبين قناعة بأن لتيارات الإسلام السياسي قدرة استثنائية على الاستمرارية والبقاء. وذلك استناداً إلى عاملين أساسيين: الأول أن المنافسين السياسيين الرئيسيين لهم غير قادرين على خلق بديل ناجح قادر على طرح برامج سياسية تخاطب رغبات الجماهير، وبالتالي فإن التأييد والقبول للإسلام السياسي أمر محسوم وللأبد. ولم يضع هؤلاء في حسبانهم أي احتمالات لتغير المزاج الشعبي العربي. والثاني أن الأيديولوجية الإسلاموية التي يبنون عليها رؤيتهم لحل مشكلات الشعوب تؤمّن لهم الشعبية والولاء بشكل أبدي، على أساس أن الشعوب التي تدين بالإسلام لديها الاستعداد لقبول أي طرف ينطلق من الإسلام كنهج سياسي.

كما اعتمدت مراكز صناعة القرار الغربية على هذا الاعتقاد الخاطئ في فهم المجتمعات العربية وديناميات تطورها بشكل عام. وعليه فقد جاء دعم أصحاب القرار في الغرب لتيارات الإسلام السياسي وفق هذا الوهم الذي روجه “الإخوان” الذين اخترقوا المجتمعات الغربية واستوطنوها. وازدادت المشكلة عمقاً لدى بعض الباحثين العرب الذين أخذوا في ترديد ما يعتقده الغرب سواء بقصد أو بدونه؛ ما جعل الإنسان العربي يتردد في إبداء أي وجهة نظر في خطأ هذه التيارات إلا بعد أن انكشفت أهدافهم السياسية أمام الملأ بعد أحداث ما عُرف بـ “الربيع العربي”.

كانت الممارسة الميدانية لتيارات الإسلام السياسي هي أفضل طريقة لكشفهم والقضاء عليهم، ولعل هذه هي الاستراتيجية التي اتبعتها المملكة المغربية، على عكس التجارب العربية الأخرى مثل مصر أساساً التي حدث فيها الاصطدام فتطلب الأمر لتخليص الشعوب منهم موقفاً أقوى. بينما في المغرب جاء إبعاد الإخوان من إدارة الحكومة وفق الممارسات الديمقراطية التي تتفهمها المجتمعات الغربية وتقتنع بها. وكانت الضربة قاضية؛ لأن المواجهة كانت مباشرة بين الشعب والإسلامويين.

فالناخب العربي حاله كباقي حال الناخبين في دول العالم يبحث عن حاجاته المعيشية والاجتماعية، وليس التدين فقط رغم أهميته الإيمانية والروحية. كما أن المشاركة الشعبية الفاعلة في الانتخابات التشريعية لا تخدم تيارات الإسلام السياسي، خاصة في فترة ما بعد ما كان يسمى “الربيع العربي”. وما نريد قوله هنا هو إن المزاج السياسي العربي بأطيافه كافة بات يكره كل الأيديولوجيات الدينية وبات أكثر إيماناً بالدولة الوطنية التي تمثل مظلة سياسية للجميع.

إن الشعوب العربية باتت تدرك بشكل كبير أن الخطر الأول على كل التجارب التنموية والعيش المشترك يتمثل في الأحزاب الأيديولوجية القائمة على توظيف الدين، وخاصة تلك الأحزاب التابعة أو القريبة فكرياً من الإخوان المسلمين. وإذا كانت مصر وتونس والمغرب تمثل نماذج في التعاطي الشعبي مع هذه الظاهرة السياسية في الجانب السُّني منها، فإن العراق ولبنان مثالان واضحان على الجانب الشيعي. كما أن التجربة الانتخابية في العراق أظهرت أن خوضهم غمارها أدى- عكس ما يريدون- إلى التقليل من حجمهم وأن الشعب العراقي لا يسمح لهم بالتضخم السياسي.

 

خاتمة

إن الشعوب العربية التي احتضنت تنظيم الإخوان المسلمين في فترات مضت هي نفسها التي أنهت حضورهم ووجودهم. وكأنها كانت عبارة عن تقليعة سياسية أو “موضة” سادت ثم بادت، بعد عقد من الزمن من مراقبة تجربتهم في الحكم في عدد من الدول العربية. كما أن هذا الموقف الشعبي العربي تزامن مع بوادر دولية وإقليمية وعربية لقطع جسور الدعم والتأييد التي كانت السبب في تقوية موقف “الإخوان”، إذ إن بروزهم السياسي لم يكن بفعل قوتهم الذاتية فقط، وإنما بإرادة خارجية أيضاً.

غير أن الموقف الخارجي تطور في الاتجاه الصحيح، بعد استيعاب أصحاب القرار في الغرب لمخاطر تيارات الإسلام السياسي على النسيج المجتمعي وتداعياتها على قيم الحوار والتسامح، وبعد اقتناعهم بأن دعم للإسلامويين يجلب النقد والإساءة للداعمين لهم، وبالتالي فإن الموقف الغربي الإيجابي المستجد جاء استجابة للبيئة الداخلية في الدول العربية[6].

وهذه البيئة الداخلية تمثلت في محطات عدة؛ أهمها سقوطهم المدوي في الحكم وانتهاء تجاربهم الديمقراطية، فمن يقارن بين ما كان ينظر له الإخوان وما يطرحونه كفكر يكتشف أنهم كانوا الحاضنة الرئيسية للفكر المتطرف والممارسات الإرهابية؛ فمراجعة كتاباتهم تكشف بسهولة أنهم يشرعنون العنف والقتل، وأن نظامهم الداخلي فيما بينهم لا يعرف الحوار أو الديمقراطية في تدبير أمور التنظيم[7].

ومن التطورات التي أسهمت في بلورة بيئة عربية رافضة لتيارات الإسلام السياسي أيضاً، وكذلك داخل المغرب، فقدان الثقة في شعار “الإسلام هو الحل“؛ لأن تيارات الإسلام السياسي استخدمت هذا الشعار من أجل التخفي لأغراض سياسية وسلطوية فجاء خطابها مزدوجاً يخلط بين الدين بالسياسة، وبالتالي كان الحكم خير تجربة لكشف الوجه الحقيقي لازدواجيتها[8].

أما “المظلومية” فهي أكثر ظاهرة استخدمها “الإخوان” في إقناع الرأي العام العالمي ودوائر صنع القرار، وقد تعاطفت كثير من الدول والمجتمعات معهم، خاصة بعد أن استمروا في ترديدها وتضخيمها. وقد نجحوا بهذه الطريقة في اختراق العديد من المؤسسات في الدول الغربية. قبل أن تكشف الأعوام العشرة الماضية حجم الجرائم التي ارتكبوها في المجتمعات التي عاثوا فيها فساداً، سواء في مصر أو ليبيا أو الجزائر أو تونس أو غيرها من الدول.

والخلاصة أن ما يعانيه الإخوان اليوم لا يكمن في مواجهة الحكومات العربية لمخططاتهم؛ لأنها أتاحت لهم فرصة التجربة في الحكم بعد أن روجوا لأعوام طويلة الأكاذيب حول بطش السلطات وظلمها لهم، وإنما يكمن في سقوط الأقنعة التي استثمروا فيها سياسياً ومالياً على مدى عقود طويلة. فاليوم هم في مواجهة مع الشعوب التي أدركت أنها لم تكن سوى ضحية لتضليل تنظيم “الإخوان”، وبدؤوا في استئصاله للأبد.

 

المراجع

[1]. جيمس دروسي، أبعد من صدام بين الهندوسية والإسلاموية، جريدة “العرب” اللندنية، 21 سبتمبر 2021. https://bit.ly/3o0GgPx

[2]. نتائج الانتخابات المغربية: انهيار “العدالة والتنمية” وعودة الأحزاب التاريخية، مركز الإمارات للسياسات، 15 سبتمبر 2021. https://bit.ly/3hXQfkP

[3]. فهد سليمان الشقيران، فشل “إخوان” المغرب ونقاش الهوية البسيطة، جريدة “الشرق الأوسط” اللندنية. https://bit.ly/3EKT5Dr

[4]. فهد سليمان الشقيران، المرجع السابق.

[5]. طارق عثمان، مأساة الإسلام السياسي: قرن من التجارب مع الحداثة، The Cairo review، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، العدد 19، خريف 2015. https://bit.ly/3lTWLdB

[6] . حكيم مرزوقي، التونسيون يرفضون الإخوان لأكثر من بديل وأكثر من سبب، جريدة “العرب” اللندنية، 15سبتمبر 2021. https://bit.ly/3EMVnSB

[7] . أسامة السعيد، الأساطير المؤسسة لـ”الجماعة الإرهابية”، صحيفة “أخبار اليوم” المصرية، 21 يناير 2021. https://bit.ly/3i4ExoB

[8] . لورينزو فيدينو، الدائرة المغلقة للإخوان المسلمين في الغرب “الانضمام إلى الجماعة والانشقاق عنها، ترجمة: مركز تريندز للبحوث والاستشارات، ص 40.

المواضيع ذات الصلة