في التمهيد:
جاء في القرآن الكريم: { هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدة، وجعل منها زوجها ليسكن إليها} (سورة الأعراف: 189). وهكذا فوحدة بني الإنسان مقولة مقررة في القرآن الكريم. وحتى الاختلاف الحاصل بالذكورة والأنوثة واختلاف الألوان والأعراق، والذي يقول به القرآن أيضًا، يظل تنوعًا وإثراءً وينبغي أن يكون تكاملًا بمقتضى التعارف الذي طالب القرآن به الناس جميعًا: { يا أيها الناس إنّا خلقْناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا؛ إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم} (سورة الحجرات: 13) بيد أنّ هذه المقولات المقررة استنادًا إلى أصل الخلق، ما لقيت على الدوام اعترافًا من أهل القوة ودعاة التفوق عبر التاريخ من المسلمين وغيرهم. وفي القرآن الكريم أيضًا: { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضُنا بعضًا أربابًا من دون الله فإنّ تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون} ( سورة آل عمران: 64). فالكلمة السواء، بحسب الآية ألا يسود أناس على أناس، وألا يخضع أناس لأناسٍ بحيث يتخذونهم بمثابة الأرباب، ضَعفًا واستضعافًا. ولذلك كله فقد ذهبت إلى وجود منظومةٍ للقيم في القرآن أو كليات؛ هي: المساواة استنادًا لوحدة الخلق، والرحمة، والعدل، والتعارف، والمعروف، والخير العام، والسلام. وإنما في أكثر عهود التاريخ غلبت بين الأديان والأمم والإمبراطوريات نزعات ونزاعات القوة والغلبة التي استندت زورًا وبهتانًا إلى الأفضلية والتفوق، وأنّ هذا الجنس أو العِرق يفوق ذاك، بحيث يسوغ له السيطرة عليه.
لقد استظهرتُ في دراسةٍ لي* أنّ آخِر من قال بالأخُوة بين الناس استنادًا للقرآن، كان الشيخ محمد عبدالله دراز في أطروحته: دستور الأخلاق في القرآن، في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين. أما الآخرون من المفسّرين المحدثين والمفكرين فلم يهتموا بذلك تظلمًا وانظلامًا من أطروحات استراتيجيي الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد أحسن دراز عندما نقل المسألة من البيولوجيا والفسيولوجيا إلى الأخلاق والقيم أي إلى الثقافة. فحتى وقتٍ قريبٍ كما هو معروف كان أيديولوجيون عنصريون يذهبون إلى افتراق الناس حتى في أجسادهم وأدمغتهم وقدراتهم في بناء المدنية وإحقاقهم لإنسانية الإنسان!
في أصل المشكلة:
ولنصِرْ إلى ملف الأخُوة الإنسانية في الأزمنة المعاصرة. الخلاف العميق الذي أوصل إلى انشقاقات في فهم الدين في مجالنا، كان في الحقيقة خلافًا على العلاقة بالعالم، والعالم المعاصر بالذات. فبسبب التفوق الأوروبي الثقافي والعسكري في زمن الاستعمار، ظهرت نزعات تحولت إلى تيارات وأحزاب، لمواجهة التفوق الغربي، واجتراح سبيل خاص للنهـوض باسـم الإسـلام.
وقد تحـدث هـؤلاء عن مواجهـة الغـزو العسكري والغزو الثقافي الغربي؛ واعتماد مقولة التجدد الذاتي بالعودة إلى الأصول الطهورية، بعيدًا عن الغرب، وعن “أزمنة الانحطاط” في القرون الأخيرة. وما كانوا وحيدين على الساحة الإسلامية، فقد ظهرت تيارات تحديثية تقول بضرورة الإفادة من التقدم الغربي من أجل التحرر منه أو القدرة على منافسته وإخراجه من ديارنا. بيد أنّ ظروف القرن العشرين الذي سادت فيه نزعات الغلبة من سائر الأطراف الغربية، ولّدت تذمرات ووجوه تشاؤم أفادت منها تيارات وشخصيات المواجهة والقطيعة والقول بالأصيل في مواجهة الدخيل، بحيث تحول النزاع داخليًا على الأرض وفي الفكر وفي التصرف؛ فصار الأمر إلى انشقاقاتٍ تتحدى العالم، وتتحدى اتجاهات الاعتدال والاستقرار في ديارنا ودولنا الوطنية. وفي حين انصرفت تيارات الاعتدال والإنصاف إلى مجادلة الفكر اليميني الصاعد القائل بصراع الحضارات – باعتبارنا جزءًا من العالم، ولا نريد مصارعته، بل نريد العيش فيه ومعه بسلام – ذهب الانشقاقيون باتجاه العنف الساطع مع العالم (هجوم القاعدة على الولايات المتحدة ، ونشر الإرهاب في أوروبا)، والارتداد نحو العنف في ديارنا، وإقامة دويلات باسم الإسلام المظلوم؛ تسببت في قتل ألوفٍ من الناس، كما تسببت استطرادًا في تهجير الملايين، وجلبت كل جيوش القوى العالمية إلى بلادنا بحجة مكافحة الإرهاب!
ومن أجل حفظ الدين من شذوذات الأقلية المجرمة، وحفظ الاستقرار والعلاقات بالعالم، نهضت دولنا الوطنية مع العالم بمواجهة تنظيمات وتيارات التطرف والإرهاب، ودعمت المؤسسات الدينية من أجل استعادة السكينة في الدين، والدفاع عن شرعية الدول الوطنية وضرورتها للاستقرار والتنمية، وإجراء إصلاح ديني؛ ما نجح من قبل في الوصول إلى الآفاق المرجوة.
كانت المؤسسات الدينية قد غادرت ساحات النهوض والمواجهة للمشكلات من زمن. وسكتت غالبًا على مزاعم الصحويين أنّ شيوخها صاروا فقهاء السلطان. وأمام التحديات الهائلة والمستجدة احتاجت للتأهّل من أجل التأهيل. فكانت هناك وبدعمٍ قويٍّ من الدول الوطنية ثلاث موجات ضمن عمليات التأهل والتأهيل، هي: المواجهة المباشرة لمقولات الصحويين والإرهابيين- واجتراح أفكار وبرامج للإصلاح وسحب الريح من أشرعة المتطرفين – والاتجاه إلى شراكاتٍ مع الأديان والثقافات في العام. وقد عملت على ذلك دون تنسيق فيما بينها عدة جهات: الأزهر بمصر وأبوظبي، ومنتدى تعزيز السلم من أبوظبي، ومبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ثم رابطة العالم الإسلامي بالسعودية، ووزارة الأوقاف وهيئات العلماء بالمملكة المغربية، والهيئات الدينية بالمملكة الأردنية الهاشمية.
في التأهل والتأهيل:
لقد كان التأهل يعني أمرين اثنين: الأول التعرف الدقيق على مقولات المتطرفين وتعليلات إرهابهم. والثاني التعرف على الفكر العالمي، وأين صارت الأديان الأخرى وتجاربها مع الأزمنة المعاصرة والمقاربات الأخلاقية لمشكلات العالم. فقد كانت المؤسسات الدينية تَعرف بشكل عامٍ مقولات المتطرفين في الجاهلية والحاكمية والعنف مع العالم. ولكنها لم تكن تَعرف أنه يمكن لهذه المقولات الفارغة أن تجمع من حولها أنصارًا وتنظيمات تمارس عنفًا هائلًا على المسلمين وعلى العالم. لا بد من تنوير الجمهور، ولا بد من اجتذاب الشبان المتدينين بقراءة جذرية ونقدية للمفاهيم المغلوطة لأصل الإسلام ومبادئه وتاريخه. ولا بد من ثقافةٍ جديدة للأئمة والخطباء والمدرسين والأساتذة للمواد الدينية في المدارس والمعاهد والجامعات. وذلك يقتضي تغييرًا واسعًا في البرامج. كان هناك بعض النهوض في الدراسات الفقهية لكنه ليس كافيًا وليس شاملًا. أما في الدراسات العقدية والتفسير والحديث ورؤية العالم فكان لا بد من استدراك الكثير، والدخول في تأويلٍ شاسعٍ يخرج من التقليد ومن الأصولية في الوقت نفسه.
وكان لا بد من الخروج من الموقف السلبي من الاستشراق الذي أنتج على مدى 150 عامًا عشرات الألوف من البحوث وطبع الآلاف من المخطوطات. وبالطبع في تلك البحوث الغث والسمين، فيحتاج الأمر إلى الإفادة بعد التأمل النقدي والعمل المراجع والتساؤل.
أما الأمر الآخر في التأهّل، وأعني به الاطلاع على الفكر العالمي وتجارب الأديان والثقافات، فهو شأن كبير. لأننا بالفعل جزء من العالم، ويهمنا “المعروف” فيه ومنه. ثم هناك مذاهب وأساليب جديدة نحتاج إليها في البحوث العلمية، كما نحتاج إليها في التعليم والتدريب. ولم يعد ذلك خيارًا بل صار ضرورة.
وينبغي القول هنا إن شيوخ المؤسسات الدينية الجديين، أدركوا الحاجة إلى المفكرين العرب والمسلمين الآخرين، الذين امتلكوا الهموم ذاتها، ولم تغرهم مقولات القطيعة مع الموروث التي اعتنقها بعض المفكرين، كما أرعبهم العنف الصحوي والأصولي. كما كانوا بحاجةٍ إلى الإعلام الذي كان يأخذ على الهيئات الدينية المحافظة والبطء في الإصلاح.
وكما سبق القول؛ فإنّ العملية النهضوية كانت مزدوجة: فأولاً، المواجهة مع طروحات المتطرفين لصالح الفهم الآخر والصحيح، وثانيًا، استعادة الرشد بالعودة إلى كليات الدين والنظر التأويلي في ربطها بالعصر وحاجات المسلمين.
في المواجهة ومراحلها:
في رسالة عمّان (2004) ورسالة الكلمة السواء (2007) بالأردن، ومبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز لحوار الأديان والثقافات (2007) بمكة ومدريد والأمم المتحدة، هناك سير مباشر باتجاه الشراكات. ففي الخطوات الثلاث اجتمع مئات العلماء والمفكرين في عمّان وفي مكة المكرمة، ووجّهوا رسالة سلامٍ إلى العالم. وحدث ذلك تحت وطأة هجوم تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة عام 2001 والذي تسبب في سقوط آلاف الضحايا بين المدنيين؛ وقد كان المهاجمون عربًا. تقول الرسالتان ومبادرة الملك: إنّ الإسلام دين أخُوّةٍ وسلام، وإنّ ما حدث ويحدث من عنف تقوم به قلة ضئيلة العدد والعدة وخارجة على الدين وأعراف المسلمين في العيش في العالم ومعه. وتدعو أهل الأديان جميعًا للحديث والحوار من أجل المصالحة والإصلاح والتنوير والتعاون لصنع الصالح والمتقدم والذي يخدم الناس جميعًا. وقد لقيت رسالتا عمّان استجابات من الفاتيكان ومن الكنيسة الأنجليكانية ببريطانيا. أما مبادرة الملك عبد الله فقد تحولت إلى مؤسسة اتخذت لها مقرًا في فيينا وضمت ممثلين للديانات الخمس الكبرى. ومنذ عامين (2021) نقلت مقرها إلى البرتغال.
أما مبادرات دولة الإمارات العربية المتحدة بالعاصمة أبوظبي فقد ضمت تحت جناحيها مؤسسة منتدى تعزيز السلم (2014-2015) برئاسة الشيخ عبد الله بن بيه، والأزهر الشريف ومجلس حكمائه (2015) برئاسة شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب.
ومع أن مقولة السِلْم أو كلّيّ السلم ظلّت هي المقولة الرئيسية في أعمال المنتدى؛ فإنّ أعمال المؤسسة في مؤتمراتها التسعة عالجت من خلال اجتهادات وحركة العلاّمة بن بيه الواسعة فيكل من أبوظبي وأمريكا وإفريقيا ظواهر التطرف والإرهاب، والشراكات، والتضامن والحوار العالمي، والإصلاح الإسلامي. ومن بين أطروحات النهوض والإصلاح الكبيرة والكثيرة، يبرز نصّان للعلّامة بن بيه: إعلان مراكش (2016) والذي يُعنى بمعالجة مشكلات الأقليات لجهتي التأصيل والتأويل في التاريخ والنصوص إبّان اشتعال نار داعش ضد المسيحيين والأقليات الأخرى، وإبراز مسألة المواطنة باعتبارها هي الحلّ والنموذج؛ كتاب المدينة أو عهدها. والنص الآخر: ميثاق حلف الفضول الجديد (2019) والذي يستوحي حلف الفضول الأول ومقاربته في أخلاق المروءة بمكة قبل الإسلام، ويصل النص المحكم إلى استنتاج القواسم الأخلاقية المشتركة في الديانات الإبراهيمية، ولقائها مع قيم العصر ومعروفه.
وفي العام 2019 أيضًا أصدرت رابطة العالم الإسلامي بمكة إعلانًا صار مشهورًا لأنه يقول بالأخُوّة والمواطنة العالمية، ويعتنق معظم بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948).
وامتدّ نشاط الأزهر في مجلس الحكماء على مدى عقدٍ من الزمان. وقد بدأ بعقد مؤتمرٍ ضدّ التطرف والإرهاب شهد عملًا علميًا على تحرير المفاهيم. ثم كان هناك مؤتمر المواطنة والعيش المشترك (2016) وفيه استشهاد بكتاب المدينة، وبحديث السفينة بشأن وحدة البشرية ومسؤولياتها الجماعية. وبلغ الأمر الذروة في وثيقة الأخُوّة الإنسانية (2019) التي وقعها شيخ الأزهر مع البابا فرنسِس في احتفالٍ كبيرٍ بأبوظبي. ثم بطلبٍ من دولة الإمارات العربية المتحدة صار تاريخ توقيع الوثيقة (4 فبراير ) بالتصويت عليها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يومًا عالميًا للتسامح والأخوة.
وثيقة الأخوة الإنسانية:
جاء في مقدمة وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها البابا فرنسِس وشيخ الأزهر بأبوظبي: “يحمل الإيمانُ المؤمنَ على أن يرى في الآخر أخًا له، عليه أن يؤازره ويحبّه. وانطلاقًا من الإيمان بالله الذي خلق الناس جميعًا وخلق الكون والخلائق وساوى بينهم برحمته؛ فإنّ المؤمن مدعوّ للتعبير عن هذه الأخُوة الإنسانية بالاعتناء بالخليقة وبالكون كلّه، وبتقديم العون لكل إنسان، لاسيما الضعفاء منهم، والأشخاص الأكثر حاجة وعوزًا”.
ثم تندفع الوثيقة في خطابيةٍ رائعةٍ تبدأ “باسم الله الذي خلق البشر جميعًا متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كإخوةٍ فيما بينهم ليعمروا الأرض وينشروا فيها قيم الخير والمحبة والسلام”. ثم تأتي فقرة طويلة في المناداة والمناشدة باسم الشعوب التي فقدت الأمن، وباسم الأخُوّة التي تجمع البشر جميعًا، وباسم الحرية التي وهبها الله لكل البشر، وباسم العدل والرحمة، وباسم كل الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة – باسم ذلك كلّه يعلن الأزهر والكنيسة الكاثوليكية تبنّي ثقافة الحوار دربًا، والتعاون المشترك سبيلًا، والتعارف المتبادل نهجًا وطريقة. ويطالب البابا والإمامُ قادةَ العالم بالعمل جديًا على نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام.
وتمضي الوثيقة قائلةً: إنّ الحضارة الحديثة حقّقت إنجازات كبرى في مجال العلم والتقنية والطب والصناعة والرفاهية. لكن تراجعت خلالها الأخلاقُ الضابطة للتصرفات والقيم الروحية.. بحيث تصاعد نوعان من التطرف: التطرف الديني والتطرف الإلحادي.
ولذلك تدعو الوثيقة إلى الاهتمام بالأسرة والتربية باعتبارها نواة لا غنى عنها للمجتمع البشري. وإلى أهمية إيقاظ الحس الديني. فالدين بالفهم الصحيح له يعني الإيمان بالله وعبادته وحثّ جميع البشر على الإيمان، وإدانة كل التصرفات التي تهدد الحياة. ووقف استخدام الأديان في تأجيج الكراهية والعنف والتطرف والتعصب الأعمى، والكف عن استخدام الأديان واسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب: وذلك كله ينطلق من:
– أنّ العدل القائم على الرحمة هو السبيل الواجب اتّباعه للوصول إلى حياةٍ كريمة.
– وأن الحوار والتفاهم ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر.. من شأنه أن يسهم في احتواء كثير من المشكلات.
– وأن الحوار بين المؤمنين يعني التلاقي في المساحة الهائلة للقيم الروحية والإنسانية.
– وأنّ حماية دور العبادة من معابد وكنائس ومساجد واجب تكفله كل الأديان والقيم الإنسانية، والأعراف الدولية.
– وأنّ الإرهاب البغيض ليس نتاجًا للدين.
– وأنّ مفهوم المواطنة يقوم على المساواة في الحقوق والواجبات التي ينعم في ظلها الجميع بالعدل.
– والعلاقة بين الشرق والغرب هي ضرورة قصوى لكليهما.
– والاعتراف بحق المرأة في التعليم والممارسة لحقوقها السياسية.
– والتأكيد على حقوق الأطفال الأساسية في التنشئة الأسرية والتغذية والتعليم والرعاية.
– وحماية حقوق المسنين والضعفاء وذوي الاحتياجات الخاصة.
وتختم الوثيقة باعتبار نفسها دعوة للمصالحة والتآخي بين جميع المؤمنين بالأديان، بل وبين المؤمنين وغير المؤمنين، وكل الأشخاص ذوي الإرادة الطيبة.
وكما كانت دولة الإمارات هي بيئة هذه الوثيقة؛ فإنّ الدولة في سياساتها الداخلية وفي دبلوماسيتها الدينية سارت باتجاه نشر التسامح (وزارة للتسامح والتعايش)، والمواطنة، وصنع الجديد والمتقدم لمواطنيها وساكنيها، وأصدرت قانونًا ضد الكراهية وازدراء الأديان. كما اقترحت الدولة على الأمم المتحدة أن يكون يوم الرابع من فبراير من كل عام يومًا عالميًا للتسامح والأخوة، وهو الذي صار بعد تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على المطلب.
الإعلانات والوثائق والتشارك مع العالم وتجديد الفكر والخطاب الديني:
في بحثٍ لي بعنوان: الدين والأخُوّة الإنسانية (2017) قرأت في دراسةٍ مقارنةٍ أهمّ الوثائق والإعلانات التي صدرت عن جهات عربية وإسلامية خلال حوالى العقدين. وقد تبين لي أن بند الأخوُّة الإنسانية ورد في ثلاث وثائق: إعلان مراكش، ووثيقة الأخوّة الإنسانية، ووثيقة مكة المكرمة. وبالجملة فإنّ الوثائق تتقاطع في 14 بندًا. وهي بمجملها تتوافق مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهود والوثائق الدولية اللاحقة.
وهكذا فهو منهج يهدف للتوازي مع الجدول العالمي للقيم والأخلاق أو التلاقي معه. ويحرص المعلنون على طلب الشراكات مع الجهات الدينية والثقافية العالمية الكبرى. لكن عندما تكون الوثائق والإعلانات منفردة فإنها تتخذ سمات الدفاع عن الإسلام في مواجهة التطرف و الإرهاب، وأحيانًا في مواجهة الإسلاموفوبيا.
والملحوظ أنّ الوثائق والإعلانات الإسلامية تتخذ إحدى مرجعيتين أو المرجعيتين معًا: التأصيل بالعودة إلى القرآن أو كلام النبي ﷺ وسيرته، أو التجديد بدون عودةٍ للسابق. لكن هناك سبيلًا جديدًا تمامًا هو سبيل التأويل والاستعارة، من مثل الاستشهاد بكتاب المدينة أصلًا لدولة المواطنة، أو الاستشهاد بحديث للنبي ﷺ عن السفينة الواحدة التي تشير إلى العالم الإنساني والمسؤوليات المشتركة. وفي كل الأحوال لا تتردد الوثائق في اختيار لغةٍ حديثة مثل المواطنة والعيش المشترك، والدفاع عن الدولة الوطنية والحث على تجديد تجربتها.
إنّ كل هذه التطورات، سواء لجهة مواجهة التطرف والإرهاب، أو لجهة تجديد الخطاب، أو لجهة التلاؤم مع الأديان والثقافات في العالم؛ كلّ ذلك أفضى إلى توجهات في التجديد الجذري للخطاب الديني لمنع تهميش الإسلام أو التراجع أمام التطرف. وقد بين ذلك أنه لا بد من السير في سبيل تغيير رؤية العالم في المجالين الديني والثقافي. وقد شجعني ذلك على اقتراح سرديةٍ جديدةٍ للإسلام؛ فكتبت مطالعة بعنوان: سلامة الدين وسلام العالم، نحو سرديةٍ جديدةٍ للإسلام؛ تقول إن الرحمة هي مناط علاقة الله بعباده، والتعارف مناط العلاقات بين البشر، ومقاصد الشريعة هي قواعد الالتزام بالداخل وتجاه الخارج.
وثيقة الأخُوة الإنسانية ذات معنى كبير، وهي إحدى الذرى التي بلغها الحوار المسيحي- الإسلامي؛ ولذلك تتجدد أهميتها وتتمدد كلما مضى عليها الزمان. فالإمام والبابا يمثلان أكبر دينين في العالم، والمؤمنون من الطرفين يبلغون نصف سكان العالم. والوثيقة تمثل تغييرًا من جانب الفاتيكان باتجاه المسلمين، كما تمثل تغييرًا من جانب الأزهر باللقاء في رحاب العالمية. فلا بد من التذكير بالوثيقة دائمًا واعتناق مبادئها وإبراز محاورها الأساسية والمصيرية في الخطابين الديني والإنساني، وتأثيراتها في سلام العالم وأمنه.
في بحثٍ بعنوان: الدين والأخوّة الإنسانية، 2017. *