تُؤسس موافقة البرلمان العراقي في 6 من مايو 2020 على تشكيل حكومة مصطفى الكاظمي لمرحلة جديدة في المشهد السياسي العراقي، ليس فقط لأن هذه الحكومة جاءت بعد مخاض وجدل سياسي معقد بين القوى والتيارات السياسية التي كانت مُنقسمة حول كيفية التعامل مع الأوضاع في العراق بعد حركة المظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها البلاد خلال الأشهر القليلة الماضية، وكانت العامل الرئيسي وراء استقالة عادل عبد المهدي، رئيس الحكومة السابقة، الذي فشل في التعامل مع هذه المظاهرات؛ وإنما أيضاً – وربما الأهم – اعتبار أن الحكومة الجديدة جاءت في ظل صراعات بين الولايات المتحدة وإيران على الأراضي العراقية، كانت أبرز فصولها اغتيال قاسم سليماني رئيس فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني في يناير من العام 2020، وما تبعه من تهديدات متبادلة بين الجانبين؛ الأمر الذي يثير بدوره عدة تساؤلات، من بينها: هل تنجح حكومة الكاظمي في إبعاد العراق عن دائرة الصراع بين واشنطن وطهران؟ وما هي احتمالات نشوب مواجهات جديدة بين الجانبين على الأراضي العراقية؟
حكومة الكاظمي: الملامح والسمات العامة
جاءت موافقة البرلمان العراقي على تشكيلة الحكومة التي تقدم بها مصطفى الكاظمي (رئيس المخابرات السابق) بعد مخاض طويل نتيجة التطورات المتسارعة والمتشابكة التي شهدتها الساحة العراقية خلال الأشهر الماضية نتيجة حركة المظاهرات التي عمت معظم المدن العراقية احتجاجاً على تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية من ناحية، وتصاعد النفوذ الإيراني في البلاد من ناحية ثانية.
لقد أجبرت هذه المظاهرات عادل عبد المهدي رئيس الحكومة السابق على الاستقالة في 1 من ديسمبر عام 2019، ليكون بذلك أول رئيس حكومة يترك منصبه قبل نهاية ولايته في عراق ما بعد عام 2003، في وقت كان ينظر إليه كثيرون باعتباره رجل المرحلة الذي سيقود مسيرة إعادة إعمار البلاد التي دمرتها الحرب ضد تنظيم “داعش”، لكنه فشل في التعامل مع هذه المظاهرات التي راح ضحيتها ما يقرب من 400 قتيل من أبناء الشعب العراقي خلال شهرين [1].
شهدت الساحة العراقية في أعقاب هذه الاستقالة حالة انفلات أمني غير مسبوق، نتيجة لاستمرار رفع المتظاهرين لافتات تطالب بالتصدي للنفوذ الإيراني في البلاد والعمل على تحجيمه، هذا في الوقت الذي كانت تعمل فيه الميليشيات الشيعية الموالية لطهران على التصدي لهذه المظاهرات تارة، واستهداف المصالح الأمريكية في العراق تارة أخرى، حيث قامت ميليشيات الحشد الشعبي باستهداف القاعدة العسكرية العراقية-الأمريكية (K-1)، وهي القاعدة التي تستضيف جنودًا أمريكيين شمال كركوك، بنحو 30 صاروخًا، ما أسفر عن مقتل متعاقد مدني أمريكي، وإصابة 4 أفراد من الخدمة الأمريكية، وهو الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى الرد بقوة على هذه الهجمات باغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري في 3 من يناير 2020 بواسطة قصف صاروخي بالقرب من مطار بغداد، وقُتل إلى جانبه نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي، أبو مهدي المهندس وشخصيات أخرى من الميليشيات التي تدعمها إيران[2].
وردًا على اغتيال قاسم سليماني قامت إيران بعد ذلك بأيام قليلة بإطلاق أكثر من عشرة صواريخ من أراضيها استهدفت قاعدتين جويتين في أربيل وعين الأسد غرب بغدد، لم تسفر عن خسائر مادية أو بشرية ملموسة[3]، لكنها كانت مؤشرًا على أن الساحة العراقية مُرشحة لموجة جديدة من المواجهات بين الولايات المتحدة وإيران في ظل تهديد الميليشيات العسكرية التابعة لإيران في أكثر من مناسبة بالانتقام لمقتل سليماني وأبو مهدي المهندس، الأمر الذي كان يُنذر بتداعيات خطيرة تتجاوز الأوضاع في العراق إلى خارج حدوده.
كل هذه التطورات والمعطيات كانت حاضرة بقوة في المشاورات الخاصة بتشكيل الحكومة العراقية قبل أن تخرج إلى النور في 6 من مايو 2020، فقد كانت هناك مخاوف جارفة أن يؤدي تعيين شخصية محسوبة على إيران أو حتى قريبة من مواقفها إلى تحويل العراق إلى ساحة مواجهة بين الولايات المتحدة وإيران، ولهذا وقع الاختيار على الكاظمي لتشكيل الحكومة العراقية لأنه ليس محسوباً على قوى سياسية بعينها، وله علاقات مع مختلف مكونات الشعب العراقي، ويتبنى مواقف محايدة تجاه إيران والولايات المتحدة.
شكلت موافقة البرلمان العراقي في 6 من مايو 2020 على تشكيلة الحكومة العراقية منعطفًا في اتجاه مرحلة سياسية جديدة في العراق، خاصة بالنظر إلى الاعتبارات التالية:
- كون أن الحكومة العراقية الجديدة جاءت في أعقاب انتفاضة شعبية كانت لها مطالب واضحة في الإصلاح ومواجهة الفساد والتصدي للطائفية، ومن ثم يمكن اعتبار هذه الحكومة بمنزلة استجابة لمطالب الشارع العراقي، والدليل على ذلك أنها تضم ضمن تشكيلتها شخصيات من داخل حركة الاحتجاج أو قريبة منها، فضلاً عن تعهد رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي بالكشف عن قَتَلَة المتظاهرين، وتقديمهم للمحاكمة، ما يعني أن هذه الحكومة لها ظهير شعبي واسع مؤيد لها منذ اللحظة الأولى، وهذا في حد ذاته عامل يعزز من قوتها، والمضي قدماً في برنامجها الإصلاحي.
- بُعد حكومة الكاظمي عن نفوذ الميلشيات الموالية لإيران وخاصة في المناصب الأمنية والعسكرية، حيث أسند الكاظمي المواقع الحساسية في وزارتي الداخلية والدفاع إلى ضباط مستقلين. كما قام بإعادة الفريق عبد الوهاب الساعدي إلى قيادة جهاز مكافحة الإرهاب، بعد أن عزله رئيس الحكومة السابق عادل عبد المهدي نتيجة شكاوى الميليشيات القريبة من إيران. كما جعل الكاظمي، في الوقت ذاته، أجهزة المخابرات وأركان الجيش ومكافحة الإرهاب تابعة له شخصياً، وهي خطوة مهمة تشير بوضوح إلى رغبة الحكومة الجديدة في السيطرة على الوضع الأمني والتصدي بحسم لأي محاولات تسعى إلى زعزعة الأمن والاستقرار.
- تمتع الحكومة الجديدة بتأييد عربي ودولي واسع، حيث يعول الكثيرون عليها في التصدي للتحديات الأمنية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والصحية المتزايدة التي تواجه العراق منذ سنوات. كما أنها تشكل في الوقت ذاته فرصة لإبعاد العراق عن محور إيران ومشروعها الطائفي في المنطقة؛ وهذا ما يفهم من تصريحات رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي في أكثر من مناسبة، والتي تعهد خلالها بمواجهة التحديات التي تمر بها البلاد، وشدد على أولوية “سيادة العراق وأمنه واستقراره وازدهاره”، وذلك في إشارة واضحة إلى رفضه لاستمرار النفوذ الإيراني المتصاعد على الساحة العراقية، والذي يمثل تهديداً للأمن القومي للبلاد، خاصة أن هذا النفوذ حول العراق إلى ساحة للمواجهات بين واشنطن وطهران خلال الأشهر القليلة الماضية.
قراءة في الموقفين الأمريكي والإيراني من الحكومة العراقية الجديدة
دائما ما تحظى عملية تشكيل أي حكومة عراقية منذ سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين عام 2003 باهتمام كل من الولايات المتحدة وإيران، حيث كانت الدولتان تتنافسان دوماً على أن تعبر أي حكومة عن مصالحهما في العراق، وكان الملمح العام لمعظم الحكومات السابقة أنها كانت متوازنة تجاه العلاقات مع الدولتين، لكن هذه الحكومات بدأت تميل نسبياً لتعبر عن النفوذ الإيراني خاصة في الفترة التي تلت الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011 في عهد الرئيس السابق باراك أوباما[4]، وهي الفترة التي عملت فيها إيران على تعزيز نفوذ الميليشيات المسلحة التابعة لها في العراق، حتى باتت أهم الأطراف المؤثرة في معادلة الأمن والسياسة في المشهد العراقي بأكمله.
وكان لافتاً أنه بمجرد موافقة البرلمان العراقي على حكومة مصطفى الكاظمي، إعلان الولايات المتحدة على لسان وزير خارجيتها مايك بومبيو إعفاء العراق من شراء الكهرباء من إيران لمدة 120 يوماً، وهي مهلة يحتاجها العراق خلال فصل الصيف الجاري كما أنها دلالة واضحة على حرص الولايات المتحدة على مساعدة الكاظمي على الوفاء بالاستحقاقات الداخلية التي أعلنها، خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار أن نقص الكهرباء والمياه يُعد من أعقد المشكلات التي تواجه العراق في فصل الصيف وكانت وراء حركة المظاهرات التي اندلعت في الأعوام القليلة الماضية.
لا شك في أن الدعم الأمريكي الواضح لحكومة الكاظمي يرجع في جانب منه إلى أن الكاظمي يرتبط بعلاقة متميزة مع الولايات المتحدة، عززها خلال فترة التعاون في الحرب ضد تنظيم “داعش” وصولا إلى القضاء على زعيمه أبو بكر البغدادي[5]، ولهذا تسعى الولايات المتحدة إلى استثمار هذه العلاقات في الحفاظ على المصالح الأمريكية في العراق، وتأمين القوات الأمريكية العاملة هناك من أية استهداف من جانب الميليشيات المسلحة التابعة لإيران.
أعلنت إيران، هي الأخرى، على لسان وزير خارجيتها محمد جواد ظريف، دعمها لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة برئاسة الكاظمي، وأبدت استعدادها للتعاون معها؛ ولهذا يعوَل كثيرون على إمكانية نجاح حكومة الكاظمي في إعادة هندسة العلاقات مع طهران، رغم التحفظات عليه من جانب بعض المؤسسات التي تنتمي للحرس الثوري والتيار المحافظ في إيران .
لكن مع هذا ليس من المستبعد أن يكون تأييد إيران لحكومة الكاظمي يندرج ضمن سلوكها المراوغ، حيث تعلن في الظاهر دعمها للحكومة، وتترك لحلفائها في الداخل التحفظ أو الاعتراض على أية سياسات لا تستجيب لمصالحها حتى لا تُتهم بأنها تقف وراء عرقلة مسيرة الحكومة العراقية الجديدة. لكن المؤكد أن الظروف الصعبة التي تعيشها إيران الآن، من وضع اقتصادي صعب وتفشي لوباء كورونا المستجد والعقوبات الأمريكية، يجعلها مضطرة للقبول بحكومة الكاظمي-مرحلياً-، حتى لو كان تم استبعاد أهم حلفائها من تشكيلة الحكومة[6].
تشير كل المعطيات المتوافرة إلى أن حكومة الكاظمي لن تقع في فخ الانحياز لأي من الولايات المتحدة وإيران، وستعمل على إدارة العلاقات معهما بشكل متوازن، خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار أن الكاظمي لديه خبرة كبيرة في التواصل مع الطرفين، حينما كان رئيساً لجهاز الاستخبارات العراقية، وعلى اطلاع وثيق بأدق التفاصيل بما فيها العلاقات بين الدولتين[7].
التحديات التي تواجه حكومة الكاظمي
تواجه حكومة الكاظمي تحديات عديدة، بعضها ورثته من الحكومات السابقة، وبعضها الآخر يرتبط بالتداعيات التي خلفها وباء “كوفيد-19″، والبعض الثالث باستمرار تداعيات عملية اغتيال قاسم سليماني، وتتمثل أهم هذه التحديات في ما يلي:
- تفكيك سطوة الميليشيات المسلحة الموالية لإيران، وخاصة تلك التابعة للحشد الشعبي التي تبدو علاقتها بالدولة العراقية غير واضحة، وفيها تحدٍ علني للدولة في أحيان كثيرة، فضلا عن أن بعض تلك الفصائل المنضوية في الحشد الشعبي وعناصرها، تتبع عقائديًا لولاية الفقيه في إيران؛ ما يعني أنها لا تدين بالولاء للدولة العراقية، بل أن الخطير في الأمر أن استمرار احتفاظ هذه الميليشيات بالسلاح، ينذر بخطورة انزلاقها إلى صراع مسلح، وما قد يترتب على ذلك من تداعيات سلبية على الأمن والاستقرار في العراق[8]. ويشير الواقع على الأرض إلى أن حكومة الكاظمي ماضية في تحقيق هذا الهدف، خاصة أن سيطرة الكاظمي على أجهزة الأمن تتيح له نزع سلاح هذه الميليشيات وجعلها تحت تصرف الدولة أو الجيش الوطني العراقي، وليس أدل على ذلك من قيام الحكومة بعد أيام من حصولها على موافقة البرلمان بإغلاق مقر “كرها الخاص بنزع سلاح الميليشياا”حركة ثأر الله” التي تورط بعض مسلحيها في قتل المتظاهرين؛ هذه الحركة التي تأسست في إيران إبان ثمانينيات من القرن الماضي ضمن مجموعة من الحركات الإسلامية المسلحة التي تأسست لقتال نظام صدام حسين والجيش العراقي خلال الحرب العراقية الإيرانية، وإقدام حكومة الكاظمي على هذه الخطوة يعد مؤشراً قوياً على تراجع النفوذ الإيراني في العراق، وعلى الكيفية التي ستتعامل بها مع مختلف الميليشيات المسلحة خلال الفترة المقبلة[9].
- الأزمات الاقتصادية الناتجة عن الانهيار التاريخي في أسعار النفط، والتي تمثل مشكلة جوهرية أمام الحكومة في تمويل الموازنة العامة للدولة وتخصيص مبالغ للإنفاق على قطاعات الصحة، والبنية الأساسية، والخدمات، والتوظيف، وغيرها، وكذلك في توزيع الموارد بين أقاليم البلاد خاصة إقليم كردستان الذي يطالب بزيادة مستحقاته في الميزانية المركزية[10]. وقد يدفع تراجع الموارد المالية الحكومة إلى اتخاذ بعض إجراءات التقشف، كالاقتطاع من الرواتب العامة الضخمة، في خطوة قد تلقى رفضًا شعبيًا وقد تجدد موجة الاحتجاجات التي طالبت بتغيير شامل للنظام والسياسيين. كما تسود توقعات بانخفاض الناتج المحلي الإجمالي للعراق بنسبة 9.7 في المئة هذا العام، وقد تتضاعف أيضا معدلات الفقر، بحسب توقعات البنك الدولي، ما يجعل ذلك أسوأ أداء سنوي للبلاد منذ إطاحة الولايات المتحدة بنظام صدام حسين [11].
- أزمة وباء كورونا المستجد، خاصة في ظل تراجع مستوى الخدمات الصحية بصورة كبيرة في العراق، وتنامي المخاوف من تزايد أعداد المصابين بالفيروس، ما يمثل عبئاً مضاعفاً على الحكومة الجديدة.
- القدرة على تحقيق التوازن في العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران بإبعاد العراق عن دائرة الصراع بين الدولتين، خاصة في ما يتعلق بمسألة استمرار الوجود العسكري الأمريكي في العراق، في ظل مطالبة القوى الشيعية والميليشيات المسلحة التابعة لطهران بمغادرة القوات الأمريكية من العراق، في وقت تشير العديد من التقديرات إلى أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تسحب قواتها، وتترك العراق مرة ثانية لإيران، خاصة أن انسحابها عام 2011 كان خطأ فادحاً، وإذا ما كررت ذلك الآن، فإنه قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط في المدى المنظور[12].
لماذا يشكل العراق أهم دوائر الصراع الأمريكي- الإيراني؟
يشكل العراق أهمية جيوسياسية لكل من الولايات المتحدة وإيران، حيث يمثل أهم المحاور في استراتيجية الدولتين تجاه منطقة الشرق الأوسط، فالولايات المتحدة منذ الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003، كانت تسعى إلى جعل العراق نموذجا للديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط، وإن كانت قد تراجعت عن تحقيق هذا الهدف بعد أن أدركت صعوبة فرض نماذج مُقولبة للديمقراطية بمفهومها الغربي في دول منطقة الشرق الأوسط التي تتسم بخصوصية ثقافية واجتماعية تتطلب التدرج في التحول إلى الديمقراطية بالمفهوم الغربي.
لكن يظل العراق عاملاً مهماً في السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، سواء لدوره المتوقع في ضبط إيقاع التفاعلات الإقليمية عبر إقامة نوع من التحالف بين الطرفين يضمن وجود قواعد أكثر فاعلية لإحداث التغيير الإقليمي[13]. ويرى مراقبون أن العراق يمثل أساس استراتيجية الولايات المتحدة المتمثلة في احتواء توسّع النظام الإيراني الحالي، وإذا ما استطاعت مساعدة الحكومة الجديدة على بناء عراق مستقر وقوي، سيكون ذلك بمثابة إضافة مهمة لردع الطموحات الإيرانية والضغوط العسكرية التي تمارسها في منطقة الخليج[14].
كما أن حرص الولايات المتحدة في الوقت ذاته على الإبقاء على وجودها العسكري في العراق لا ينفصل بأي حال عن صراعها مع إيران، حيث يمكن لهذا الوجود أن يشكل عامل ضغط عليها باستمرار، وثنيها عن أية ممارسات تهدد مصالح الولايات المتحدة أو حلفائها في المنطقة. كما أن للولايات المتحدة مصلحة استراتيجية في العراق من أجل مواجهة مساعي روسيا والصين الرامية إلى بسط نفوذهما الاقتصادي والسياسي في البلاد، حيث تسعى الدولتان إلى تعزيز تواجدهما في العراق على حساب الولايات المتحدة، ولهذا من مصلحة الولايات المتحدة أن تبقي على نفوذها السياسي والعسكري الحالي في العراق[15].
أما بالنسبة لإيران، فإن العراق يمثل أهمية استراتيجية واقتصادية مضاعفة، فموقعه الجيوسياسي والحساس ودوره في تعزيز قوة العرب وتحقيق التوازن الإقليمي مع إيران، دفع الأخيرة إلى تعزيز نفوذها وتواجدها فيه، بهدف تحييده وجعله قوة مساندة لها بالأساس[16]. كما يمثل العراق في الوقت ذاته الأساس في مشروع الهلال الشيعي لإيران، والذي تسعى من خلاله إلى تعزيز هيمنتها على المنطقة من بوابة الطائفية[17]؛ إذ أن السيطرة على العراق تخدم استراتيجية إيران الإقليمية، وخاصة في ما يتعلق بإقامة جسر بري بين إيران ولبنان، ويمثل العراق أهم مرتكزات هذه الاستراتيجية، حيث يسهم في تأمين مواقعها ضد المنافسين الإقليميين المحتملين[18].
رغبة إيران في تعزيز نفوذها في العراق لا تنفصل في جانب منها أيضاً عن الصراع مع الولايات المتحدة، حيث تسعى إلى الحفاظ على العراق كمنطقة نفوذ تابعة لها تمارس من خلاله الضغط على الولايات المتحدة وتهديد مصالحها في المنطقة؛ وهذا يفسر تدخلاتها خلال السنوات الماضية في عملية تشكيل الحكومة العراقية، بحيث تضمن وجود حكومات مؤيدة لها ولمواقفها من ناحية ومحافظة على نفوذها من ناحية ثانية، بل أنها كثيراً ما عمدت إلى توظيف القوى والميليشيات الشيعية التابعة لها في العراق كأحد أوراق الضغط لمساومة الولايات المتحدة، وخاصة في ما يتعلق بالوجود العسكري الأمريكي في العراق. وبالفعل ففي أعقاب اغتيال قاسم سليماني حرضت إيران القوى والميليشيات التابعة على الضغط على الحكومة العراقية لإنهاء الوجود العسكري الأمريكي هناك، وفسخ الاتفاقية الأمنية الخاصة بذلك[19].
في ضوء ما سبق، يمكن القول أن العراق تحول خلال السنوات القليلة الماضية إلى أداة ضمن أدوات إدارة الصراع بين الولايات المتحدة وإيران، ولهذا كان من الطبيعي مع كل حديث عن حكومة عراقية جديدة أن تثار العديد من التساؤلات حول طبيعة علاقتها بكل منهما، وإلى أي طرف ستنحاز هذه الحكومة[20].
هل تنجح حكومة الكاظمي في إخراج العراق من دائرة الصراع الأمريكي- الإيراني؟
في الوقت الذي جعل رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي من “سيادة العراق وأمنه واستقراره وازدهاره”، أولوية حكومته الرئيسية، وتعهد باتخاذ الإجراءات لتحقيق ذلك الهدف، كما أعلن أيضاً رفضه “استخدام العراق كساحة للاعتداءات “في إشارة واضحة إلى الصراع العلني بين الولايات المتحدة وإيران في أعقاب مقتل سليماني، إلا أن قدرته على تحييد العراق وإخراجه من دائرة هذا الصراع تظل محل جدل، لأنها محكومة بتعقيدات الداخل العراقي، وتشابكات الخارج والعديد من المصالح الدولية المتضاربة.
فهناك فريق يرى صعوبة قيام حكومة الكاظمي بإخراج العراق من دائرة الصراع بين واشنطن وطهران، استناداً إلى وجود معارضة قوية من جانب بعض الميليشيات الشيعية للحكومة، كميليشيات حزب الله العراقية التي أعلنت رفضها لهذه الحكومة، بل أنها اتهمت الكاظمي إبان رئاسته للمخابرات بمساعدة القوات الأمريكية على تنفيذ عملية اغتيال مقتل سليماني، وأبو مهدي المهندس مؤسس ميليشيا حزب الله العراقية، بل واعتبرت هذه الميليشيات أن وصول الكاظمي لمنصب رئيس الحكومة لا يعفيه من تورطه في هذه الجريمة، بل تحدثت عن ضرورة ملاحقة المتورطين باغتيال سليماني أيا كان وصفهم الوظيفي[21]. كما أن إيران في الوقت ذاته ، ومن واقع علاقاتها مع الحكومات السابقة، فإنها كانت توظف الميليشيات المسلحة في الحفاظ على مصالحها، وجعلها دائماً ورقة ضغط ضد الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن في المقابل، فإن هناك فريقا آخر يرى أن بإمكان حكومة الكاظمي تحييد العراق عن الصراع الدائر بين الولايات المتحدة وإيران، بالنظر للاعتبارات التالية:
- تأييد الرئيس برهم صالح للكاظمي في التوجه الخاص بتحرير القرار الوطني من التبعية لإيران، بل أن هناك من يرى أن صالح كان الداعم الرئيسي للكاظمي لتولي الحكومة حينما عمل على إيقاف مسيرة بعض منافسيه السابقين على رئاسة الوزراء، وخاصة مرشّح ائتلاف الفتح المرتبط بقوى الحشد الشعبي الشيعية الطائفية القوية، محافظ البصرة أسعد العيداني الذي كان المحتجّون يكرهونه[22]. وهذا التوافق بين صالح والكاظمي من شأنه أن يعطي دفعة قوية للحكومة في تنفيذ أجندتها الخاصة بإبعاد العراق عن الصراع الدائر بين واشنطن وطهران.
- تذهب بعض الآراء إلى أن اختيار مصطفى الكاظمي لتشكيل الحكومة العراقية جاء نتيجة التوافق الضمني بين واشنطن وطهران، باعتباره حلاً وسطاً في هذه المرحلة، ولهذا فإنه حظى بتأييد ودعم الدولتين، اللتان لعبتاً دوراً في تسهيل المشاورات السابقة لتشكيل الحكومة وإزالة العقبات التي كانت تحول دون إتمامها، ومن ذلك على سبيل المثال إقناع الولايات المتحدة للأكراد بالتخلي عن مرشحهم لوزارة المالية لتسهيل إخراج حكومة الكاظمي[23].
- تميل شخصية الكاظمي التوافقية إلى الابتعاد عن الحلول الصفرية، بمعنى أنه سيعمل على إعادة صياغة هندسة العلاقات بين كل من واشنطن وطهران، وتمرير رسائل إلى كليهما بأنه سيعمل على الحفاظ على مصالحهما الاستراتيجية في العراق، و بما يتجاوز ما دعا إليه البرلمان العراقي في السابق من السعي لإخراج القوات الأمريكية من البلاد عقب مقتل الجنرال سليماني. في الوقت ذاته فإن الكاظمي لن يصطدم في هذه المرحلة بالنفوذ الإيراني أو يحاول أن يثير غضب القوى الشيعية المدافعة عنه حتى لا يقع في صراع مبكر قد تكون تكلفته كبيرة، ولهذا فإنه سيعمل على تحقيق التوازن في العلاقات بين واشنطن وطهران وبما يضمن عدم قيامهما بأي مواجهات جديدة على الأراضي العراقية [24].
خاتمة
رغم أن حكومة الكاظمي تواجه تحديات كبيرة، كما سبق الإشارة، إلا أنها تمتلك العديد من الفرص التي تتيح لها هامشاً كبيراً من الحركة تجاه الحفاظ على سيادة العراق وإبعاده عن دائرة الصراع الأمريكي- الإيراني على الأقل خلال هذه المرحلة، خاصة بالنظر إلى العاملين التاليين:
الأول: تأييد الداخل العراقي بمختلف مكوناته، باستثناء بعض القوى الشيعية، لتوجهاته الخاصة بتحجيم نفوذ إيران، ونزع سلاح الميليشيات المسلحة التابعة لها.
الثاني يتمثل في رغبة الولايات المتحدة وإيران في التهدئة مرحلياً، لاعتبارات خاصة بكل منهما، فالرئيس ترامب الذي يسعى إلى إعادة انتخابه لولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في شهر نوفمبر المقبل، لا يمكن أن ينجر إلى مواجهة جديدة مع إيران في هذا التوقيت الصعب الذي يتعرض فيه أيضاً لانتقادات بالغة، بسبب إدارته لأزمة وباء كورونا. وإيران هي الأخرى تميل إلى عدم التصعيد، لأنها أدركت منذ عملية اغتيال قاسم سليماني أن الولايات المتحدة جادة في تهديداتها، ولهذا فإنها تفضل الابتعاد عن التصعيد معها، والتفرغ لمواجهة استحقاقات الداخل، وخاصة التحديات الاقتصادية وأزمة كورونا.
الهوامش
[1]– العراق: البرلمان يصادق على حكومة جديدة برئاسة مصطفى الكاظمي، موقع “فرانس 24″، 7 مايو 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3cQK5OB
[2]– مقتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني في ضربة أمريكية ببغداد، هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، 3 يناير 2020، من خلال الرابط التالي: https://bbc.in/2Xl6YDk
[3]– مقتل قاسم سليماني: إيران تستهدف قوات أمريكية في العراق بقصف صاروخي، هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، 8 يناير 2020، من خلال الرابط التالي: https://bbc.in/2Tqo2H2
[4]– محمد قواص، العراق بعد تشكيل حكومة الكاظمي: الفُرَص والتوقعات، مركز الإمارات للسياسات، أبوظبي، 13 مايو 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2ZjIeOF
[5]-موقع فرانس”24″، العراق: البرلمان يصادق على حكومة جديدة برئاسة مصطفى الكاظمي، مصدر سبق ذكره
[6]– خير الله خير الله، الكاظمي والتراجع النسبي لإيران، موقع العربية نت، 11 مايو 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3gcpKFw
[7]– حكومة الكاظمي ومستقبل التصعيد الأمريكي– الإيراني في العراق، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبي، 9 أبريل 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3g66j1g
[8]– ملف السلاح “المنفلت” يبرز إلى الواجهة العراقية .. الكاظمي في مواجهة الميليشيات، موقع إرم نيوز، 22 أبريل 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3bMwlTR
[9]– Eli Lake, Iran Is Losing Its Grip in Iraq, Bloomberg, May 10 2020, https://bit.ly/2ylMO3P
[10]– د. أحمد سيد أحمد، “العراق.. تحديات تطارد حكومة الكاظمي”، صحيفة الخليج(الشارقة)، 30 أبريل 2020.
[11]– حكومة الكاظمي.. أمام إرث ثقيل وتحديات متراكمة، موقع الحرة(واشنطن)، 7 مايو 2020، من خلال الرابط التالي: https://arbne.ws/2Zntcay
[12]– Anthony Cordesman, Munqith Dagher, Karl Kaltenthaler, A U.S.-Iraq Strategic Dialogue: A Question of Interests and Expectations, The Washington Institute for Near East Policy, May 14, 2020, https://bit.ly/2ZwnMdk
– [13] د خضر عباس، الاستراتيجية الأمريكية إزاء العراق .. نظرة مستقبلية، مجلة شؤون خليجية، العدد(49)، ربيع 2007، ص 23.
[14]– Anthony Cordesman, Munqith Dagher, Karl Kaltenthaler, op.cit.
[15]– Ibid
– [16] العلاقـات العربيـة-الإيرانيـة: تشابكات السـياسة والدين والتاريخ والجغرافـيا، مجلة درع الوطن، (أبوظبي)، 9 يوليو 2015، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2WSSw6N
– [17] للمزيد من التفاصيل عن طبيعة التغلغل الإيراني في العراق وأهدافه، يمكن الرجوع إلى : التوغل الإيراني و الصراعات اللامتناهية في العراق، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، 22 يونيو 2016، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2ypp3YE
[18]– Anthony Cordesman, Munqith Dagher, Karl Kaltenthaler, op.cit.
[19] – Ilan Goldenberg, Will Iran’s Response to the Soleimani Strike Lead to War?, Foreign Affairs, January 3, 2020. https://fam.ag/379UZvb
[20] – هل يتحول العراق إلى ساحة مواجهة بين أمريكا وإيران؟، هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، 31 ديسمبر 2019، من خلال الرابط التالي: https://bbc.in/36dBLGq
[21]– العراق.. حكومة الكاظمي تتسلم أعمالها بدعم داخلي وخارجي واسع، موقع العربية نت،8 مايو 2020 ، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3gehbKL
[22]– هل ينجح الكاظمي في مغامرة الإصلاح التدريجي؟، صحيفة العرب(لندن)، 21 مايو 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3g2Dxi9
[23]– محمد قواص، العراق بعد تشكيل حكومة الكاظمي: الفُرَص والتوقعات، مصدر سبق ذكره
[24]– المصدر السابق