Insight Image

واقع الإسلاموية في جنوب آسيا.. التأثير الإخواني

09 يوليو 2023

واقع الإسلاموية في جنوب آسيا.. التأثير الإخواني

09 يوليو 2023

تستمد الإسلاموية قوتها في الواقع من كونها لا يمكن فصلها بسهولة عن الإسلام. فهي تجد في هذا التماهي الزائف، طاقةً للاستمرار والتوسع، لاسيما في المساحات، حيث للدين، أي الإسلام، قوة جذب راسخة، لا فقط بوصفه شريعةً بل باعتباره محدد هويةٍ وفضاءً روحيًا للفرد والمجموعة. ولعل أوسع هذه المساحات، التي يحدد الفرد وجوده القومي والهوياتي من خلال الإسلام، هي منطقة جنوب آسيا، ذات الروابط التاريخية القديمة مع مركز انتشار الإسلام في الجزيرة العربية، والعلاقات السارية حتى اليوم مع المنطقة عبر حركة السكان الكبيرة. وضمن هذه البيئة، أوجدت الإسلاموية، بمختلف فصائلها، لنفسها مكانًا للدعوة والتوسع والانتشار، باكرًا، منذ النصف الأول للقرن العشرين، أي خلال سنوات التأسيس الأولى، لما سيعرف لاحقاُ بالإسلام السياسي الحديث. في سياق عامٍ من إعادة تأكيد الهويات الدينية عبر جنوب آسيا في العقود الأخيرة، والذي يتجلى في إعادة تنشيط للدين كقوة سياسية وكوسيلة للعمل الجماعي. لكن هذا الوجود، لم يكن دائمًا على نفس الوتيرة من القوة والتأثير، بل شهد على مدى سنوات تطوره التاريخي، منعطفات وتحولات، تتعلق بالوضع الذاتي للإسلاموية وبالتحولات الموضوعية الجيوسياسية في المنطقة. في هذا الإطار العام، تسعى هذه الورقة، إلى استكشاف مسار هذا التطور التاريخي الذي عرفته الإسلاموية “الجنوب آسيوية”، والتأثير الإخواني، على هذه الإسلاموية من حيث واقعه وحدوده.

أولًا: الدين والسياسة في منطقة جنوب آسيا:

ابتداءً لابد من تحديد المجال الجغرافي للورقة، فرغم عدم وجود حدود واضحة ونهائية لمنطقة جنوب آسيا، فإن التعريف الشائع لها إلى حد كبير موروث من الحدود الإدارية للإمبراطورية الهندية مع بعض الاستثناءات. حيث تشكل الأراضي الحالية لبنغلاديش والهند وباكستان، والتي كانت الأقاليم الأساسية للإمبراطورية البريطانية من 1857 إلى 1947 المناطق الأساسية في جنوب آسيا، كما تضم إليهم عادةً أفغانستان، إضافةً إلى نيبال وبوتان، وهما دولتان مستقلتان لم تكونا تحت الحكم البريطاني لكنهما كانتا محميتين منه، وكذلك سريلانكا[1].

وتعتبر المنطقة موطنًا لجميع الديانات الرئيسية في العالم، حيث يسود الإسلام في أربع دول (باكستان وبنغلاديش وأفغانستان والمالديف) والهندوسية في دولتين أخريين (الهند ونيبال) بينما تلعب البوذية دورًا راجحًا في سريلانكا ومهمًا في نيبال والهند. أما الأقلية المسيحية فهي موجودة في كل مكان تقريبًا. وباستثناء نيبال، فإن معظم البلدان الأخرى في المنطقة تميل إلى إبعاد نفسها عن العلمانية، ليس فقط بحكم الأمر الواقع، ولكن أيضًا بحكم القانون. وينعكس هذا التطور في وجود ارتباط وثيق بشكل متزايد بين الدولة ودين الأغلبية. ويكشف تنوع المسارات التي تتبعها أنظمة جنوب آسيا في علاقتها بالدين نطاقًا واسعًا من المقارنة، حيث تُعد الهندوسية الديانة الرسمية لنيبال، وعرّفت باكستان نفسها في عام 1947 على أنها جمهورية إسلامية، بينما أرادت الهند وسريلانكا وبنغلاديش أن تكون ديمقراطيات علمانية دون أن تبقى كذلك بالضرورة؛ بينما اتبعت أفغانستان مسارًا أكثر تشويشًا، من علمانية الملكية المستترة إلى علمانية النظام الشيوعي المفرطة، ثم العودة القوية والكاسحة للدين في قلب الدولة والمجتمع[2].

وتلعب الهوية الدينية دورًا قويًا وحاسمًا في تشكيل السياسة في المنطقة، ليس فقط على المستوى الداخلي للدول، بل أيضًا في تحديد طبيعة العلاقات بين بلدان المنطقة، حيث كان الدين الأساس الصلب للتوجه القومي الذي أفضى إلى تقسيم الهند البريطانية عام 1947 إلى باكستان والهند. ويستمر حتى اليوم تأثير الأديان، ولا سيما الإسلام، في تشكيل الجغرافيا السياسية لجنوب آسيا. فقد خاضت الهند وباكستان عدة حروب للسيطرة على منطقة كشمير ذات الأغلبية المسلمة. كما تتركز النزاعات السياسية التي استمرت عقودًا في أفغانستان حول صراع الإيديولوجيات الإسلامية المتناحرة[3].

وشأنها شأن بقية مناطق العالم الإسلامي، تأثرت منطقة جنوب آسيا منذ نهاية الستينيات بموجة “الصحوة الإسلاموية”، التي بدأت في العالم العربي ثم انتشرت. وفي هذا السياق يمكن تفسير تطور العلاقة بين المجال الديني والحقل السياسي في دول المنطقة ذات الغالبية المسلمة بثلاث ديناميات. أولًا، في سياق لم يكن فيه المجال السياسي منظمًا أبدًا (أحزاب سياسية ذات تعبئة قليلة وشرعية ضعيفة للحكومات القائمة)، يسمح الإطار الديني بتعبئة الموارد الفردية والجماعية باسم الدين، ولكن من أجل الاستفادة من المنظمات السياسية. بهذا المعنى، فإن أهمية الخطاب الديني هي نتاج ضعف هيكلة المجال السياسي. ثانيًا، يستثمر رأس المال الديني بسهولة شديدة في المجال السياسي، لدرجة أن جزءًا كبيرًا من القادة السياسيين هم من المشايخ وأن المدارس الدينية لها دور مهم في تشكيل الحركات السياسية. وثالثًا، يتأرجح المجال الديني بين الاستقلالية التنافسية وإضفاء الطابع الرسمي، لكن المنطق السائد هو بالفعل السيطرة المتزايدة للسياسة على الدين[4].

هذه “الصحوة الإسلاموية” دفعت الأنظمة السياسية في دول جنوب آسيا، ذات الغالبية المسلمة، إلى محاولة استغلال ورقة الدين لتحقيق نوع من الشرعية السياسية والتعبئة الشعبية، من خلال الاستفادة من القاعدة الاجتماعية العريضة للجماعات الإسلاموية، حيث سعت هذه الأنظمة إلى تشريع قوانين إسلامية صارمة. وهو ما انعكس سلبيًا على أحوال الأقلية المسلمة في دول المنطقة ذات الغالبية غير المسلمة. لنشهد لاحقًا تحولًا اجتماعيًا جذريًا في المنطقة، طبيعته الأساسية تراجع مستويات التسامح الديني وصعود الهويات الطائفية والدينية المتطرفة، وشيوع موجات العنف العرقي، المدفوع دينيًا وطائفيًا، وفشل عام، اجتماعي وسياسي في التنوع الديني والثقافي واللغوي والعرقي الذي تتميز به المنطقة [5]. في المقابل دفعت تأثيرات الصحوة الإسلاموية الكارثية في اتجاه معاكس إلى إعادة إحياء العلمانية في شبه القارة الهندية، الأمر الذي تجلى في بروز الحركة النسوية والحركات الشبابية، ذات التوجهات الاجتماعية المدنية، وبدايات لتراجع قوة وتأثير الإسلاموية وحركاتها السياسية والدينية.

ثانيًا: الإسلاموية في منطقة جنوب آسيا والتأثير الإخواني:

اهتمت جماعة الإخوان المسلمين مبكرًا بالتمدد خارج مركزها المصري، بوصفها جماعة فوق وطنية، لا تؤمن بالحدود الحديثة للدول القُطرية، وتسعى في الوقت نفسه إلى إحياء الخلافة الإسلامية. ولذلك أنشأت في عام 1944 “قسم الاتصال بالعالم الإسلامي”، وتولى رئاسته آنذاك عبد الحفيظ سالم الصيّفي، وهو القسم الذي سيتطور لاحقًا ليصبح “التنظيم الدولي” للجماعة. وتشير لائحة التأسيس إلى أن أهدافه تدور حول: “أولًا، العمل على ربط الأقطار الإسلامية بعضها ببعض، وتوحيد السياسة العامة لها. ثانيًا، العمل على مرحلتين: الأولى، العمل على تحرير الأقطار الإسلامية من كل سلطان أجنبي. أما الثانية فهي إقامة دولة إسلامية، وذلك عن طريق إقامة حكومة إسلامية في كل هذه البلاد، وربط هذه الحكومات بوضع سياسي يحقق وحدتها، ويتفق عليه رؤساؤها وممثلوها الحقيقيون. وقد بدأ القسم بتكوين لجان تعمل حسب الظروف والأوضاع القائمة داخل الأقطار، ومن ضمن هذه اللجان: لجنة الشرق الأدنى، وتضم البلاد العربية والشعوب الإسلامية في أفريقيا. ولجنة الشرق الأقصى، وتشمل دول شرق آسيا ووسطها. ولجنة الإسلام في أوروبا”[6].

وقد استفادت الجماعة من مركزية مصر في العالم الإسلامي، بوصفها إحدى الحواضر الرئيسية التي يقصدها طلبة العلوم الدينية من جميع أنحاء العالم الإسلامي، في ظل وجود الأزهر الشريف، الذي استقبل مئات الطلبة من دول جنوب آسيا. وقد شكلت عمليات التجنيد في صفوف هؤلاء الطلبة آنذاك الجسر الأساسي لانتقال أفكار الجماعة إلى أفغانستان وشبه القارة الهندية. ولعل أشهر هؤلاء محمد هارون مجددي، نجل الشيخ محمد صادق الممثل السياسي للملك الأفغاني لدى القاهرة، في أربعينيات القرن العشرين[7]، والزعيمين عبد رب الرسول سياف وبرهان الدين رباني. كما استغلت الجماعة فترة الشتات، الذي عاشته بعد تطور الأزمة مع الدولة المصرية في أواخر عهد الملكية وكذلك في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، في توسيع دعوتها من خلال انتشار أعضائها في مختلف الدول الإسلامية ومن بينها دول جنوب آسيا، وكان من بينهم القيادي البارز في الجماعة، محمود أبو السعود، الذي عمل مستشارًا في الحكومة الباكستانية خلال عملية تأسيس البنك المركزي الباكستاني على عهد رئيس الوزراء، لياقت عليّ خان (1947-1951) [8].

إلى جانب ذلك، فقد ألهمت أفكار الجماعة جماعات أخرى لتأسيس جماعات إسلامية مشابهة لها في الهيكلية التنظيمية، ومتأثرة بها في المنهج، وإن كانت مستقلة عنها تنظيميًا وسياسيًا، على رأسها “الجماعة الإسلامية” في شبه القارة الهندية، التي أسسها المنظر الديني أبو الأعلى المودودي الذي لعب دورًا مهمًا في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي.

في هذه الفترة التاريخية، دخلت حركة الاستقلال في منطقة جنوب آسيا، مرحلة جديدة حيث وعد البريطانيون بمنح الاستقلال للهند مقابل تقديم الدعم خلال الحرب العالمية الثانية. وفي هذه الظرفية التاريخية برز إلى الساحة أبو الأعلى المودودي (1903-1978) في عام 1941 في لاهور، الذي استشعر أن خروج الاستعمار قد أصبح مسألة وقت، في ظل التحولات العالمية الجارية، وأنه يجب أن يستعد لما بعد تلك المرحلة، بوصفه يمثل طبقة من الفاعلين الدينيين، التي لا تجد نفسها تتقاسم المصالح ذاتها مع قادة الحركة الوطنية العلمانية. وقد تأثر المودودي بأفكار حسن البنا وعناية الله المشرقي من حركة خكسار[9]، وأعجب في الوقت نفسه بنموذج التنظيم الحديدي للأحزاب الشيوعية، فأسس “الجماعة الإسلامية” على ذلك الشكل الصارم من التنظيم وبأفكار متماهية بنهج الإخوان المسلمين. ويمكن تلخيص الفكرة المركزية التي يدور حولها فكر المودودي السياسي في مسألة “الحاكمية”[10]، التي نجد لها صدى كبير في فكر المنظر الإخواني، سيد قطب.

اكتسبت حركة المودودي بعد استقلال الهند عددًا كبيرًا من الأتباع المنتشرين في جميع أنحاء باكستان والهند ولاحقًا في بنغلاديش. وظل المودودي روح الحركة وكتب على نطاق واسع في الموضوعات المتعلقة بالإسلام السياسي، مع التركيز بشكل خاص على الجهاد، وقد استلهم من سيد قطب مفهوم “الجاهلية”، ورفض العلمانية والقومية، وإلى حد ما الديمقراطية، ووصفها بالمفاهيم الغربية، فبالنسبة له، كان المقبول الوحيد من بين كل هذه الأنظمة هو “الديمقراطية اللاهوتية” (ديمقراطية تحكمها الشريعة)، كما رفض أي دور يؤدّيه غير المسلمين في بلد فيه تنوع عرقي وديني وطائفي[11]. وقد أدّت أفكار المودودي وجماعته دورًا مركزيًّا في انتشار الإسلاموية الإخوانية وترسيخها في عموم جنوب آسيا، كما وضع نهجُها الإلغائي والطائفي بذور العنف الجهادي والقومي في شبه الجزيرة الهندية.

في هذا الإطار العام كان التأثير الإخواني واضحًا على الإسلاموية في جنوب آسيا، وأخذ شكلًا مباشرًا في “الجماعة الإسلامية” التي أسسها المودودي وامتدت لدول أخرى في المنطقة، فعقب استقراره في باكستان، قام المودودي أولًا بتغيير اسم جماعته إلى “الجماعة الإسلامية الباكستانية”، لكنه واجه صعوبات عدة سواء على يد البيروقراطية المدنية العلمانية التي أسّست الدولة، أو على يد المؤسسة العسكرية التي وصلت إلى السلطة وحكمت لعدة سنوات. ومن ثم كان موطئ القدم الوحيد الذي تمكّنت الجماعة الإسلامية من الحصول عليه هو دعم بعض المتعاطفين مع المودودي في الجمعية التأسيسية لباكستان الذين أضافوا بطريقة ما بعض البنود الدينية في المراحل الأولى من وضع الدستور. وخلال السنوات الأربع والعشرين الأولى من عمر باكستان، لم تتمكن الأحزاب الإسلامية الدينية من الصمود أمام الأحزاب السياسية العلمانية ولا البيروقراطيات المدنية والعسكرية[12].

وقد ألهمت عودة حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان الإسلاموية في منطقة جنوب آسيا، وذلك فيما يشبه حالة من الصحوة الجيوسياسية للجماعة في المنطقة، خلافًا للنكسة التي تعيشها في معقلها الشرق أوسطي، حيث تشهد الجماعة الإسلامية في باكستان نزوعًا أكبر نحو التشدد، في ظل قيادة سراج الحق، الذي يعدُّ أحد رموز الجناح الأكثر تشددًا داخل الجماعة، إذ يجمع إلى جانب جذوره العائلية ذات التكوين الديني، جذورًا قبليةً تعود إلى منطقة دير الشمالية الغربية النائية بالقرب من الحدود الأفغانية، وهو ما جعله ذا روابط بالأفغان أكثر من أي أمير سابق للجماعة[13].

وبرغم ذلك، ما زالت الجماعة عاجزة عن كسر عتبة ضعف القاعدة الانتخابية، فبسبب السياسات الدينية القائمة على الطائفية ومعارضة الأحزاب السياسية القومية والعلمانية، لم تتمكن الجماعة من أن تبرز كحزب سياسي رئيسي، كما أنها ما تزال تفتقر إلى استراتيجية انتخابية مدروسة للحصول على جزء كبير من كتلة الناخبين. يضاف إلى ذلك آثار ما بعد الإسلاموية، وحقبة أفول الأحزاب الدينية التقليدية، وتماسك المجتمعات القومية، وكلها عوامل معرقلة لأجندة الجماعة لفرض أسلمة الدولة والمجتمع. من جهة أخرى فإن باكستان تلتزم من الناحية الدستورية بتطبيق المبادئ الإسلامية، لكن الاقتصاد والتعليم في البلاد يعتمدان في الغالب على تنظيمات علمانية. وهذا الازدواج يعوق آليات الجماعة لتحريك الجماهير على خطها لأن الاقتصاد والتعليم ما يزالان بعيدَين عن متناولها. لذلك، وبشكل عام، تبدو الجماعة عاجزة حتى اليوم عن كسب الشرائح المتعلمة في البلاد[14].

وقبل استقلال بنغلاديش، عارضت الجماعة الإسلامية الباكستانية بشدة عملية الاستقلال بدعوى أن ذلك سيؤدي إلى تفكُّك باكستان، حتى إن الجناح العسكري للجماعة تعاون بقوة في عام 1971 مع الجيش الباكستاني في مواجهة القوميين البنغلاديشيين والمثقفين. وعند استقلال بنغلاديش حظرت الحكومة الجديدة الجماعة الإسلامية من المشاركة السياسية، لكن بعد الانقلاب العسكري في عام 1975، رُفع الحظر عن الجماعة واختير عباس علي خان قائمًا بأعمال أمير الجماعة في بنغلاديش، التي استهدف برنامجها السياسي إنشاء “دولة إسلامية ” تطبق الشريعة الإسلامية[15]. وحتى عام 2013 كانت الجماعة جزءًا من المشهد السياسي، وشاركت في العديد من المحطات الانتخابية، لكن في عام 2010 حين بدأت الحكومة بقيادة حزب رابطة عوامي في محاكمة مرتكبي جرائم الحرب التي ارتكبت خلال حرب التحرير عام 1971 تحت إشراف المحكمة الجنائية الدولية، تم توجيه الاتهام في عام 2012 إلى 8 من قادة الجماعة حيث أدين منهم ثلاثة بالفعل[16]؛ ما أسفر في النهاية عن حظر الجماعة نهائيًّا في عام 2013.

وبعد نحو عشر سنوات من الكمون التنظيمي، تشهد بنغلاديش عودة قوية للجماعة الإسلامية البنغالية، فمنذ ربيع العام الحالي بدأت الجماعة في العودة إلى الشارع من خلال التظاهرات، والعمل التنظيمي، بخطاب تقليدي معادٍ للهند وقد نظمت أول تجمع جماهيري لها بعد عشر سنوات من الغياب في العاصمة دكا في 26 يونيو 2023. وشهد إقبالًا كبيرًا خصوصًا من أعضاء جناحها الطلابي، وتأتي هذه العودة إلى الحياة السياسية قبل الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها بين منتصف ديسمبر ومنتصف يناير 2024، حيث من المتوقع أن تدخل الجماعة السباق ضمن قوائم مستقلة أو من خلال أحزاب جديدة. ومن المحتمل أن تكون هذه العودة عنصر توتر مع الهند، ذلك أن الجماعة تعارض النفوذ السياسي والاقتصادي للهند في بنغلاديش، في حين أن السياسة الخارجية لنيودلهي تعطي الأولوية للنفوذ في الجوار على كل شيء آخر لحماية المصالح الوطنية[17].

وفي أفغانستان، كان التأثير الإخواني مباشرًا في وجود تنظيمات تأثرت بشكل كبير بالجماعة الأم في مصر، لكن هذا الوجود شهد انشقاقات عديدة، كان محورها الأساسي، التناقضات العرقية بين مكونات الجماعة في أفغانستان، والمستمدة من التعدد العرقي في المجتمع الأفغاني بشكل عام، حيث توزعت التنظيمات الإخوانية الأفغانية بين ثلاثة أحزاب وتنظيم مدني هي:

  • الاتحاد الإسلامي الأفغاني، بقيادة عبد رب الرسول سياف (البشتون)
  • الجمعية الإسلامية الأفغانية بقيادة برهان الدين رباني وخلفه نجله صلاح الدين رباني (الطاجيك)
  • الحزب الإسلامي الأفغاني بقيادة قلب الدين حكمتيار (البشتون)
  • جمعية الإصلاح بقيادة عبد الصبور فخري، وكانت الممثل الرسمي للجماعة، وعملت في شكل تنظيم مدني غير حزبي.

وعقب نجاح حركة “طالبان” في إعادة سيطرتها على السلطة في أغسطس 2021، رحبت “جمعية الإصلاح “في كابول بنقل السلطة للحركة” وأشادت في بيان بـ “المعاملة الحسنة والإسلامية لحركة طالبان”، وبعد ذلك بيوم واحد، أي في 18 أغسطس 2021، هنأت جماعة الإخوان المسلمين الأم الشعب الأفغاني على “انتصاره وتحرير أرضه”، كما هنأ الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين التابع للجماعة، “الشعب الأفغاني” و”قيادته حركة طالبان” على “هذه الخطوات وعلى هذه المرحلة الجديدة التي بدأت في أفغانستان”. جاء ذلك، فيما تعاملت طالبان مع الجماعة قبل عام 2001، على أنها عدو. ووصفت أعضاءها بأنهم أخطر على الإسلام من الشيوعيين. لكن بعد أن فقدت السلطة لسنوات، غيّرت طالبان موقفها من الجماعة وفتحت بابًا واسعًا للعلاقة مع “جمعية الإصلاح”، وظهر ذلك في زيارة قادة طالبان للداعية الإخواني، يوسف القرضاوي، في 6 أكتوبر 2020. كما زار وفد طالبان في العاصمة القطرية الدوحة إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس المحسوبة على جماعة الإخوان[18].

أما في سريلانكا، فقد تأسس فرع للجماعة الإسلامية منذ خمسينات القرن الماضي، بتأثير من أبي الأعلى المودودي، حيث نشطت الجماعة في صفوف الأقلية المسلمة، لكن بدأت تظهر على هوامش الجماعة مجموعات أكثر تطرفًا، مثل “جماعة التوحيد السريلانكية” بزعامة عبدول رزاق التي تأسست عام 2009، ونتيجة وجود بعض العناصر المتطرفة مثل زهران هاشم، اتجهت هذه الجماعة للسلوك الداعشي، قبل أن ينفصل عنها، ويكوّن مع مجموعة من أتباعه الأكثر تطرفًا وتشددًا “جماعة التوحيد السريلانكية” التي تميل للفكر الداعشي، ليؤسس لاحقًا جماعة جديدة تحت مسمى “جماعة التوحيد الوطنية”[19]، التي كانت قريبة من تنظيم “داعش” وتورّطت في تفجيرات إبريل 2019 التي استهدفت كنائس وفنادق في سريلانكا تزامنًا مع احتفالات المسيحيين بـ “عيد الفصح”، ما أسفر عن مقتل أكثر من 290 شخصًا وأكثر من 500 جريح[20]. وقد اتضحت علاقة الجماعة الإسلامية ذات الصلة بجماعة الإخوان المسلمين، بجماعة التوحيد الوطنية، من خلال القبض على الرئيس السابق للجماعة أستاذ رشيد حج الأكبر في أغسطس 2019 بتهمة تقديمه مساعدات لجماعة التوحيد، ويُذكر أن رشيد حج الأكبر ترأس الجماعة لمدة 24 عامًا من 1994 إلى 2018[21]. وإلى جانب ذلك ظهرت صور على وسائل التواصل الاجتماعي تجمع بين الداعية الإخواني يوسف القرضاوي وسلمان الندوي الداعية الهندي، الذي يعد أحد الآباء الروحيين لجماعة التوحيد[22].

أما على مستوى الهند، فقد بدا التأثير الإخواني واضحًا في ظهور “الجبهة الشعبية للهند (PFI)”، التي تأسست في عام 2006، لمواجهة مجموعات الهندوتفا (المجموعات الهندوسية المتطرفة)، من خلال اندماج جمعيتَي “منتدى كارناتاكا للكرامة” و”جبهة التنمية الوطنية” وهي منظمة محظورة داخل البلاد بموجب قانون منع الأنشطة غير المشروعة، وذلك لتورطها في أنشطة معادية للمجتمع. وفي عام 2012، أعلنت حكومة ولاية كيرالا أن الجبهة امتداد لحركة الطلاب الإسلامية في الهند المصنفة إرهابية. وتضم الجبهة جناحًا طلابيًّا واسع النشاط وجناحًا نسائيًّا. لكن اللافت في نشاطها هو ما كشفت عنه الشرطة الهندية قبل عامٍ من وجود ما يشبه “مشروع تمكين”، مشابه للمشروع الذي كشفت عنه السلطات المصرية عام 1992، فيما عرف حينذاك بـــ ” قضية سلسبيل”. وتشير الشرطة الهندية إلى أن الجماعة من خلال فرعها المحلي تعمل على “تحويل الهند إلى دولة إسلامية بحلول عام 2047، الذي يصادف مرور 100 عام على استقلال البلاد”. وتكشف وثيقة “التمكين” التي تحمل عنوان “الهند 2047.. نحو حكم الإسلام في الهند”، عن كيفية “إخضاع المجتمع الهندوسي وإعادة المجد الإسلامي المفقود إلى الهند”[23].

الخاتمة

وفقًا لفرهاد خسروخافار، يمكن اعتبار “ما بعد الإسلاموية” ظاهرة ذات ثلاثة أقطاب: الأول، تنويع المجال السياسي الإسلامي، أي زيادة تعقيده، مع الانتقال من رؤية متجانسة إلى تمثيل أكثر تنوعًا يتم فيه إدخال الفروق الدقيقة، وأشكال مختلفة تقريبًا من التعبير السياسي، بدءًا من ظاهرة مغلقة إلى أكثر انفتاحًا. ثانيًا، نقل النقاش العام نحو المجال الثقافي، بعد أن حُصر لعقود في مجال السياسة؛ وثالثًا ظهور أشكال جديدة وأحيانًا معارضة تشكّك في أسبقية السياسة، وحتى التنازع في السياسة كما كان يتصور من قبل الإسلاموية[24].

بناءً على هذا التحليل فإن منطقة جنوب آسيا تتجه نحو عصر ما بعد الإسلاموية تاركةً خلفها أكثر من أربعة عقود من الإسلام الراديكالي، وتمزقًا اجتماعيًّا هائلًا بسبب الحروب الأهلية والدولية والنزاعات الطائفية والعرقية. والذي تبدو مؤشراته ملخصةً في شيخوخة التنظيمات الإسلامية السياسية الإخوانية وغير الإخوانية، ومحافظة المجتمع – برغم حدّة موجة الصحوة الإسلاموية – على نوع من التدين الشعبي الصوفي المتسامح، الذي سيشكل أرضية لنقل نقاش مسائل التنوع الديني والمذهبي إلى المجال الثقافي بدلًا من تحويله إلى برنامج صراع سياسي على السلطة، وكذلك فشل تجارب التمكين الإسلاموي في أفغانستان، والمشاركة السياسية للجماعة الإسلامية في باكستان في حلّ المعضلات الاجتماعية والاقتصادية للقاعدة الاجتماعية، وظهور أجيال جديدة أكثر تعلمًا ومعرفة بالعالم من خلال التطور التقني، وتطور علاقات الإنتاج في المنطقة على نحو كبير، ما سيؤدي إلى تمكين أكثر للنساء، ويؤدي تاليًا إلى تطور في البنية الفوقية للمجتمع، لجهة الأفكار والسرديات السائدة.

المراجع

[1] Navnita Chadha Behera, International Relations in South Asia: Search for an Alternative Paradigm, India, SAGE Publications, 2008, P 129.

[2] Christophe Jaffrelot & Aminah Mohammad Arif (eds.), Politique et religions en Asie du Sud : Le sécularisme dans tous ses états ? Paris, Éditions de l’École des hautes études en sciences sociales, 2012, PP 10-12

[3] Bimal Kanti Paul, Islam in South Asia, Education About Asia, Volume 10:1, Spring 2005, Association for Asian Studies, https://www.asianstudies.org/publications/eaa/archives/islam-in-south-asia/

[4] Gilles Dorronsoro, Dynamiques entre champs religieux et politique. Le cas de l’Afghanistan, Dans : Christophe Jaffrelot & Aminah Mohammad Arif (eds.), Op.cit., P P 363-376.

[5] Bimal Kanti Paul, Op.cit.

[6] القانون واللائحة العامة للإخوان المسلمين لعام 1948.

[7] عبدالله العقيل، من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، الجزء الأول (د. ن، دار البشير، ط 7، 2008) ص 1085 – 1093.

[8] عباس السيسي، حكايات عن الإخوان (القاهرة، دار الطباعة والنشر والصوتيات، 1987) ص 19.

[9] تأسست حركة خاكسار في لاهور عام 1931 على يد عالم الرياضيات عناية الله خان المشرقي، الذي تلقى تعليمه في كامبريدج. كانت الحركة إسلامية بشكل صريح، لكنها ادعت أنها ترغب في منح حقوق متساوية لجميع الأديان، وكانت منظمة للغاية، واكتسبت بسرعة ملايين الأعضاء، وكانت لها صبغة عسكرية من خلال الزي الكاكي، والمسيرات المنظمة. أكدت فلسفة الحركة على مبادئ مثل الانضباط والتضحية بالنفس، وشجعت على انتشار الإسلام. دفعت معتقدات الحركة وزيها الرسمي العسكري إلى إجراء مقارنات مع المنظمات الفاشية المعاصرة في أوروبا. ويقال إن المشرقي التقى بهتلر في عام 1926 وتأثر بكتابه “كفاحي”، الذي ترجمه إلى الأوردية.

See: https://blogs.bl.uk/untoldlives/2016/05/the-khaksar-movement-in-the-persian-gulf.html

[10] Fredrick Grare, Political Islam in the Indian SubContinent: The Jamaat-e-Islami, Centre de Sciences Humaines, 2002، P 20

[11] FARHAN ZAHID, ROOTS OF RADICAL ISLAMIST IDEOLOGIES IN SOUTH ASIA (PART 2), TRIBUNE LIBRE N°42 / FÉVRIER 2014, https://cf2r.org/tribune/roots-of-radical-islamist-ideologies-in-south-asia-part-2/

[12] Ibid.

[13] Pakistan: Sirajul Haq re-elected Jamaat-e-Islami chief – https://www.aa.com.tr/en/asia-pacific/pakistan-sirajul-haq-re-elected-jamaat-e-islami-chief/1424883#

[14] Shazada Gulfam, Jamaat-I-Islami’s Agenda of Transforming Pakistan into an Islamic Polity: Prospects and Challenges, University of Peshawar, Peshawar – http://prr.hec.gov.pk/jspui/handle/123456789/18012

[15] Islam Nazrul and Saidul Islam, Islam and Democracy in South Asia: The Case of Bangladesh, Switzerland, Palgrave Macmillan Cham, 2010, pp 271- 273.

[16] International Crimes Tribunal، Bangladesh, https://www.ict-bd.org/

[17] Bangladesh: The Wind in Jamaat-e-Islami’s Sails is Worrying for India

 https://www.thequint.com/opinion/bangladesh-the-wind-in-jamaat-e-islamis-sails-is-worrying-for-india

[18] Unclear Future of ‘Muslim Brotherhood’ in Afghanistan After Taliban’s return, Al-Estiklal Newspaper,

https://www.alestiklal.net/en/view/10127/unclear-future-of-muslim-brotherhood-in-afghanistan-after-talibans-return

[19] عمرو النقيب، تفجيرات سريلانكا، موقع 24، 29 إبريل 2019، https://24.ae/article/504129/.

[20] Keith Bradsher and Sandra E. Garcia, Local Group Is Blamed for Attacks, but Sri Lanka Suspects ‘International Network’, New York times, April 22, 2019, https://www.nytimes.com/2019/04/22/world/asia/national-thowheed-jamaath.html

[21] Sri Lanka arrests the former Leader of Jamath-e-Islami https://www.milligazette.com/news/8-international/33824-sri-lanka-arrests-the-former-leader-of-jamath-e-islami/

[22] Pictures link Muslim Brotherhood’s Qaradawi to Sri Lanka plot suspects, Ahval, Apr 27 2019

https://ahvalnews.com/sri-lanka/pictures-link-muslim-brotherhoods-qaradawi-sri-lanka-plot-suspects

[23] Tanvir, Z. PFI threat: Why India should not underestimate Muslim Brotherhood’s tentacles. Firstpost – July 19, 2022,https://www.firstpost.com/opinion/pfi-threat-why-india-should-not-underestimate-muslim-brotherhoods-tentacles-10930861.html

[24] Farhad KHOSROKHAVAR, “Conclusion”, Cahiers d’études sur la Méditerranée orientale et le monde turco-iranien [Online], 26 | 1998, Online since 16 May 2005, connection on 29 May 2023. URL : http://journals.openedition.org/cemoti/304 ; DOI : https://doi.org/10.4000/cemoti.304

المواضيع ذات الصلة