Insight Image

وباء “كوفيد-19”: كيف سيعيد صياغة مفاهيم وسياسات الأمن الوطني؟

16 أبريل 2020

وباء “كوفيد-19”: كيف سيعيد صياغة مفاهيم وسياسات الأمن الوطني؟

16 أبريل 2020

منذ ظهور فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” في ديسمبر من العام 2019، والحديث لا يتوقف من جانب الباحثين والخبراء حول تداعياته المستقبلية على كافة مناحي الحياة الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والاجتماعية، والأمنية إلى درجة أن مقولة “عالم ما بعد كورونا” باتت مصطلحاً دارجاً يتم تداوله على نطاق واسع، في إشارة إلى التحولات التي قد تحدث في المستقبل نتيجة هذا الوباء المتفشي في العديد من دول العالم.

ولا شك في أن الأمن الوطني، كمفهوم وسياسات، يعد أحد أهم المجالات التي قد تشهد تغييرات جذرية في الفترة المقبلة، لا سيما بعد أن انكشفت هشاشة منظومة الأمن الصحي في العديد من الدول المتقدمة التي بدت عاجزة عن التعامل مع هذا الفيروس واحتواء انتشاره السريع؛ ولهذا فإن مرحلة ما بعد كورونا قد تشهد إعادة النظر في مفهوم الأمن الوطني لتعيد الاعتبار إلى الأمن الإنساني بمفهومه الشامل الذي يتضمن أمن الفرد، والمجتمع، والدولة معاً، وتضع الأمن الصحي في مقدمة الأولويات التي ينبغي على جميع دول العالم إدراجها ضمن سياسات الأمن الوطني الشامل.

اتجاهات التطور في مفهوم الأمن الوطني خلال العقود الماضية

لمعرفة التأثير المتوقع لوباء فيروس كورونا المستجد على الأمن الوطني كمفهوم وسياسات، قد يكون من المهم إلقاء نظرة سريعة على اتجاهات تطوره خلال العقود الماضية، فكما هو معروف فإن مفهوم الأمن الوطني من المفاهيم المتغيرة التي شهدت تحولا في معانيها ودلالاتها يُمكن رصدها من خلال مجموعة من  النظريات والمقاربات التي فسرته، ولعل أهمها:

  1. الاتجاه الواقعي (التقليدي)، وساد خلال حقبة الحرب الباردة، وكان يركز على الأمن العسكري باعتباره حجر الأساس في العلاقات الدولية، ويتعامل مع السياسة الدولية باعتبارها صراعًا على السلطة بين الدول العظمى التي تسعى إلى تحقيق مصالحها القومية عن طريق تحقيق السيادة وتأمين وحدة أراضيها[1] .

والدولة بالنسبة لأصحاب هذا الاتجاه هي محور الأمن الوطني – القومي، وبالتالي يجب أن تكون أقوى عسكريًا من الدول المنافسة لها سواءً عن طريق بناء قاعدة عسكرية قوية وتحقيق السيادة العسكرية أو على الأقل تحقيق توازن القوى العسكري مع الدول الأخرى[2]؛ غير أن ما يؤخذ على هذا الاتجاه أنه تجاهل الكثير من التطورات التي لحقت بمفهوم الأمن، ومن ثم فإنه لا يصلح كإطار للتحليل ولا يفيد في دراسة الصراعات الاجتماعية المتولدة أو الممتدة، والتي تشكل اليوم نسبة كبيرة من الصراعات في العديد من دول العالم[3].

  1. الاتجاه الاقتصادي الاستراتيجي، وظهر بقوة في أعقاب حرب السادس من أكتوبر عام 1973 وتصاعد أزمة الطاقة، حيث صار تأمين الموارد الحيوية جزءًا لا يتجزأ من نظرية الأمن القومي بالمعنى الأوروبي عمومًا، والأمريكي بصورة خاصة. وأصبح التركيز في هذه المرحلة منصباً على الأمن الاقتصادي كهدف من أهداف الدولة بمعنى تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي، وعدم الرضوخ للضغوط الاقتصادية من الخارج مهما كانت طبيعتها؛ فالسيادة الاقتصادية هي لب الأمن الوطني – القومي للدولة، بما تعنيه من قدرة على التحكم في أكبر عدد ممكن من أدوات السياسة في المجال الاقتصادي، ومع هذا الاتجاه أصبحت التنمية والأمن وجهان لعملة واحدة[4].

بيد أن هذا الاتجاه تعرض هو الآخر لبعض الانتقادات، لأنه تجاهل بعض الأبعاد المهمة للأمن الوطني؛ فالبعد الاقتصادي قد يكون أحد الأبعاد المهمة للأمن، لكنه ليس البعد الرئيسي، وإنما يتحدد وزنه النسبي حسب الأحوال السائدة في المجتمع والمخاطر التي يتعرض لها، ووجد هذا الاتجاه معارضة شديدة في الدول النامية التي تتميز بندرة مواردها الاقتصادية وضغط الحاجات والمطالب من جانب مواطنيها، فضلاً عن النفقات الباهظة المطلوبة لتحقيق عملية التنمية[5].

  1. الاتجاه التكاملي، ويتبني رؤية شاملة في النظر إلى طبيعة التهديدات التي تواجه الأمن الوطني –القومي لأي دولة لتشمل كافة الأخطار التي تهدد أمن الإنسان، وهو لا يركز على الدولة فقط، وإنما على الفرد والمجتمع والأخطار التي تواجههما، سواءً داخل الحدود القومية أو خارجها، مثل تهديد الحركات الإرهابية والتهديدات الاقتصادية والبيئية والأيديولوجية، وكذلك الكوارث الطبيعية، فحينما تتخطى هذه الأخطار حدود الدولة أو تشترك فيها أكثر من دولة تصبح تهديدًا مشتركًا أو عامًا للأمن والسلم الدوليين.

 وينطلق هذا الاتجاه من أهمية تعزيز التعاون الدولي في مواجهة مصادر التهديد الجديدة التي تواجه أمن الدول والمجتمعات، لأن الآثار الناجمة عنها لم تعد تقتصر على دولة أو منطقة بعينها[6]. وذلك على النحو الذي أظهره بوضوح فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” الذي ظهر في الصين، ثم انتشر إلى معظم دول العالم، ليشكل خطراً تهديداً للأمن الوطني والقومي والدولي.

وباء كوفيد 19 سياسات الأمن الوطني

“كوفيد-19: لماذا يشكل تهديداً للأمن الوطني والقومي والدولي بمفهومه الشامل؟

تشير التداعيات الكارثية لانتشار وباء فيروس كورونا المستجد في المجالات كافة بما فيها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية – والتي ما تزال تتفاعل في معظم دول العالم–  بوضوح إلى أن هذه النوعية من الأوبئة المتفشية باتت تشكل تهديداً للأمن بمستوياته المتعددة، الوطني والقومي والدولي، وذلك على النحو التالي: 

  1. تهديد الأمن الإنساني: إذ أن الارتفاع المتزايد في أعداد الوفيات والإصابات في جميع دول العالم وخاصة في أوروبا والولايات المتحدة نتيجة لهذا الوباء يضع المجتمع الدولي أمام كارثة إنسانية غير مسبوقة؛ فسرعة انتشار هذا الوباء وحجم الخسائر البشرية الناجمة عنه تشكل تحدياً وجودياً ليس للنظام الدولي فحسب بل للبشرية أجمع[7]، خاصة مع صعوبة التوصل إلى لقاح أو علاج آمن لهذا الفيروس في المدى القريب. كما تشير التقديرات إلى أن ذلك لن يتم قبل عام على الأقل، مع ما يعنيه ذلك من تزايد المخاوف من انتشار الوباء وعدم القدرة على السيطرة عليه واحتواء تداعياته، ومن ثم تهديد الأمن الصحي للملايين حول العالم.
  1. تهديد الأمن الاجتماعي: إذا كان الأمن بمفهومه الشامل يتضمن أبعاداً عديدة، على غرار ما سبقت الإشارة إليه، فإن وباء كورونا يشكل تهديداً متنامياً للأمن الاجتماعي، خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار الآثار الخطيرة المترتبة على هذا الوباء من فقدان للوظائف في العديد من دول العالم، وارتفاع معدلات البطالة فيها، وتراجع مستوى الخدمات المقدمة للأفراد في بعض الدول جراء إغلاق المؤسسات والتوقف عن الأعمال، فكل هذا قد يؤدي إلى حالة من الغضب التي قد تتطور إلى حركة احتجاجية تهدد الأمن والاستقرار المجتمعي.

الخطير في الأمر أن ضحايا هذا الوباء من الأفراد الذين فقدوا وظائفهم أو لم يحصلون على الدعم والرعاية الصحية المطلوبة، قد يقومون بممارسات خارجة عن القانون، كالسرقة ونهب المؤسسات على غرار حدث من قبل في أزمات وكوارث سابقة[8]. وقد لفتت، في هذا السياق، مجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية في دراسة نشرت في شهر مارس 2020 النظر إلى أن الولايات قد تواجه عاصفة اقتصادية محتملة يمكن أن تدفع البلاد إلى حالة من الركود جراء تفشي هذا الفيروس. وحذرت من أن الاضطراب الاجتماعي الذي يمكن أن يسببه هذا الفيروس على المدى القريب لملايين الأمريكيين قد يؤدي إلى تهديد الأمن القومي الأمريكي[9].

المنطقة العربية لن تكون هي الأخرى بمنأى عن الاضطرابات الاجتماعية الناجمة عن هذا الوباء في ظل ما يثار حالياً عن خسائر فادحة في الوظائف نتيجة لتفشيه، واتجاه القطاع الخاص في العديد من الدول العربية إما إلى التخلي عن نسبة كبيرة من العمالة أو تخفيض رواتبها ومميزاتها[10]؛ ولهذا فقد حذرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا”  من أن “كوفيد-19” يمكن أن يتسبب بخسارة أكثر من 1.7 مليون وظيفة في العالم العربي، مع ارتفاع معدّل البطالة بمقدار 1.2%.

وتوقّعت اللجنة أيضاً أن يتراجع الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية بما لا يقل عن 42 مليار دولار هذا العام على خلفية تراجع أسعار النفط وتداعيات تفشي فيروس كورونا المستجد[11]. كما أشارت الإسكوا في أحدث تقاريرها الصادرة في الأول من أبريل 2020 إلى أن “كوفيد-19” سيقذف بحوالي 8.3 مليون شخص إلى براثن الفقر، وتوقعت أن يصنف ما مجموعه 101.4 مليون شخص في المنطقة في عداد الفقراء، وسيبلغ عدد الذين يعانون من نقص في التغذية حوالي 52 مليونًا، وذلك في مؤشرات تعكس خطورة التداعيات المترتبة على هذه الوباء في العالم العربي، ولا سيما على النساء والشباب والشابات، والعاملين في القطاع غير النظامي ممّن لا يستفيدون من خدمات الضمان الاجتماعي ولا من التأمين ضد البطالة.

كما يمكن أن يؤثر وباء “كوفيد-19″، فضلا عما تقدم ذكره، على الأمن الغذائي في العديد من البلدان العربية بسبب اعتمادها الكبير على الواردات الغذائية، في الوقت نفسه[12]، ومما لا شك فيه أن هذا يمثل تهديداً محتملاً للأمن الاجتماعي في الدول العربية، خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار أن هذه الأوضاع التي ترتفع فيها معدلات البطالة، وتغيب فيها الخدمات الاجتماعية، تشكل بيئة خصبة لانتشار التطرف والإرهاب كما أثبتته ذلك تجارب السنوات الماضية.

  1. تهديد الأمن الجماعي الدولي: كشف فيروس كورونا المستجد هشاشة منظومة الأمن الجماعي الدولي بوضوح، وأبان عن عدم قدرتها على التصدي للتهديدات غير التقليدية التي تواجه العالم، كالأوبئة المتفشية؛ صحيح أن منظمة الصحة العالمية تقوم بدور مهم وفاعل في مواجهة هذا الوباء، إلا أنه لا توجد إرادة دولية موحدة في مواجهة هذه النوعية من الأوبئة المتفشية، فبدلاً من التعاون في مواجهتها وتطوير استجابة دولية استباقية، فقد تصاعدت وتيرة الخلافات بين الدول الكبرى حول المسؤولية عن انتشار الفيروس.

كما أظهرت طريقة تعامل العديد من دول العالم مع هذا الوباء أوجه الخلل التي تعتري منظومة الأمن الجماعي الدولي التي كانت تركز بالأساس على المصادر التقليدية من صراعات ونزاعات مسلحة وحروب باعتبارها مهددات للأمن والسلم الدوليين في شبه تجاهل كامل للمصادر الجديدة من التهديدات غير المنظورة مثل الأوبئة العابرة للحدود، والتى تفوق أعداد ضحاياها البشرية وتداعياتها الاقتصادية ضحايا النزاعات والحروب.

“كوفيد-19”: كيف سيؤثر في سياسات الأمن الوطني للدول والمجتمعات؟

إذا كانت جائحة فيروس كورونا المستجد قد أفرزت، وما تزال، العديد من التداعيات الكارثية على العالم بأسره في المجالات المختلفة، وخاصة في ما يتعلق بالأمن الإنساني والاجتماعي، فإنها قد تؤسس لتحول في طبيعة سياسات الأمن الوطني والقومي والدولي خلال الفترة المقبلة، وذلك في المجالات التالية:

  1. إعادة التركيز على مفهوم الأمن الصحي باعتباره أهم متطلبات تحقيق الأمن الوطني الشامل للدول والمجتمعات، مع ما يعنيه ذلك من استثمار متزايد في إجراء الأبحاث العلمية لابتكار الأمصال واللقاحات للأمراض المختلفة، وزيادة نسبة الموازنات المخصصة لقطاع الصحة فى ميزانيات الدول؛ خاصة في ما يتعلق بالاهتمام بتطوير وتوفير المستشفيات والاهتمام بالقطاع الطبى، باعتبارها تدخل في صلب الأمن الوطني الشامل للدول والمجتمعات[13].

 كما أنه من المتوقع، في الوقت ذاته، أن يتزايد الاهتمام في المستقبل بمواجهة الفيروسات والأوبئة المتفشية باعتبارها من أخطر مهددات الأمن القومي للدول، حتى أن دورية “الشؤون الخارجية” الأمريكية الشهيرة نشرت مقالاً في شهر مارس 2020، ووضعت له عنواناً لافتاً هو “الأمراض الوبائية تهديد للأمن القومي، وعلى واشنطن أن تتعامل معها هكذا”[14]، وذلك في إشارة واضحة إلى ما تشكله من خطورة على أمن الدول والمجتمعات.

لقد أعاد وباء كورونا الاعتبار مجدداً إلى مفهوم الأمن الصحي، وبات الآن من المفاهيم المتداولة من الباحثين والخبراء في مجالات الأمن القومي، ويتوقع أن تقوم العديد من دول العالم، وخاصة التي عانت بشدة وما تزال على غرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بإعادة النظر في سياسات الأمن الصحي في المستقبل كي لا تتكرر التداعيات الكارثية لوباء فيروس كورونا المستجد في المستقبل، بل أن هناك من يذهب إلى أن هذا الوباء سيفرض على هذه الدول أن تضع الأمن الصحي على رأس أولوياتها، وبدرجة الاهتمام نفسها التي تحظى بها التكنولوجيا والأمن الدفاعي، خاصة بعد أن أثبتت الأنظمة الصحية القائمة في الدول الغنية عدم قدرتها على التعامل الفوري والاحتوائي لجوائح مماثلة لكورونا[15].

  1. تغيير أولويات الأمن الجماعي الدولي والتركيز على الأمنين الإنساني والمجتمعي حيث أن أزمة كورونا، من دون شك، ستعيد الاعتبار إلى مفهوم الأمن الإنساني وأمن المجتمعات، وستؤكد مجدداً أهمية التضامن الدولي في مواجهة الأزمات والكوارث الإنسانية، وخاصة الأمراض المتفشية والأوبئة العابرة للحدود. كما وقد يتراجع التركيز – ولو مرحلياً – على المفاهيم الأمنية والعسكرية التقليدية، كالأحلاف العسكرية وسباق التسلح، والصواريخ الاستراتيجية الهجومية العابرة للقارات، بعد أن ثبت بوضوح أن أجهزة التنفس الصناعي تفوق في أهميتها ترسانات الأسلحة التي تمتلكها العديد من القوى الكبرى في العالم.

ومن المتوقع مع استمرار الآثار الخطيرة الناجمة عن وباء كورونا، أن تشهد الفترة المقبلة اهتماماً متزايداً من جانب جميع دول العالم بالأمن الإنساني الشامل، ليكون المظلة الأوسع للأمن الوطني، الذي لا يقتصر فقط على الدولة وإنما يشمل الأفراد والمجتمع بوجه عام، بعد أن أثبت وباء كورونا أن الأمن الوطني التقليدي الذي يتخذ من الدولة وحدته الأساسية لم يعد ضامنا أو كفيلا بتحقيق أمن الأفراد، فالأمن الحقيقي هو الذي يرتبط بالإنسان من منطلق أن تحرر البشر من الخوف هو الغاية والهدف، فافتقاد الإنسان الشعور بالأمن قد يؤدى فى النهاية إلى تقويض الأمن الوطنى[16].

  1. بروز أدوار جديدة لمؤسسات الأمن والدفاع في معظم دول العالم بحيث لن تقتصر هذه فقط على التصدي للتهديات والأخطار التقليدية التي تمثل تهديداً للأمن والاستقرار، وإنما تتضمن المشاركة في مواجهة التهديدات الجديدة التي تواجه الأمن الإنساني؛ فمع الآثار الناجمة عن وباء كورونا أصبحت مؤسسات الجيش والشرطة تقوم بدور مهم في الحماية الأمنية في مستواها الإنساني، وتحول دورها من إدارة الحروب والنزاعات إلى تعزيز الأمن الإنساني وتوفير أوجه الحماية للأفراد والمجتمعات[17].

كما أنه من الملاحظ، وخصوصا في ظل استمرار انتشار وباء فيروس كورونا المستجد وعجز المؤسسات المدنية عن مواجهته، لجوء العديد من دول العالم إلى جيوشها للمساعدة في مواجهة هذا الوباء؛ ففي منطقة الشرق الأوسط لجأت حكومات دول مثل جمهورية مصر العربية، والمملكة الأردنية الهاشمية، والجمهورية التونسية إلى جيوشها للمساعدة في مواجهة الفيروس[18]. كما  أصبحت الجيوش في دول الاتحاد الأوروبي أحد سبل مواجهة الفيروس، إذ قامت فرنسا باستدعاء جنودها لفرض حالة الطوارئ، ونشرت قواتها في المناطق المتضررة، في حين أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون عن بدء إقامة مشفى عسكري في منطقة الألزاس، القريبة من الحدود الألمانية. بينما لجأت إسبانيا للجيش بالفعل لفرض حظر التجول، فيما قررت السلطات السويسرية تعبئة نحو 8 آلاف جندي لتقديم يد المساعدة للحكومة في حال تفشي المرض، وفي إيطاليا – الأكثر تضرراَ بالفيروس حتى الآن – وافقت الحكومة على نشر الجيش لفرض العزل في المناطق الموبوءة بـ “كوفيد-19”[19].

ولا شك في أن تزايد اللجوء إلى الجيوش للمساعدة في مواجهة هذا وباء يرجع بالأساس إلى ما تمتلكه من قدرات هائلة، فنية ولوجستية وتقنية تمكنها من التعامل مع الأوبئة، إلى جانب أن أفرادها مدربون على العمل في عالم من الأسلحة البيولوجية، ويملكون المعدات الثقيلة وتجهيزات الحماية الشخصية اللازمة للعمل داخل بيئة مصابة. كما تمتلك الجيوش، في الوقت ذاته، مؤسسات طبية ضخمة وقدرات بحثية يمكن تطبيقها على العلاجات التكتيكية والبحث عن لقاحات وعقاقير مسكنة، وتستطيع توظيف قدراتها اللوجستية في بناء مستشفيات كاملة متنقلة في غضون أيام، ومن ثم فإنها يمكن أن تقوم بدور حيوي في مواجهة هذا الوباء القاتل[20].

  1. إعادة النظر في معايير قياس القوة الشاملة للدولة حيث أن الرؤية التقليدية السائدة قبل كورونا كانت تنظر إلى القوة الشاملة لأية دولة من منظور عسكري واقتصادي وأمني، غير أن وباء كورونا أضاف معايير جديدة لقياس القوة الشاملة للدول في المستقبل، وفي مقدمتها وجود منظومة صحية قوية تضمن الحفاظ على المستوى الصحي للسكان والبنية الصحية الأساسية، ومنظومة متطورة من البحث العلمي. وستصحب صحة الشعب معياراً أساسى لقياس قوة الدولة ومركزها ونفوذها فى النظام الدولى[21]، ولعل مشهد التنافس بين القوى الكبرى حالياً على إنتاج المستلزمات الطبية، من كمامات وأجهزة تنفس صناعي وغيرها، والعمل على اكتشاف أدوية وأمصال لعلاجات هذه النوعية من الأوبئة يؤكد ذلك بوضوح[22].
  1. تزايد الاهتمام بالأمن السيبراني إذ توجهت في ظل إجراءات العزل الاجتماعي التي تطبقها العديد من دول العالم لمواجهة فيروس كورونا المستجد العديد من الهيئات الحكومية والمؤسسات والشركات لتخفيض اعتمادها على كوادرها البشرية، وتم اعتماد آلية العمل عن بعد. كما اعتمدت المؤسسات التعليمية على الرقمنة وأدوات التعليم الإلكتروني، فضلاً عن تزايد الاعتماد على الانترنت لتسيير وتشغيل الأنظمة الصحية والتجارة الإلكترونية والمعاملات البنيكة، وهو ما يرفع من احتمالات حدوث هجمات سيبرانية[23].

ولهذا فإن ثمة تحذيرات من أن يؤدي الاعتماد المتزايد على الأنظمة الرقمية والمنصات الافتراضية في إدارة الأعمال عن بعد إلى وجود بعض الثغرات التقنية التي قد ينفذ منها القراصنة لشن هجمات إلكترونية ضد بعض المؤسسات وتعطيلها عن العمل، وقد حاول المتسللون بالفعل اقتحام منظمة الصحة العالمية في بداية مارس 2020.

فضلاً عن تنامي المخاوف من تزايد الجرائم الإلكترونية التي تستهدف الحسابات المصرفية،  والتجسس الإلكتروني على شركات المال والأعمال، وهي مؤشرات على تصاعد مصادر التهديد التي يمكن أن تواجه الأمن القومي للعديد من دول العالم خلال المرحلة المقبلة [24]، ما يحتم عليها الاهتمام بتطوير أمنها الرقمي والإلكتروني، لضمان الاستمرار في تسيير إدارة أعمالها عن بعد.

 كيف يمكن الاستعداد الاستباقي للتحديات الأمنية الجديدة؟

في ظل التداعيات الكارثية لوباء كورونا بات على المجتمع الدولي التحرك بشكل جاد وفاعل لمواجهة هذه النوعية من الأوبئة القاتلة، التي تشكل تهديداً لجميع دول العالم، وذلك من خلال التحرك على عدة مسارات:

  1. إعادة النظر في السياسات الأمنية والدفاعية بحيث تأخذ في الاعتبار التحولات التي نتجت عن هذا الوباء، فإذا كانت مرحلة ما قبل كورونا ركزت على قضايا التسلح المتعلقة بالردع النووي مع انتشار الأسلحة النووية، أو الجريمة المنظمة، أو الإرهاب، والتنظيمات المتطرفة العابرة للحدود التي شكلت مصدر التهديد الرئيسي خلال السنوات الماضية، فإن مرحلة ما بعد كورونا ينبغي أن تركز على بناء منظومات صحية متطورة تكون قادرة على التعامل الاستباقي مع هذه النوعية من الأوبئة العابرة للحدود، وتعزيز الأمن الصحي للأفراد والمجتمعات.
  1. إيلاء مزيد من الاهتمام بالإدارة الدولية للأزمات والكوارث التي تشكل تهديداً للأمن الوطني والقومي والدولي، خاصة أن وباء كورونا أظهر بوضوح غياب الاستجابة الدولية الاستباقية في التعامل مع الأزمات الطارئة.
  1. إعادة الاعتبار لدور الدولة في الإشراف على الخدمات الرئيسية، كالصحة والتعليم، خاصة أن أزمة وباء كورونا كشفت بوضوح عجز العديد من الحكومات في الدول المتقدمة عن الوفاء بتقديم خدمات الرعاية الصحية إلى مواطنيها، بينما استطاعت حكومات عديدة التعامل مع هذا الوباء واحتواء انتشاره بدرجة كبيرة، لأنها استثمرت في بناء منظومة صحية ووقائية متطورة ضمنت من خلالها تحقيق الأمن الصحي لمواطنيها، بل وأصبحت تقوم بدور فاعل في مواجهة انتشار هذا الوباء عالمياً، ومن الأمثلة على ذلك جمهورية الصين الشعبية التي بادرت إلى تقديم مساعدات لإيطاليا واسبانيا وصربيا. كما لعبت دولة الإمارات العربية دوراً فاعلاً في هذا الشأن من خلال تقديم المساعدات للعديد من دول العالم لمواجهة هذا الوباء، ومعنى ما سبق أن مرحلة ما بعد كورونا قد تشهد تحولاً لصالح تعزيز دور الدولة في رسم سياسات الأمن الصحي، وبما يضمن التعامل الاستباقي مع هذه الأوبئة واحتواء تداعياتها السلبية.

خاتمة

رغم أن وباء كورونا لم ينته بعد، ويواصل الانتشار وحصد المزيد من الأرواح كل يوم، إلا أنه كشف أوجه القصور في النظريات والمفاهيم الأمنية التي سادت لعقود، وأعاد الاعتبار لأهمية الاستثمار في الأمن الإنساني بمفهومه الشامل، الذي يواكب متطلبات الشعوب من الاحتياجات الضرورية، وفي مقدمتها الأمنين الصحي والغذائي. كما أثبت أن مئات المليارات التي أنفقتها القوى الكبرى على تطوير السلاح لو تم توجيه جزء منها على تطوير منظومات الأمان الصحي والاجتماعي كان أجدى في مواجهة هذه الجائحة التي تهدد حياة ملايين البشر حول العالم.


[1]– ليون جي مارتن، “آفاق جديدة للأمن القومي في الشرق الأوسط”، مجلة شئون خليجية، مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية، العدد(14) مارس 2000، ص ص 30-32.

[2]–  Ray Cline,”World Power Trends and U.S. Foeign Policy For The 1980”,Boulde;GO,Westriew Press.1980,p.16

[3]–  د.عبد المنعم المشاط، “نظرية الأمن القومي العربي المعاصر”، (القاهرة، دار الموقف العربي، ،1989)، الطبعة الأولى،  ص ص 16-17.

[4]–   J..Holsen and J.Waelboeck ,”The Less Developed Countries and The International Monetary Mecanism”,Proceedings of The American Economic Assosiation,Vol BB,May 1974,pp139-140

[5]– دكتور محمود خليل، “أزمة المياه في الشرق الأوسط والأمن القومي العربي والمصري”،(القاهرة، المكتبة الأكاديمية، 1998)،  ص ص 18-20.

[6]–  د.محمد قدري سعيد ، “مفهوم الأمن، موسوعة الشباب السياسية”، (القاهرة، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، مؤسسة الأهرام، 2000)، ص ص 15-17

[7]    د. منصور أبو كريم، التحديات الجديدة للنظام الدولي: الأمن الإنساني والصناعي في مواجهة فيروس كورونا، المركز الديمقراطى العربى، مارس 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/33ZeVBk

[8] – دلال محمود، الأمن والكورونا: معادلة صفرية، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 23 مارس 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2ywov2P

[9]–  Daniel L. Davis, The Cost of Coronavirus: America’s Economy Could Become a Victim, National Interest, March 10, 2020, https://bit.ly/2JuANL7

[10]    د. منصور أبو كريم، مصدر سبق ذكره.

[11] –  موجز سياسات حول كلفة فيروس الكورونا الاقتصادية على المنطقة العربية، الإسكوا، 18 مارس 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2XhjCoI

[12]–  فيروس كورونا: التخفيف من أثر الوباء على الفقر وانعدام الأمن الغذائي في المنطقة العربية ، الإسكوا ،1 أبريل 2020،  من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2UMlnIP

[13]   د أحمد سيد أحمد، كورونا والحاجة لنظام عالمى جديد، صحيفة الأهرام(القاهرة)، 1 أبريل 2020.

[14] – Lisa Monaco ,Pandemic Disease Is a Threat to National Security Washington Should Treat It Like One, Foreign Affairs, March 3, 2020, https://fam.ag/3dHhGve

[15]–  إدغار جلاد، فيروس كورونا: ما بعد الجائحة لن يكون كما قبلها، هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”،  1 أبريل 2020ـ من خلال الرابط التالي: https://bbc.in/2UPFJRl

[16] – مصطفى كامل السيد، كورونا وسد النهضة والتهديدات الجديدة للأمن القومى، صحيفة الشروق(القاهرة)، 15 مارس 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/39v0q9e

[17] –  منى عبد الفتاح، كورونا” ومعضلة التكيف المتوازن بين الأمنين… القومي والإنساني، اندبندنت عربية، 25 مارس 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3aFcBSx

[18] –  DIMA ABUMARIA, Corona as Security Threat: Mideast States Call Out Army, themedialine, 23/3/2020, https://bit.ly/2Jlznmm

[19] -جيوش وقوات عسكرية وشرطية في ساحة الحرب ضد كورونا، موقع دويتش فيله(ألمانيا)، 21 مارس 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/33SRBVM

[20] – جيمس ستافريديس، محاربة الأوبئة من مهمات الجيوش، صحيفة الشرق الأوسط(لندن)، العدد (15049)، 10 فبراير 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2WUoNdS

[21] -د أحمد يوسف أحمد، سباق الكمامات ، صحيفة الاتحاد(أبوظبي)، 7 أبريل 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2VcvJR6

[22] –   Yoav Frome, Coronavirus proves a country is only as powerful as its people are healthy, the Washington post, April 7, 2020, https://wapo.st/2VemlwB

[23] –  محمد حسن، تداعيات متشابكة.. كيف هدد فيروس كورونا منظومات الأمن القومي للدول؟، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 24 مارس 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2JlCryK

[24] –  دلال محمود، أزمة فيروس كورونا المستجد.. لحظة فارقة، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 1أبريل 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3dQuP5r

المواضيع ذات الصلة